مفهوم نقد النقد
محمد أفقير:
عرف النقد الأدبي في العصر الحديث مجموعة من التحولات الكبرى، لعل من أهمها ظهور خطاب نقدي يجعل من النقد نفسه موضوعا للتفكير والتحليل، وبالرغم من أن هذا النشاط قديم في الممارسة النقدية العربية، إلا أن التنظيرات الحديثة هي التي سعت إلى الارتقاء به إلى درجة الكيان المعرفي النوعي ضمن كيانات العلوم الإنسانية.
وتأتي محاولة عبد العزيز قلقيلة في كتابه: (نقد النقد في التراث العربي) في مقدمة المحاولات التأصيلية العربية الحديثة التي اهتمت بالبحث عن جذور (نقد النقد) في التراث النقدي العربي القديم، مع أن الصورة النهائية التي توصل إليها لمفهوم (نقد النقد) لا تتجاوز تلك الكتب النقدية التي ألفها أصحابها منتقدين كتبا نقدية أخرى:
(أعني بنقد النقد تلك الكتب النقدية التي ألفها أصحابها مفندين بها كتبا نقدية أخرى)(1)
وبهذا المعنى فإن (نقد النقد) في التراث (لا بد أن يكون شيئا كثيرا، وكثيرا، جدا، فالصراع الفكري أكبر وأعمق من الصراع المادي، وهو دائم ومستمر ولو بدا أنه قد توقف)(2)، ومع ذلك فإن نقد النقد ما يزال في بدايته لم يتجاوز بعد مرحلة التأسيس، ولعل (معاينة واقعنا الأدبي والنقدي تشير بقوة إلى تحقيق قدر مهم من التراكم، ولكنها تشير أيضا إلى تلك الثغرة المتمثلة في ضعف نقد النقد)(3).
وإذا تجاوزنا الكتابات التي تختزل (نقد النقد) في صورة سجالية تنطلق من قناعات ايديولوجية/مذهبية معينة، ككتاب نبيل سليمان: (مساهمة في نقد النقد الادبي)، فإن (نقد النقد) باعتباره كيانا معرفيا أو حقلا ابستمولوجيا ما يزال (مشروعا) تتضافر اجتهادات نظرية عدة في ايجاده وبلورته:
(إن مفهوم (نقد النقد) إلى يومنا هذا ما يزال (مفهوما) يشيد ويبنى، فهو في بدء الامر وغايته، مثل كل المفاهيم التي لها حياة تنتقل من التسميات والتصورات العامة، وتمر بمراحل الصقل والاختبار قبل أن تستقر على مدلول اصطلاحي مخصِّص)(4)
على أننا نجد من النقاد والدارسين من يستعمل مصطلح "قراءة القراءة" وهو يتحدث عن نفس مفهوم "نقد النقد":
(نريد أن نتحدث تحت عنوان (قراءة القراءة) فنقصد بهذا المصطلح إلى الابتداع الذي يساق من حول ابتداع آخر، فيكون هذا الضرب من الكتابة ماثلا في المرتبة الثالثة من حيث الترتيب الزماني التسلسلي أو التاريخي، لا من حيث المفاضلة التي نطرحها من اعتبارنا أساسا. إذ بعد الكتابة الابداعية (الكتابة أ)، تأتي الكتابة الابتداعية (الكتابة ب) لتساق من حولها كتابة ابتداعية أخرى (الكتابة ج). ولما كانت الأولى في بعض تمثلنا لسيرتها قراءة، والثانية قراءة أيضا باتفاق كل النقاد المعاصرين الجدد، فقد اقتضى أن يطرح نشاط الكتابة المنسوجة من حول الكتابة الثانية على أساس أنه قراءة القراءة)(5)
وعلى هذا الأساس دافع عبد المالك مرتاض عن مصطلح (قراءة القراءة)، لأنه من جهة أليق بالذوق المعاصر، الذي يسعى إلى الحد من تلك السلطة الصارمة القاصمة التي كان النقد يتصف بها عبر تاريخه، ولأن مصطلح (نقد النقد) من جهة ثانية لم يشع إلا بعد ترجمة سامي سويدان لكتاب تودوروف بعنوان (نقد النقد)، مع أن هذا العنوان لا ينسجم مع ما توخاه المؤلف من كتابه، إذ لم تكن غاية تودوروف حصر الكتاب في هذا المجال، وإنما كانت هي التعريف بالمدارس المعاصرة الكبرى للنقد العالمي(6).
وفي سياق تقويم المنجز العربي في (نقد النقد) أو قراءة القراءة، يقول عبد المالك مرتاض:
(إن مفهوم (قراءة القراءة) في الفكر النقدي العربي المعاصر، لا يكاد يمرق عن أحد أمرين اثنين: فإما أن يصدر عن رضا وتعاطف، أو تملق أو تقرب، وإذن فهو تقريظ ومديح. وتمثل هذه الكتابات الثناء الكاذب، والتمجيد المنافق، وغالبا ما تنصب على الكاتب على حساب الكتابة. وإما يصدر عن سخط وقلى، وإذن فهو شتم وتجريح، وتشنيع وتبكيت (...) وقلما ألفينا كتابة من جنس (قراءة القراءة) ترقى إلى ملامسة الابتداع بكفاءة وحياد)(7)
ومهما يكن من أمر، فإنه يمكن التمييز بين مرحلتين في تاريخ تطور (نقد النقد) في النقد العربي الحديث: (8)
أ – مرحلة الإرهاص:
بدأت أواخر القرن التاسع عشر، ثم تعززت بظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، الذي يعتبر أول مشروع عملي يؤسس لبداية "نقد النقد" دون أن يستعمل المصطلح.
وخلال هذه المرحلة كان "نقد النقد" يجسد مفهوما يتشكل من مجموعة من العناصر تلح على مفاهيم "القيمة" و"الموضوعية"، ثم ظهرت في الخمسينيات من القرن الماضي مجموعة من الدراسات التي حاولت أن ترسم بداية الوعي بالاختلاف القائم بين النقد و"نقد النقد"، لكن حدود هذا الوعي لم ترسم بدقة إلا مع العقد السادس بعد ظهور خطاب "أزمة النقد" الذي أبان عن حاجة النقد إلى تجاوز نفسه.
وبهذا وقف "نقد النقد" على عتبات جديدة، جعلته أداة للتصحيح، وميزته عن النقد، وتاريخه، وتياراته.
ب – مرحلة التأسيس:
هي امتداد للمرحلة السابقة من حيث عدم تحديد موضوع "نقد النقد" وغايته بدقة، لكنها أيضا متطورة عنها من حيث تفكيرها في كيان نظري ومنهجي "لنقد النقد"، واعتبار علاقته بالادب غير مباشرة.
هكذا إذن صار من الممكن التفريق بين النقد و"نقد النقد".
وحاصل كل ما سبق أن نقد النقد (نشاط غير جديد بالمرة، وقد رافق كل مراجعة للنقد وللأفكار الادبية، وكان لاحقا بالنقد أو مندمجا فيه أكثر الأحيان. إلا أنه أصبح في الفترة الأخيرة يتساءل عن نفسه، تعبيرا عن حاجة فرضها تطور النقد والنظريات الادبية والممارسة الابستيمولوجية في حقل العلوم الانسانية)(9)، كما أن مفهوم "نقد النقد" لم يخرج من دائرة الالتباس والغموض الآتي من اجتماع كلمتين هما في الأصل كلمة واحدة، فإذا كان مفهوم النقد في حد ذاته يطرح إشكالا، فإن الإشكال الأصلي ينضاف إليه إشكال آخر ينجم عن إضافة غامض إلى نفسه: نقد النقد(10).
المراجع:
– الدغمومي، محمد : "نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر"، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات رقم 44، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، ط 1، 1999
– مرتاض، عبد الملك :"الكتابة التحليلية بين التراث والحداثة"، "المجلة العربية للثقافة"، العدد 24، السنة 13 – مارس – سبتمبر / 1993
– قلقيلة، عبد العزيز : "نقد النقد في التراث العربي"، منشورات مكتبة الانجلو المصرية، ط 1، 1975
– سليمان، نبيل :"مساهمة في نقد النقد الادبي"، دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت، ط 1، يناير 1983
إضافة تعليق جديد