أنريكي دوسيل: المواطن كفاعل سياسي
ترجمة: أحمد جمبي. مراجعة: لجين اليماني.
موجز المترجم
يقدم الفيلسوف الأرجنتيني أنريكي دوسيل في هذه المقالة نقداً للعقلانية السياسية الغربية من منظور الفلسفة التحررية (Philosophy of Liberation)، التيار الفلسفي النقدي الذي اكتسب أهمية كبرى في أمريكا اللاتينية منذ ستينات القرن الماضي. دوسيل في هذه المقالة يعيد النظر في معنى وجدوى التفكير والممارسة السياسية العقلانية، كما يحاول إعادة تعريفهما في إطار تحرري ينطلق في تأسيس ذاته من وجهة نظر المستبعدين والمهمّشين. تنقسم المقالة إلى قسمين أساسيين يجسدان تمييزاً مهمّاُ في فلسفة دوسيل بين السياسة في المستوى التأسيسي الأولي والسياسة في المستوى النقدي. في المستوى الأولي يركز دوسيل على الشروط الكونية لأي ممارسة سياسة عقلانية، مفصلاً إياها في ثلاث أطروحات تمثل ثلاثة شروط: 1) الشرط المعياري المادي الذي يقيم السياسة من حيث علاقتها بإنتاج وتنمية الحياة الإنسانية. 2) الشرط الديمقراطي الإجرائي الذي تكتسب فيه السياسة شرعيتها من المشاركة المتساوية لجميع المعنيين والمتأثرين بالقرار السياسي في مجتمع تواصلي معين. 3) الشرط الاستراتيجي الذي يحدد الممارسة السياسية في حيز الممكنات الواقعية. تمثل هذه الشروط الأساس الضروري الذي تقوم عليه أي ممارسة سياسية عقلانية، غير أنها غير كافية لتأسيس سياسة “تحررية.” السياسة التحررية يجب أن تقوم على نقد الأنظمة السياسية المهيمنة من وجهة نظر الضحايا والمستبعدين والمهمّشين سياسياً (4)، وذلك في إطار ديمقراطي تداولي عابر للحدود يشمل الاعتراف بجميع المضطهدين كأعضاء في الجماعة النقدية (5)، من أجل تحقيق صيرورة فعالة و واقعية للتغيير (6). وهذا ما يركّز عليه دوسيل في النصف الثاني من المقالة. تتمثل أهمية النص من وجهة نظر المترجم في أنها تقدم عدداً من الأفكار التي يمكن من خلالها تلمّس الهيكل العام لفلسفة التحرر عند بدوسيل.
سوف نصيغ في هذا المقال ست أطروحات بشكل مختصر، وهي تمثل مقدمات نظرية لفلسفة سياسية للمستقبل. إنها ست لحظات أو محددات تأسيسية (أو يمكننا القول بأنها مبادئ عامة) لكل فعل سياسي ممكن. مهمتها هنا هي فتح مساحة للتفكير فيما سيمثل جزءاً من مشروع نقد العقل السياسي الذي أعمل عليه.
مقدمة: مغالطة الاختزال الإجرائي
لقد كانت الغاية من حديث أرسطو وأغسطين عن السياسة بصفتها إدارة للخير الجماعي*، و حديث هيجل عن الدولة العضوية بصفتها نظامًا أخلاقيًا، و نظرية ماكس شيلر حول تحقيق القيم واقعيا، بل حتى من الفكرة والممارسة الحديثتين لدولة الرفاه هي ذات الغاية، تحديداً ربط السياسة بالمضمون المادي**. إلا أن هذه المشاريع الفلسفية قد لاقت نقداً حاداَ. حتى أن الفلسفة السياسية المعاصرة يمكن قراءتها في الواقع كمحاولة لفصل الارتباط بين التوجهات الأخلاقية الجوهرية، وبين صياغة العدالة وتطبيقها سياسياً. مؤخراً، وبسبب الصعوبة النظرية المتعلقة بتأسيس الفلسفة السياسية على أساس مادي، نجد أن شقّي الفلاسفة السياسيين الذين عالجوا هذه الإشكالية سواء الليبراليين (مثل جون رولز وروبرت نوزيك)، أو التداوليين الإجرائيين (مثل يورجن هابرماس وكارل-أوتو أبل)، كلاهما قام بإقصاء السياسة المادية بكل أشكالها. كلاهما يبرر هذا الإقصاء بأن السياسة المادية في نهاية الأمر سياسة محدودة الأفق أو غير قابلة للتعميم، ما يجعلها حجر عثرة أمام تحقيق ديمقراطية تعددية متسامحة. أو يبررانه بأنها سياسة من النوع الذي يخلط ممارسة السياسة بالاقتصاد. هذا الإقصاء للأبعاد البيئية أو الاقتصادية (ما هو مادي مبدئياً)، لا يبقي للعقلانية السياسية من مجال للحركة إلا داخل المساحة الحصرية للصلاحية الديموقراطية الإجرائية الخاصة بالبنى الشرعية للأنظمة السياسية أو للقانون من ناحية؛ أو المشاركة التعاقدية (رولز) والتداولية (هابرماس) في المجال العمومي من ناحية أخرى.
قد يكون هذا مقبولاً في الدول التي تعيش المراحل المتأخرة للرأسمالية، الدول التي تعطي سيادة للقانون، والتي يمكّنها تطورها من ضمان شرط الحياة لكل مواطنيها. في هذا النوع من المجتمعات، يمكن فهم الشرعية بصفتها التوافق مع المتطلبات الإجرائية لتطبيق النظام الديمقراطي، والنظام القانوني، وإقامة سلطة تواصلية. لكن هذا الفهم يبدو قاصراً بالنّسبة لفلسفة سياسية تنطلق من العناية بالوضع الحقيقي لهذا الكوكب، فلسفة سياسية تنطلق من الدول الهامشية والفقيرة والغير متطورة، الدول التي تضم في الواقع حوالي 85% من سكان العالم. سيادة القانون في دول أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا وأوروبا الشرقية (منذ 1989) سيادة مهزوزة. بل في كثير من هذه الدول، لا تتمكن الأغلبية من السكان من ضمان مجرد النجاة بحياتها على الإطلاق. انطلاقاً من هذه المعطيات نتبصر الحاجة الملحة لنقد الفلسفة السياسية المعاصرة.
السياسة الأولية
ابتداءً، سوف نرسم اللحظات الثلاث الأولى لبناء الفلسفة السياسية، أو بمعنى آخر، مبادئها التأسيسية.
الأطروحة الأولى: إنّ العقلانية السياسية عقلانية مركّبة، تحديداً لأنها توظف عقلانيات متعددة مختلفة. أما المضمون الأولي لهذه العقلانية هو واجب إنتاج وإعادة إنتاج وتطوير حياة الإنسان داخل مجتمع، وفي المآل الأخير، الإنسانية جمعاء على المدى الطويل. هذا المضمون تحديداً هو ما يمكّن أي “دعوى صلاحية” سياسية-عملية في المجال التداولي من أن تكون دعوى ذات طابع كوني. بهذا المعنى، يمكن القول بأن العقل السياسي عقل عملي ومادي في ذات الوقت.
هذه اللحظة الأولى بديهية للغاية إلى درجة أنها بقيت في الخلفية محجوبة عن التفلسف السياسي. سأعطي لذلك أربع أمثلة شهيرة. اخترتها تحديداً لأنها أمثلة مألوفة، حتى أوضح بداهة الفكرة التي أتحدث عنها. لو تحدّثنا عن المدرسة العقلانية في أمستردام، نجد أن سبينوزا يذكر في رسالته في اللاهوت والسياسة، في الفصل السادس عشر ما يلي:
حين يقودنا التأمل إلى القول بأن البشر بدون مساعدة بعضهم، أو بدون الاعتماد على العقل، تؤول أكثر حاجاتهم إلى بؤس بالغ… يجب علينا أن نفهم بوضوح أن البشر ملزمون بالضرورة على العيش مع بعضهم بأكثر ما يستطيعون تحقيقه من أمان ورفاه، حتى يتمتعوا كجماعة بالحقوق التي استحقوها ابتداء كأفراد….[1]
هنا نجد أن العقل يعمل باعتباره الوسيط الذي يحفظ الحياة الآمنة والمسالمة، “لا يوجد أحد لا يريد أن يحيى بأمان بعيداً عن الخوف، وهذا لا يمكن تحقيقه إذا عاش كل فرد وفق هواه الخاص.” تقوم الحجة على الحاجة للخروج من حالة الفوضى الطبيعية (المحكومة بالميول والرغبات، وهي طبيعتنا الحيوانية) من أجل العبور نحو حالة الانتظام بالمعنى المدني والسياسي، والتي تمكّن عقلانياً من حفظ الحياة البشرية. هذا التصور كان أكثر وضوحاً عند جون لوك في رسالتان في الحكم. يقول في الفصل الثاني (الحالة الطبيعية) من الرسالة الثانية ما يلي:
… بالرغم من أنها حالة حرية، فهي ليست حالة انحلال، بالرغم من أنه في هذه الحالة لا حق لأحد في التدخل في حرية المرء في استخدام ذاته وأملاكه، إلا أن حقه في تدمير نفسه، أو أي كائن يقع تحت ملكيته، لا يكون إلا في سبيل حاجة أكثر نبلاً من حاجة حفظه لذاته. الحالة الطبيعية خاضعة حكماً لقانون طبيعي ملزم للجميع. والعقل، الذي هو ذلك القانون ذاته، يوجه جميع البشر، الذين يرجعون إليه، أن كون الجميع متساوون ومستقلون يوجب عليهم ألا يضر أحد سواه في حياته أو صحته أو حريته أو ممتلكاته… وحيث أن كل فرد مجبول على حفظ نفسه، فهو مجبور على حفظ بقية الإنسانية. [2]
متّبعاً أفكار سابقه ريتشارد هوكر (Richard Hooker) يوضح لوك أننا في الحالة الطبيعية نعجز عن القيام وحدنا بتأمين حاجاتنا الأساسية “للعيش بما يوافق كرامتنا الإنسانية.” الحالة الطبيعية، تشبه حالة الحرب التي لا يصعب فيها على العدو القيام بقتلنا. وباعتبار أن الإنسان لا يملك السيادة على حياته، فإنه لا يحق له انتزاعها من نفسه. كذلك كان الانتقال نحو فكرة الملكية الخاصة، التي نالت قيمتها من كونها تخدم الحياة الإنسانية أكثر. في المقام الأول نجد أن العقل الطبيعي يعلمنا أن البشر بمجرد ولادتهم ينالون حق الدفاع والحفاظ على وجودهم، وذلك يتضمن الأكل والشرب والنشاطات الأخرى التي تؤمن النجاة. ولكن في المقام الثاني، فإن الحياة على الكوكب لا تكون ممكنة أو نافعة إلا عبر الجهد البشري لجعلها كذلك.
إن القانون الطبيعي الذي يمنحنا حق الملكية، هو ذاته القانون الذي يقيد هذه الملكية. أي شخص يتمكن من الاستفادة من خيرات العالم قبل أن تفسد، بحيث يمكنه عن طريق العمل الذي يؤديه من تثبيت هذه الملكية (لوك 1965: 332).
إلى هنا نجد أن حجة لوك تعتمد دائما على الحياة الإنسانية. لكن بعد ذلك فجأة، وبفضل ظهور المال، يصبح من الممكن مراكمة الممتلكات القيّمة، الأمر الذي يسمح بتبادل البضائع والسلع المفيدة. و بمجرد دخول المال حيز الصدارة بداية من الفصل السادس من الرسالة الثانية، يتغير معنى خطاب لوك، فلا يعاود الاعتماد على الحياة كحجة أساسية له. بل تصبح الغاية الأهم من الانتظام المدني والسياسي هي الدفاع عن الملكية، و تفقد الحياة أهميتها بشكل نهائي.
بمثل ذلك يكتب جان جاك روسو في الفصل السادس من الكتاب الأول من العقد الاجتماعي:
إنني أفترض أن البشر قد وصلوا إلى النقطة التي تكشف فيها الصعوبات التي تهدد بقاءهم في ظل الحالة الطبيعية أن قوتها أكبر من الموارد التي يتحكم بها كل فرد من أجل بقائه في ظل تلك الحالة. تلك الحالة البدائية لا تعود قادرعلى الاستمرار، كما قد يفنى الجنس البشري ما لم يغير طريقته في الوجود.[3]
من الضروري إذن من أجل حفظ الحياة، وتجنب الانقراض،أن ننتقل إلى “نمط تجمع” أسمى. هنا مرة أخرى، نجد أن الحياة هي جوهر الحجة الفلسفية.
أريد الآن الانتقال إلى فيلسوفين معاصرين، ممن تعرضا في حياتيهما للاضطهاد المباشر. الأول هو الفيلسوف اليهودي هانز جوناس (Hans Jonas) الذي شهد حقبة الاضطهاد النازي و نزح لاحقًا إلى الولايات المتحدة، والذي عمل على تطوير فلسفة أخلاقية للحياة بوصفها مسؤولية. أما الآخر هو إغناسيو إيياكوريا (Ignacio Ellacuria)، الفيلسوف المسيحي الذي اغتاله النظام الدكتاتوري العسكري في السلفادور بسبب انتماءاته السياسية، النظام الذي كان مدعوما من البنتاجون ومنظمة الأمن القومي الأمريكيتين. الأول كان فيلسوفاً للنضال من أجل الحياة في النصف الأول من القرن العشرين، والآخر في النصف الثاني من القرن. منذ نشوء الإنسانية كانت الحياة حدثاً طبيعياً لا إشكال فيه، في حين كان الموت هو المعضلة الغامضة. لم يكن علم الأحياء مرتبطاً بعد بأي إلزامات أخلاقية. ومنذ كشف مركز الأبحاث المستقل “The Club of Rome” حدود “النمو” لأول مرة في عام 1972، بدى أن الحياة بدأت تتشكل بصفتها معضلة هي أيضا. وهي ليست معضلة نظرية فحسب، لكنها معضلة أخلاقية نابعة من رحم المعاناة. إن ضعف وهشاشة ومحدودية الحياة، بل وحتى بداية انقراضها، يمكن رؤيتها اليوم كحالة انتحار جماعي محتمل للإنسانية.
خذ على سبيل المثال الهشاشة الحرجة للطبيعة أمام تدخلات الإنسان التكنولوجية، تلك التي لم نستشعر آثارها المدمرة حتى ظهرت الأضرار الناتجة عنها إلى السطح. لقد أدى اكتشافنا لهذه الآثار إلى صدمة تسببت في صعود مفهوم جديد ونوع جديد من العلوم وهو الإيكولوجيا أو علم البيئة. كما أنها غيرت مفهومنا عن ذواتنا كفاعلين سببين في المستوى العام للأشياء. وذلك بتسليط الضوء على تغير ماهية الفعل الإنساني بناء على الأمر الواقع، كما دفعتنا لاستيعاب فكرة أن سؤال المسؤولية الأخلاقية أصبح معنياً بموضوع جديد من نوع مختلف عن العادة – وهو العناية بكامل الحيز الحيوي للكوكب. الذي أضيف إلى مسؤوليتنا لما لنا من سلطة عليه.[4]
يعود جوناس لهذه النقطة بشكل أكثر وضوحاً بقوله:
فلسفة بيكون تنطلق من أن المعرفة قوة. أما الآن فقد اتضح أن المشروع البيكوني حين يترك وحده محكوماً بنظامه الداخلي الخاص، يكشف في قمة نجاحه عن عجز ذاتي عميق، حيث يعجز عن التحكم في ذاته، بالتالي عن التحكم في قدرته على حماية الإنسان من ذاته، ليس ذلك فحسب بل حماية الطبيعة من الإنسان… هذه القوة أصبحت تولد نفسها بنفسها، في حين تحولت وعودها بالخلاص إلى تهديد بالكارثة. ما نحتاجه اليوم هو قوة تتحكم بهذه القوة، قبل أن توقفنا الكارثة نفسها. قوة أخرى تستطيع تجاوز العجز عن مواجهة تصاعد تلك القوة التي تولد نفسها بنفسها. (جوناس 1979: 141)
يقوم إيياكوريا في معرض شرحه للتأسيس الأولي “لمادية التاريخ” ببتحليل الأبعاد الحضورية و المادية و المكانية والزمانية للكينونة التاريخية. ويخرج من تحليله بنظرية في “الأسس البيولوجية للتاريخ”. يقول إيياكوريا:
بالرغم من أن المجتمع ليس كائناً حيا… فإن الجماعة الإنسانية في النهاية هي تلك التي تعي ذاتها كجماعة ملزمة باعتبار شرطها البيولوجي بأن تصنع التاريخ. إن الكثير من مخرجات التاريخ سواء منها الطبيعية أو الاختيارية كانت نتيجة لمحددات بيولوجية أساسية…خاصّة حين نستحضر غنى وتنوع الوجوه التي تظهر بها القوى الحيوية والضرورات بالمعنى البيولوجي.[5]
في مقابل الفيلسوفين السابقين، يضيّق فرانز هينكيلامرت (Franz Hinkelammert) دائرة اهتمامه إلى “الحياة الإنسانية” بالمعنى الدقيق للكلمة، ويعلي من أهمية المضمون المادي بصورته الاقتصادية، والتي تتضمن أيضاً البعد الإيكولوجي. يتضمّن كتابه الديمقراطية والشمولية عرضاً وافياً لهذه الأفكار:
من المؤكد أن المرء لا يستطيع ضمان إعادة الإنتاج المادية للحياة الإنسانية دون ضمان إعادة إنتاج الطبيعة المادية. مادام إنتاج الحياة هو القيام بجهد لتحويل الطبيعة المادية إلى مكونات تلبّي ضرورات الحياة، إذا، سيكون الاستغلال الجائر للطبيعة مفضياً دائماً لهلاك الحياة الإنسانية.[6]
إن واجب العقلانية السياسية إذا، باعتبارها عقلانية عملية-مادية، هي التفكير في إنتاج وإعادة إنتاج وتنمية الحياة الإنسانية في المجتمع. إن السياسة الكلية (macro-politics) مسؤولة عن إدارة الواجب المذكور على المستوى الإنساني ككل، وعلى المدى الزمني الطويل. إنها مسؤولة سياسياً عن إنتاج وإعادة إنتاج وتنمية المجال الحيوي (الإيكولوجيا). وهي بالتالي تعمل كأنظمة لتقسيم العمل و الإنتاج و التوزيع و التبادل (كالاقتصاد). وقولنا “على المدى الزمني الطويل” يشير إلى ما يقارب الخمسة ألاف سنة، على سبيل المثال. منذ خمس آلاف سنة، في الوقت الذي كان فيه الكوكب معموراً بحضارات ناضجة كتلك التي سكنت بلاد ما بين النهرين أو مصر، كان سكان الكوكب يقدرون بما بين 60 إلى 100 مليون نسمة. بحلول نهاية القرن العشرين، ستقارب البشرية مضاعفة عدد سكانها إلى مئة ضعف. إن الاكتظاظ البشري، ومحدودية الموارد الغير قابلة للتجدد، والاحتباس الحراري، والثقب الأوزوني في القطب الجنوبي، جميعها تشير بشكل مادي إلى ضرورة أن تتبنى “السياسة الكلية الكوكبية ” معايير جديدة لإنتاج وإعادة إنتاج وتنمية الحياة الإنسانية، وإلا فإن الحياة ستختفي عما قريب. فيما يتعلق بالإنتاج الاقتصادي، يجب على السياسيين تطبيق معايير من شأنها تخفيض معدلات استخدام موارد الطاقة الغير قابلة للتجدد (كالبترول)؛ وزيادة استخدام الموارد الثابتة القابلة للتدوير (الحديد أو النحاس)؛ والموارد القابلة للتجدد (الطاقة الشمسية أو الهايدروليكية، الخشب، البلاستيك المركب، مشتقات الكحول، إلخ). منذ أرسطو وحتى رولز، لم تكن السياسة مضطرة يوما لمواجهة هذه المسؤوليات. أما اليوم، ومن منطلق مادي، فقد أصبحت العناية بها أهمية قصوى. هذه نهاية السياسة الحديثة كما قدمتها شخصيات مثل مكيافيلي في سياق عصر النهضة، لوك في سياق عهد الرأسمالية، وبيكون في سياق الثورة العلمية. لا تزال الفلسفة السياسية لم تدرج ضمن اهتماماتها هذا البعد. إن الأحزاب الخضراء ، بمعرفتها الضئيلة في مجال الاقتصاد السياسي، هي منتج لواقع مادي جديد، وسوف تكون لاعباً رئيسياً في الألفية الثالثة.
إن نوع الممارسات الإيكولوجية-الاقتصادية الجارية على المستويات الدولية، والوطنية، والإقليمية، والعرقية للعقل السياسي العملي-المادي ليست إلا تجليات جزئية ومتشظية خاصة بهذا المعيار الأساسي للحقيقة السياسية. والذي يعدّ في الوقت ذاته مبدئا مادياً أخلاقياً-سياسياً. نتحدث هنا عن الواجب السياسي المتعلق بإنتاج وإعادة إنتاج وتنمية الحياة الإنسانية لكافة البشر، وعن واجب حفظ المجال الحيوي الطبيعي كشرط لإمكانيته. هذا “الواجب” هو المبدأ الديونطيقي (Deiontic) المادي الأساسي لأي سياسة ممكنة. ومرجع ذلك هو أن المواطن ظاهرة جسدية حية، وظاهرة ذاتية مدفوعة بالحاجة، وهو فاعل (منفعل-بذاته) (self-reflexive) يحمل الحياة وتحمله كشحنة داخلية دافعة (دافعة له ذاتياً، ودافعة للإنسانية جمعاء في الاعتبار الأخير). وكما أشار هينكيلاميرت بطريقة واضحة ومقنعة:
إن إعادة الإنتاج المادية للحياة الإنسانية هي الاعتبار الأقصى للحياة والحرية الإنسانية: فالإنسان الميت، أو الإنسان المهدد بالموت هو إنسان فاقد لحريته، بغض النّظر عن السياق الاجتماعي الذي يتواجد فيه. (سنناقش هذه النقطة في معرض نقاشنا للأطروحة الثانية). (1990: 8).
إن التجلي المادي للقوة يظل موضوعاً للبحث. وهذا يصح منذ أن أوّل شوبنهاور الكينونة أو الوجود بصفتيهما إرادة (Willen). وهو ما يمكن ترجمته في سياقنا إلى “إرادة للحياة” أوبعبارة نيتشه “إرادة للقوة”. وهي مقولة يمكن تأويلها باعتبارها دالة على حشد وتجسيد “للقوة” التي تصعد من قلب الحياة لتعود إلى خلق الحياة، بل وتأويلها بالتالي باعتبارها الأساس الجذري لتلك القوة. غير أن هذا السؤال المادي للسياسة بحاجة إلى استفاضة أكثر تماسكاُ في مشروع آخر أكثر اتساعاَ. ما سوف أضيفه هنا هو القول بأن إرادة الحياة الخاصة بالمواطن تجسد الأساس الذي يبنى عليه المفهوم المادي للشرعية (في مقابل المفهوم الإجرائي الشكلي لها). وهذا ما سنوضحه لاحقا.
الأطروحة الثانية:
يجب على العقلانية السياسية استيفاء الشرعية الخطابية، أو الإجرائية، أو الديمقراطية (أي الوجه الصوري للشرعية)، عبر المشاركة العامة الفعالة، والمتساوية، والديمقراطية لكل المعنيين بالتشريع، ونعني المواطنين بصفتهم فاعلين مستقلين، يجسدون الاستقلال التام للجماعة التواصلية السياسية. هذه الجماعة التواصلية السياسية، بصفتها جماعة سيادة شعبية بين-ذاتية (intersubjective)، هي ذاتها مصدر التشريع وغايته. وبذلك تحوز قرارات الجماعة صفة “دعاوى صلاحية”، أو تحوز شرعية سياسية كونية. إن العقل السياسي بهذا المعنى عقل سياسي عملي-تداولي.
هنا نجد أنفسنا قد دخلنا مسارًا نظريًا مألوفًا. وهو المسار الذي يتعامل مع اللحظة التواصلية للإجماع، الاستقلال، الحرية، والسيادة الشعبية، وهو ما يمكن أن نسميه على إثر يورجن هابرماس “بمبدأ الديمقراطية”[7]، (في حين أن المبدأ الذي تحدثنا عنه في المقدمة الأولى يمكن أن نطلق عليه “مبدأ الحياة”). إن المبدأ المادي لفاعلية العقل السياسي عاجز عن تأسيس ذاته بذاته، كما أن عاجز عن تمكين ذاته بدون وساطة العقل السياسي-التداولي. بعبارة أخرى، إذا تساءلنا: “كيف يكون الإنتاج السياسي للحياة الإنسانية في مجتمع ما ممكنا؟” فإن الإجابة الوحيدة هي “أن هذا غير ممكن إلا بطريقة حرة، ديمقراطية أو تداولية بما يوافق القوانين التي تمت مأسستها عبر الصلاحية أو الشرعية الشعبية،” باختصار، عبر الديمقراطيةً.
إن جميع الافتراضات النظرية للنظريات التعاقدية الحديثة، مبنية في أساسها على الحاجة الأخلاقية-السياسية إلى تأسيس المعيارية، والتي بدورها تصدر عن المشاركة الحرة المتساوية للمعنيين بالتشريع. بالعودة إلى روسو في كتابه العقد الاجتماعي، الذي يعالج فيه مشكلة الإجماع الأصلي، نجد أنه من الَضروري:
…إيجاد شكل من أشكال التجمع يحمي ويدافع بكامل القوة الجمعية عن شخص وممتلكات كل فرد فيه. بحيث يكون لكل فرد فيه، رغم توحده مع الجماعة، أن لا يطيع أحداً إلا ذاته، ويحفظ حريته التي كان يمتلكها من قبل (روسو 1973: 174).
أو حسب توصيف سبينوزا:
إن مجتمعاً سياسياً من هذا النوع يسمى ديموقراطية، وهو ما يمكن تعريفه كمجتمع يبسط سلطته و يمارسها ككل. إن قوة صاحب السيادة هنا ليست مقيدة بأي قوانين، لكن الجميع ملزمون بطاعته في الأمر كله (سبينوزا 1951: 205).
إن جميع الفلسفات التعاقدية، بما فيها نظريات رولز ونوزيك، لا تستطيع تجنب الوقوع في معضلة منطقية، وهذا يرجع إلى طبيعتها الميتافيزيقية الفردانية (أو في بعض الحالات الشبه أناركية، بالنظر إلى الدولة كمؤسسة فاسدة جوهرياً). حين نعتبر أن الكائن الإنساني فرد وحر بطبيعته، فإن كل “المؤسسات” هي مصدر حتمي للقمع والضبط والتحديد بمعنى أو بآخر، وكلها بالتالي نواقض للطبيعة البشرية. يؤمن اليسار الأناركي- كما عبر عنه باكونين مثلا- أن جميع المؤسسات فاسدة، لأنها “تقمع” الحريات الإنسانية سواء بمعناها الأصلي أو الاجتماعي. يقترح باكونين بالتالي تدمير المؤسسات عبر الفعل المباشر. أما نوزيك فيقترح تقليص صلاحياتها إلى أدنى حد ممكن. لقد أبرز كانط هذه المعضلة بوضوح في كتابه ميتافيزيقيا الأخلاق:
…إن مفهوم الحق يمكن القبض عليه بشكل مباشر حيث توجد إمكانية للجمع بين قبول الإكراه المتبادل كونيا “إكراه الجميع للجميع” وبين ضمان الحرية للجميع. بالتالي، كما أن الحق معنيّ عموماً بما يعدّ عملياً عنصراً خارجيا، فالحق بالمعنى الإجرائي الدقيق، أي ذلك الخالي من أي ارتباط بما هو أخلاقي، لا يتطلب إلا أساساً خارجياً لتحديد الاختيار.[8]
إن القانون، بما هو ذلك العامل الخارجي، يفرض ذاته على مصادر الرغبة الذاتية (تلك المصادر المادية والأنانية دائماً)، لجميع الأفراد بالإكراه، لأن “القانون مرتبط بشرعية الإكراه.” إن اتباع القانون ليس فعلاً أخلاقياً بل هو (“خال من أي ارتباط بما هو أخلاقي” كما في الاقتباس السابق)، ما يجعله بالتالي خالياً من أي مضمون معياري ماخلا المعيارية الخارجية لما هو قانوني. لقد تفاقمت المعضلة إذن: لقد تم اجتثاث المعيارية الذاتية من الشرعية الجبرية والخارجية للقانون.
لقد عالج كل من كارل-أوتو آبل و يورجن هابرماس هذه المعضلة بانطلاقهم من “المجتمع التواصلي”، ما مكّنهم بالتالي من تجاوز الفردانية الميتافيزيقية: المجتمع التواصلي هو ذلك المجتمع الذي يتفاعل بدون قيود غير طبيعية، المجتمع الذي يمثل مصدر التشريع (من حيث أنه يشرع القوانين لذاته)، ويضمن المساواة والحرية والاستقلال التواصلي، كما يمثل أيضا غاية التشريع (من حيث حاجته للخضوع لذاته). نظرياً، أولئك المتأثرين بالتشريع هم المشاركين المتساوين في تقرير التشريعات التي سيؤثر عليهم. هذا ما يجعل القرارات التي تؤثر على الجميع صالحة للجميع. لأن القرارات قد توسلت “المبدأ الديمقراطي”، المبدأ الذي ينظّم مأسسة الوساطات، فيمكن اعتبارها لذلك قرارات شرعية. إن مفهوم السيادة الشعبية، حين يُمارس بواسطة جماعة تواصلية تاريخية معيّنة، حيث يكون الشعب مصدر التشريع وغايته في الوقت ذاته، يقدم حلاً للمعضلة. بالإضافة إلى ذلك، فالمبدأ الديمقراطي لا يعود مجرد إجراء صوري، خارجي، وقانوني. على العكس، يصبح قائماً على أساس معياري باعتبار أن معناه أصبح مرتبطاً بتطبيق “المبدأ التواصلي” على المستوى السياسي العام. تمثّل مساهمة هابرماس تقدماً هائلاً في صياغة “العقل السياسي-التداولي” ومن الواجب تضمينها بشكل مفصّل في الفلسفة السياسية. لكنه في اللحظة التي يتنكر فيها للبعد المادي فإنه يسقط حتما في الاختزالية الإجرائية. الشرعية عند هابرماس تبنى في المستوى التواصلي الإجرائي فقط. فهو لا يلاحظ أن نظاماً سياسياً يفقد شرعيته في اللحظة التي يفشل فيها في التعاطي مع الحياة الإنسانية ويفقد القدرة على الحفاظ على حياة مواطنيه. عند معالجة مفهوم الشرعية، تتوجب العناية بالجانب المادي للحياة والتواصل الإنسانيين لإثراء المفهوم الإجرائي والشكلي البحت للعدالة السياسية. في الدول الهامشية والفقيرة ودول مابعد الاستعمار، يعدّ الإنتاج الاقتصادي جزءاً لا يتجزء من المكون السياسي للشرعية. على سبيل المثال، الإفقار الذي تتعرض له الكثير من الأمم في أيامنا نتيجة للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية ترتب عليه نزع للشرعية عن العديد من الحكومات التي كانت ملتزمة رسميا بالمبدأ الديمقراطي، لكنها أهملت الأساس المادي لبناء الشرعية. المسألة تتعلق هنا بمعرفة الكيفية التي يمكن بها التوفيق بين مبدأي جون رولز “الأول” و”الثاني – الاقتصادي الاجتماعي”. وهي مسألة لم تستعرض بشكل واف في مؤلفه نظرية في العدالة. إضافة إلى ذلك، فهذا هو السبب الذي أبقى تطبيقه لمبدأ “الإجماع المتداخل” “overlapping consensus” مقصوراً على البعد السياسي-الثقافي، متجاهلاً بعدين بالغي الأهمية، وهما البعد الإيكولوجي-الاقتصادي والبعد الاجتماعي.
إن المبدأ المادي للسياسة (إعادة إنتاج الحياة الإنسانية) والمبدأ الإجرائي للسياسة (المبدأ الديمقراطي) يساهمان في صياغة أحدهما للآخر في ذات لحظة تحقيقهما لأهدافهما الخاصة، بحيث يتم تضمين أحدهما في صيرورة تحقيق الآخر. ليس هناك أي قرار يتعلق بتنمية الحياة الإنسانية في مجتمع يمكن اتخاذه سياسياً بدون توسّط البعد الإجرائي الذي يحقق الصلاحية أو الشرعية العامة التي يقوم المبدأ التواصلي بإضفائها. لكن كل ما تتم مناقشته بشكل ديموقراطي يجب أن يكون موجّهاً عبر دعوى للحقيقة (بالمعنى العملي للحقيقة) كما ينص على ذلك المبدأ المادي الأول للواجب السياسي، والذي يمكن صياغته بشكل تجريدي وكلي بصفته تحريما لذلك المبدأ الغير قابل للتعميم: “يجب أن لا تقتل!” -كما عبر عن ذلك ألبرخت فيلمر (Albrecht Wellmer). إن قراراً يتعلّق بانتحار جماعي ليس من الشرعية الديمقراطية في شيء: كتب فيتجينشتاين مرة: “إذا كان الانتحار مسموحاً به، فكلّ شيء مسموح به.”
إن المواطن في هذه الحالة عضو في جماعة ديمقراطية عقلانية لغوية و بين-ذاتية. بعبارة أخرى، المواطن يشكّل جزءاً من المشاركة الديمقراطية المؤمّنة بواسطة الشرعية الشعبية؛ والتي تشكّل بدورها الأساس والغاية للتشريع، وللسلطة، وكل ما ينبع منهما من أنظمة فرعية.
الأطروحة الثالثة:
يجب على العقلانية السياسية في بعدها المتعلق بفعاليتها الاستراتيجية والأداتية أن نأخذ في عين الاعتبار الشروط المنطقية، والتجريبية، والبيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتاريخية، إلخ، التي تضمن الإمكانية الحقيقية لتطبيق مبدأ، أو المعيار، أو قانون، أو مؤسسة، أو نظام، أو أفعال سياسية. هذا ما سيؤمّن النجاح والفاعلية السياسية لذلك المبدأ، أو المعيار، أو القانون، أو الفعل، أو المؤسسة، أو النظام الفرعي، إلخ. المسألة تتعلق في هذه الحالة بعقل سياسي استراتيجي أو حتى أداتي، غير أنه متضمّن بطريقة إيجابية داخل التعقيد الأخلاقي للعقل السياسي.
وكل ذلك يظهر في كون الأطروحة الثالثة يجب أن تعمل داخل المعايير التي يحددها المبدآن اللذان تمتّ معالجتهما في العقل السياسي الماقبل أداتي.
لقد ميّز ماكس فيبر بين العقلانية الإجرائية والعقلانية القيمية (المادية). فالأولى تنشأ عن “الأحكام التجريبية” التي يمكن تحصيلها عن طريق العلم، والثانية تختص “بالأحكام القيمية” التي هي أحكام ذاتية، مثل أحكام الذوق، ما يجعلها بالتالي غير قابلة للادراج في الخطاب العلمي. إنّ شكلي العقلانية السابق ذكرهما في الأطروحتين الأولى والثانية غير معروفين بالنّسبة لفيبر. وهذا ما يصنّفه حتما ضمن المذهب الاختزالي “للعقلانية الأداتية،” الذي وجّهت له انتقادات قويّة للغاية على يد الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت (هوركايمر، وأدورنو، وماركوزه). إن العقلانية الإجرائية خاضعة للقياس الكمي والحسابي، كما أنها تستهدف تلك الغايات المتواجدة مسبقاً في النظام الحالي (سواء كانت تلك الغايات سياسية، أو اقتصادية، أو تقنية، إلخ.). فليس هنالك إمكانية لطرح أو تقييم الغايات. إن المسألة الأخلاقية والسياسية الخاصة بالعقل الاستراتيجي تكمن تحديداً في فحص التوافق بين الغاية من الفعل (ونعني تحديداً الغاية النابعة من العقلانية الإجرائية؛ مثل الغايات أو الأهداف المرتبطة بالنظام البيروقراطي أو المؤسسة الرأسمالية) وإمكانية حفظ الحياة الإنسانية (أي فحص مضمون هذه الغاية)، وتحقيقها بشكل شرعي ديمقراطي (أي فحص صلاحية هذه الغاية). يمكن اعتبار الفعل فعلاً سياسياً متكاملاً حين يتوافق مع المبادئ الثلاثة: العقلانية المادية-العملية، والعقلانية الإجرائية، وصلاحية الغاية.
إذا، إن كل الإشكالية المتعلقة بالأشكال المختلفة للحكومة لا مكان لها في مستوى المبادئ الثلاثة المذكورة أعلاه، لأن هذه المبادئ تمثل شروطاً كونيّة كليّة مجرّدة، حتى عندما نتحدث بشكل عام الإمكانية العملية.[9] فالمبدأ الديمقراطي، على سبيل المثال، بحاجة لأن يعمل في إطار فاعلية تواصلية وكونية محددة (مثال ذلك، الوصول إلى قرار مقبول عبر حوار عقلاني يتضمن مشاركة جميع المعنيين بالتشريع بشكل ديمقراطي، في إطار عام ومنظّم في مؤسسات معرّفة في النظام القانوني)، لكنّ هذا لا يشترط للحكومة شكلا معيناً محدداً بصرامة. إن الاقتراع بشكليه الخاص والعام ديمقراطي؛ لكن الاقتراع ليس النمط الوحيد الممكن للديمقراطية. المبدأ الديمقراطي لا يمثّل شكلا مثاليا للحكومة، لكنّه مبدأ أخلاقي-سياسي كوني (مبدأ من الرتبة أ لو استخدمنا التمييز الخاص بأبل).[10] في المقابل، شكل الحكومة الديمقراطية، أو أي النماذج التي يمكن من خلالها ممارسة الديمقراطية، تصنّف في رتبة الإمكانية العملية السياسية، رتبة التوسّط، (الرتبة ب حسب مصطلحات أبل). الفلسفة السياسية في الرتبة التجريدية (أ) تبحث المعايير والمبادئ. كما أنها تبحث المواصفات الخاصة بأشكال معينة للحكومة في (الرتبة ب). في هذا المبحث الجزئي، النظري، والسيسيولوجي، والتاريخي، تكون العلوم السياسية أداة إضافية في البحث. أما الفعل السياسي في مستوى عينيته (the level of singularity) (وهو يمثل الرتبة ج) فإنه بخصوصيته يحاكم على أساس واقعي تلك المبادئ والمعايير وأشكال التنظيم السياسي المختلفة، أي أن الفعل السياسي العيني هو ما يحدد إن كانت المبادئ أو المؤسسات موضوعاً للتطبيق أو التغيير في الواقع.
أن تكون ميكيافيلياً – وهذا لا علاقة له بالضرورة بميكيافيلي ذاته – يعني أن تخلق مجالاً مستقلاً استقلال مطلقاً للعقل السياسي الاستراتيجي لا تحدّه أي حدود معيارية. إن غاية الميكيافيلية هي النجاح السياسي، وهي عقيدة نزّاعة إلى تجاوز الصراعات التي تتحدى فاعلية النظام السياسي القائم. هذا النوع من الغايات هو ما يبرر وسائله. وعلى العكس فإن اعتبار الإمكانية العملية السياسية والمعيارية لا تستبعد العقل الاستراتيجي، ولا نجاح الفعل السياسي، لكنها تتضمنّه، وبالتالي تؤطره داخل مقتضيات المبدأين الأولين. المبدأين الذين لو تأملناهما كأوامر كونية سالبة يمكن اختصارهما في عبارتي نهي تمثلان مبدأين غير قابلين للتعميم. مقتبسين ألبرخت فيلمر مرة أخرى: “يجب ألا تقوم بالقتل!” و”يجب ألا تقوم باستبعاد أو نفي تساوييك مع أي من المتأثرين بما سينتج عن القرار الواقعي الذي تتمّ صناعته!”.
في هذه الحالة، يتصرّف المواطن كفاعل، يتواجد وسط شروط الإمكانية العملية للوسائل-الغايات، ما يجعله قابلا لبلوغ النجاح عبر توسّل الفعل الاستراتيجي.
اللازمة الأولى:
وحده القانون، أو الفعل، أو المؤسسة، أو النظام الذي يتوافق مع المبادئ المذكورة يمكن أن يحمل دعوى للعدالة السياسية (السياسة الأخلاقية) في ظل النظام القائم.
المبادئي الثلاثة مبادئ كونية وكلية (مرتبة أ). كما أنها شروط أخلاقية-سياسية متحققة في فعل استراتيجي وتكتيكات واقعية (مرتبة ب). في هذا الموضع نجد اجتماع المعرفة الخاصة بالنظرية السياسية Politike مع المعرفة الخاصة بالممارسة السياسية Political Phronesis. هنا نجد أن الحقيقة العملية (أي إنتاج الحياة الإنسانية، رغم أنها الآن مرتبطة واقعيا مع عدة جبهات، البيئية، والاقتصادية، والتعليمية، إلخ.) تتشكل هنا بموازاة الشرعية السياسية (أي بموازاة مختلف الأشكال الواقعية للحكومة، وتقسيم القوى، والأنظمة الموضوعية، للقانون، والحقوق، والمؤسسات، التي تمثل الوسائط التي تقود للمبدأ الديمقراطي)، وبموازاة الإمكانية العملية (التي تأخذ الشروط الواقعية في اعتبارها على كل مستويات التطبيق الممكنة، على مستوى الزمان والمكان التاريخي، على مستوى الممكنات الاجتماعية والتقنية، إلخ.). إن العقل السياسي-الاستراتيجي يدير التعقيدات المتعلقة بالبعد الواقعي (ب). ورغم أنه يعرّف أحيانا بصفته هو العقل السياسي في ذاته، إلا أنه في هذا الحالة ينتفي إمكان التوفيق بين الفعل السياسي مع متطلبات الحياة الإنسانية من جهة ومع صلاحية السيادة الشعبية من جهة أخرى، الغايتان اللتان يفترض من الفعل السياسي أن يخدمهما.
في هذه الحالة يكون المواطن عضواً في نظام سياسي حاكم يضمن فيه العيش بمعايير معيشية معيّنة، والمشاركة بشرعية وسيادة في المجتمع السياسي، متوسّلا الوسائط المؤسساتية الضرورية. هنا تقوم دعوى ثنائية تستطيع ادعاء العدالة السياسية، والفاعلية الاستراتيجية في ذات الوقت. غير أن العقل الاستراتيجي يجب أن يكون على ذات القدر من المسؤولية تجاه النتائج العاجلة والآجلة لأفعاله، خاصّة عندما تكون نتائج الأفعال السياسية سلبية (سأخص أولئك الذين يعانون من النتائج السلبية المماثلة باسم الضحايا)، وليست إيجابية (النتائج الإيجابية تتحول تلقائياً إلى مفردات جدارة للنجاح السياسي). إن مسؤولية من هذا النوع، تستدعي أشكالاً أخرى للعقلانية السياسية: ونعني العقلانية السياسية النقدية كمبدأ عمومي من أجل تنمية الحياة الإنسانية، ومن أجل الصراع في سبيل نيل الاعتراف بما نحتاجه من حقوق جديدة (فضاءات جديدة للشرعية والصلاحية في المستقبل).
السياسة النقدية
خطاب الفلسفة السياسية يدخل هنا في لحظة ثانية. من المهم الآن أن نتحمل مسؤولية الآثار الآنية والمستقبلية للفعل السياسي. إن الآثارالإيجابية تؤكّد فاعلية الإجراءات المتّخذة ونجاح البنى القائمة. لكن عندما تسود الآثار السلبية، وتصبح بالتالي خارج المقبول والمسموح به، حينها فقط تبدأ المراجعة للأفعال والأنظمة التي أنتجتها. هذا النوع من المراجعات، أو “السياسة النقدية،” هو ما يقدم نقدا للبنى السياسية التي تنتج ضحايا بشرية أو آثاراً مدمّرة للبيئة. كلا النوعين من الآثار السلبية تنبّهنا للحاجة إلى تدارك مسارات العمل السياسي. الأمريكيون السود، والمواطنون المسنون، ودول ما بعد الاستعمار التي تضطهدها إجراءات العولمة، والطبقات المستغلة، والشعوب المستبعدة، والمهمّشون، والمهاجرون الفقراء، والجماعات الإثنية، وجماعات أخرى عديدة مضطهدة من النظام السياسي الحالي، تصبح هنا موضوعاً للتحرر أو للسياسة النقدية.
الأطروحة الرابعة:
إن العقلانية السياسية قابلة للتحول إلى عقلانية سياسية نقدية بشرط قابليتها لتحمل مسؤولية ما ينتج عن القرارات، والقوانين، والأفعال، والمؤسسات من آثار سلبية. إن من واجبها أن تصارع من أجل نيل الاعتراف بضحايا الأفعال السياسية، سواء في الماضي أو في الحاضر. النقد الأخلاقي السياسي يسعى لكشف ماهو غير صادق، وغير شرعي، وغير فعال في قرار، أو نظام، أو قانون، أو فعل، أو مؤسسة، أو نظام سياسي معين. بهذا المعنى يمكن تعريف العقل السياسي النقدي.
جون لوك، “الثائر” البرجوازي الذي رأيناه يشرّع للملكية بصفتها الغاية من المجتمع السياسي، سنراه في نهاية رسالته الثانية في الحكم، الفصل التاسع عشر، المعنون “حول تفكك الحكومة،” يقدم بشكل سلبي موقفا يشبه موقف هوركايمر في مقاله النظرية النقدية. يقول فيه:
لأن الناس عندما يُتركون بؤساء، ويجدون أنفسهم معرّضين لإساءة استخدام القوة العشوائية، يشكون إلى حاكميهم، بقدر ما ستشكوا أنت لأبناء جوبتر، وليكن أنهم مقدسين وإلهيين، وليكن أنهم متحدرين أو مشرّعين من السماء….إن الشعب الذي تساء معاملته عموما، وبما يخالف الحق، ستجدهم جاهزين في أي مناسبة لتخليص أنفسهم من الحمل الثقيل الملقى عليهم (p. 463).
وعلى نفس المنوال، يكتب هوركايمر في النظرية التقليدية والنظرية النقدية:
النظرية التقليدية تسلّم بمجموعة من الأشياء دون مساءلة: أنها ذات دور إيجابي في مجتمع فعّال، أنها مرتبطة، وإن كان ذلك بشكل غير واضح وغير مباشر، بإرضاء الاحتياجات العامة، وبكونها جزءاً من المسار المتجدد ذاتياً للحياة. لكن كل هذه المقتضيات، تلك التي لا يحتاج العلم لأن يشغل بها باله لأن الثقل الاجتماعي للعالم هو الذي يحددها ويؤكّدها، هي موضع استشكال في التفكير النقدي. إن الغاية التي يسعى إليها الأخير، وهي الحالة العقلانية للمجتمع، تنطلق من البؤس الكامن في الحاضر. النظرية النقديّة لا تعمل في خدمة الواقع الراهن ولا تسعى لفرضه، بل تقوم بكشف خباياه.[11]
السلبيات، بالمعنى المادي للكلمة، هي نقطة الانطلاق للنقد السياسي. المواطن في هذه الحالة هو الضحية المضطهدة أو المستبعدة بشكل غير عادل من النظام السياسي الراهن، المحظور عن إمكانية المشاركة فيه، وبالتالي عن المشاركة في إعادة إنتاج حياته الخاصة. الدولة تصبح هنا مضادة للديمقراطية، وبالتالي دولة غير شرعية. المبادئ الثلاثة المذكورة في الجزء الأول من المقال، ستتم معالجتها من منطلق سلبي في هذا الجزء من مقالتنا. عبر تبنّي منظور المضطَّهّدين، يبدأ النّقد السياسي في “تشخيص علمي لأمراض الدولة،”[12] على حد تعبير هرمان كوهين (Hermann Cohen). يصبح من الواضح أن غاية نظام سياسي ما هي حفظ ذاته عندما يبدأ في إنتاج ما يتجاوز المقبول من أعداد الضحايا، والمضطهدين، و”المضبوطين disciplined”، والمغتربين من أعضاء المجتمع. إن “حفظ النظام السياسي لذاته” ينتهي إلى كونه أقصى معيار يناقض إعادة إنتاج الحياة الإنسانية ذاتها (يجسد ذلك حالة العبيد في ظل النظام الديمقراطي “الخاص بالأحرار” في أثينا في عهد أرسطو). لذلك، يجد أولئك الذين يؤمنون بالحياة الإنسانية، نقداً حاداً من المدافعين عن “حفظ النظام الحالي لذاته”. إن “الإعلاء من شأن القيمة” (المعيار الأقصى لرأس المال) يشكّك في قيمة إعادة إنتاج الحياة (حياة العمال)، لكنّ هذه الأخيرة يجب أن تكون سابقة للأولى. إن نقد إعادة إنتاج النظام لذاته من منطلق تنمية الحياة الإنسانية للضحية هو المعيار الأساسي لمجمل السياسات النقدية، وهو معيار كل تغيير سياسي ضروري. يلتقي هنا الاقتصاد السياسي لماركس مع أنطولوجيا إيمانويل ليفيناس. من المعروف مسبقاً أنّ الدولة لا يمكن أن تصبح الفاعل الوحيد المعني بالتغيير السياسي والمؤسساتي، حتى عندما تحمل الدولة إمكانية داخلية كامنة للتغيير. إن ما يغير الدولة هي “الحركات الاجتماعية الجديدة” للمجتمع المدني التي تحمل مطالبا متجددة للعدالة السياسية. من هنا كان منطلق الاهتمام بالنقد البنيوي “للسلطة-الدقيقة،” “Micro-Power”، من وجهة نظر الاختلاف، عند ميشيل فوكو. إن المستبعدين عن النظام السياسي (المجانين، السجناء، والمثليين، إلخ) الذين يتأكد استبعادهم من خلال العقوبات التأديبية التي يلحقها بهم النظام الحاكم. إن محض وجود هؤلاء المهمشين يعدّ بحدّ ذاته معيارا اجتماعيا نقديا. المسألة التي لم تنل بعد كفايتها من البحث في الفلسفة السياسية المعاصرة.
الأطروحة الخامسة:
إنّ العقلانية السياسية، بقدر ما هي عقلانية نقدية، بحاجة إلى تبنّي المسؤولية، بشكل تواصلي ديمقراطي، من زاوية نظر المستبعدين والمرفوضين، عن المواقف التالية: أ) اتخاذ موقف سلبي يحكم فيه على النظام السياسي بصفته “السبب” المنتج لضحاياه، ب) تنظيم الحركات الاجتماعية الجديدة الضرورية من أجل ج) اتخاذ موقف إيجابي عبر اقتراح بدائل للأنظمة السياسية، والقانونية، والاقتصادية، والتعليمية، إلخ. بذلك تكون الصراعات من أجل الاعتراف بالمستبعدين مكاناً لظهور أنظمة جديدة للحقوق. يتزايد الإجماع حول دعاوى الصلاحية الخاصة بهذه الحركات الاجتماعية النقدية، (الصلاحية النقدية)، وذلك مقابل تناقص شرعية الأنظمة الحاكمة. تعلن هذه الحركات مطالبها بشكل عبوري (transversal) -أي عابر للحدود- كدعاوى كونية أيضا. هذا هو المعنى الذي نصف فيه العقل السياسي كعقل سياسي نقدي-تداولي.
المواطنة/المواطن الضحية والمستبعد يغيّر نفسه الآن إلى عضو فاعل في التحّول بوصفه عضواً في “جماعة نقدية – critical community” تنخرط في الصراع من أجل الاعتراف بالحقوق في مجتمع مدني، سعياً إلى مأسسة مطالبها مستقبلاً في إطار مجتمع سياسي، أي في إطار الدولة. في كتابه أطروحات حول فيورباخ، يطرح ماركس ماديته كمقابل لمادية فيورباخ الفردانية، الإدراكية، الوظيفية والجامدة. يطرح ماركس ماديته بكامل أبعادها الأنثروبيولوجية (أي ما يتعلق بالوجود الإنساني المادي)، وبكامل جوانبها النقدية أو السلبية، والعملية، والاجتماعية (أي ما يتعلق بالإنسان بصفته كائناً مغروساً في قلب العلاقات الاجتماعية). في حديثه عن “النشاط الإنساني” الذي تقوم به الجماعة الضحية نفسها يقول:
إن صدفة تزامن التغيير في الظروف المحيطة مع التغيير الذاتي أو النشاط الإنساني لا يمكن تصوره أو مفهمته عقلانيًا إلا بصفته فعلًا ثورياً[13].
علينا العودة إلى الأطروحة الثانية حين نبحث هذا البعد تحديداً؛ البعد الذي لا يتعلّق بفاعل ذاتي ومحبوس في النظرية، بل يتعلق بفاعلين عمليين واستراتيجيين ينطلقون من موقف نقدي. الفاعلين الذين يمثل انخراطهم في الممارسات التغييرية داخل النظام الذي يقصيهم ويضطهدهم الشرط الذي يعطي أحكامهم النقدية صفة (حقائق موضوعية):
إن السؤال عن إمكانية إيجاد حقيقة موضوعية في التفكير الإنساني ليس سؤالاً نظرياً، بل هو سؤال عملي. الحقائق التي تمثل الواقع و السلطة، والانحيازات المتضمنة في التفكير، يجب أن تنال إثباتها في الممارسة.
لقد اكتشف ماركس “نقطة الانطلاق” الخاصة بالبراكسيس (praxis)، وهو (جماعة المضطهدين النقدية، الطبقة العاملة في لحظتها وعبر منظورها الخاص)، في سياق استجابته بشكل إيجابي لإلحاح المساءلة الأخلاقية الصادرة عن المضطهدين أنفسهم، الذين باستجابتهم لها يحررون أنفسهم.
حين نناقش تنظيم جماعة المضطهدين، يجب ألا ننسى عبقرية روزا لوكسمبورج، التي نرى في ممارستها التقاءً صريحاً بين الممارسة الاستراتيجية وبين المبادئ (والتي يجب التفريق بينها وبين النظريات، رغم أن لوكسمبورج لا تفعل ذلك بشكل صريح). في سياق نقد الاستغلاليين والإصلاحيين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، تسأل نفسها: ما الذي يفرّق بينهم وبين الثوريين؟ وتجيب:
إنما هو عداء معين “للنظرية”. وهذا طبيعي جداً، لأنّ “النّظرية” الخاصة بنا، أي المبادئ الخاصّة بالاشتراكية العلمية، تفرض حدوداً واضحة على الممارسة العملية – تحديداً ما يتعلق بغايات هذه الممارسة، والوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الغايات، والمنهج المستخدم في تطبيق هذه الممارسة. من الطبيعي جداً أن يسعى أولئك الذين يلهثون وراء النتائج “العملية” الفورية لتحرير أنفسهم من هكذا حدود، ولجعل ممارستهم مستقلة عن “نظريتنا”[14].
كما نرى، فما تسميه لوكسمبورج بالنظرية (وتضعه بين علامتي تنصيص) هو مفهوم أوسع مما يبدو حين تؤخذ في الاعتبار كل مضامينه: في سياقنا الحالي يمكن أن نصفه كمجموعة من المبادئ. ونقصد بالمبادئ تلك المبادئ التي صيغت مسبقاً. هذه المبادئ التي هي شروط أخلاقية وسياسية لإمكانية تحقق القانون، القواعد، الأفعال، الأنظمة الفرعية، والمؤسسات السياسية، وهي أيضا الحدود التي تؤطَر هذه الممكنات، هذه المبادئ هي تحديداُ ما “يفرض معاييراً صارمة على الممارسة السياسية” في تحليل لوكسمبورج. بعبارة أخرى، فالباب ليس مفتوحاً لممارسة أي فعل سياسي كان، أو استخدام أي وسيلة كانت، أو اختيار أي غاية كانت، إلخ. بالإمكان فقط اتخاذ القرار بصورة تداولية حول “الأفعال المسموح بها” في إطار المعايير المحددة بدقّة التي عرّفتها المبادئ المنصوص عليها. فيما يخصَ التنظيم الاستراتيجي، تشير لوكسمبورج بدقّة مذهلة إلى أن هذه المبادئ تتضمن حدوداً ومعاييراً لاتخاذ القرار، آخذة في الاعتبار: أ) الغايات المراد تحقيقها، ب) الوسائل التي يتم اتخاذها، ج) وأخيراً الأنساق الصراعية التي يتم تقريرها. هذه المستويات الثلاثة للعقل السياسي الاستراتيجي-الأداتي تحدد أفق الوسائط الممكنة. تصف لنا السياسية المثقفة العظيمة بوضوح الطرق التي يجب فيها التوفيق بين العقل الاستراتيجي، والعقل الديمقراطي المادي، أو ما يمكن تسميته بالعقل السياسي الاستراتيجي-النقدي. لقد أصبح ممكنا الآن أن نفهم كيف يقوم العقل السياسي المادي، الديمقراطي-الإجرائي، والنقدي بتعيين الغايات الخاصّة بالعقل السياسي الاستراتيجي-النّقدي. حيث إنه من خلال هذه الغايات المعيّنة يمكننا تبيّن الوسائل المناسبة (فليس كلّ “وسيلة” مبررة، تماماً مثلما أنه ليس كلّ غاية مبرّرة)، كما يمكننا توظيف الطرق التكتيكيّة المناسبة لبلوغ الغاية في الواقع بشكل لا يناقض المبادئ المذكورة مسبقاً. لهذا السبب، فليس كلّ وسيلة مقبولة، إذ تبقى جميعها مؤطّرة داخل الممكنات السياسية التي تسمح بها (أو وتوصي بها) المبادئ المذكورة.
العقل السياسي الاستراتيجي-النقدي ليس عقلا استراتيجياً يكتفي بتحقيق الغايات التي تعيّنها الظروف والتكتيكات. إن موقفاً كهذا سيكون موقف ماكس فيبر الذي يرى أن “الغايات” لا تكون إلا الغايات التي تحددها الثقافة، أو التقاليد السائدة، والتي يجب أن تقبل كما هي – وهو موقف محافظ، إلا أنّه غير عقلاني، لأنه لا يمكن تقديم تبرير عقلاني ينطلق من مبادئ عمليّة لموافقة أو مخالفة القيم والغايات الموجودة مسبقاُ. على العكس، فالعقل السياسي الاستراتيجي-النقدي لا يسمح إلا بالغايات الفعّالة المتوافقة مع سياسة-كلية أخلاقية ومع السياسة النقدية. حين تكون هناك محاولة لتحرير الضحايا، فإن نجاح التحرير هنا سيعتمد على التوافق مع شروط إمكانية هذا التحرير، وحتى يكون هناك توافق، فلا يمكن للمواطن فصل “النّظرية” عن “الممارسة.”
إن الإختلاف كما هو ظاهر في الحركات الاجتماعية الجديدة بحاجة إلى التعزيز عبر ممارسات ديمقراطية من النوع الذي يكون منفتحا على كونيّة (universality) وعبورية (transversality) المجتمع السياسي ككل. الصراع من أجل الاعتراف بهذا الاختلاف هو في الوقت ذاته صراع من أجل تنمية كونية للحياة الإنسانية بعامّة.
الأطروحة السادسة:
إن العقلانية السياسية بوصفها “عقلانية تحرر،” يجب أن تسعى بشكل استراتيجي لتنظيم وتحقيق صيرورة فعّالة للتغيير. سواء كان التغيير أ) سلبيا أو هدميّا (تفكيكيا) لتلك البنى الجائرة في النظام القائم، ب) أو كان التغيير بنّاءً داعما لجوانب معينة في النّظام السياسي، أو في نظام الحقوق والقانون، النظام الاقتصادي، أو البيئي، أو التعليمي، إلخ. إن المبادئ، والقواعد، والممارسات، والمؤسسات من هذا النوع التحريري ترفع مطالب استراتيجية من أجل أن تكون تجسيداُ للتغيير الممكن (نتحدث عن التحرر في أفق إمكانيته النقدية. هذا بالضّبط هو سؤال اليوتوبيا الممكنة، الحقيقية لكن الغائبة). هذا ما نسميه العقل السياسي النقدي-الاستراتيجي.
في سياق طرحنا هذا، المواطن هو فاعل التحرر (Subject of liberation)، المنخرط بشكل تواصلي في حركة سياسية ناشطة في صيرورة تغيير فعالة. هكذا كان جورج واشنطن في صراعه من أجل تحرير بلاده، الصراع الذي حول إنجلترا الجديدة إلى الولايات المتّحدة الأمريكية. تلك العقلانية السياسية التحررية ذاتها التي دفعت ميخيل هيديلجو (Miguel Hidalgo) لمواجهة أسبانيا لتحويل أسبانيا الجديدة إلى المكسيك، والتي دفعت مارتن لوثر كينج في سياق صراع الأمريكيين السود، أو النسويين في سياق صراعهم ضد النظام السياسي الذكوري، أو فيدل كاسترو في وقوفه ضد إمبراطورية الزمان الحالي.
إن كلّ البناء الذي أقمناه أعلاه إنما هو تحديداً تقديم للمقولة الشهيرة التي خطّها ماركس في أطروحته الحادية عشرة حول فيورباخ: “كل ما قاموا به الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق عديدة؛ لكن المطلوب هو تغييره” (ماركس:1975: 423). في الحكمة الماركسية السابقة، لسنا إزاء رفض للفلسفة، كما فهم كورش، لكننا إزاء إشارات إلى أن الفلسفة عليها أن تتوقف عن كونها نظرية هيرمونيطيقية محضة حتى تتمكّن من التشكل في صيغة خطاب نقدي يفتح إمكانية حقيقية وعمليّة لتغيير العالم. إنّ خطاباً فلسفيّاً من هذا النّوع لا يمكنه إلا أن يكون فلسفة عملية، وسياسة للتغيير، سياسة تحرر غير إصلاحية. إن التراث الماركسي الغربي منذ لوكاش انحرف بنفسه حين توجّه نحو حقول من قبيل الأنطولوجيا، ونقد الأيدولوجيا، والأستطيقا، والاقتصاد السياسي الصرف، بدون محاولة صياغة السياسة بصفتها (الفلسفة الأولى، والفلسفة العملية) التي تحلل المعايير والمبادئ تؤسس للتغيير الضروري العالم. هذا ما حاولت القيام به في مشروع “إيتيقا التحرر“، بطرق عديدة منذ ستينيّات القرن الماضي.
اللازمة الثانية:
وحدها المبادئ، والمعايير، والقوانين، والأفعال، والمؤسسات المتوافقة مع شروط الإمكانية السّت التي ذكرناها، هي التي بإمكانها ادعاء قدرتها تأسيس بنية سياسية عادلة، وذلك في صورة أفعال تغيير شرعيّة للنظام الحالي، عبر خلق معايير، وقوانين، ومؤسسات جديدة، وخلق نظام سياسي جديد.
إن الهدف من الفعل السياسي التحرري هو خلق نظام سياسي جديد يستجيب لمطالب المضطهدين. الشخص الذي تقود مسؤوليته تجاه الآخر أفعاله، وذلك بطريقة تتوافق مع الشروط المذكورة، يمكنه أن يدّعي قدرته على تأسيس نظام سياسي أكثر عدالة. والتاريخ هو ما سيحكم على نجاح أو فشل هذا النّظام. بشكل عام، فإن الضمير السياسي الصادق هو ذاك الذي يسعى لتحقيق ذلك النظام الجديد بطريقة ممكنة استراتيجياً، وبمشاركة متماثلة لجميع المتأثرين بالتشريع. بتعبير آخر، إنّ مشروعاً تغييرياً من هذا النوع يستطيع أن يعرض نفسه كدعوى صلاحية شرعية للتغيير لأن صياغته كانت مدفوعة بالمبدأ الديمقراطي، وهذا ما يمكّنه من ادعاء أنه يحمل شكلا جديداً للعدالة السياسية. إن التاريخ كما تحدث عنه فالتر بنجامين أو كما تحدثت عنه في “إيتيقا التحرر” لهو صرخة دائمة متجددة للعدالة نسمعها في هتاف الضحايا، وفي المطالب التي ترددها الحركات الاجتماعية الجديدة في المجتمع المدني.
الهوامش:
[*] “to koinon agathon” عند أرسطو، أو “bonum commune“ عند أغسطين.
[**] تم الإبقاء على اختيار مترجم النص الأسباني الأصلي إلى الإنجليزية، وهو اختيار ترجمة (materia) إلى (مادي/مادية) في سياق الحديث عن الأخلاق، بالرغم من أن المعنى قد لا يكون واضحا منذ البداية. مادي تستخدم هنا كمقابل لما هو شكلي أو إجرائي، أي تشير إلى ماله علاقة (بمادة الشيء أو محتواه) مقابل ماله علاقة (بشكل الشيء). المادي، في إشارة إلى المفهوم الموضوعي الإيتيقي للأخلاق مقابل المفهوم الشكلي الإجرائي الذي يصيغ المبادئ الأخلاقية في قواعد كونية. وهو تمييز يوازي التمييز بين فلسفات الأخلاق الكونية الإجرائية (كانط)، وبين فلسفات الأخلاق الموضوعية، والتاريخية، والتأويلية، والسياقية (أرسطو، وهيجل). وسبب الإبقاء على هذه الترجمة هو أن دوسيل يضمّن المفهوم الإيتيقي الموضوعي للأخلاق، الجوانب الاقتصادية والبيئية كحدود عامة لأي مفهوم تحرّري للخير الجماعي .
[1] Benedict de Spinoza, A Theologico-Political Treatise, trans. by R.H.M. Elwes (New York: Dover, 1951), p. 202
[2] John Locke, Two Treatises of Government (New York: New American Library, 1965), p. 311. Italics in original.
[3] Jean-Jacques Rousseau, The Social Contract and Discourses, trans. G.D.H. Cole (London: Everyman’s Library, 1973), p. 173.
[4] Hans Jonas, The Imperative of Responsibility: In Search of an Ethics for the Technological Age (Chicago: Chicago University Press, 1979), pp. 6-7
[5] Ignacio Ellacuria, Filosofia de la realidad hist6rica (Madrid: Editorial Trotta, 1991), p.79.
[6] Franz Hinkelammert, Democracia y totalitarismo (San Jose, Costa Rica: DEI, 1990), p.31.
[7] Jürgen Habermas, Between Facts and Norms, trans. William Rehg (Cambridge: The MIT Press, 1996).
[8] Immanuel Kant, The Metaphysics of Morals in Practical Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 1996), p. 389.
[9] انظر Norbert Bobbio, La teorfa de las formas de gobierno en la historia deI pensamiento polftico (Mexico: FCE, 1989).
[10] انظر مقال: “Principles, Mediations, and the Good as Synthesis: From ‘Discourse Ethics’ to ‘Ethics of Liberation,'” in Philosophy Today, Supplement 1997, pp. 55-66.
[11] Max Horkheimer, Critical Theory: Selected Essays, trans. Matthew J. O’Connell and Others (New York: Continuum, 1982), pp. 216-17.
[12] Hermann Cohen, Religion of Reason out of the Sources of Judaism, trans. Simon Kaplan (New York: Ungar Publishing Corp., 1972 [1919]), p. 23.
[13] Kar! Marx, Early Writings, translated by Rodney Livingston and Gregor Benton (London: Penguin Books, 1975), p. 422.
[14] Rosa Luxerrlburg, Re/orm or Revolution (New York: Pathfinder, 1970), p. 59.
إضافة تعليق جديد