كيف نفكّر في التنقل؟
بيير ديلو – ترجمة: الحسين أخدوش
تعد لحظة التنقّل (من المنزل إلى العمل على سبيل المثال)، فيما يبدو، أفقر وقت في اليوم من الناحية الفلسفية. والإنسان الذي يعد ذلك مهمًّا في حدّ ذاته، إنّما هو شخص لديه أقلّ ما يمكن أن يفيدنا به بصدد ذواتنا؛ وذلك لسبب بسيط: فلحظة التنقّل ليست سوى وساطة تؤدي من نقطة إلى أخرى، وهي تدين بجودتها ودلالتها فقط للوجهة التي خُصِّصت لها مسبقًا؛ لذلك يبدو الانتقال من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) لا يعني، بأي حال من الأحوال، لوجودنا الفريد شأنًا ذا بال. بمعنى آخر، ليس للتنقّل سبب في ذاته؛ بل السبب في حدوثه يقع خارجًا عنه، فما يبرّره لا يكمن فيه هو ذاته، وإنّما يستمد دلالته مما لا يقوم عليه. ولأجل أن نعبّر عن ذلك بلغة تقنية أكثر بقليل، سوف نقول إنّه لا وجود لضرورة داخلية فيه (مثل كائن حي على سبيل المثال)، وإنّما هنالك فقط ضرورة خارجية (مثل آلة أو أداة).
على هذا النحو، يبدو التفكير في التنقّل صعبًا؛ لأنّ طبيعته تتغير في كلّ مرّة تتغير فيها وجهتنا؛ وبذلك فهو يتغير بتغير رغباتنا والتزاماتنا، إنّه النهاية التي نخصّصها له والتي تحدّده في النهاية. لكن ما التنقّل بالضبط؟ هل هو الذهاب إلى الأصدقاء مثلًا؟ أم هو الذهاب والإياب إلى العمل؟ أم الذهاب في رحلة سفر ما؟ أم إنّه اتخاذ قرار بالمشي والذهاب سيرًا على الأقدام لا غير؟ وهل هو نفسه الذهاب بالسيارة؟ ثمّ بصدد ماذا يتعلّق ذلك؟ الهدف من هذا البحث هو إذًا تحديد معنى التنقّل الذي يتحقق بالكشف عن اتجاه الرحلة، إنّه الوجهة التي تعطي المعنى للتجوال، والغاية التي تحدّد وسيلته. وعلى أيّ حال، يبدو أن التنقّل لا يمكن تحديده على هذا النحو بشكل مستقل عن المكان الذي يفضي بنا إليه اتجاهه الذي يأخذنا مسبقًا إلى وجهتنا؛ لذلك لن نتمكّن من “عزله” كلحظة هامشية عن اليومي.
غير أنّه مع ذلك، يوجد هنالك استثناء واحد بارز ألا وهو مسار المتعة في أثناء المشي، أو حين الجولة البسيطة؛ فنحن نتحدّث في مثل هذه الحالات عن وضع مختلف تمامًا عن أيّ نوع آخر للتنقل. فعند السفر والركوب تكون الوسيلة هي الغاية في حدّ ذاتها، حيث الطريق التي نسلكها هي ما تعطي رحلتنا معناها. الوجهة في هذه الحالة ذريعة بسيطة للتجوال، بينما يثرينا الركوب بما يجعل البداية تلتقي بالنهاية. إنها تجربة مذهلة؛ لأنّه ربما فيها وحدها يجد الإنسان ذاته سعيدًا بفقدان بوصلته جراء الصدف غير المتوقعة. ليس كلّ ما نتبعه في سفرنا دائمًا هو مسار هذا التنقّل؛ بل يقينًا توجد هناك بالقوة مسارات أخرى لا حصر لها، بحيث يمكننا اتباعها هي أيضًا، وخاصّة منها التي ننسى في خضمّها كلّ شيء. نكون أحرارًا في الفضاء، ونعرف عندما نتجوّل بتروٍّ لذيذ، خاصّة حينما نسلك طريقًا غير معروفة، أنّ الأمر يتعلّق بتجربة مميّزة جديدة تنفتح أمامنا؛ إذن يتعلق الأمر ضرورةً في التنقّل بتوقّع ما لا يمكن التنبؤ بحدوثه.
هكذا، ليس التنقّل سوى وساطة تُلغى بالنهاية من حيث كونها تسمح بالوصول إلى نقطة الوصول؛ ليس لدي وقت أضيّعه، فأنا ذاهب إلى العمل وأتبادل تهوري الهادئ في الركوب ضد حكمة التعقّل في التصرّف: سيكون هناك اختناقات مرورية على الخط رقم 4، وسأترك نصف ساعة قبل ذلك، ثمّ آخذ الــ[1]RER لأنّ الصبر في ازدحام المرور ليس نزهة نحل. فلئن كانت هناك أخطار لا تحصى (من سنلتقي في الطريق؟)، فإنني سأقع في ورطة احتمالية المحتمل (هل سأصل في الوقت المحدد؟)؛ لذلك يجب أن نفكر في نمطين من التنقل: نمط الشخص المهتم الذي يُلغي ذاته من أجل تحقيقه، ونمط الشخص غير المهتم، وهو النموذج الذي يحقّق نفسه بنفسه في الطريق، حيث تأخذه يسير فيها.
التنقّل الذي يشغلنا هنا هو ذاك الذي يشير إلى الكيفية والطريقة المهمّة للتنقّل، ذلك هو حقًّا اليومي الذي نعيشه سواء للأحسن أم الأسوأ. ولكي نستخدم صورة مشهورة، فإنّ مسار تنقّلنا اليومي يُعد مثل سلّم نستخدمه للوصول إلى القمّة التي نعود منها أدراجنا بمجرد بلوغ نهايتها. من وجهة النظر هذه، يشبه التنقّل نظريًّا الأداة التي نستعملها منفعيًّا. فالأداة، كالمطرقة على سبيل المثال، يقع سبب وجودها خارجها ولا يوجد في ذاتها، وبشكل ملموس قد نستخدمها لزرع الأظافر مثلًا، أو تثبيت باب، أو حتى قتل شخص ما. وكما قلنا قبل هذا، فإن الهدف المحدّد للأداة من الخارج هو الذي يجعل أمرها يبدو كما هو: أي إنها قد تكون طريقة للعبث، أو وسيلة للسرقة، أو حتى للقتل. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإنّ التنقّل في حقيقة الأمر هو أخذ قرار بالذهاب إلى مكان ما هو ما يحدّد وجوده؛ بالتالي لا يبدو أن التنقّل موضوعي في ذاته، وإنّما فقط منظور يتعلق بشيء آخر غيره.
عالم مربّع:
لكن، أليس بالمؤكد أنّه في التنقّل، ذهابًا وإيابًا، لا يوجد جديد يذكر عن حياتنا؟ في هذا المقال، كما نفترض ذلك، يتعلّق الأمر بتلبية احتياجات سببية، فوجود يوم “مثالي” أو “نموذجي” – ما دمنا نهتم في الحياة اليومية بما هو تافه وطارئ دون تفكير- أمر لا يمكن تصوره. ولمّا كان هذا اليوم المتوسط تمامًا غير موجود لأنّه لا يهم حقًّا؛ فذلك يعني أنّه تجربة فكرية من شأنها أن تجعل الأبعاد اليومية تبدو جوفاء عادة ما نتجاهلها. فما هذه التفاهة التي يجب أن نتحدث عنها؟ وماذا ستكون التفاهة غير المعتادة التي يعطينا التنقّل مفتاحها؟
إنّنا نعتقد أن ما يجب أن يظهر في تأمل التنقّل هي تلك الهيكلة الفنية للفضاء، هنا يمكن أن تُفهم هذه التقنية لا على أنها فقط مجموعة مكونة من الأدوات كلها التي ابتكرها الإنسان إلى حدّ الآن؛ ولكنها قبل كل شيء كنظام للوساطة تحكم الحركات والخبرات والتفاعلات بين الأفراد. بهذه الطريقة، يعد التنقّل النموذجي رحلة تنقلنا خارج منازلنا، فتجعلنا ندخل بُعدًا دائمًا مزدحمًا بالفعل عبر شبكات اصطناعية تهدف إلى زيادة الإنتاجية والأداء، ومن ثم قبول تجارب الحضور وتجانسها.
يمكننا، من وجهة النظر هذه، أيضًا أن نشكّك في التمييز الذي أُسِّس سابقًا بين طريقة السفر التي تهتم بالذات، وهذه الذات عينها. ربما يكون هذا الأخير واضحًا جدًّا، بحيث لا يحتاج أن تثبت صحّته؛ لأنّه في النهاية لا يتّسم عصرنا بالشبكية المنتظمة للفضاء والشبكة الفنية للحركات إلا بالقدر الذي تحفّز فيه حتميةُ العمل وترفُ الترفيه هذه الأمورَ كلَّها. ألا تُلائم حكمة التجوال نفسها دائمًا عبر شبكة من العلامات والأدوات التي لا يمكننا التخلص منها؟ يبدو التفكير في التنقّل على هذا النحو، هو ما يجبرنا في الواقع على تسليط الضوء على القرارات المصطنعة لتجربة الفضاءات والأمكنة.
المغادرة: الدخول إلى الفضاء العام:
حينما يحين وقت مغادرة منزلك والذهاب إلى العمل، وعندما تترك المنزل يظهر عنصر أصيل: شبكة الالتزامات والإشارات والتحذيرات الاجتماعية، إنّه التنقّل الذي بقدر ما يأخذنا من المنزل إلى مكان ممارسة مهنتنا، فإنّه من الناحية الفلسفية ليس مجرّد لحظة عابرة محايدة أو غير ضارة في الحياة اليومية؛ بل يكشف عن الأجهزة الفنية والسياسية التي تنظم حياتنا العامة. الانتقال من المنزل إلى العمل بمثابة الذهاب إلى بيئة تقنية إعلامية للمجتمع كلّه، فالعتبة التي نعبرها لمغادرة منزلنا هي «المسار» الذي يؤدي بنا من فضائنا الخاص إلى فضاء الجمهور؛ ممّا يجعلنا نلج فورًا الشبكة الموحدة والرقابة العامّة. فسواء كان التنقّل من ضاحية قريبة أو بعيدة عن وسط المدينة، أو من المدينة إلى ضواحيها، أو من مدينة إلى أخرى؛ فإنّ التنقّل عبره يكشف عن يوم فلسفي باعتباره يومًا حضريًّا مشتركًا. إن التنقّل الذي يؤدي إلى العمل (من خلال وضعه بالطبع بأنه ليس هو نفسه الذي نعيش فيه) يسمح لنا بتأمل الطبيعة المصطنعة لتجربتنا في المكان والزمان. وكما كتبنا آنفًا نحن بالفعل نعيش في طبيعة خالية في الفضاء؛ لكن عبقريتنا المبتكرة هي التي سمحت لنا بترشيد استخدام هذه الحرية؛ بالتالي معايرتها بقوة حساب متوقعة لنا. هكذا أصبح السؤال الفلسفي في خضمّ مسار تنقّلنا مسألة بيئة اصطناعية للحضور.
فلنتخيل حكاية قصيرة توضّح هذه المسألة:
في الساعة 7:30 صباحًا يغادر السيد (س) منزله، وبعد فتحها عن بعد باستخدام حلقة المفاتيح الخاصة به، دخل سيارته وانطلق إلى المطار. إنّه يقوم بتوصيل هاتفه الخلوي الذي يستخدمه كجهاز الـGPS على ولاعة سجائره. يغادر المدينة ويدخل الطريق السريع A 15، وفي الساعة 7:45 صباحًا تخبره لوحة إلكترونية أنه يجب عليه الانتظار لمدة 20 دقيقة بسبب الازدحام في الساعة السابعة والنصف صباحًا، يمر من محطة الأداء حيث يتعين عليه دفع4,50 يورو يؤديها عن طريق بطاقة مغناطيسية يدخلها في آلة، وهذه الأخيرة تعطيه على الفور تذكرة فيها سلسلة من الأرقام، يرتفع الحاجز ثم يمرّ. في الساعة 7:55 صباحًا يغير المذياع الخاص به التردّدَ على الفور: إنها رسالة من شركة الطرق السريعة تحذره من أنّ حادثًا ما يسد الممر 23، وأنه من الأفضل أن يسلك الممر البديل الذي سيعبره على طول 750 مترًا. وفي الساعة 8:10 صباحًا تخبره إحدى اللافتات بأنه يجب عليه الخروج فورًا من الطريق السريع إذا كان يريد الانضمام إلى الأقمار الصناعية 30 إلى 63 للمطار. أمّا (م) فيسلك حلقة ترحّله إلى مسار أحادي الاتجاه يعبر منطقة النشاط الصناعي التي تحيط بالمطار. وعلى جانبي السيارة انتشرت لوحات الإعلانات التي تشهر بمزايا منتج ما متوافر في السوبر ماركت المجاور. بعد متابعة سلسلة من حظائر الطائرات، وصل السيد (ج) في الساعة 8:30 صباحًا إلى ساحة انتظار الأقمار الصناعية من 30 إلى 63، أخذ تذكرة ونزل إلى الطابق السفلي الرابع وترك سيارته ثمّ استقل المصعد حيث تمكن من الذهاب إلى مكتب تسجيل الأمتعة، هناك وجد امرأة ترتدي زي المهنة الموحد تبتسم له، سلّمَها تذكرته وبطاقة هُويته؛ لقد وصل إلى وجهته، وقد وصلت الساعة 9 صباحًا، في حين دخل السيد (س) إلى صالة المغادرة 22 ب.
مساحة الشفافية:
تكمن أهمية هذه القصّة القصيرة في إبراز السمات المميزة للتنقّل اليومي الراهن ولو بشكل استعاري بلاغي، وتكمن السّمة المميّزة الأولى لهذا التنقل اليومي في وجود الإشارات والتحذيرات والمكالمات والأوامر الزجرية، هكذا تتشكّل معظم رحلاتنا التنقلية من إشارات الطريق، بالإضافة إلى استراحات قصيرة تحدث في معظم الوقت للضرورة، ويمكن أن تكون لهذه الأوامر وظيفة دعائية للاستهلاك (شراء شيء ما)، ووظيفة تأديبية من الشرطة للحث على تحسين السلوك (عدم القيادة بأكثر من 70 كم / ساعة)، ووظيفة تعاقدية أو قانونية (دفع 4,5 يورو)، إلخ.
بعبارة أخرى، يتزامن تغلغلنا التّنقلي في الفضاء العام المعاصر وخروجنا من حميميتنا الخاصّة، مع تعرّض وعينا لشتى رسائل المؤسسات والتنظيمات التي تنظّم فضاء المجتمع المدني الراهن، فالمرور إلى الفضاء العمومي المعاصر عبارة عن مرور إلى عالم المعايير التي تهدف إلى تنظيم السلوك العام من أجل التحديد المسبق لهذا الجانب أو ذاك: بالسماح بالبقاء على قيد الحياة (قوانين الشرطة)، وبالسماح بإثراء الدولة (الضرائب المباشرة)، ومنع الفوضى السلوكية (معايير الطرق – تنظيم المرور). هكذا فإن التنقل – المسار – هو حدث وواقعة تحدث في اليوم؛ حيث يصبح الفرد نافذًا تمامًا للمجتمع السياسي والشرطة (الدولة) والمجتمع الاقتصادي (الحكومي والخاص)، وهو وقت تُحقَّق فيه الشفافية بين الأفراد والمؤسسات، يعني الهيئات المسؤولة عن إدارة الحياة المشتركة. إنّ ما يجعل هذه “الشفافية” ممكنة، والتي هي بالطبع “الامتثال”، هي المجموعة التي شكّلتها المصنوعات التقنية والعلوم التطبيقية: أي محطة أداء إلكترونية، والحواجز الميكانيكية، وميكانيكا السيارات، إلخ.
تستخدم هذه التطبيقات للإدارة السلوكية؛ وهذه الإدارة مرادفة هنا للأمن؛ إذ الهدف النهائي هو القدرة على التنبؤ؛ مثل الشأن بالنسبة للطريق السريعة، حيث جُعلت خصّيصًا للحدّ و”منع الحوادث”. فاستخدام الأشياء التكنولوجية هو ما يسهّل المأمورية، ويحقّق في الوقت ذاته اندماج الفرد في المجتمع وملاءمة المجتمع للأفراد.
لكن، لمَ حالات تنظيم السلوك في حكايتنا؟ شركة الطرق السريعة، وشركة مطارات باريس ووزارة الداخلية ومديرية المعدات، إلخ، تستخدم هذه المؤسّسات العامّة والخاصّة كلّها المساحة المعقولة كوسيلة لاقتراح الحوافز والسلوكيات؛ ويبقى الأساسي هو ترشيد الحركة في الفضاء العام. إنّ هذا الترشيد هو الخطوة الأولى الأخلاقية الأصيلة: أي الانضباط في السلوك؛ لذا، فحتى داخل السيارة، وهي مساحة خاصة مبدئيًّا، فإنّه يمكن رؤية تردّد المذياع بعد تعديله بشكل رسمي، بحيث يصبح المشهد الطبيعي ذريعة لعرض الإعلانات التجارية. إنّ غموض الليل بمثابة خلفية في ضوء العلامات، تزداد هذه الظاهرة بعشرة أضعاف في وسائل النقل العام، حيث يصبح الفرد نافذًا تمامًا، وذلك تقريبًا للإشارات التي تزيّن (وهي التي تقطن) شبكات النقل: (المذياع، لوحات الإعلانات، شاشات التلفاز، إعلانات مكبر الصوت، إلخ.)
بُعد المناطق:
من ناحية أخرى ما ينبثق أيضًا من الحكاية القصيرة التي كتبناها آنفًا هو تحويل الفضاء إلى «مناطق»: المنطقة الصناعية ومنطقة الترفيه والتنشيط ومنطقة العبور ومناطق الطرق السريعة ومنطقة التبادل، إلخ. إن ما يميز «المنطقة» عن «المكان» هو قابليتها للاستبدال في المقابل عدم أهميتها. فالمنطقة الصناعية تعد كذلك من جميع النواحي، سواء كانت واحدة على مشارف «باريس»، أو «ليون»، أو «بادن بادن». إنّها تفترض مسبقًا الاحتلال المناطقي نفسه للتربة، وشرط الخضوع نفسه لحالات الطوارئ الاقتصادية واللوجستية، بالإضافة إلى أنّها تتميز بعدم وجود هيكلة رمزية. تبدأ المنطقة بثباتها، وهذا لا يعني أنها ستكون دومًا ملحوظة، أو معلنًا عنها تمامًا؛ بل ببساطة يمكن عند نقطة محدّدة مغادرتها، فلا العتبة ولا العلبة ولا الباب يمكن أن يشير إلى أنّ للمنطقة نقطة نهاية؛ لهذا فشخصية قصتنا المفترضة، وهي تعبر مناطق مختلفة دون عتبة، إنّما تشير إلى أنّها قد تحركت؛ بينما المعابر التي تتخطّاها كلّها من النوع الاقتصادي: أي الرسوم ودفع مقابل وقوف السيارات. فهذه الأمور كلها هي وساطة فنية تسهم في توجيه الحركات، وهي بالتالي تحلّ محل الوساطة الرمزية التقليدية. هكذا يغرق الفضاء كلّه في نوع من لامبالاة اقتصادية معيارية، يشير إليها عدم التمييز؛ بذلك، يمكن أن يصبح أي شيء «منطقة». إنّ هذا هو السبب في أن المنطقة ليس لها حدود حقيقية، في الواقع، يمكن أن تمتد المنطقة أكثر من ذلك بكثير، وهذا من شأنه أن يغير شيئًا في طبيعتها، لكن دون أن يغير ذلك من معناها في الأساس.
في مقابل ذلك، يُعرَّف «المكان» من خلال تفرده المصمّم غير القابل للتبديل، إنّ المكان، مثله مثل المنزل، لا يستحق مكانًا آخر، وإذا وسعْنا نطاقه، فإنّه سيكون دائمًا عرضة لخطر تغيير الطبيعة؛ بالتالي خطر فقدان ما يميزه. يمكننا ترحيل الحجر إلى حجر «لوار» القلعة في إندونيسيا؛ لكنّها ستظل قلعة «لوار». بهذا المعنى، فإن المساحة المهيكلة بتجربة الأماكن الفردية ليست المساحة المبنية بتجربة المناطق. الآن، مساحة رحلاتنا هي مساحة؛ لأنها تنطلق من ترشيد متكامل للحركات، إنّها تحل محل الأماكن التي تفصل بين المناطق التي تتصل بها الطرق السريعة؛ لذا يُنظَر إلى العلاقات التي ينتجها التطوير التقني بين المساحات المختلفة من وجهة نظر الكفاءة والراحة.
التنقّل المحدود الذي يقودنا من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) (الذهاب إلى العمل بأسرع ما يمكن) هو في الوقت ذاته مرحلة مفتوحة واسعة وعريضة؛ حيث المقترحات والأوامر والمشورة؛ وحيث يمكننا أن نرى ترشيد التجانس في الفضاء المعاصر؛ لذلك يجب قراءة ضيق هذه الحركة وتجاهلها بالنسبة للفرد ضمن الشبكة التقنية والسياسية القائمة برمّتها، والتي تشكل الأخيرة جزءًا منها. إنّ التفاهة التي تحدثنا عنها في بداية هذا الفصل هي ما يكشف في الواقع عن البنية الأساسية لهذا الواقع. الحرص على الوصول إلى الهدف في أسرع وقت ممكن، وعندما نصل إلى هنالك! تكون المواد الخامّ للإدارة السلوكية التي غالبًا ما تبقى فاقدة للوعي. وكما هو الحال دائمًا، فإن الإدمان المعتاد لهذا الجهاز يجعلنا فاقدين للإحساس بها؛ إذ التكرار المستمر للرسائل نفسها يجعلها غير مسموعة لنا بشكل واعٍ كفاية، وهذا لا يعني أنها فقدت سلطتها في الاقتراح غير الواعي.
عدم الشخصنة وتحديد الهوية:
كيف نفكر بفاعلية أكثر في هذا الحدث التقني الذي يحدّد ويزامن قنوات النقل والاتصال والتجارة؟ كيف نفكّر في هذه الظاهرة بشكل مختلف عن الاصطلاح التقني الفارغ لـ”العولمة”؟
دعونا نفترض أولًا أن البشرية قد تمكنت من خلق نوع من الكونية المجردة، التي هي تأثير شبكة التقنية الواقعية، أي عن تلك التجربة الملموسة التي قام بها الإنسان، فالغرض الرئيس من هذه الشبكة إلغاء مقاومة العالم: أي هذه الكيفية التي لا تقدم نفسها بشكل سريع لرغبات تحديد الإنسان ومشاريعه. فالتقنية وسيلة لتنظيم التجربة التي تهدف إلى جعل الإنسان “سيدًا ومالكًا للطبيعة” (ديكارت، خطاب حول الطريقة)؛ بالتالي تهدف إلى إخضاع الواقع كله لضرورة الإرادة الإنسانية. يبدو أن الجهاز التقني، وهذا هو الغموض التأسيسي له، يميل إلى تحقيق رغبات فردية من جانب واحد؛ لكنه بذلك يوحّدها، ويعايرها كي يحدّدها، ولكي نفهم ذلك، يمكننا تناول ظاهرة تكامل المستويات المختلفة للواقع.
إنّ الوحدة العضوية المادية للفرد تتمدد وتنتهي في وحدة فوق طبيعية لتقنية تسعى إلى ربط علاقة فورية لجميع سجلات الحضور مستهدفةً الانتشار في الأمكنة كلها، فسواء استقلنا القطار أو الحافلة أو السيارة؛ فإن ما سيتبقى هو ديمومة شبكة المرور التي تقوم، مثلها مثل شبكة من الشرايين، بالتوزيع المفيد لمحتواها البشري على أيّ منطقة، كيفما كانت وجهاتهم. فاعتبارًا للزاوية المنظمة لجميع الرحلات التي يقوم بها الأفراد بشكل يومي في ساعة ثابتة؛ فإن التنقّل مسألة تنظيم نفعي للحضور المكاني للإنسان. يهتم الجغرافيون بدورات البندول، وذلك من وجهة نظر متطلبات الاقتصاد، وتطور الديموغرافيا، وتدفقات الهجرة، فها هُنا تنبّهنا هذه المسألة ميتافيزيقيًّا إلى أنّ جوهر التقنية هو أن تكون نظامًا للوساطة، أي على الشاشات: تقرّب البعيد الذي لا يمكن الوصول إليه، وتجعل النهاية قابلة للتحقيق من خلال ترتيب الخطوات بين الموضوع وأهدافه، بين المستويات والشاشات والحقائب المحمولة. بشكل ملموس، يجعل التنقّل التقني منطقة فارغة منطقة مملوءة، كما يجعل الدولة غير المنتجة دولة منتجة؛ ودون سابق إنذار، يجعل الإنسان يعمل تقريبًا بكفاءة. أمّا السبب النهائي لهذه العملية فهو إلغاء الآخر الحقيقي؛ وهو ما ينطوي على نشر الشرايين التكنولوجية التي تجعل أي مساحة، وأيّ شيءٍ آخر يؤثّث هذا الفضاء؛ وبالتالي المادة الأولية لمشروع تحديد الهوية. يريد الإنسان أن يكون في كل مكان “في المنزل” ليتعرّف على نفسه في كل شيء؛ فالغزو التقني للفضاء هو هذه الحيلة المذهلة التي، لكونها تساوي بين الأشياء كلها، أصبحت تحدّد كلّ شيء وبالترتيب المحسوب نفسه. فالتحديد الذي يسمح به هذا الأمر ليس هو هوية ذات تختبر الآخر (الهوية التامة للفرق الحقيقي)، وإنّما هوية الآخر التي نستعيدها في أنفسنا بالوسائل كلها (الهوية السلبية للفرق الحقيقي)؛ ولعلّ هذه تكون الازدواجية نفسها التي أثرناها لمّا أكّدنا الفرق بين «المكان» و«المنطقة».
نفهم الآن إذن معنى الوقاية الطبيعية التي يتمتع بها الجميع فيما يتعلق بالتنقّل، والتي بدأنا بها مقالنا هذا؛ لكن، أليسَ للطريق ما تقوله لنا عن أنفسنا؟ هل هي بدون فائدة؟ وهل هي مجرد وسيلة فقط للانتقال من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)؟ بالطبع، لا يخبرنا التنقّل بأيّ شيء؛ لأنّ هذا الأمر يحدث في وقت يتم فيه إبطال شخصية الفرد الفريدة، فيتمّ توحيده ومعيَرته بمختلف الالتزامات وتلك الواجهات التقنية. لا يوجد شيء يمكننا قوله عن التنقّل؛ لأنه خلال رحلة قطعه نكون لا شيء بالأساس؛ أو بشكل أكثر دقة، نحن لسنا سوى أحداث غير ذات بال في نظام للتبادلات المعولمة، أي مجرّد مادة خامّة لنظام نقل البضائع وتداول الطاقة التي تفهم الإنسان كبيانات مؤقتة، وربّما لا تذكر حتّى في بعض الأحيان، فعندما نكون على خطوط الـــ««RER نصبح أكثر بكثير من مجرّد ممتثلين عاديين. تعميمها بشكل تعريفي عن طريق الوساطة التي تسبقنا دائمًا، أينما ذهبنا. إنّ أخذ الميترو لا يعني السير في الطريق، بل تشغيل آلة والمشاركة في تطوير ضروري لصناعة عُدَّت الطريقة الأكثر ملاءمةً لإرسال العمال إلى المصنع، والمديرين التنفيذيين إلى الشركة التي يعملون بها.
هذا هو السبب وراء السؤال: «ماذا تفعل من أجل لقمة العيش؟» ولا أحد يجيب: أخذ «RER»، فحتى لو كان الشخص المعني يأخذ هذا الـ«RER» ثلاث مرات في اليوم، فإنّه يقضي معظم وقته هناك ولا يهتم. في خضّم تجربة التنقّل التقنية هذه، نكون مجرّد روابط متسلسلة تبدأ قبلنا وتنتهي بعدنا. فبعد عتبة الأبواب الأوتوماتيكية، لم يعد ذاك الـ«أنا» شخصًا محددًا؛ ولهذا فإنّ هذا الـ«أنا» مجرّد كائن يأتي لإثراء هذه الكتلة الغريبة التي تنضاف إلى العمال، أو إلى هذه الـ”نحن” في المجتمع السياسي، الخ. بالمعنى الدقيق للكلمة، يصبح الأنا مجرّد موجود فعلي مُدمج في شبكة تقنية وسياسية وأخلاقية تهتم فقط بديمومتها.
باختصار، وخلال فترة رحلة التنقّل، تُدمَج الوحدة العضوية الفردية في وحدة ميكانيكية صناعية، وتُدمَج بدورها في وحدة المعاملات المالية، ثمّ تُدمج هذه الأخيرة في نظام تقني للتنظيم العقلاني للوضع البشري الذي تحوّل إلى جزء من مشروع كلّي، والذي إن لم يكن سياسيًّا على الأقل، فهو ميتافيزيقي.
نظام الرحلة: التنقّل التقني:
يلزم أن ينهض هذا النظام التقني كي يؤمّن نفسه ويضمن استدامته على بنيات ثابتة وفعّالة. فالآلات هي من مكونات هذه البنيات، إذ القلائلُ هم أولئك الذين يمكنهم الآن المشي على أرجلهم للحضور في مقرات عملهم. فالتجربة المتوسطة للعالم، والتي ليست بالضرورة سيئة حاليًا، هي دمج الفرد في نظام من الخطوط عبر شبكة مسارات تسمح بجمع الوظائف الاجتماعية كلها. يسمح النظام والشبكات التي تنظم عمليات التنقّل هذه بالاقتران بين جميع المهن؛ حيث يذهب النجار إلى المستودع، ويجتاز المصرفي الممر قبل الذهاب إلى الوكالة، ثمّ يستقل العاطل عن العمل سيارته متوجهًا إلى مكان إجراء مقابلة، كما يصل الأستاذ إلى المدرسة حيث يلتقي، وفي الشارع نفسه، النجار والعاطل عن العمل والمصرفي. يتقاطع الجميع في أطراف اصطناعية تسارع الحركة، مثل السيارات والقطار والدراجة النارية والدراجة العادية، الخ. في الصباح لا تأخذ الـ«أنا» سيارتي للذهاب إلى العمل؛ بل إنّ الـ”نحن” هو من ينظمنا جميعنا في نسيج هذا النظام التقني نفسه؛ إذ سيارتي ليست سوى جزء بسيط ضمن هذا العتاد العالمي الذي يشمل جميع الطرق السريعة؛ حيث جميع المركبات في حالة صالحة للعمل، مثلما جميع ركابها بمسؤولياتهم المختلفة، وجميع الوجهات، الجميع هنا في الطريق؛ لذلك تشكل هذه التقنية نظامًا كاملًا، لدرجة أنّه يجب التفكير فيه ممتلئًا دائمًا، ما دامت لا توجد مساحة فارغة إلّا ويمكن ملؤها. وهكذا فإنّ أيّ مسألة، سواء كانت كونية في السلطة أو في الفعل، إلّا وازدادت تصميمًا بشكل متدرّج ما دامت هي ما يجعل من الممكن تحديد هوية الكائنات والأشياء أكثر فأكثر.
هكذا يمكن للسيارة مثلًا أن تترك الانطباع الواهم بكونها مساحةً خاصة أو حتى حميمة؛ غير أنّه يمكن تخيّلها على أنّها كذلك بفضل صناعة السيارات الضخمة هذه التي أصبحت تصورها كنموذج قياسي للفرنسية المتوسطة، وأيضًا بفضل العقود التي سمحت بتطوير الطرق السريعة إلى أربعة خطوط لصالح توقعات عرض الصناعات البترولية الخ؛ لذلك، لا يمكن تحقيق ذلك كله (مثل القطار قبله)؛ إلاّ كاستعداد خارجي محسوب لترشيد الوظائف الاجتماعية، وذلك بما يتيح يوميًّا تقريب المسافات، المربح قبل أيّ شيء آخر. هكذا فإن «وسائل الاتصال» لا تمثل أبدًا تعبيرًا غير مبالٍ عن الحاجة، ولا الحل المريح لهذه الحتمية؛ بل إنّها الصلة في بنية هذا التنظيم العالمي الذي يثير الرغبة أكثر ممّا يرضيها.
باختصار، تعد السيارة أكثر استخدامًا بالمقارنة مع باقي الأجهزة الضرورية لهذا العصر الصناعي، فهي تسمح بتحديث بعض العمليات الإنتاجية؛ وهي أداة متاحة جدًّا من طرف الإنتاج الصناعي الذي أصبح يطيل ويكمل (إلى أن يظهر شكل صناعي آخر أكثر كفاءةً) الوجود الإنساني المعولم. فإلى هنا تتلاقى جميع رحلاتنا في مسار واحد، ألا وهو التقنية المكمّلة لتجربة وجودنا الإنساني.
ما السيارة؟
تفترض عملية إلغاء الطابع الشخصي عما هو تقني بشكل مسبق التحديد غير المبال لجميع أعضاء هذا النظام؛ وبذلك فهي لا تزال شهادة على الجهود المبذولة لإضفاء الطابع الإنساني على الواقع، وتعد السيارة إحدى العلامات المثيرة للاهتمام في هذا الإطار بشكل خاص. ويقول بليز باسكال بهذا الصدد إن الإنسان يحب ما يشبهه، وأنه أينما ذهب؛ فإنه يميل إلى إعادة إنتاج التماثل الطبيعي لجسمه، وهو الترتيب المعطى لوجهه الذي يفصله عرضًا حسب محور عمودي. وتميل جميع إنتاجاته، سواء كانت معمارية أو حرفية أو صناعية، عندما لا تحركها دوافع البذخ، إلى إعادة إنتاج هذا المخطط في أثناء العمل. ذلك أن «السيارة» بالمعنى الآني، إذا وضعنا جانبًا التأويل المعطى بالفعل والذي يعرّفها على أنها ضرورة خارجية صناعية؛ فإنها تقدم صورة كاريكاتورية لهذا الوجه. عند النظر إليها من الأمام، فإنها تحاكي قوة تغلغل النظرة التي تضيء الواقع، وعلو الجبهة التي تهيمن على التجربة وتفكر فيها، ووجود فم يمكن أن يفتح أو يبقى مغلقًا. باعتبارها بذلة للجسم البشري، هي المصطنع الذي يقوم، أكثر من الطائرة أو الدراجة، بإعادة إنتاج ملامح مخترعها، من خلال إطالة أمدها كما ينبغي أن يكون من منظور نفعي وتعويضي. إنّ السيارات هي جميع مظاهر الوجوه التي تتحرك وتجوب الطرق.
يحب الإنسان ما هو شبيه له، وعندما تبدو له هذه التقنية من الممكن أن تبتلعه فيما يخصّ انتظام فاعليته؛ فإنّه يسعى مع ذلك إلى إعادة تقديم الخصوصية والتفرد لجعل الملامح التي تميزه بشكل خاص أكثر بروزًا. هكذا يستنسخ الإنسان صورته بشكل لانهائي: إن احتلاله للفضاء يمر من خلال العتاد الصناعي الموحد لهيئته الخاصّة، وأيّ سيارة هي إذن مجرد استعارة ميكانيكية للنظرة الإنسانية. بالطريقة نفسها مثل أي كمبيوتر هو استعارة للذاكرة والفكر، «استعارة» لأننا يمكن أن نقدم قراءة شعرية وأسطورية لظهور السيارة، إنه جزء من الأسطورة البشرية للاستيلاء المستمر على الفضاء، إنه جزء مهم من الأيديولوجية المعاصرة؛ لأنه يبلور فيه تقريبًا توقعات الفرد الحديث وتناقضاته كلها. الرغبة في السير بشكل أسرع والرغبة في الهيمنة والرغبة في الإغواء؛ باختصار، جميع آلهة الرغبة في الحرية التي هي هنا مصطنعة تمامًا، على نطاق خارق للطرق السريعة. يمكن تصور الرحلة بعد ذلك كحدث حيث يأخذ الفرد «جبله» (صعودًا)، مع مجموعة من الرموز التي تشمل: تحديد الطبقة الاجتماعية والمرتبة والطموحات والأذواق، إلخ. بهذا المعنى، يشير الحضور العالمي للسيارات إلى أنّه في صميم عملية التجانس التقني للرحلات، تشعر البشرية بالقلق إزاء وجودها الرمزي الخاص. ستفضل دائمًا التماثل في العرض على التماثل في الطول؛ لأنها ستسعى دائمًا إلى الوهم بأن الآلات يمكن أن تعيد نظرتها إليها.
ما ازدحام المرور؟
هذا النظام التقني ليس مثاليًّا، وانتهاؤه قادم لا محالة، فمن المثير للاهتمام أن نلاحظه عندما يبدأ فيوقفه حدث غير متوقع، ولعلّ من المؤكد أن يكون التفكير في فشل الرحلة المعاصرة هو أضمن طريقة لكشف جوهرها، فعندما تفقد العملية هدفها يكون الشخص أكثر قدرةً على التشكيك في طبيعتها الحقيقية ومُساءلتها.
دعونا أولًا نلاحظ أن حصافة الحساب الصناعي لا يمكن أن تستند إلا إلى الاحتمالات، وليس إلى اليقين، إن احتمالية أن يؤدي أي حادث إلى “تحويل” التقنية عن مسارها دائمًا ما يكون ضروريًّا دائمًا. هذا هو الحال في ازدحام المرور. في هذه الحالة الطاقة المذهلة التي يضعها الإنسان لتوحيد حركاته من أجل جعل حركته تكتسب السرعة والكفاءة والإنتاجية؛ أو بشكل أكثر دقة، هي القوة نفسها التي تنقلب في هذه الحالة على نفسها: فالطاقة الموضوعة لتسريع تجربة النزوح تصبح عامل احتقانٍ أو تباطؤٍ، وأخيرًا توقف.
يشرح العلماء الذين درسوا هذا السؤال أنه عندما تصل كثافة المركبات إلى عتبة حرجة والتي هي بدلالة النسبة بين حجم المسارات وعدد الآلات؛ يمكن أن يؤدي الاضطراب العرضي الصغير إلى عدم الاستقرار الكبير، هذا هو ما يمكن تسميته بالتأثير المنهجي لعدم التنظيم، وهو شكل من أشكال عدم الاستقرار الذي، نظرًا لأنه يشتمل على العديد من الإعدادات، لا يمكن تصميمه بالكامل بوساطة أجهزة الكمبيوتر الحالية، كما هو الحال بالنسبة لانهيار جليدي على سبيل المثال، ويدل هذا على أنّه في هذا الحدث المبتذل على ما يبدو هناك شيء يقاوم الذكاء التخطيطي لنظام الفضاء التقني: شيء ما يجعلنا نتباطأ عندما نريد الإسراع، يجعلنا نفقد هدفنا عندما نريد الوصول إليه. إنّ العتبة الحرجة التي يتحدث عنها العلماء هي عتبة رقمية؛ لكن بالمعنى الفلسفي، يرمز إلى شيء آخر: إنه عتبة تسريع تجربتنا في الزمكان، والتي لا يمكننا تعديلها إلا بشرط توحيدها ومشاركتها، من خلال قيامنا بذلك فإننا نضاعف بشكل موضوعي المخاطر التي من شأنها أن تفشلنا، قياسًا على ذلك يمكننا التفكير في أنه كلما زادت الوساطة بين المرسل والمستقبل، زاد خطر تغيير طبيعة الرسالة المرسلة؛ والمثال النموذجي هو ظاهرة الشائعات التي يتغير محتواها كله. إنه المشكل نفسه بالنسبة لتنقل ما: الجهاز هو الذي يهدف إلى تسريعه؛ لأنه يزيد من عدد الوساطات، ويضاعف بالضرورة المخاطر واحتمال فشلها وتباطؤها؛ لهذا السبب يصعب إرسال صاروخ إلى المريخ بدلًا من طرق باب أحد الجيران. ولعلّ شيئًا ما يقاوم التخطيط الشامل للسفر في الرحلة المعاصرة. فمواجهة الرحلات والتوتر، نحو زيادة أكبر في السرعة، يصطدم بهذا الخطر الموضوعي. كلما زادت السرعة؛ زادت إمكانية حدوث كارثة، وكلما كانت الرغبة في التسارع أقوى زادَ إحباط التباطؤ.
موكب أم سيرورة؟
قد يعتقد ملاحظ غير خبير بسيرورة التقدم التقني المعاصر عن حق أن ازدحام المرور لا يعدو أن يكون موكبًا طقوسيًّا للحجاج السبريانيين الذين يقصدون مكانًا مقدسًا، نجد فيه عناصر مميزة للنظرية الدينية: الانضباط والبطء وتزامن الحركات والإجراءات التي تتم تلقائيًّا دون أن تكون مقدمة بتفكير حر، وإحضار الأشياء المكرسة، إلخ. بالإضافة إلى ذلك فإن معظم ازدحامات المرور تحدث في وقت محدد، في أيام معينة من السنة (ساعات «الذروة»، والمغادرة والعودة «الجماعية») تمامًا مثل الأعياد الدينية؛ لذلك فإن طبيعتها غير المتوقعة يمكن أن تكون نسبية، فهي، وهذه هي المفارقة، غير المتوقعة بشكل طقوسي، وربما كارثية، غير متوقعة. بالطبع إنها ليست موكبًا؛ لكنها عملية مدهشة من الازدحام التقني والتباطؤ؛ حيث يظهر ما يبدو حسنًا دون أن يكون أحد يريد ذلك وقت فراغ فعلي.
في الواقع، عندما يستمر الازدحام المروري؛ فإن الوقت الذي يُكرَّس لـ”لا شيء” هو الذي يُقدَّم. فيُوضع منطق المنفعة والكفاءة والواقعية في نطاق الانتظار. وقت من أجل لا شيء هو بالضبط وقت مجرد من تحفيز مهم، إنّه الوقت الذي من الناحية النظرية يجب أن يكون له فضيلة التفكير القوي، ذاك هو وقت «فراغ» بالمعنى الذي نحن فيه مطالبون بالانتظار والصبر ومغادرة الطوارئ اليومية بشكل مؤقت. إنّ قطع مسار تقني بشغف محدود يحتاج إلى صبر؛ لذلك كان من الطبيعي تمامًا لإنهائه أن يستدعي انتباهنا إلى معرفة فضيلة الصبر والتأمل.
الهروب:
نفاد صبرنا والعنف الذي نستحضره، يُفضي ذلك كلّه إلى اتخاذ موقف لاختبار مقاومة الأشياء والكائنات؛ وذلك حتى نعلم الانتظار وتأجيل اتصالنا بالعالم الخارجي وكذلك الأشياء التي نرغب فيها. هكذا يلزم أن يكون المسار مجرد حادث بين جميع الرحلات؛ كي يكشف ازدحام المرور عن جوهره التقني: أي الهروب من الثقافة كنوع من فنّ الصبر والتأخير والوقاية وممارسة الالتفاف. تميل التكنولوجيا إلى الاستعاضة عن المشروع التاريخي لحضارة الترفيه بشكل لا رجعة فيه؛ لأنها تحل محل جهد الوساطة وتقديس الآني والفوري. إنّ الطريق السيّار هو أفضل ما يرمز إلى تطور هذا الأمر؛ فهو طريق سريع للسيارات وللمعلومات وحتى للذاكرة، فهو طريق سريع للزمن وللتاريخ. فالإثارة الفورية مرغوبة وغاية التنقّل عبر مسارنا إلى اليومي؛ لأنّ عبرها يُطلَق العنان للدوافع كقاعدة أساسية. يستبدل المصير التقني للإنسان اختبار البطء باختراع السرعة؛ سواء حين المشي في أنحاء المبنى كله، أو عند حركة المرور في المناطق. هكذا تحقّق جدية التنقّل فرجة المخيّم الصيفي.
يعد تحقيق الهدف بطريقة سريعة خسارة، وذلك بالنظر إلى سهولة التساؤل حول الدافع الذي يقودنا إلى حيث يأخذنا اتجاه مغادرتنا. في خضم حركة المرور على الطريق السريع ينفجر الغضب الذي كان يجب أن يتحمّله اختبار قصد الوجهة، هنا يصبح الصبر لا فائدة منه؛ إذ نتأخرّ بينما الآخرون يسيئون التصرف، ننتظر إشارة التحرّك على اللوحة الإلكترونية، هكذا تخبرنا الآلة متى نبتدئ من جديد وبشكل جيّد. إنّ آليات الأعمال اليومية يمكن أن تستأنف مسارها دون حاجة إلى التفكير في الأمر؛ غير أنّ الصبر أصبح مطلوبًا أكثر من أي وقت مضى الآن، وبالمقابل، فإن التنقّل التقني يعملُ في أكثر الأحيان على إجهادنا وإشغالنا عن فضيلة الاضطرار إلى تعلمه.
ما هذا الذي يقع إذًا؟
في الأساس أيًّا كان التنقّل، فإنّه يثير مسألة الوجهة، أي النهاية، نطرح هذه المسألة لأنها هي في حد ذاتها ما كان يجب أن يحصل، هذا ما يحذرنا منه السؤال الآتي: إلى أين نحن ذاهبون بالضبط؟
فيما عدا الوجهة، وكما أوضحنا ذلك سابقًا، يقدّم التنقّل المعاصر خصوصية ملحوظة، تسمح لنا بأن نعدها محاولة لتحييد مسألة الوجهة في حدّ ذاتها. إنّه يكشف عن التطور التقني باعتباره القدر التاريخي للإنسانية التي تميل إلى الانخراط بطريقة حميمة وبشكل متزايد في نظام الوساطات الصناعية التي تعدّل بشكل جذري تجربتها في الوجود. يسعى هذا المعنى إلى الاستغناء عن اختبار الغاية، بمعنى آخر، عن النهاية.
في العدد الأول من مجلة Temps modernes كتب الفيلسوف جان بول سارتر، وهو يتحدث عن التعديل الأساسي للإنسان الذي هو مخترع القنبلة الذرية، ما يأتي:
«إنّه لم يعد هناك أيّ نوع بشري؛ لأنّ المجتمع الذي أصبح حارس القنبلة الذرية، قد أصبح فوق المملكة الطبيعية، وهو بذلك المسؤول عن حياته وموته».
وعلى صعيد مختلف تمامًا، يكشف التعميم التقني لعمليات التنقّل عن الشيء نفسه، فقد نجح الإنسان في إنتاج بعد آخر، بحيث أصبح يُثبَّت بشكل عقلاني كامل على الفضاءات كلها. فمن أجل الإنسان تُنظَّم الآن حركاته بشكل مستمّر بغض النظر عن نواياه الفردية ورغباته الطارئة ودوافعه الفورية للعمل. يتحرك على قضبان السكك الحديدية التي تسيطر على الأرض التي تحيط بها من جميع الجوانب. في الواقع إنّ هذا الإنسان قد أصبح يرغب في جعل هذا وذاك معلمة لتنقله بشكل منطقي لا يغير شيئًا. إنه يودّ تكييف هذه العملية وفقًا لهذا المعيار البيئي أو ذاك، كما تشهد على ذلك استدامة العملية. ويُستثمَرُ هذا الإنسان بإشراكه في نظام هذه الشبكة؛ مما يدفعه إلى الظهور في شكل بيانات غير مبالٍ بنظام يتجاوزه ويعدله بشكل جذري. يبدو أنّ الأمر يعود إلينا في التنقّل لتحديد الوجهة التي نقصدها، حتى لو كانت البيئة التي نتحرك فيها تُسهم، مع انخفاض مستوى الضجيج، في تحييد إلحاح هذه المسألة.
Pierre Dulau, «Le trajet : le monde de la technique» ; dans : Une journée de philosophie, collectif.
[1]– خطوط النقل الإقليمية السريعة، معروفة اختصارًا باسم “RER” في فرنسا، وهي شبكة نقل عام واسعة النطاق تخدم باريس ومدنها، وتعد جزءًا من الشبكة الإقليمية المسماة ترانسيليان.
معنى
إضافة تعليق جديد