محـمــد المــاغــوط : شاعر التمرّد والعصيان
الجمل – خاص : ربما لم يبارك لأمه أحد بمولده. ربما لم تعرض أيٌ منهن له ثديها ليرضع في حالات جوعه وتشبث الحليب في صدر أمه، كما كانت تفعل النساء تجاه أطفال بعضهن. ربما كانت النسوة يمنعن أطفالهن من اللعب معه لكثرة ما هو أشعث ومهلهل الثياب ويبدو عليه الحمق. لكن، من المؤكد أن أساتذته كانوا يضربونه بحد المسطرة على ظهر يديه لكثرة هيجانه وبلادته. ومن المؤكد أيضاً أن أحداً لم يخطر في باله أنه ذات يوم سيدّعي أنه لعب معه في الطفولة؛ وجلس معه على مقعد واحد في المدرسة، وأنه صديق عمره. إذ لم يكن ثمة ما يشير، ولو إشارة ضئيلة، إلى أن ذلك الطفل المنبوذ، والتلميذ البليد، وبعد أقل من خمسة وعشرين عاماً، سيكون أشبه بمبشر، حيثما يسير، يتبعه آلاف من المريدين، لكنه لا يرتدي الأبيض. أشبه بنبي صغير يفتتح عصراً جديداً من الشعر، وأفقاً جديداً للمسرح، وخطاً جديداً في المقالة والكتابة السياسية الساخرة وشديدة العمق، لكنه بلا لحية، وليس على رأسه عقال.
سوف تجتمع نساء السلمية جميعهن، ويقلن بما يشبه الصوت الواحد: بيتنا ملاصق لبيته .. ياما لعب في هذه الغرفة.. ومن هذا الثدي ياما رضع... وسيقول الرجال جميعاً، وباعتداد فائق: إنه الصديق الوحيد، أمضينا طفولتنا وشبابنا معاً.
هكذا يفعل المبدعون فوق العادة: يغيرون الأمزجة والأنظمة، ويوجهون الرغبات...
***
في أزقة السلمية الموحلة، وحاراتها المظلمة، وبين بيوتها الطينية التي يدلف الماء من سقوفها الخشبية الواطيئة، حيث تبرز علامتان ستطبعان المدينة بطابعهما لزمن طويل، ولم تنفكا تتزايدان، علامتان نافرتان بوقاحة كالأنف في الوجه: الفقر والثقافة. وكلما أمعن الفقر نهشاً في أجساد أبنائها، أمعن هؤلاء نهشاً في الكتب، حتى وقفوا: هم، والعالم الذي ينهار وجهاً لوجه، كمصارعين على حلبة. فراحوا يفكرون بطرائق شتى لمنع أو تأجيل انهياره: كأن يكتبون مثلاً، أو يشتغلون بالسياسة. الأمر الذي تكشّف - فيما بعد - عن الأمرين معاً: كثر الكتاب والمهتمون بالشأن الثقافي الذين أثروا على نحو من الأنحاء، بالثقافة السورية، بل والعربية، وكثرت –بالمقابل- الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية العلنية والسرية التي انتشرت إلى الأرجاء السورية، وأثرت - هي الأخرى - بالحركة السياسية العامة للسوريين؛ ما منح المدينة وجوداً لغزياً على امتداد الرقعة التي يقطنها العرب؛ وجعل أبناءها إلى ما بعد القرن العشرين يقدمون أنفسهم على أنهم من السلمية فحسب؛ قبل أن يقدموا أنفسهم على أنهم ذوو ذوات، ودون أن يفكروا أو يتساءلوا: ماذا بقي من هذا الرحم المقدس؟!
في هذا المكان الكثيف، الضاج بالدلالة، الصاخب، الهادئ، المنعزل الذي ينطوي على الكثير من التنويه بالذات، والمفعم بالطموح، تحقق - بشكل فريد ومفاجئ - المثل الشعبي "ياسما إنت اللي بعتي، ويا أرض ابتليتي"، إذ ولد محمد الماغوط.
حقاً، (ابتليت) الرقعة العربية بهذا الشاعر الذي وضع القوانين الشعرية التي صاغها التراثيون؛ وحتى تلك التي صاغها أصدقاؤه الكبار في العصر الحديث، في كيس الخيش الذي أحضره من السلمية إلى دمشق فبيروت، ورماه خلف ظهره، وابتكر قوانينه الخاصة. إذ إنه يرى أن "الشعر يكاد ينقلب إلى مورِّط بعدما كان منقذاً. لقد أصبح يكرهنا وينأى عنا، كأننا قتلة، صيادون، وهو الطائر الأليف الذي أحببناه. في كل يوم يعطونه وصفاً وقيمة لا علاقة له بهما. إنهم يزخرفونه كأنه سرج وليس الجواد، مهمتي منذ سنين أن أعيد الإلفة بيني وبينه، وأكاد أوفق، لأن الشعر يظل يحمل روح الطفل، بينما الآخرون يعاملونه كأنه شيخ عجوز يجب أن يوارى التراب للاستعاضة عنه بشعر معلب يتفق والخيانات الروحية المتفشية في هذا العصر". لقد دخل الشعر كوحش بري لا يروَّض، فحطم كل الأوزان والقوافي التي تريد ترويضه، وكتب ما ليس للشعر العربي عهد به من قبل، إذ إنه كتب آلامه الشخصية، وتاريخه الشخصي المحمول على الحزن المتطرف، والرعب المتطرف، وعلى وَلَهٍ، متطرف أيضاً، بالحرية.
***
ولد محمد الماغوط عام 1934 في السلمية، التي يقول إنه اكتسب إحساسه بالظلم البشري والفوارق الطبقية من نشأته في "هذه القرية الحائرة بين الصحراء والمدينة، والمنقسمة إلى أمراء وفلاحين، وأعتقد ـ والكلام للماغوط ـ أن ماركس كان ينبغي أن يولد في السلمية وليس في ألمانيا، ليخترع نظريته في الصراع الطبقي". ويعتبر أن السلمية نمّت فيه حس التمرد، "حين تفتح وعيي على مقابر خاصة للأمراء، ومدارس خاصة لأولادهم، فيما كنا نحن أبناء الفلاحين لا نذهب إلى المدرسة، بل إلى الكتّاب". ومن هذا الخلل الطبقي أتت عزة النفس "أذكر مرة أتى أميرٌ فارسٌ ليرمي أثناء دفن أحدهم حنطة للفقراء، فضربته بحجر. ولاتزال آثار سوطه على جلدي إلى هذه اللحظة".
فهو يعتبر أنه "في مطلع الثلاثينات لم تكن السلمية مدينة، كانت قرية نائية وباسلة، تنظر إلى وحلها ودخانها وعيونها المحمرة كما تنظر الفرس إلى أجراسها، أما التاريخ المتسلسل في المعارك الكبرى فيظل في جيب المختار" ويرى أن الموت كان طبيعياً فيها، بل ضرورياً ومتوقعاً في كل لحظة. وعلى هذا الأساس كان أطفالها شرسين كالحشرات، ورجالها لا يتورعون عن ضرب أشجارهم بالسوط لأنها لم تثمر في الوقت المحدد. حتى دجاجها كان يصرخ باستمرار كأنه مصاب بذات الرئة. يقول: "كانت السلمية نقطة زيت في ماء الوطن. ولقد فكرت السلطات المتعاقبة جدياً في تقطيعها كالحية، هي وكهولها وشبابها ومقابرها ووضعها داخل كيس، ثم قذفها إلى الجحيم". ويروي أنه "حين حاول البدو في أحد سني المجاعة والقحط غزو القرية من جهة الشرق، تم تمزيق طلائع فرسانهم تمزيقاً قبل أن تصل إلى الضواحي؛ بعد أن شطرت رؤوس أمرائهم بأطراف المعاول. ولعل هذه التقاليد البدوية التي تتحكم بتلك المنطقة هي التي أججت الثأر، فقد وجدت في عام 1900 مئات الجثث في الكروم بسبب دجاجة" .
ربما يكون هذا الظرف القاسي وشديد الوطأة هو الذي صاغ شخصية الماغوط على نحو من الأنحاء بمزاجه الحاد والمتقلب في آن، وكآبته المزمنة، ونزقه، وحزنه الذي لا يشبهه سوى الحزن الكربلائي الذي يفترق عنه في أنّ حزن الماغوط شخصي جداً. إن أكثر ما يميز شخصيته، هو انطوائها على هذا الحزن البدوي الذي استطاع كتابته بصدق نادر حتى لا تكاد تخلو قصائده من تلك المفردة الباطشة: الدموع. ويكاد قارئ هذا الشاعر الكبير يحار أيهما صاغ الآخر: القصيدة أم الشاعر؟ وربما في هذا الظرف أيضاً، وبسببه، نشأت تلك النزعة الثأرية التي تربطه بالعالم. إن قراءة أعماله تجعلنا نكتشف، دون عناء، أن محمد الماغوط طالب ثأر.
لم يخرج صاحب (كاسك يا وطن) من بيته إلى الحارة إلا في السابعة من عمره، إنما ليس ليلعب مع الأطفال، بل ليرعى الخراف. لذلك فإن جل ما يتذكره من السلمية هو "الوحل والبرد والأحلام والغيوم والأبقار والرياح". ومع هذا فإنه يذكرها باعتزاز باعتبارها: "معقل القرامطة والمتنبي". وفي أنها "هُدمِتْ مئة مرة". ثم يقول: "إن هذه المدينة مقيمة في دمي". ويكتب:
"سلمية: الدمعة التي ذرفها الرومان
على أول أسير فك قيوده بأسنانه
ومات حنيناً إليها
سلمية: الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا
وهي تلهو بأقراطها الفاطمية
وشعرها الذهبي
وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين
دميتها في البحر
وأصابعها في الصحراء"
وكما كان لتلك المدينة أثر هائل في تكوين شخصيته الثأرية، المزاجية، النزقة، وذات التطلع السوداوي الكئيب الحزين، فقد كان - كما يبدو - لأمه دور حاسم في تربيته. إذ إن غياب والده المستمر عن البيت بسبب عمله أجيراً في أراضي الآخرين، منح أمه هذا الدور المركزي. فهي قوية، وصلبة، جميلة، وشاعرية و..صارمة أيضاً. أخذ منها "الحس الساخر، الصدق والسذاجة، ورؤية العالم كحلم قابل للتحقيق" كما يقول.
***
إذا كانت السلمية كونت شخصيته الإنسانية، فإن دمشق، بل أسوأ ما فيها: سجن المزه، كونت شخصيته الأدبية. سلمية جعلت منه شخصاً لا يشبه سوى نفسه، ودمشق سجن المزه جعلت منه شاعراً وكاتباً لا يشبه – كذلك - سوى نفسه.
إن فرحة والده بشروع ابنه العاق دراسة الزراعة في دمشق - مدرسة خرابو في الغوطة عام 1948 - لم تكتمل. فهذه مدرسة داخلية تقدم الطعام والشراب والنوم مجانا. وهذا يعني لوالده، إضافة إلى إزاحة عبء التكاليف التي تحتاجها الدراسة؛ التخلص من ابنه الذي "لا يطاق" لشدة تبرمه من الحياة والعالم. إلا أن الماغوط، وفيما هو في غرفته الداخلية، أخذ يفكر فيما إذا كانت هذه الدراسة تلبي طموحه الذي كان يتشكل رويداً رويداً في تغيير العالم. هذا الطموح الذي بدا له، في الحقيقة، أشبه بمهمة، أو أنه، حقاً، مهمة، وأن ثمة قوة خفية ندبته لتحقيقها، حينها اكتشف أن "ليس اختصاصه الحشرات الزراعية، بل الحشرات البشرية"، فهرب من تلك المدرسة، ومشى 15 كيلومتراً، ولجأ إلى المكان الأثير لديه: الرصيف، وإلى الهواية المتمكنة منه: التسكع. وهذا هو قدومه الأول إلى دمشق، وكان موفقاً بالنسبة إليه، حيث اكتشف أرصفة لقدميه، وشوارع طويلة لدخان سجائره، مما لم يكن في السلمية.
أما قدومه الثاني والأخير فكان عام 1955 – 1956 حيث بدأ حياته الأدبية والكتابية، ولم يتوقف، منذ ذلك الوقت، عن إشعال الحرائق في الثقافة العربية، وبين المثقفين العرب. وبدا كل كتاب من كتبه وكأنه الكتاب الأول من نوعه. وبدا أن التاريخ الأدبي بعامة، والشعري بخاصة، يتحدد على وقع قلمه، وضجره، وغضبه. وسرعان ما وجد الفقراء والمشردون والمنعزلون والمطرودون والمهمشون وفاقدو الأمل وقاطنو أطراف المدن... ناطقاً رسمياً بآلامهم، اسمه: محمد الماغوط. وسرعان ما وجد الشعراء الجدد - طالبو الحرية، برمثيوس يُحضِر النار والحرية إليهم، مُخَلِّصاً إياهم، عبر تخليصه الشعر، من عبودية الشكل، ومن أوزان داحس والغبراء، وقوافي البسوس، وبلاغة قس بن ساعدة الإيادي...
لكن دمشق، آنذاك، استقبلته استقبالاً لا يليق بالشعراء. على أطرافها، وفي مكان يشكل علامة كبيرة من علاماتها يدعى المزه، حيث ثمة غرف متلاصقة، معتمة، رطبة، ومليئة بالقضبان الحديدية، أُطلق عليه، سجن المزه، في هذا المكان تم استقباله لمدة تسعة أشهر من العام 1955، سوف تطبع حياته وكتابته بطابعها. سوف يعيش حياته وهو يشعر أنه ملاحق ومهدد، سوف يعيش في ريبة وتوجس من كل نأمة: من رنين الهاتف، من طرقة على الباب، ومن تحرك الستارة في غرفته...ومن أجل ماذا؟ من أجل مدفأة؟ قد يبدو الأمر مستغرباً، لكنه حقيقي.
في السلمية في منتصف القرن العشرين كان ثمة حزبان يتنافسان: حزب البعث، والحزب السوري القومي الاجتماعي. وإذ خرج الشاعر الكبير من بيته، وهو يكاد يتجمد من شدة البرد، انتبه إلى مقر الحزب السوري القومي فوجد فيه مدفأة، وكان قريباً من حارته، فدخل المقر والحزب معاً. ولو أنه وجد مدفأة في مقر حزب البعث لدخله وصار بعثياً. فالأمر لا يتعلق بالحزب بل بالمدفأة. وعلى هذه التهمة: الانتماء إلى الحزب السوري القومي، سجن الماغوط، دون أن يصدق جهاز المخابرات أن علاقته بالحزب لا تتعدى علاقته بمدفأة الحزب. يقول: "وأنا في التاسعة عشرة من عمري، أتساءل: ما هي تهمتي بالضبط؟" ويضيف: "لم أقرأ صفحتين من مبادئ الحزب، ومنذ أن انتهت موجة البرد الأولى، لم أحضر له اجتماعاً، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق..." وهو لم ينظر إلى أنطون سعادة على أنه مؤسس ذلك الحزب، وزعيم سياسي، بل على أنه "شاعر أخطأ الطريق". لكن، كما أن للسجن جرائم، فإن له أيضاً فضائل. ففي السجن كتب أولى قصائده "القتل"، على أساس أنها مجرد مذكرات سجين، إلا أن أدونيس الكبير قرأها وسماها شعراً. وهكذا تعرف محمد الماغوط على نفسه، وتعرف عليه العالم، على أنه شاعر، إنما من طراز خاص.
في دمشق الخمسينيات لم يكن الماغوط سوى شاب متسكع، فقير لدرجة ليس من الممكن تصورها، مهلهل الثياب، أشعث الشعر، وحزين في الحد الأعظمي، وناقم لدرجة صفيقة. إن عمله رئيساً لتحرير مجلة "الشرطة" لم ينقذه. إذ سرعان ما وجد نفسه في فترة الوحدة ملاحقاً، فما كان منه إلا أن هرب إلى بيروت.
حين عاد من بيروت وجد نفسه – أيضاً- ملاحقاً. فاستأجر غرفة في دمشق - عين الكرش "كانت غرفة ضيقة ومسدلة الستائر كأنها غرفة تحميض: « كنت دائماً في غرفة ضيقة. كان لدي بابور كاز وفرشة ومطبخ بحجم معلف الفرس..." كما يصفها. وتصفه في تلك الفترة الشاعرة الكبيرة، زوجته سنية صالح، وتصف أيضاً غرفته، وتقول: "كان يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مر على الوطن، وفي أحدها خرجت أبحث عنه، كان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ما هو أمر منه، وساعدني انتقاله إلى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار؛ غرفة صغيرة ذات سقف واطيء حشرت حشراً في أحد المباني بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عدة بدت الأيام الأولى كاللعبة البطولية لنا نحن الاثنين. ولكن لما شحب لونه ومال إلى الاصفرار المرضي، وبدأ مزاجه يحتد بدت لي خطورة اللعبة، كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية. كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية، وكنت أركض في البرد القارس والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة، فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض، مبقعة بالقهوة، حيث ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف. كان يشعل نيرانه الخاصة في روائع أدبية بينما كانت الهتافات في الخارج تأخذ من بعيد شكلاً معادياً».
في هذه الغرفة الواطئة التي تضطر الداخل إليها أن ينحني، شعر الماغوط أن حدبة بدأت تنبت على ظهره، هو الذي لا تنطفئ رغبته في الطيران. هنا، في قلب هذا الشعور، كتب مسرحية (العصفور الأحدب) (1963): وثيقة انهيار الإنسان العربي أمام جرافة الأنظمة التي بدأت تصل السلطة السياسية شيئاً فشيئاً، وتكرس نفسها كأنظمة مستبدة. لقد تنقل بين عدة غرف على تلك المواصفات. في إحداها كتب ديوان (غرفة بملايين الجدران) (1960). إذ أنه لم يكن ليكتب إلا في حالات دمار شخصي قصوى، ومزاج مشدود كالقوس، وأعصاب متوترة كأوتار العود في ذروة أدائه، حيث يكون على مفترق أمرين: الانتحار شنقاً، أو الكتابة، ولحسن حظنا نحن القراء، ولقوة موهبته، كان يختار الأمر الثاني. والحقيقة أنّ ما ساعده على ذلك هو ثقافته الواسعة. فقد كانت سنية صالح وذلك (الحداد في وطن من الفخار): زكريا تامر، يمدانه بالكتب: إن في فترتي سجنه عامي (1955 – 1961) أو في فترات ملاحقته. وعلى هذا الأساس، فنحن لن نصدق ادعاءاته المتكررة أنه ليس مثقفاً، وأنه لا يعرف ماذا يكتب: شعراً أم غير ذلك. الأمر كله أنه كان يخفي مرجعياته المعرفية، ويسمح لتلك العفوية الباهرة (عفوية الماغوط، حصراً) أن تتدفق، وللكلام البسيط أن يحمل كل تلك التفاصيل والمهملات والمتروكات؛ ليحقنها بذلك الإكسير الذي يحول الكلام إلى شعر. وذلك على خلاف أدونيس، كمثال، الذي تظهر ثقافته الهائلة في كل ما يكتب، شعراً ونثراً على السواء، ويعتبر؛ أي أدونيس أن الشعر بلا فكر، شعر بلا قول، وهذا يحطم الشعر. فيما يرى الماغوط العكس: الفكر يخرب الشعر. في هذا السياق نتذكر أن أدونيس وصف عروة بن الورد أنه شاعر كبير لكنه ليس قائلاً كبيراً. وهذه مشكلة لم تزل قيد البحث: هل على الشاعر أن يخفي مرجعياته؟ هل على الشعر أن يبدو بلا ثقافة؟ ثم أليس ضبط الجملة الشعرية على نحو يجعلها قادرة أن تحمل الكثير من الدلالات، يعتبر بحد ذاته ناتج ثقافة ومانحها، في الوقت ذاته، أيضاً؟ وأمامنا نماذج كبيرة على الاتجاهين، أدونيس والماغوط ذاتهما... وفي التراث أمامنا المعري وأبي نواس... الأمر كان هكذا، ولم يزل.
***
مرحلة خمسينيات وستينيات القرن العشرين، المرحلة التي ظهر فيها من يسمون (شعراء الحداثة) أو (شعراء الستينيات)، مرحلة تاريخية متميزة. فعلى المستوى الأيديولوجي: كانت الماركسية من جهة، والقومية العربية من جهة أخرى، في حالة استثنائية من الصعود والمد لا مثيل لهما.
فالماركسية كانت تغطي أكثر من نصف الكرة الأرضية، على مستوى أنظمة الحكم. وكان الاتحاد السوفييتي: حامي الشيوعية العالمية، في حالة استثنائية أيضاً من القوة. وحركات التحرر العالمية نشطة جداً (ومتكاثرة) ومدعومة (أو هكذا، على الأقل، كان يُظن) سوفييتياً. ما أثر بشكل كبير على الوضع العربي، في اتجاهه الماركسي، فتكاثرت وكثرت التنظيمات الشيوعية العربية واتسع تحركها وانتشارها بشكل لافت. وبما أن الماركسية نظرية كبيرة حقاً، ولديها ما تقوله بشكل كبير حقاً، فكان أغلب متبنيها من العرب على قناعة عالية أن الشيوعية العربية قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى السلطة والسيادة السياسية لتنفيذ مشروعاتها.
لم تكن الفكرة القومية تختلف كثيراً من حيث الانتشار والمد والتعامل والتعاطي عن الماركسية، فقد كانت هي و"جمال عبد الناصر" يمارسان سطوة سحرية على الأرض العربية، فالأرض (بتتكلم عربي) ولا حياة للفرد إلا ضمن الجماعة (الأمة) العربية التي جزأها (وخلَّفَها) الاستعمار وهاهي الآن، كما كان يطرح أصحابها، تنهض من جديد وسيدخل العرب، بعد قليل، في إطار وحدة استثنائية حيث الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع... كل واحد لدى هذه الأمة التي تبعث الآن.
إلى جانب هذا، كان (العرق) السوري يمثل اتجاهاً فكرياً لا مثيل له على مستوى الفكر السوري القومي الاجتماعي، والذي ذهب معظم متبنيه إلى الانتظام في إطار الحزب السوري القومي الاجتماعي، حيث "أنطون سعادة" يمثل قيمة كلية. فطروحاته - كما يرونها - حل أوحد للسوريين، وكما يعلم الجميع فإن معظم شعراء الحداثة كانوا داخلين في هذه البنية: فكرياً وتنظيمياً، وذلك على المستوى الإقليمي لما يسمى: سوريا الكبرى.
في الفترة ذاتها كان لدى العرب، على مستويات أخرى، أفراد لا يقلون طموحاً عن كل ما تقدم. لقد قامت حركة فنية وإبداعية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر كبيرة حقاً، فمثلاً: كانت "أم كلثوم" وثن الجماهير العربية، وعلى أوتار (فريد الأطرش) تهتز العقول والأخيلة، وكان "عبد الحليم حافظ" ترمومتر الشارع العربي، حتى ليخيل أن العرب على المستوى الشعبي يقيسون تاريخهم ومستقبلهم على (آهاته) كان يشكل، حقاً، شارة كبيرة لحلم عربي (لم يتحقق أي شيء منه طبعاً) كأن كل شيء كان، بدءاً من "عبد الحليم حافظ"، والحلم العربي، يتحقق. كذلك فإن (فيروز) والرحابنة كانوا يصوغون ذوقاً عربياً جديداً، مشكلين قوة فنية وإبداعية، كانت، ولم تزل، استثناءً عربياً ربما منذ العصر العباسي.
كل تلك المظاهر (التي أشرت لها إشارات سريعة تدل على حجم تلك المرحلة التي ظهر فيها شعراء الحداثة وشعرهم) جعلت قناعة معظم النخب العربية أن أمتهم العربية أو السورية أو الماركسية ...؟! ستنبعث من جديد، وبعد فترة ليست طويلة. (لذلك نجد الكثير من مفردات البعث: تموز مثلاً، منتشرة بكثرة في شعر الحداثة، حتى إن الثقافة العربية أطلقت على تلك المرحلة الشعرية اسم: المرحلة التموزية. وتموز لم يكن يمثل خلاصاً أو بعثاً فردياً، بل يشير في إطار التجربة إلى خلاص أو بعث أمة).
فالحداثة التي تبنتها مجلة (شعر) كان طموحها ليس فنياً فحسب، بل أن تشمل، كما يعبر يوسف الخال: "مختلف حقول النشاط الإنساني".
فالشعر بتعبير الحال "نهضة هدفها، رفع النفس العربية إلى مستوى الحداثة"، وكذلك "وضع هذه الثقافة (العربية) بأصولها الدينية والإلهية -كما يريد "أدونيس"- موضع تساؤل أو شك أو رفض"، فالمسألة الحداثية تخص، لدى شعراء الحداثة، أمةً. و"قضية العالم العربي الراهنة، هي قضية النهوض بعد كبوة، دامت أكثر من ألف سنة".
إذاً، إن تلك المرحلة تمثل تباشير نهضة، كان العرب في منأى عنها لحوالي عشرة قرون، وكانت المرحلة العثمانية بمثابة الهاوية الأسطورية التي ترسب العرب في قاعها لأربعمئة سنة، كانت أشد السنوات التي مر بها العرب ظلامية وبؤساً وتخلفاً وانحطاطاً.
في هذه المرحلة المتميزة ظهر شعراء الحداثة والشعر الحديث.
في هذه المرحلة، أيضاً، تمت الوحدة بين سورية ومصر 1958 – 1961، وتميزت بوطأة أمنية شديدة، طالت الشعب السوري ومن ضمنه المثقفين المعارضين أو الذين يحملون آراء ومواقف معارضة لآراء ومواقف حكومة الوحدة. في هذا السياق، تمت مطاردة محمد الماغوط، فهرب إلى لبنان.
كانت بيروت الخيمة الأخيرة التي تظلل الهاربين من بلدانهم، وفيها يجتمع الخارجون عن القانون السلطوي والاجتماعي والإبداعي، والذين يريدون أن يبتكروا طرائق جديدة للحياة والتفكير والكتابة، كانت بيروت مساحة للحلم والحرية. وفيها أسس الشاعر السوري يوسف الخال مجلة "شعر": المجلة الأكثر ثورية في تاريخ الشعر العربي، والتي ستغير ملامحه وبنيته، وتنقله من طور إلى طور آخر لم يعرفه قراء العربية قبلاً. وقد أدارها مع أدونيس. بدأت المجلة باستقطاب الشعراء العرب الذين يحلقون في هذا الفضاء والذين يهجسون بالحرية والتجديد مثل، بدر شاكر السياب. أما بشأن محمد الماغوط، فثمة قصة مثيرة وشيّقة تكتبها سنية صالح: "كان محمد الماغوط غريباً ووحيداً في بيروت. وعندما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة )شعر( المكتظة بالوافدين، وقرأ له بعض نتاجه الجديد بصوت رخيم دون أن يعلن عن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون (بودلير؟.. رامبو؟..)، لكن أدونيس أشار إلى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر، وقال: "هو الشاعر...". لاشك أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيضة. أما هو، وكنت أرقبه بصمت، فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه"، وتتابع سنية: " بلغة هذه التفاصيل، وفي هذا الضوء الشخصي، نقرأ غربة محمد الماغوط. ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غير موقعها من عزلة الغريب إلى عزلة الرافض".
كان أعضاء (شعر) في هذه الأثناء يتحاورون ويكتبون وينظرون حول القصيدة: ماهيتها، بنيتها، ما هو الشكل الذي يجب أن تكون عليه الكلمات لتصير قصيدة؟.. متى يمكن أن نقول عن مقروء ما إنه شعر، ومتى نقول إنه ليس شعراً؟.. وماذا على الشعر أن يقول؟.. كانوا يصوغون ذوقاً جديداً ورؤية جديدة للشعر بخاصة، وللحياة بعامة. ويبتكرون قوانين جديدة للكتابة. قوانين تسمح للفكر أن يسيل بحرية، وللقصيدة أن ترقص بحرية. فأطاحوا بالبحور الشعرية التي كان الشعر لمّا يزل يرتسم عليها منذ نشأته الأولى وحتى منتصف القرن العشرين. واكتفوا بأن تسير القصيدة على التفعيلة. وكانت نازك الملائكة وبدر شاكر السياب قد بدآ بهذا. واتفقوا على أن الشعر ليس مدحاً وذماً وهجاء ووصفاً، بل رؤية. وسرعان ما انقسمت المواقف حول هذا الجديد: فمن جانب، كثر الشعر الذي يقوم على التفعيلة، ومن جانب آخر كثرت الصرخات المعادية التي تتهم (شعر) وجماعتها بأنهم يهدمون التراث العربي، ويشاركون في إشاعة النوع الجديد للاستعمار الغربي، الاستعمار الثقافي، لاسيما أن آثار أقدام المستعمرين كانت لم تزل بعد ظاهرة كالوشم على الأرض العربية. يشكو أدونيس إلى يوسف الخال ذلك ويقول: "صحيح أن الرفض الذي قوبلت به أفكارنا، كان يمنحها قوة غامضة، مع أنه كان يعرقلها أو يحجبها ... حاربتنا السياسة، ورافقت حربها علينا حرباً أكثر مضاضة : تلك التي يشنها عاطلون عن المعرفة".
كذلك، في السياق ذاته، يقول فايز خضور: "..كنا في دمشق يقام علينا الحد من قبل خراتيت المدرسة التقليدية، لأننا نعمل في الحداثة، حتى وصل الوهم بهؤلاء أننا "عملاء للاستعمار والإمبريالية" و"موظفون لتهديم التراث".
في هذه الأثناء، أيضاً، كان الشعر بصفة عامة، وبتأثير قوي من أدونيس، يتقدم بلغة معقدة وصعبة وكان ذا أفق صوفي متعال. كانت مفردات الوجود والعدم ، الموت والحياة، البعث والانبعاث، ومفردات الأساطير... شديدة الحضور فيه، وكان ما يسمى بالشعر الرمزي حاضراً لدرجةٍ يُظن معها أن الشعر هو الشعر الرمزي فحسب. الأمر الذي أدى إلى ظهور معركة أخرى بدأت تُشن على الغموض في الشعر الجديد آنذاك. وكان، حقاً، ثمة قصائد يكتبها عديمو أو قليلو الموهبة، مستغلقة على المتلقي، دون مبررات فنية حقيقية.
داخل هذه الحميا الثقافية برقتها وصلافتها، بصعوبتها وإغرائها، ووسط تلك المعارك التي تتطلب شحذ أقوى الأسلحة المعرفية، كان محمد الماغوط مشغولاً بقلق آخر: الوطن والحرية، الهذيان والرعب. كان الشعر بالنسبة إليه مجرد ملجأ يلجأ إليه كما يلجأ البدائي إلى أقرب جذع شجرة خوفاً من الوحوش، مع فارق أن الوحوش التي يخافها الماغوط بشرية. لكنه – بالمقابل - كان يرى الشعر الذي تدعو إليه مجلة "شعر" غارقاً في متاهات جدلية عن الوجود والعدم، وألغاز تفصلها مئة سنة ضوئية عما يدور على الأرض. يقول عن نفسه: "أما أنا فكنت غاضباً وجائعاً، أتحدث عن قمل السجن، والقدم الحجرية للسجان على قلبي، وعن التوابيت وساحات الإعدام وشفاه غليظة لرجال قساة، وعن الحلم الذي انطفأ، وابتساماتنا وأهدابنا قاتمة". لم يكن يهمه اللغة التي يكتب، والأسلوب الذي يلتزم، يهمه أن "يعقد مؤتمراً لكل الجياع ومشردي ومضطهدي الوطن العربي ويلقي عليهم قصيدة". وإلى ذلك كان يرى أن جماعة (شعر) "يكتبون في المطلق"، فيما هو حاول أن يسحبهم إلى الأرض بكل ما فيها من أرصفة وتشرد وحطام. ثم يؤكد بشيء من النشوة والتنويه بالذات: "علمتهم التسكع في الطرقات وتحت المطر". وعلى دخان سيجارته المتصاعد والكثيف، يستند على كرسيه، ويحدق في الأفق، ويقول: "أنا فتحت ثغرة في جدار أصم".
لقد وجد المجال اللغوي الرحب الذي يمكن خلاله أن يحقق تلك الأحلام، وكان هذا المجال قصيدة النثر: تلك الطفلة التي تمردت على أبيها وأمها وسلالتها، وعلى الشرعية، وأعلنت العصيان المضاد منذ تشكلها الأول على يد مجموعة قليلة ومتناثرة هنا وهناك، وكان من بين هذه القلة: سليمان عواد، ذلك الشاعر الذي كان يقبع في مجاهل السلمية، الذي يعتبره الماغوط معلمه الأول، حيث كان يقرأ له رامبو مترجماً، ويكتب قصيدة النثر، ويعتبر أنه: "شاعر مبدع على مستوى بودلير وفيرلين ورامبو"، فيما كان الماغوط وقتها لم يتجاوز الرابعة عشرة، ويتلمس خطواته الأولى المرتبكة. وفي بيروت في مجلة (شعر)، وجد قرينه الكبير: أنسي الحاج، وتشاركا في إنماء هذا الشكل الشعري الجديد وانتشاره. فإذا كانت قصيدة الحداثة عصياناً، فإن قصيدة النثر عصيان مضاد.
يعتبر الماغوط أن "قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائماً على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن هذه القصيدة مرنة وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها، كما أنها تضع الشاعر وجهاً لوجه أمام التجربة، وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور؛ ودوران على القوافي". ويعتبر أنها جاءت كضرورة صحية لإلغاء ديكتاتورية الشعر الكلاسيكي، إنها أشبه بعملية بتر لكل الأطراف والزوائد المعيقة لاندفاع التجربة، كي تتخذ إطارها الواضح والمختلف. وهي تسعى في تجاربها الأصيلة كي تصل إلى الصدارة دون تزكية من رأسماليي الأوزان والقوافي، باعتبارها رؤية جديدة للعالم وسط زحام الاعتبارات الشاحبة وتقاليد الطرب ورقص الكلمات".
ولنا أن نتأكد من نجاحاته ومما يقول، حين نعرف أن عتاة الشعر التقليدي والأوزان، وحين يواصلون هجومهم على قصيدة النثر ويطلقون عليها من الأسماء ما يتوقعون أنه يُخرجها من فضاء الشعر، مثل: نثيرة، نثر شعري، ...الخ، فإنهم، جميعاً وبلا استثناء، يستثنون محمد الماغوط، وإذ يريدون أن يتسامحوا حيالها ولو قليلاً، فإنهم يشترطون كتابتها مثل محمد الماغوط، نافين عن الآخرين إمكانية كتابتها، ليس لصعوبتها، ولكن كما يرون، لأنها ليست شعراً. فيما الماغوط، كتبها بوصفها شعراً. وهذا استثناء لا يقاس عليه الآخرون. وثمة من ينكر على أنسي الحاج ذاته شعريته، فقط لأنه يكتب قصيد النثر. لقد انتزع الماغوط اعتراف الجميع حتى خصومه، وذلك لقوة موهبته وإصراره وعناده. باتجاه آخر، فإن معظم شعراء قصيدة النثر خرجوا من غرفة محمد الماغوط ذات الجدران الملايين. وبذلك تم تتويجه كمؤسس لا ينازع لهذه المملكة الشعبية الرحبة والديمقراطية: قصيدة النثر، دون أن ننسى أنسي الحاج. إذ إنها وإن كتبت زمنياً قبله، فإنه جعلها قصيدة متكاملة: لغة خاصة، بل استخدام خاص لهذه اللغة، يبدو أنه مختلف حتى عن استخدامها في شعر التفعيلة، وأنزلها من سماء الحنين الرومانسي والروحانيات والوجوديات إلى أرض الحفاة والعراة والجائعين والمحطمين، عبر تهكم عال حتى من القضايا التي يعتبرها كبيرة، كالوطن:
"آه
لو يتم تبادل الأوطان
كالراقصات في الملاهي"
وذلك عبر علاقات فريدة بين الكلمة والشيء، ليست بعيدة وليست قريبة، ليست مألوفة وليست غريبة، إنها ما يقال عنها نقدياً: مدهشة وصادمة.
"... فأنا قطعاً
ما كنت مربوطاً إلى رحمي بحبل سرة
بل بحبل مشنقة"
وكذلك:
"فليذهب القادة إلى الحروب
والعشاق إلى الغابات
والعلماء إلى المختبرات
أما أنا
فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق... لأعود كما كنت
حاجباً قديماً على باب الحزن".
وكذلك:
"اهربي أيتها الغيوم
فأرصفة الوطن
لم تعد جديرة حتى بالوحل"
والأمثلة كثيرة جداً على حجم الصدمة التي تخلفها قصائده وهولها. لقد مشى بالاتجاه المعاكس حتى لأصدقائه ورفاقه الكبار الذين ساروا، أيضاً، بالاتجاه المعاكس للشعر العربي، بل، وللثقافة العربية: جماعة (شعر)، وشعراء القصيدة الحديثة الآخرين. فمن المعروف، كمثال، أن النسق الذي أسسه الشعر العربي منذ المرحلة المسماة (جاهلية)، والمتعلق بالفخر والاعتداد بالذات، كما في قول طرفة، مثلاً: "أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه / خشاش كرأس الحية المتوقد" الذي كرسه نهائياً المتنبي: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي / وأسمعت كلماتي من به صمم". وعمّقه - وإن باتجاه آخر- أدونيس: "قادر أن أغير، لغم الحضارة: هذا هو اسمي". لم يزل يوالي حضوره القوي في الشعر الحديث، ويمكن اعتبار محمود درويش من أبرز ممثليه، كون مرموزه هو الفدائي القادر على الكثير، في صراعه البطولي مع محتلي أرضه: "أنا هرقل الذي شد البحار إلى قرون اليابسة (...) أنا نبي الأنبياء وخاتم الشعراء". هذا النسق جعله الماغوط مشكوكاً فيه، حين نظر إلى "الأنا" من زاوية هزيمتها:
"ألحق المارة من شارع إلى شارع
أنا بطل.. أين شعبي؟
أنا خائن.. أين مشنقتي؟
أنا حذاء.. أين طريقي؟"
كذلك:
"فهل أنا مشروع بطل
أم مشروع خائن"
بالإضافة إلى نظرته المتبرمة على طول الخط من العالم بكل ما فيه، مطلقاً عليه أقذع الشتائم والأوصاف مما يتجنبه الشعراء – عادة - بحجة أن العالم ليس كتلة واحدة، وإن ثمة فيه ما هو جدير بالحب :
"لقد كرهت العالم دفعة واحدة
هذا النسيج الحشري الفتاك"
يقول أيضاً:
"اليوم الذي يمر، ولا أحقد فيه على شعب، أو حزب، أو طائفة، أو زعيم، أو خطيب، أو صحافي، أو شاعر، أو مذيع، أو سائق، أو راكب، أو شارع، أو نافذة، أو عصفور، أو زهرة، أو سحابة في هذه الأمة، لا أعتبره يوما من عمري، أو يخصني من قريب أو بعيد"
...
" أحب الحدائق المعلقة وناطحات السحاب
ولكني أحب الزلازل والقصف الجوي أكثر"
...
"أحب الشمس والقمر والنجوم
ولكني أحب الظلام أكثر"
...
"أحب المقاومة ورايات النصر ومعارك التحرير
ولكنني أحب وأرتاح للهزائم أكثر"
إن النزعة المضادة في كتابة الماغوط متجلية على الدوام في كل ما كتب، حتى في الأمر الذي يشكل ما يشبه الإجماع لدى العالم على جماله، وإطلاق ما يعتبر كاملاً من الأوصاف عليه، فإن الماغوط يقيم معه علاقة من الجانب الغامض والصاعق، كوصف النهدين، مثلاً. ففي حين أننا لم نقرأ، أو لم نتذكر قولاً قوياً، إلا أوصاف الإعجاب بهما، من حيث دلالتهما المانحة للحياة، إضافة للدلدلة الجمالية، فإن العلاقة التي أنشأها لهما الماغوط شديدة الالتباس والقسوة، يقول:
"نهداها الأزرقان
يتأرجحان تحت المطر كمثانتين فارغتين"
قبل الماغوط، لم يكن من الممكن التصور أن النهدين بقدرتهما الكاملة على بناء العالم أو دحره يمكن أن يكونا "مثانتين" (وإن فارغتين!)؛ كل ذلك عبر / أو في لغة قادرة على البناء والهندسة والتمثل، وأيضاً هذه طاقة إضافية للشعر الماغوطي، على الإيصال. الأمر الذي جعلها نافرة في المشهد الشعري العربي، ومنتشرة فيه كالفضيحة، إنها كالدخان يعشش، ليس في الرئتين فحسب، بل في الثياب والستائر وأثاث البيت أيضاً. مع هذا فإن الكتابة على مثاله أو تقليده رهان خاسر، ويتعين على الشعراء الذين يريدون تجاوزه أن يكونوا منتسبين لنادي المتفوقين المصغر دون أن نشك أبداً بوجودهم؛ إن الحرف الذي استخدمه، بشكل شديد البروز والسعة، لبناء هذه العلاقات اللغوية الفائقة هو (الكاف)، وفق ما يسمى بالبلاغة العربية: "كاف التشبيه". وعلى الرغم من المحاذير الكثيرة في الاعتماد على أدوات التشبيه، ومن ضمنها (الكاف) من حيث أنها تضعف التصوير، لأن التشبيه بـ (الكاف) هو مقابلة بين شيئين، وليس دمجاً لأحدهما في الآخر. إلا أن الماغوط، بعيداً عن هذه المحاذير التي أطلقتها خالدة سعيد، جعل من الكاف لغة كاملة، لا يقوم النص إلا بها، ولا يحدث العالم الذي يريده إلا عبر استخدامها. إذ إن ما يسمى "المشبه" و"المشبه به" لدى هذا الشاعر الخطير سرعان ما يندمجان ويتبادلان الموقع، ويتحولان إلى بنية، كل عنصر وجزء فيها ضروري لعمل الآخر، بل، إن أيّ عنصر أو جزء فيها لا يعمل إلا بالآخر. الأمر الذي جعل استخدام أدوات التشبيه، وبصورة خاصة (الكاف)، في شعر ما بعد الماغوط مشوباً بالحذر وبالدقة. وبهذا يكون قد رفع مستوى اللغة، الأمر الذي شكل خدمة جليلة للغة ولعمالها: الشعراء اللاحقين.
ثمة الكثير مما يمكن قوله في شعره وكتابته عامة، وهذا يلزمه دراسات نقدية كثيرة، ولن يعدم النقاد والدارسون أبواباً متعددة وواسعة تفتحها لهم كتاباته ، بما فيها الدراسات النفسية غير المحمودة كثيراً، كمثال، التي يمكن أن تربط بين فقره وجوعه التاريخيين وبين قوله:
"آه كم أود
أن آكل النساء بالملاعق"
والأمثلة لا تحصى على الكثير من الوجهات التي تتخذها الدراسات النقدية.
***
إلا أن قبول شعر الماغوط في تلك الفترة، لم يتحقق دون زوابع من المعارضة المتشددة. واللافت أن هذه المعارضة تمت من داخل حركة التجديد الشعري ذاتها. كان ثمة تنافس حاد بين مجلة (شعر) التي تبنت قصيدة النثر،إضافة لقصيدة التفعيلة، وفق ما يسمى بـ (الشعر الحر): ذلك المصطلح الذي أطلقته وأشاعته نازك الملائكة، وبين مجلة (الآداب) التي تبنت قصيدة التفعيلة، لكنها وقفت بشدة ضد قصيدة النثر. ففور صدور ديوان (حزن في ضوء القمر) كتبت خالدة سعيد دراسة عنه ونشرتها في (شعر)، فقامت نازك الملائكة بكتابة دراسة عن قصيدة النثر ضمنتها ردا قوياً على دراسة خالدة سعيد ونشرتها في (الآداب)، اعتبرت فيه أن قصيدة النثر (بدعة)، وأن "دعواها ركيكة فارغة من المعنى"، ولا "مصلحة لا للأدب العربي ولا للغة العربية ولا للأمة العربية نفسها" فيها. وحين راحت تعرف مضمون (دعوى) تلك القصيدة قالت: إنه "ما جاء في مقال كتبته السيدة الأديبة خزامى صبري عن كتاب نثر فيه تأملات وخواطر لأديب لبناني ناشئ". أما خزامى صبري فهي خالدة سعيد، حيث أنها كانت توقع بهذا الاسم، وأما الأديب (اللبناني؟) الناشئ فهو محمد الماغوط. فترد (شعر) بدورها على الملائكة مفصلة في الرد أنواع الشعر، وبخاصة النوع الذي يكتبه الماغوط. كذلك ترد الملائكة على جبرا إبراهيم جبرا الذي اعتبر أن شعر المستقبل هو الشعر الخالي من الوزن والقافية كليهما، وأن محمد الماغوط وتوفيق صايغ وهو-أي جبرا ذاته- من بين الشعراء العرب الذين يكتبون هذا النوع. إن نازك الملائكة لا تتصور شعراً بلا تفعيلة، لأن هذه هي التي تمنح القصيدة شرعيتها، من حيث أنها تجعلها منتسبة لبحور الشعر العربي الكلاسيكي التي اكتشفها الفراهيدي.
أعلنت سنة 1958 جريدة النهار - الصفحة الأدبية فيها الذي كان يشرف عليها أنسي الحاج، عن جائزة قصيدة النثر وقيمتها خمسمئة ليرة لبنانية، وكانت لجنة التحكيم مؤلفة من: سليم باسيلا وأدونيس ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج. وكان من بين المتنافسين على الجائزة: محمد الماغوط وسنية صالح. ففاز الماغوط بها عن قصيدته: "احتضار عام 1958" التي لم ينشرها في كتاب إلا في العام 2005 حيث نشرها في كتابه "شرق عدن.. غرب الله"، وكانت هذه الجائزة موازية لجائزة قصيدة التفعيلة وقيمتها ألف ليرة لبنانية، وفاز فيها بدر شاكر السياب عن قصيدته (أنشودة المطر). إلا أن (الآداب) لم تستطع البقاء مكتوفة الأيدي تجاه تلك (الخزعبلات) التي تقوم بها (شعر) و(النهار)، فأسست جائزة مضادة، ومنحتها لديوان (كلمات ريفية) للشاعر صلاح عبد الصبور.
جابر عصفور يعتبر أن منح الجائزة للماغوط اعتراف له مغزاه وتقدير له دلالته، من حيث هو تأكيد لما قامت به كتابته التي كانت أشبه بحصان طروادة، في اقتحامها الأسوار العمودية والدخول من الباب الذي لم تستطع الدخول منه محاولات سابقة ومعاصرة لم تتميز بالزخم الشعري نفسه".
الحقيقة، ومع هذا، فإنه إذا كانت توجد معارك جميلة في التاريخ، فإن هذه المعركة من أجملها. لقد أسفرت عن ولادة الشعر العربي الحديث، الذي أنقذ الشعر العربي منذ ما بعد عصوره الذهبية من موت كاد يكون محققاً.
***
إذا كان لبنان جعل الشاعر الكبير يقرر إطلاق النار على حنجرته والكف عن كتابة الأشعار:
"لا أشعار بعد اليوم
إذا صرعوك يا لبنان
وانتهت ليالي الشعر والتسكع
سأطلق الرصاص على حنجرتي"
وإذا كان لبنان هو الذي جعله يعي نفسه كإنسان عربي مهزوم حتى أقصى بقعة في داخله:
"سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفة الخالدة
لبنان يحترق
يئن كفرس جريحة عند مدخل لصحراء
وأنا أبحث عن فتاة سمينة
أحتك بها في الحافلة".
فإن دمشق ورغم أنها كما يقول "مدينة تحبها ولا تحبك" وأنه أعطاها صدره أربعين عاماً ولا يجرؤ على إعطائها ظهره ثانية واحدة، رغم ذلك، فإنها سكنته، ولا يعرف أن يبتعد عنها. فكان أن عاد من بيروت إليها.
في دمشق اختار مكاناً لا يجلس فيه الشعراء والمثقفون، ولا الأثرياء ومحدثو النعمة، بل الناس الذين يحكون، على دخان أراكيلهم وصوت النرد على الطاولة، عن همومهم ومشاكلهم العالقة على جلودهم منذ ولادتهم، هذا المكان هو مقهى (أبو شفيق) المتكئ على نهر بردى في الربوة.
كان مقهى (أبو شفيق) الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه الماغوط ليقيم علاقته السرية والمشبوهة مع نهر بردى ومع السوريين. كان قدومه إليه واجباً يومياً لا يجرؤ على التقاعس عن ممارسته: الاستيقاظ فجراً، ثم المشي على القدمين لمسافة خمسة كيلو مترات للوصول إليه، إلى طاولته الثابتة التي يجرى بردى تحتها، وإلى صحفه، وأوراقه الكثيرة والباذخة، وقلمه القاطع، ليكتب مسرحيات: (ضيعة تشرين)، (غربة)، (كاسك يا وطن)، و(شقائق النعمان)، وسيناريوهات أفلام: (الحدود)، (التقرير)، (المسافر)، وبعض القصائد؟ تلك المسرحيات والأفلام التي أثرت، ليس بالمزاج السوري فحسب، بل بالوضع العربي عموماً. وقد قام الفنان دريد لحام بتمثيلها جميعاً، الأمر الذي أتاح للشعوب العربية مشاهدتها والتأثر بها. وقد صنعت هذه المسرحيات ما سمي "مسرح محمد الماغوط"، وتلك الأفلام، على قلتها عددياً، ما سمي، أيضاً، سينما محمد الماغوط، وذلك كما صنع شعره، قبل ذلك، ما سمي (شعر محمد الماغوط)، وذلك لتلك الفرادة التي ظهرت بها أعماله جميعها.
ثلاثون عاماً لم تنقطع صلة الأقنومين ببعضهما: الماغوط ومقهاه. فإذا كان (أبو شفيق) قدم للشاعر المكان الآسر الذي يتيح له تعميق العلاقة ببردى، وبالسوريين، وكذلك العزلة والهواء الدمشقي الذي شكل له حصانة ما، وإلى حد ما، من سجائره التي أخذ يتعاطاها كالمنتحر، بعد وفاة زوجته الشاعرة الكبيرة سنية صالح، فإن الماغوط أعطاه المجد والركون في ذاكرة الثقافة العربية كمكان كان يجلس فيه ذات يوم، شاعر قلب مائدة الشعر والكتابة في وجوه الجميع، وغادر. وقد كان هذا المقهى وفياً بشدة، إذ إنه، وبعد أن تم إغلاقه، كان يفتح يومياً لاستقبال صديقه التاريخي: في الساعة السابعة صباحاً، وكل يوم، كان النادل فارس يأتي لهذا الغرض فقط: يفتح الباب ليدخل الماغوط، ثم يغادر، ولا يعود إلا عند انتهاء الشاعر من مناوبته، من التزامه الفولاذي، من ممارسة طقسه التعبدي مع ورقه وقلمه. إلى أن أصيب الكاتب بمرض نقص التروية في قدمه، فأقسم أنه لن يعود إلى شقيقه: (مقهى أبو شفيق) بعكاز. وبهذا انقطعت الصلة المباشرة بينهما، لكنها بقيت في ثنايا كتابته، وفي الذاكرة، لتساهم في تكريس فكرة المكان، وتحديداً: المكان الثقافي.
ورغم أنه كتب زاوية (تحت القسم) التي كان ينشرها في مجلة (الوسط) اللندنية (1989 – 2001)، في (مقهى الشام)، والتي أعاد نشرها في كتاب (سياف الزهور)، إلا أن هذا المقهى الفخم ذي النجوم الخمس على جبينه، لم يستطع أن ينافس، ولو منافسة بسيطة، (مقهى أبو شفيق)، الذي لم يكن يتطلع إلى أية نجمة يضعها على جبينه، بل كان يتطلع إلى النجوم في السماء، ويرقبها وهي تسقط نجمة تلو الأخرى في نهر بردى، ليعيد الماغوط منذ صباح اليوم التالي، صياغتها متلألئة أكثر على أوراقه.
حين ذهب إلى باريس، اعتبر أن "كل شيء فيها: السياسة، الدين، الفن، الاقتصاد، يبدو حراً ومرناً كراقص الباليه، ومتماسكاً كحلقات السلاسل حول أقدام الأسرى لكن رغم كل ذلك -يقول- لم أستطع أن أكتب فيها حتى ولو رسالة. وأحسست أن (مقهى أبو شفيق) أهم من كل مقاهي الشانزيليزيه ومقتنيات متحف اللوفر".
***
من المقاهي والتسكع إلى العزلة المديدة في المنزل، كتب محمد الماغوط تاريخه الشخصي وتاريخ الذين تتجمع الآهات في حلوقهم، لتترسب على شكل غصات تجعل الدمع ينفطر في عيونهم وهم صامتون، تاريخ الذين يمارسون كل لحظة أقسى حالات البكاء في زمن كانت الأنظمة ومثقفون كثيرون يشيعون أن الأيام القادمة أيام عز وبطولة. لقد فتح الماغوط ملفات الفضيحة ، وأرّخ للهزائم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. والروحية والنفسية وتنبأ بهزائم لاحقة، وقعت فعلاً. لقد نجح الماغوط في تحقيق مشروعه الكتابي على نحو فذ، وخسر العربي مستقبله على نحو فذ أيضاً.
***
الآن في نهايات العام 2005 يعيش الشاعر في منزله بدمشق -حي المزرعة – شارع أسامة بن زيد وحيداً، مريضاً، منعزلاً: "الأريكة التي يتمدد عليها في صالة منزله لا يغادرها إلا إلى المطبخ لإعداد كأس أو لإحضار طعام بسيط، وعلى الطاولة التي أمامه عشرات الأنواع من الأدوية، أرقام هواتف، زجاجات كحول، كتب، دفتر ملاحظات، منفضة سجائر، ولاعات، وسكاكر. وعلى يمينه جهاز الهاتف وآلة تسجيل لا تسمع منها سوى صوتِ فيروز، على الجدار المقابل لوحة لفاتح المدرس بعنوان: (العصفور الأحدب)، وأخرى لنذير نبعة، شلبية إبراهيم، والياس زيات، صور فوتوغرافية، صورة لسنية صالح... والنافذة، رغم سحب الدخان، مغلقة". ثمة من يزوره ليساعده في أمر، وثمة من يفعل لمجرد التفاخر أمام الأصدقاء والعائلة. ولكن على هذا وذاك أن يتحمل مزاجه الحاد والمتقلب وشديد التطرف أيضاً، فما يُضحك الآخرين قد يزعجه، وما يزعجهم قد يُفرحه... وهكذا.
فإذا كان للمبدعين فوق العادة حقوق ليست لسواهم، حقوق انتزعوها انتزاعاً، فإن من حق الماغوط كلّ شيء: ألم يغير مفهوم الشعر والمسرح والفيلم السينمائي والمقالة، بل ومفهوم الكتابة برمتها؟ كل هذا، ودون مكتب فاخر أو مكتبة ستشهدها الأجيال: فقد يكتب على وصفة دواء، أو علبة محارم. إذا أتته فكرة يكتبها على أقرب ورقة، وأحياناُ يتركها على ظهر البراد، أو في غرفة النوم، ثم يقوم بجمع الأوراق المتناثرة ويجلس ليكتب. غالباً ما تضيع أوراقه وينسى أين وضعها. يكتب حتى في الشارع، ودون التقيد بمواعيد. إذ يعتقد أن ثمة خللاً ما في المبدع الذي يتقيد بمواعيد ثابتة. لا يحب الكتابة وراء مكتب أنيق، ولا القراءة في مكان مريح. شرطه الوحيد: الضجة أو الإزعاج.
وعلى موسيقا الضجة والإزعاج هذه، انتسب الماغوط إلى عمالقة الشعر العربي بإجلال بالغ.
الجمل
(فصل من مخطوط "رواية اسمها سورية – مئة شخصية ساهمت بتشكيل وعي السوريين في القرن العشرين" الذي سيصدر قريباً وهو من تحرير: نبيل صالح ومشاركة عدد كبير من الكتاب السوريين، وهذا النص كتبه خضر الآغا للموسوعة)
***
أعماله الشعرية:
حزن في ضوء القمر 1959
غرفة بملايين الجدران 1960
الفرح ليس مهنتي 1970
أعماله الروائية:
الأرجوحة 1974
أعماله المسرحية:
العصفور الأحدب 1963
المهرج 1960
كاسك يا وطن
غربة
ضيعة تشرين
شقائق النعمان
المارسيليز العربي
المقالات والنصوص:
سأخون وطني 1987
سياف الزهور 2001
شرق عدن.. غرب الله 2005
البدوي الأحمر 2006
النصوص السينمائية:
الحدود
التقرير
المسافر
النصوص التلفزيونية:
وادي المسك
حكايا الليل
***
كلمة محمد الماغوط، التي ألقاها في دبي، بمناسبة فوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية في آذار الماضي:
من يدعوني لافتتاح أي معرض منتظر
كمن يدعو الخريف لافتتاح معرض زهور
ومهما كتبت وأبدعت في أي مجال
أظل ضيفاً عابراً على هذا الوطن الخالد والمفدى
فإلى الوطن الذي يستقبلني
والوطن الذي ينتظرني
وإلى المحكمين الذين لا أعرف عنهم أكثر مما
أعرف عن مواقع الغيوم واتجاهاتها دون نظارتي
الطبية
كل ما أملك عدا عكازي وحزني،
من قبل قلت: آه لو يتم تبادل الأوطان كالراقصات
في الملهى
والآن أقول: آه لو يتم تبادل الأسرى مع أوطانهم
في كل حرب
لأني منذ الطفولة وحتى الآن: كلما تحركت
ستارة سترت أوراقي بيدي كبغي ساعة المداهمة.
الجمل – خاص
إضافة تعليق جديد