قراءة في كتاب نبيل صالح: "تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل"
ريم حبيب:
حين تسهم في تأسيس نهضة مجتمعية فإنّ كل ما تتوقعه من القراء أن يتطلعوا إلى تلك النهضة ويباركوها بقدر ما يشترك الكاتب والقرّاء في حلم واحد.
إذاً هو الحلم ذاك الذي دفعني لأشارككم قراءتي كتابَ نبيل صالح الصادر عن دار الشعب في دمشق 2023 بعنوان / تحرير العقل والعبور نحو المستقبل / هو الحلم الجماعي بالدولة الحديثة التي نستظل بها ، هو الحلم بمؤسسات المجتمع المدني التي نضمن عدم اختراقها بالخرافة والتعصب ومنطق الإملاء الذي يمزقنا في علاقة تبعية ترادف الإذعان لكل ما تناقل وتواتر إلينا من أخطاء باتت بحكم الزمن إرثاً محمياُ تؤكده وحدة الأخطاء العربية وتشابهها وتنجح في إعادة إنتاج نفسها وكما وصف الكاتب حالتنا فنحن " أمة سلفية واحدة ذات رسائل نقلية خالدة " ، مؤكداً أنه لا يمكننا حتى التفكير في دحضها إذ باتت مرويات مقدسة فيما غدت الاستنارة العقلية هي من يحتاج إلى تبرير .
ويصبح الحلم الذي يراودنا جميعاً وهماً لا يمكن العبور منه إلى أي مستقبل من دون أن نجتث ذاكرتنا السلفية التي تستدعي كما يقول الكتاب إلى نبش ذاكرة سلفية مضادة.
سأبدأ أولاً بأهمية توقيت صدور الكتاب بعد سنوات من الحرب ففي سياق التحولات المجتمعية يصبح لزاماً على الكاتب وعيه باللحظة التاريخية البينية، و رفضه ما عليه الواقع من اتباع وتبعية في آن ، مستنداً إلى معطيات ما تقترحه التجربة من آفاق جديدة تستدعي السؤال، والبحث ،والمغامرة ،والجرأة في قول الحقيقة، كما هي بكل ما تولده من وعي ضدي لا يحتمل التأجيل أو التسويف ، فالمعارك الفكرية الكبرى تفرض منطقها علينا لتغيير طرق تفكيرنا في الحلول وهي التي تصوغ الأسس التي تنهض عليها المجتمعات الحالمة بالتغيير أي المدركة للحظات الحاسمة ، كما اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت فذاك التوازي الزمني الذي يربط بين الأسباب والنتائج بين الفعل ورد الفعل بين محدث ولماذا حدث ؟
ثانياً لتحديد القيمة الحقيقة للأفكار التي أثارها كتاب تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل هناك مستويات سوسيولوجية مختلفة يجب أن ينظر إليها ، منها أسلوب الكاتب الصحفي، فمن المؤكد أن هذه الحرفية أو هذه الغواية كانت شرطاً من الشروط الذي تسلل فيها الكاتب إلى القارئ ببراعة وهذه الغواية سوف تتصاعد مع تصاعد النبرة الضدية وعلاقتها بالوعي للخروج من رماد الحرب ومن ماض سالب إلى حاضر يحاور كل ما حوله في سبيل تحقيق قيامة جديدة لا مجال فيها للمهادنة وللمجاملات وللحسابات اللغوية الضيقة ، وهكذا جاء الكتاب ليعالج -في تحليل دقيق- جوهر المشكلة في مجتمعاتنا، مستخدماً مهارته الصحفية لإقامة حقائق ممكنة، وجمع معلومات، وعرضها، وهذا ما نسميه الوضع المتميّز لوظيفة الصحافة وهي أن تشرح نتائج العلم للبسطاء لا أن تتبنى البحث العلمي أو الاجتماعي بكثير من الفن والصنعة .
ولأن هناك جهداً مضنياً بذله المؤلف لكي يضع بين أيدينا حقائق، ووثائق، تتناول التكوين النفسي ،والثقافي، والسياسي لمجتمعنا ،كي لا تتحول كل الأحداث التي عشناها إلى أفعال تأويلية حسب الغاية التي يبتغيها المؤول، ومن وراءه سأورد عبارات من الكتاب بحسب تسلسل محاوره لتأكيد ما يتميز به من أفكار في دعوته لتحرير العقول بالمعنى المعرفي والوجودي من أجل إدراك أعمق لهويتنا الوطنية .
يبدأ الكتاب بسؤال الكاتب:
كيف نشكل الغد قبل أن نصل إليه، وكيف نبني صرح المستقبل الآمن؟
تبحث المقدمة في مراجعات تاريخ أخطائنا القومية والسياسية والاقتصادية وتحلل بنية خطابنا الوطني على امتداد الأراضي العربية والمؤلف في هذا السياق يقدم توصيفاً عميقاً لمشكلات العقل النقلي ويدعو إلى عقل نقدي لا يلتفت إلى الوراء بل يتطلع إلى أفق معرفي لا حد لفضائه ، ونتيجة ذلك يشكك المؤلف في أي مزاعم عن التغيير إذا ما اصطبغت بشعارات دينية ، ترهب المواطنين فيغدو الانصياع فريضة مخافة الاتهام بالكفر نافياً أي وصف ثوري أو انقلابي أو تغييري إن لم يصوب نحو هدف واحد ، نحو دولة قانون يتساوى فيها الجميع إذ لا تمييز على أساس جنس أو عرق أو ثروة وتنظر إلى جميع الناس على أنهم كيان جغرافي وثقافي واحد من أجل مستقبل إنساني واحد وذلك بوصفه مبدأ أساسياً من مبادئ تحرير الفكر في الفرد وبالتالي تحقيق النهضة في الأمة .
سوف أقتبس من الكتاب:
يقول: "الحرية التي يطالب بها الديمقراطيون العرب تضعف الهوية التاريخية والهوية التاريخية التي يطالب بها القوميون والإسلاميون تقمع الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة، حيث تسمية سكان أكثر دقة من توصيف شعب لمجموع الطوائف والقوميات المؤتلفة المختلفة داخل حدود الدول اليوم".
ينقسم الكتاب إلى عناوين عديدة يبدؤها الكاتب بالتعريف بمجتمعاتنا العربية وصراعنا على الهوية بين الدين والقومية ، بعد ذلك يفرد عنواناً مهماً، لأمراضنا العثمانية ،ويزيد من أهمية هذا البحث إلحاقه ببحث آخر يتحدث فيه عن الإسلام العثماني ،واستعصاء الحداثة العربية ،ومن ثم العثمانية الجديدة وأخطارها على استقرار الوطن العربي ،وأوروبا ثم يثير الكتاب المسألة التركمانية في سورية، والمسألة الكردية، والصيغة السورية طبعاً من منطلق أن الأسئلة والأطروحات، التي يثيرها الباحث ليست سوى استجابة نوعية للمرحلة التي نعيشها في حماية وجودنا نفسه بعد أن أصبح التحالف بين العدو الخارجي والقوى الرجعية المسيطرة في الداخل حقيقة بارزة ،وبعدما نجح العدو في كل مرة في إعادة تشكيل وعينا بما يضمن تبعيتنا الكاملة له .
الكتاب أيضاً يفرد عناوين مهمة في تحديد الخطاب الديني، وتجديده في حديثه عن القرآن السياسي، والإسلام الشامل، وربيع الإخوان، وتفخيخ الدين بالسياسة والعلاج بالعلمانية، والحداثة كما يزعم والتحرير بالتأويل ومعالجة التكفير بالتفكير وتحرير الدين من السياسة وإغلاق سقيفة بن ساعدة.
كما تناول الكتاب الأصولية تحت عنوان: من كابل إلى إدلب طالبان في بيتنا والدين الإبراهيمي الجديد في الشرق الأوسط
ولأن هناك مقولة تقول إنك إذا أردت تحديد بوصلة مجتمع ما انظر فيه إلى حال المرأة لذا يفرد لنا نبيل صالح عنواناً مهماً عن خروج النسوية العربية من القمقم السلفي. فيحدثنا عن النسوية الإسلامية بصيغتها العثمانية التي تتلخص في الفصل ومنع الاختلاط والتزام الحجاب والصلاة والقبول بما أعطته لهن القوانين الشرعية في الزواج والطلاق والإرث وقوامة الرجل عليهن.
ومن ثم تطالعنا عناوين الأحزاب العربية المقدمات والنتائج وحزب البعث القومي السوري
وآخر العناوين كانت قضية الجوع والأمن الغذائي والمائي.
ولمن يرغب في الزيادة عليه العودة إلى الكتاب وهو متوافر.
لقد كان وعي نبيل صالح ومازال -بوصفه كاتباً كبيراً يلهج بقضايا وطنه- شرطاً ملازماً لعنصر القيمة الذي انطوت عليه كتاباته باحثاً عن مستقبل أفضل مؤسساً لإبداع لا يكف تجدده عن التوهج الذي استهل أفقاً جديداً تصاعدياً منذ كتابه الأول الرب يبدأ نصه الجديد إلى كتاب شغب فرواية اسمها سورية ثم كتاب نساء سورية ، وسورية عام من الدم ويليه كتاب المختصر المفيد في حرب الشعب السوري العنيد إلى يوميات الحرب على سورية مؤكداً سعيه لتأصيل الدولة المدنية وترسيخ المجتمع المدني منادياً بالتسامح بوصفه ملازماً للدولة المدنية التي تقوم على حق الاختلاف .
بعيداً عن المديح أو الذم فالعلل المجتمعية تقاس على أساس عقلي لذا فنحن أمام كتاب -سواء اتفقنا مع الكاتب أو اختلفنا- مجمل ما جاء فيه يضعه في إطار مرجعي وخصوصاً أن الكاتب لم ينقل أمنياته أو رغباته بل حرص على الاستشهاد بكتب وكتّاب مستنيرين ليأخذ مادته من أهم ما وصلنا من القدماء في الموضوع مؤسساً بذلك شروط إنتاج الفكرة وأدواتها متجاوزاً أية مشاعر وانحيازات شخصية.
يموت الحلم حين نكف عن السؤال، حين يغدو وعينا خانعاً مذعناً وندخل منطقة التسليم بالمطلقات ونقع في شراك التعميمات فيصبح الهاجس في تفقد الخسائر والحرص على ما أبقت عليه النار ويصبح السؤال ما الذي أبقت عليه نار الحرب من أرواحنا، من أحلامنا، من جوعنا وأتعابنا من تاريخ عمرنا وعمر وأولادنا؟ ماذا أبقت؟
يقع الكتاب في 424 صفحة قطع كبير/ إصدار دار الشعب وتوزيع دار التكوين بدمشق
إضافة تعليق جديد