التنوير إرثٌ للمستقبل فلماذا فشل عند العرب!
تنظم المكتبة الوطنية في باريس، وعلى ضفاف نهر السين، معرضاً كبيراً على مدار ثلاثة اشهر (حتى آخر أيار) عن موضوع خطير هو التنوير الفكري الذي حصل في اوروبا ابان القرن الثامن عشر. لكن منظميه، وفي مقدمهم تزفيتان تودوروف، لا يعتقدون أن مشروع التنوير مضى وانتفى. على العكس انه لا يزال حاضراً وضرورياً لعالمنا المعاصر أكثر من أي وقت مضى. ويقول المشرفون عليه ان فكرة المشروع انبثقت قبل اربع سنوات بعد ضربة 11 ايلول الآثمة التي ذكّرت العالم بأن تنوير العقول اذا كان قد انتصر في العالم المتحضر فانه لم يبدأ بعد في العالم الآخر، أي العالم الشرقي وخصوصاً العربي الاسلامي. هذا من دون أن نتحدث عن العالم الروسي الصربي الارثوذكسي، او العالم الهندوسي، او العالم الصيني الكونفوشيوسي، الخ.
باختصار فان التنوير لم ينجح حتى الآن الا في اوروبا الغربية واميركا الشمالية، وإن كان قد حقق بعض الاختراقات في العوالم الاخرى. لكن حتى في العالم المتحضر الذي قضى على التعصب الديني كلياً، فان التنوير لا يزال يمثل ضرورة ملحة، وإن لسبب آخر. فالتسطيح الاستهلاكي للعالم، او تحويل العالم كله الى سلعة تجارية على يد العولمة الرأسمالية الكاسحة يهدد ايضاً القيم التنويرية التي ناضل من اجلها فلاسفة كبار ليس أقلهم: جان جاك روسو، فولتير، ديدرو، كوندورسيه، ليسنغ، كانط، هيغل، هولدرلين... الخ. فقيم العدالة الاجتماعية مهددة ايضاً في ظل هذا النوع من العدالة الجائرة التي حولت الانسان نفسه الى سلطة تجارية تباع وتشترى. وهذا مضاد تماماً للقانون الاخلاقي الذي نصّ عليه فيلسوف التنوير الاكبر ايمانويل كانط: ممنوع استخدام الانسان وسيلة لتحقيق هدف ما، او كرجل كرسي. وانما ينبغي النظر اليه دائماً كغاية في ذاته، ككرامة انسانية لا يمكن المتاجرة بها او احتقارها بأي شكل من الاشكال. هذا هو ملخص المبدأ الكانطي الذي يعتبر ان الاقتصاد خلق من اجل الانسان وليس الانسان من اجل الاقتصاد وتراكم الرساميل الى ما لا نهاية. بل ان العلم والتكنولوجيا وكل التقدم المادي والصناعي الذي حصل بعد عصر التنوير كان من اجل الانسان، لان الانسان هو ذروة الذرى وغاية الغايات.
لكن الرأسمالية المعاصرة انحرفت في ما بعد عن مبادىء فلسفة التنوير وأوصلتنا الى عالم مختل التوازن بسبب الغنى الفاحش من جهة والفقر الفاحش من جهة اخرى. وهذا مضادّ لفكر فيلسوف آخر كبير من فلاسفة التنوير هو جان جاك روسو الذي انفجر خطابه عن أصل الظلم واللامساواة بين البشر عام 1754 كالقنبلة الموقوتة.
معرض باريس ليس موجهاً فقط ضد الاصولية الاسلامية، وإن كان يستهدفها في الدرجة الاولى، انما هو موجه ايضاً ضد كل العتمات الاخرى التي تطبق على الجنس البشري اينما كانت. فمشروع التنوير الذي أسس الحريات الحديثة مدعو من جديد لتبديد عتمات الظلام المتراكمة منذ قرون عديدة في العالم الاسلامي: اي منذ القضاء على الفلسفة والفكر العلمي قبل ثمانية قرون. كما انه مدعو لتذكير الحضارة الغربية بانحرافها عن مبادئ هذا القرن العظيم الذي أسس الحضارة الحديثة كلها.
ولمناسبة تنظيم هذا المعرض الكبير عن التنوير ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، نشرت المجلات الفرنسية ملاحق خاصة ودراسات للتعريف به. نذكر من بينها مجلة "ماغازين ليتيرير" الشهرية، ومجلة "التاريخ" التي كتبت بالحروف العريضة على غلافها الخارجي: "فولتير، ديدرو، روسو: لقد اخترعوا الحرية!". ونذكر ايضاً مجلة "تيليراما" ومجلات اخرى عديدة. الشيء الغريب العجيب هو اني لم أعثر على صدى فعلي لهذا المعرض في الجرائد العربية! أقول ذلك رغم ان المثقفين العرب موجودون في باريس بكثرة وكذلك الصحافة والصحافيين، ولكن يبدو انهم مشغولون بأشياء اخرى اجلّ قيمة.
لكن لندخل في صلب الموضوع الآن. ما الذي تقوله "المجلة الادبية" الفرنسية في افتتاحيتها العامة؟ تقول ما معناه: في عام 1784 طرحت احدى جرائد برلين على المثقفين هذا السؤال: ما هو التنوير؟ او ما هي الانوار؟ وقد رد على الاستفتاء العديد من مثقفي المانيا في ذلك الزمان منهم فيلسوفان مهمان: الاول موسى منديلسون. والثاني ايمانويل كانط. ركّز الاول على فعل التنوير نفسه وأعاد صياغة السؤال على النحو الآتي: ما معنى تنوير العقول أو تنوير الناس؟ وقال ان ذلك يعني نشر المعرفة العلمية او العقلانية الى اقصى حد ممكن ضمن حدود الاطار الاجتماعي.
اما رد كانط فكان اكثر راديكالية كما هو متوقع. ففي رأيه ان الانوار تعني الاستخدام الحر للعقل وتشكيل رأي عام مستنير في المجتمع. كما انه يعني انتقال الانسان من مرحلة القصور العقلي الى رحلة سن الرشد، والا فإنه لن يستطيع استخدام عقله بشكل حر. ولكن الكلام شيء والعقل شيء آخر. فالانسان مقيّد بالاصفاد، اصفاد الطائفة والتراث الديني، ولا يتجرأ تالياً على استخدام عقله بشكل شخصي وحر. لذا أنهى كانط خطابه بالعبارة الشهيرة: تجرأ على استخدام عقلك ايها الانسان! أي تجرأ على كسر قيودك وأصفادك، على التحرر من كل الاحكام المسبقة ذات الطبيعة الطائفية او المذهبية او الغيبية عموماً. تجرأ على ان تتحرر من كاهنك او شيخك او حتى مما ربّاك عليه أمك وابوك اذا لزم الامر. تجرأ للمرة الاولى في حياتك على ان تفكر بنفسك بدون وصاية من أحد عليك.
هكذا نلاحظ ان التنوير عملية صعبة جداً وليس من السهل التوصل اليه حتى لو حاولنا جاهدين. فهو ينطوي على حركتين: الاولى سلبية تدميرية، والثانية ايجابية تعميرية. في المرحلة الاولى ينبغي لك ان تتخلى عن كل ما تربيت عليه في طفولتك او قسم كبير منه وفي المرحلة الثانية ينبغي لك ان تنشئ محلها يقينيات جديدة قائمة على الفعل والمنطق فقط. انه يعني موتك وولادتك من جديد! يعني تحويلك الى أنقاض ولو للحظة ثم بناء قصر منيف متين على هذه الانقاض بالذات.
مهما يكن من أمر فان المناقشات التي شغلت فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر، اي قبل مئتي عام، لا تزال تشغلنا حتى اليوم، وخصوصاً في العالم غير الاوروبي الذي لم يشهد التنوير حتى الآن. أقصد بها تلك المناقشات العنيفة التي جرت بين العقل والايمان، او بين التعصب والتسامح، او بين الخصوصية والكونية، او بين الاستبداد السياسي والديموقراطية، او بين الشريعة الدينية وحقوق الانسان او بين العلمانية والنظام التيوقراطي الكهنوتي... الخ.
البروفسور دانييل روش احد المختصين الفرنسيين بعصر التنوير يقول لك ما يأتي: التنوير هو ثورة فكرية شاملة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل. وقد بدأت في اوروبا قبل القرن الثامن عشر وبالتحديد بعد عام 1650، اي بعد منتصف القرن السابع عشر عندما تجرأ فلاسفة اوروبا للمرة الاولى على نقد الاديان وخصوصا الدوغمائية الكاثوليكية والدوغمائية البروتستانتية. وكان في طليعتهم هوبز، سبينوزا، لايبنتز، لوك، بايل ثم زعيمهم كلهم الذين خرجوا من معطفه: رينه ديكارت.
كان التنوير عبارة عن حركة طويلة، بطيئة، صبورة، ادت الى لغم كل العقائد التقليدية ونخرها من الداخل شيئاً فشيئاً، ثم اسقاطها وانشاء صرح الحضارة الحديثة على انقاضها. هذا هو التنوير في جوهره: حركة تفكيكية شاملة ذات جرأة مرعبة لا يكاد الاوروبي المعاصر ان يعرف معناها وموتها الآن لأنه ينعم بثمارها. انه يجهل ان اسلافه الذين قاموا بها كانوا يخاطرون برؤوسهم بكل بساطة، تماما كما يحصل الآن لكل مثقف نقدي في العالم العربي او الاسلامي.
فالتنوير يعني ايضاً التحرر من الرؤيا القديمة للعالم، وهي رؤيا قائمة على التفسيرات الغيبية والدينية للكون. انه يعني احلال الرؤيا العلمية او الفلسفية محلها. لكن المشكلة ان الرؤيا القديمة كانت راسخة في العقول منذ مئات السنين، وتالياً كيف يمكن التخلي عنها؟ كيف يمكن اقتلاعها؟ ومن يتجرأ على ذلك؟ انه لمجنون ذلك الشخص الذي يفكر في ذلك مجرد تفكير. لكن هذا ما فعله فلاسفة اوروبا الذين انخرطوا في اكبر مغامرة عرفها تاريخ الفكر البشري حتى الآن. وكانت نتيجة هذه المغامرة: كل الحضارة الحديثة. لهذا السبب قلنا ان التنوير يعني اولاً التفكيك قبل التركيب والهدم قبل البناء.
اذ كيف يمكن ان تبني على ركام من الأخطاء؟ في هذا المعنى فالتنوير يشبه البلدوزر الذي اكتسح في طريقه كل شيء. ولهذا السبب فان المعارك التي خاضها مع رجال الدين كانت من العنف بمكان. وقد استخدمت فيه كل الاسلحة، المباحة وغير المباحة حتى انتصر طرف على طرف آخر.
لقد فكك فلاسفة التنوير كل القصائد الدينية لجميع الطوائف دون استثناء، ونزعوا القدسية عنها وكشفوا عن تاريخيتها وحرروا الناس من هيمنتها الرهيبة على العقول. وتالياً فالتنوير يعني في احد معانيه: نزع القدسية عن الاشياء لكي تبدو على حقيقتها. فبعد التنوير مثلاً لم يعد شخص البابا مقدساً ولا معصوماً. وبعد التنوير لم يعد الايمان بشكل اعمى وارداً ولا مقبولاً. وبعد التنوير سقطت كل التفسيرات القديمة للعالم وحلت محلها التفسيرات الفيزيائية او الطبيعية: اي تفسيرات غاليليو وديكارت وكيبلر وخصوصا نيوتن. عندئذ عاش الوعي المسيحي الاوروبي اكبر أزمة في حياته، أزمة كادت ان تودي به من الناحية النفسية. لكنه خرج منها سالما كأقوى ما يكون.
والدليل على ذلك كل هذه الحضارة الحديثة التي تبهر الأبصار في باريس وبرلين وروما ولندن ونيويورك وامستردام واستوكهولم... الخ.
فالأزمة التي لا تقتلني، تنعشني، تحفزني، تقويني. عندئذ انطلق الوعي الاوروبي للسيطرة على الطبيعة والعالم بعدما انتصر على نفسه في اكبر معركة شرسة تخوضها الذات ضد ذاتها. لا، لم يكن من السهل على الاوروبيين ان يتخلوا عن اقوال الآباء والاجداد والقديسين ورجال الدين ويعتنقوا أقوال الفيزيائيين والكيميائيين والبيولوجيين والفلاسفة الدهريين. لم يكن من السهل عليهم ان يتخلوا عن عقائد ويقينيات متجذرة في عروقهم ودمائهم مسيطرة على عقلياتهم منذ مئات السنين.
لماذا فشل مشروع التنوير العربي؟
العربي الوحيد الذي ساهم في هذا المعرض الكبير هو الباحث التونسي عبد الوهاب المؤدب، الكاتب والشاعر واستاذ الادب المقارن في جامعة نانتير، باريس العاشرة، بضواحي باريس. فقد قدم بحثاً مطولاً عن الجهة العربية، مثلما قدمت الباحثة آن شينغ بحثاً عن حالة التنوير في الصين، وكذلك فعل آخرون عن كيفية انتقال التنوير الى الهند، او اليابان، او افريقيا السوداء، او اميركا اللاتينية. وكل هذه المداخلات جمعت بين دفتي كتاب ضخم وثري يباع على هامش المعرض. فالتنوير ظاهرة كونية تخص البشر كلهم، وقد انتقل من اوروبا الغربية الى بقية النطاقات الحضارية الاخرى بعد الثورة الفرنسية، اي في القرن التاسع عشر. وكان له مصير فاشل او ناجح بحسب الظروف والمنعطفات والخصوصيات التاريخية. لكن من الواضح انه فشل في العالم العربي الاسلامي، او انه لم ينغرس في الارض الثقافية او العقلية الجماعية عميقا. والدليل على ذلك انتشار الحركات الاصولية بمثل هذا الزخم والقوة في شتى انحاء العالم العربي والاسلامي. ولهذا السبب فان عبد الوهاب المؤدب يخلع على دراسته العنوان الآتي: "الاسلام والتنوير: الموعد الخائب!"، او الموعد الذي لم يعط ثماره. وفيها يرى ان التنوير كحركة فكرية دخل الى ارض الاسلام بعد حملة نابوليون بونابرت على مصر عام 1798. فهذه الحملة احدثت صدمة استيقاظية عنيفة في كل انحاء الشرق العربي. لماذا؟ لأن الاسلام كان نائماً على التاريخ نومة أهل الكف منذ قرون. وفجأة يستيقظ على وقع سنابك الفاتحين ويكتشف مدى تأخره بالقياس الى اوروبا. ولم يكن من السهل على العالم العربي الذي يعتقد بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، اي الدين الوحيد الصحيح، ان يكتشف ان هؤلاء المسيحيين قد سبقوه في مجال العلم والتكنولوجيا وكل شيء. حقاً، لقد كان الاستيقاظ صعباً وعنيفاً. وبما ان قانون التاريخ منذ ابن خلدون على الاقل يقول ان المتأخر يقلّد عادة المتقدم، فان المسلمين بدأوا ينقلون عن اوروبا علومها وفلسفاتها. وهكذا ابتدأت تلك الحركة المشهورة باسم "التنظيمات" في الامبراطورية العثمانية على يد السلطانين محمود الثاني (1808 1839) وعبد المجيد الاول (1839 1861). لكن كان قد سبقهما الى محبة الحضارة الاوروبية والاعجاب بها والي مصر محمد علي باشا (1805 1849). وعندئذ حاول المثقفون المسلمون ان يقنعوا مواطنيهم بان الانوار الاوروبية لا تتعارض مع التراث الاسلامي او على الأقل مع أحد تياراته وتفسيراته. واستندوا بذلك الى نظرية ابن عربي (1165 1240) التي تجاوزت الحدود في الانفتاح على العقائد والاديان الأخرى. وهي النظرية التي تتلخص في الابيات الرائعة التالية التي قل نظيرها في التراث الاسلامي والتي يكفّره عليها الاصوليون من جماعة التوحيد والجهاد على مواقع الانترنت:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
هذه الابيات بحسب عبد الوهاب المؤدب تؤدي الى تحويل الاعتقاد القرآني الى اعتقاد نسبي من طريق اعطاء الصدقية لجميع الاديان والاعتقادات الاخرى بما فيها الاعتقاد الوثني! وهذا الانفتاح المدهش لابن عربي والذي لا يكاد يصدق، يصدم المسلم الارثوذكسي (اي الاصولي) في الصميم ويزعزعه من الداخل. لكن الايمان بوحدة الوجود على طريقة ابن عربي يجعل من السهل إقامة المصالحة مع فلسفة التنوير على طريقة سبينوزا مثلاً او حتى فولتير وروسو ومعظم فلاسفة اوروبا. وهذا ما دفع بالعديد من المسلمين المستنيرين الى تقبل الرسالة الماسونية كما فعل احد تلامذة ابن عربي الكبار الامير العظيم عبد القادر الجزائري (1807-1883).
ويرى المؤدب الذي ننقل هنا مع بعض التصرف أفكاره ان علماء المسلمين من أمثال محمد عبده (1849-1905) أعادوا للعقل احترامه في ارض الاسلام بعد طول غياب وانقطاع. وقد فعلوا ذلك لكي يواجهوا التحدي الحضاري لاوروبا، ويحققوا بعض المصالحة بين التراث الاسلامي وفلسفة التنوير الوافدة. وقد وصل الأمر بمفتي الديار المصرية الذي احتفلنا بمرور مئة عام على وفاته العام الماضي الى حد القول انه اذا نشب اي خلاف بين العقل والدين فان الكلمة الاخيرة ينبغي ان تكون للعقل. وهذا الموقف الجريء أزعج المحافظين جداً فاتهموه بالعمالة للانكليز! وهو الموقف نفسه الذي اتخذه ابن رشد قبل ثمانمئة عام، لكن من دون جدوى. فالنقل انتصر على العقل طوال عصور الانحطاط في كل العالم الاسلامي وشاعت مقولة: من تمنطق فقد تزندق! واصبحت الفلسفة تعني الكفر او الخروج على الاسلام.
يضاف الى ذلك ان الإمام محمد عبده أباح اللجوء الى البدعة اذا كانت مفيدة للمصلحة العامة (البدعة هي الاختراع الجديد الآتي من اوروبا). ثم أصدر بعض الفتاوى الجريئة الاخرى التي تبيح الفائدة في البنوك وتخلع المشروعية على سنّ الدستور اي دستور الحكم لأول مرة في الامبراطورية العثمانية. ومعلوم ان السلطان كان يحكم بشكل تعسفي مطلق قبل ذلك وبحسب نزواته. وقبل الإمام محمد عبده بزمن طويل اعترف احد فقهاء القاهرة ويدعى الزرقاني (1710) بانه ليس من الغريب ان تتأقلم القوانين مع الظروف المستجدة. وهذا يعني ان الشرع او التشريع لا ينبغي ان يكون جامداً أبدياً سرمدياً.
ثم استمرت حركة التنوير العقلاني في مصر بعد موت محمد عبده على يد قاسم أمين الذي نشر بين عامي 1898 و1900 كتابين يدعوان الى تحرير المرأة واختلاطها بالرجال ومساهمتها في التربية والتعليم وتطوير المجتمع ونزع الحجاب! لكن بعد مئة عام على ذلك التاريخ يريدون إعادة المرأة الى الحجاب ليس فقط في العالم العربي او الاسلامي وانما حتى هنا في فرنسا. فيا له من تراجع لحركة التنوير، يا له من فشل ذريع! كان قاسم امين يقول بما معناه: ان تحرير المرأة يعني تخليصها من الحجاب وتمتعها بالحرية والمساواة تماماً كالرجل. فمن يتجرأ على قول ذلك الآن في بعض البلدان العربية والاسلامية؟
بعدئذ ظهر الشيخ علي عبد الرازق (1888 1966) صاحب "كتاب الاسلام واصول الحكم" (1925)، وفيه يقول ان مفهوم الدولة الاسلامية لم يوجد قط في الماضي. فنظام الخلافة في أوج مجده أيام الامويين والعباسيين لم يولد شكلاً جديداً للحكم وانما استعار الشكل الذي وجده في البلاد المفتوحة موروثاً عن البيزنطيين والفرس. وهو نظام أثبت فاعليته الإدارية والعسكرية فاستعاره المسلمون من الحضارات السابقة وتبنّوه دون اي مشكلة. ويستنتج علي عبد الرازق من ذلك ما يأتي: اذا كان المسلمون الأوائل قد قلدوا الفرس والبيزنطيين فلماذا لا نقلّد نحن اليوم الاوروبيين في افضل ما أعطوه؟! في معنى آخر فاننا في حاجة الى دولة حديثة تستوحي النموذج الاوروبي المتولد عن عصر التنوير.
ويرى الشيخ علي عبد الرازق ان الشيء المهم في تجربة النبي محمد ليس القدرة العسكرية او السلطوية وانما الهداية الروحية والاخلاقية. فالاسلام رسالة الهية وليس نظاماً للحكم. انه دين لا دولة وكفى. وتالياً ينبغي ان ينفصل الدين عن الدولة لكي نشكل دولة حديثة لكل المواطنين وليس لأتباع دين واحد او مذهب واحد (الفرقة الناجية).
ثم جاء اخيراً مفكر التنوير الأكبر في القرن العشرين طه حسين (1889 1973) وقال ان مصر ساهمت من خلال الاسكندرية في تشكيل الثقافة الاغريقية، اي الاوروبية، ثم ذكّر مواطنيه بالدور الكبير الذي لعبته الفلسفة الاغريقية في تشكيل الثقافة العربية في العصر الكلاسيكي المجيد، عصر الرشيد والمأمون وسواهما. وتالياً لماذا كل هذا الفصل التعسفي بين الثقافة الاوروبية والثقافة العربية الاسلامية، لماذا نعتبر انه يفصل بيننا وبينهم سور الصين في حين اننا من معدن واحد واننا تفاعلنا مع بعضنا البعض اكثر من مرة، وقد اراد حسين بذلك ان يخلع المشروعية على الاستفادة من فلسفة التنوير والتفاعل الايجابي مع الحداثة الاوروبية. لكنهم لعنوه ورجموه واتهموه بالعمالة والخيانة الى درجة ان جان كوكتو عندما زار مصر في الاربعينات من القرن الماضي قال هذه العبارة الرائعة: مشكلة طه حسين انه يرى الى ابعد مما تستطيع مصر ان تتحمله! انه كثير على مصر والعرب. مثلما كان ابي عربي كثيرا عليهم، وكذلك ابن رشد، وابن خلدون، والمعري، وكل الخلاقين الكبار.
اربعة اسباب
وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا فشلت كل هذه المحاولات في تنوير العرب والمسلمين؟ لماذا لم تستطع نقلهم من عصر الظلمات والقرون الوسطى والتقوقع المرضي على الذات الى عصر الانوار والانفتاح والطفرة المعرفية الكبرى.
للجواب عن هذا السؤال يقول عبد الوهاب المؤدب ما معناه: ان الحالة الراهنة للمجتمعات العربية والاسلامية تثبت لنا ليس فقط ان التنوير لم يكن كافيا وانما كان مخيبا للآمال. بمعنى انه لم يستطع ان ينجح ويترسخ عميقا في الارض. ففي كل مكان نلاحظ هيمنة الاستبداد السياسي، والتعصب الديني والبؤس الاقتصادي وسوء التنمية، وانتشار العقلية الخرافية والظلامية في شرائح واسعة من الشعب بل وحتى من المثقفين. وكلها اشياء نجحت فلسفة التنوير في القضاء عليها في اوروبا. من هنا روعة التنوير وعظمة مشروعه فكريا وسياسيا. انه مشروع تحريري بكل ما للكلمة من معنى. وهناك ثلاثة اسباب ادت الى فشله في العالم العربي الاسلامي وانتصار الحركات الاصولية عليه واكتساحها للساحة كليا او بشكل شبه كلي:
السبب الأول ان سياسة التحديث التي اتبعت منذ ايام محمد علي قبل مئتي عام ركزت على نقل التكنولوجيا لا الفلسفة العميقة التي تقف خلف هذه التكنولوجيا بالذات. لقد اعتقدت انه في الامكان نقل التكنولوجيا والمحافظة على عقائدنا الخاصة كما هي من دون اي مراجعة نقدية. وبما ان اليابانيين فعلوا ذلك وانتصروا على روسيا بفضل سيطرتهم على التكنولوجيا الاوروبية مع محافظتهم على تراثهم وتقاليدهم فاننا اعتقدنا، او اعتقدت فئة من المثقفين العرب، انه ينبغي ان نقلدهم في ذلك لكيلا نفقد روحنا او اصالتنا. وفاتهم ان موقف اليابانيين هذا ادى الى الفاشية العسكرية لاحقا. لا ريب في ان زرع التنوير في مجتمع لم يستفد من المكاسب المادية والازدهار الاقتصادي الناتج من التكنولوجيا امر يصعب تصوره. لكن استيراد بلد ما للتكنولوجيا وحدها، لا يعني في الضرورة انتصار التنوير فيه. انه شرط ضروري لكنه ليس كافيا.
اما السبب الثاني لفشل التنوير في العالم العربي والاسلامي في مجمله فيعود الى الخوف من الفكر الراديكالي، اي الجذري العميق. لماذا الخوف؟ لأن هذا الفكر يدعو الى القطيعة مع الماضي الى الانفصال عن التراث المقدس. وفلاسفة اوروبا هم وحدهم تجرأوا على احداث القطيعة مع التراث المسيحي وإن بدرجات متفاوتة. اما المثقفون العرب فقد ارتعدت فرائصهم فزعاً امام هذه القفزة في المجهول، او في الفراغ، او في العدم. ورأوا فيها نوعا من الخيانة للذات التاريخية او للهوية الجماعية. لذا رفضوا الانخراط في مغامرة غير مضمونة العواقب. وهكذا وقفوا في منتصف الطريق، ولذلك لم يحسم اي شيء حتى الآن في العالم العربي.
اما السبب الثالث الذي ادى الى كبح مشروع التنوير وايقافه عند حده فيعود الى رد الفعل العنيف لحركة "الاخوان المسلمين" ضد الحضارة الغربية بدءا من اواخر عشرينات القرن الماضي. فقد شكلوا جبهة متزمتة متراصة وقوية ضد الانفتاح الفكري للامام محمد عبده، وعلي عبد الرازق، وطه حسين وكل مثقفي النهضة العربية. ثم جاء المال البترولي المتدفق بغزارة بعد صدمة 1973 لكي يعطي دفعة هائلة للحركات الاصولية والشعبوية الاكثر تخلفا، فراحت تهجم بعنف على كل ممثلي التنوير الفكري في العالم العربي الى درجة انك لم تعد تستطيع ان تذكر اسم طه حسين في بعض الجرائد والمجلات. يضاف الى ذلك التزايد الديموغرافي الهائل للسكان وتحويل التعليم من نوعي الى كمي، وكذلك نكبة فلسطين. تضافرت هذه العوامل كلها لقتل الفكر النقدي واغلاق العصر الليبيرالي العربي لمدة خمسين عاما على الاقل.
هناك سبب آخر ساهم في افشال التنوير في العالم العربي ولا يمكن ان نستهين به هو: التناقض الفاضح بين المبادىء المثالية المعلنة والسياسة الاوروبية الغربية على ارض الواقع بدءا من عصر الاستعمار في القرن التاسع عشر وانتهاء بمأساة فلسطين. وقد انتبه الى ذلك بشكل مبكر حمدان خوجة عام 1834: اي بعد اربع سنوات فقط من احتلال الفرنسيين للجزائر. وقال ما معناه: انهم بغزوهم للجزائر وسلبهم ارادة شعب بأكمله وجهوا ضربة موجعة الى مبادىء الثورة الفرنسية عام 1789
هاشم صالح
المصدر : النهار
إضافة تعليق جديد