أمين معلوف فقد الأمل في إصلاح الكوكب

10-05-2013

أمين معلوف فقد الأمل في إصلاح الكوكب

يمزج الروائي اللبناني الأفكار التي طرحها في كتابيه «الهويات القاتلة» و«اختلال العالم» بنسخة تخييلية. في «التائهون» (دار الفارابي ــ ترجمة نهلة بيضون)، ينظر إلى الألفية الثالثة بوصفها عنواناً صريحاً للحروب والنزاعات الطائفية والمذهبية والأصولية وغياب العقل

هكذا يستعيد «آدم» أحلام جيل متمرّد، وعلاقات متينة، كانت تربط مجموعة من الأصدقاء في الجامعة، وإذا بالحرب الأهلية تقذف ببعضهم إلى المنافي، أو الميليشيات المسلحة، أو العزلة، فيما بقي آخرون في البلد. يلتقي آدم أولاً بصديقته القديمة سميراميس التي كانت واحدة من تلك المجموعة، ولم تغادر البلد، ثم تانيا، زوجة صديقه مراد. الأرملة المفجوعة برحيل رفيق دربها، تقترح على آدم، أن تجتمع شلّة الأمس في الوطن مجدداً. تعجب الفكرة آدم ويبدأ بمراسلة الأصدقاء القدامى. ينخرط في المهمة الطارئة بحماسة، مدوّناً يومياته في البلد، وحصيلة مراسلاته لأصدقائه التائهين. وبدلاً من العودة على عجل إلى باريس لاستكمال كتابه عن الإمبراطور أتيلا، تطول الإجازة إلى 16 يوماً في 16 فصلاً (هل هي عدد سنوات الحرب؟) تنتهي بحادثة سيارة في طريق جبلي بصحبة صديقه الراهب باسيل الذي اختار العيش في دير منعزل، لكنّ آدم ينجو وحده من دون استعادة وعيه «سيبقى طويلاً بين الحياة والموت، مثل محكوم مع وقف التنفيذ» وفقاً لما تقوله صديقته الفرنسية دولوريس التي نقلته إلى مستشفى باريسي بعد الحادثة.
تنتمي «حلقة البيزنطيين» إلى طوائف متعددة، لكن سؤال الهوية، لم يُطرح بجديّة حينذاك. كان التمرّد عنوان المرحلة، لكن اشتعال الحرب الأهلية أطاح تلك التصورات المبهجة عن الوطن وترميم العالم. مات بلال من دون أن يستعمل بندقيته، وانخرط مراد بمشاريع فساد فضائحية، بوصفه واحداً من أمراء الحرب، وتوارى نعيم فجأة، من دون أن يودع أحداً. أما بيار، فقد فشل في الانتحار، إثر عملية اختطافه من طائفة أخرى، وبعدما أُفرج عنه، سافر إلى باريس، ثم استقر في أميركا بصفة باحث في المستقبليات، فيما صار رامز مقاولاً عملاقاً في بلاد النفط، بعدما انسحب شريكه رمزي من الشركة والحياة المرفّهة إلى أحد الأديرة المعزولة. هكذا يستدرج الراوي حكايات الآخرين، في وحدات سردية متناوبة، تقوم على الرسائل الورقية أولاً، ثم الرسائل الإلكترونية، والشهادات والاعترافات، فتتكشف عن فضاءات حياتية متباعدة في تبرير التيه «لم يرحلوا وإنما البلاد هي التي رحلت».
هكذا يشرّح أمين معلوف معنى الوطن، والمنفى، والندم، والاختلاف، ولعنة الهوية، ويتوغل في تفاصيل الندوب التي خلّفتها الحرب في مسارات هؤلاء الأصدقاء، خصوصاً لجهة علو النبرة الطائفية، من دون خجل أو ارتباك. يتساءل آدم بعد أن يستمع إلى سميراميس بخصوص مقتل بلال في الحرب: «هل النزاعات التي تعصف ببلدنا مجرد اشتباكات بين قبائل، وبين عشائر، لئلا نقول بين عصابات مختلفة من الزعران، أم أن لديها بالفعل بعداً أكثر اتساعاً ومضموناً أخلاقياً؟». نعيم اليهودي عاش محنة أخرى، اضطرته إلى أن يغادر إلى البرازيل «هل سيكون بوسع يهودي مثلي أن يعبّر عن حقيقة أفكاره بدون أن يضطر للمجاهرة، على الفور، بأنه مناهض لإسرائيل ومناهض للصهيونية؟». يجيبه آدم في رسالة طويلة: «أجل نعيم، إنني على يقين بأن ذلك النزاع الذي أفسد حياتك وحياتي هو اليوم العقدة المؤلمة لمأساة تتجاوزنا أو تتجاوز جيلنا، فبسبب ذلك النزاع أولاً، دخلت البشرية في مرحلة التقهقر الأخلاقي، عوضاً عن دخولها مرحلة التقدّم». هذه المرافعات ستذهب إلى منطقة شائكة أكثر، حين يلتقي آدم شقيق صديقه الراحل بلال في محاورة ساخنة تنطوي على اختلاف كبير في الأفكار بين ذلك الشاب الذي كان يعتمر قبعة غيفارا بالنجمة الحمراء، فيما يكتفي اليوم بلحية خشنة، هي في الواقع ترجيع لانقلابات أصابت العالم منذ نهاية السبعينيات، واستبدال لحى يسار الأمس، بلحى إسلاميي اليوم. وسوف يدوّن آدم في مفكرته «أسعى إلى إعادة ربط الخيوط، لا إلى تصفية الحسابات.. عالمنا لم يعد كما كان. وطليعة الأمس أصبحت في سلة المهملات». في المقابل، يكشف آدم ما يعتمل في صدر صديقه رمزي أثناء زيارته في الدير، وإقامته هناك في ضيافته، فهذا الراهب اختار حياةً متقشفة تتلاءم مع قناعاته الروحية، على عكس صديقه وشريكه رامز الذي بات يتنقّل بطائرته الخاصة بين عواصم العالم كواحد من الأثرياء الجدد. في حصيلة هذه السجالات التي يدوّنها آدم، يخلص إلى نتيجة حاسمة «لا ريب أني أحمل في اسمي بدء الخليقة، ولكني أنتمي إلى بشرية تندثر».
في «التائهون»، يمزج أمين معلوف الأفكار التي طرحها في كتابيه «الهويات القاتلة»، و«اختلال العالم» بنسخة تخييلية. الحيرة في رسم صورة نهائية للذات المتشظية بين علمانية الغرب، وخنجر المذاهب الدينية في الشرق. ذات تائهة وإشكالية وقلقة، لن تجد ملاذاً نهائياً للطمأنينة. الألفية الثالثة التي يؤرخ لعتباتها الأولى، هي، وفقاً لأطروحته الروائية، عنوان صريح للحروب والنزاعات والكراهية والاضطرابات، بغياب النظرة العقلانية في إنقاذ الكوكب. ليس الاختلال أخلاقياً وفكرياً وحسب، هناك اختلال بيئي يهدد البشرية بالفناء. بين هذين القوسين المفتوحين على الخراب، ينبش صاحب «بدايات» ما هو مخبوء تحت السطح، وتعريته بمواجهات موشورية تضع وجهات النظر المختلفة لشخصياته بمرجلٍ واحد. ليس ما يكتبه هنا سيرة ذاتية خالصة بقدر ما هي شهادة على عصره وجيله بخيباته وانكساراته وحنينه إلى زمنٍ لن يعود، بالإضافة إلى ثنائية الهوية التي تثقل عليه خياراته حتى في الحب، حين يقيم آدم علاقة عابرة مع سميراميس، فيما لم يفقد شغفه بصديقته الباريسية دولوريس. الحنين إلى الأمكنة القديمة التي شهدت طفولته وشبابه الأول، لن تعوضه عن خساراته الراهنة، وإذا بالأصدقاء القدامى يقررون الاجتماع في فندق «سميراميس»، وليس في بيت مراد، كما كان الاتفاق، لعل في هذا الخيار المباغت إشارة مجازية دامغة إلى أن البلد أضحى فندقاً، أكثر منه جغرافيا للذاكرة. رحلة التيه هذه، ستترك جرحاً غائراً لدى هؤلاء الأصدقاء، كلّ على طريقته في الدفاع عن خياراته، وستبقى «إيثاكا» المشتهاة بعيدة المنال، سواء أكانت باريس أم بيروت. كأن أمين معلوف ينصت بإمعان إلى صدى قصيدة قسطنطين كافافيس المشهورة «لن تجد بلاداً ولا بحوراً أخرى، فسوف تلاحقك المدينة، ستهيم في نفس الشوارع، لا تأمل في بقاع أخرى، ما من سفن من أجلك وما من سبيل... ما دمت قد خرّبت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت».

خليل صويلح

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...