محمود درويش على محك النقد الأكاديمي الفرنسي
أُهرِق كثيرٌ من الحبر في نقد النقد بقطع النظر عن مقام نشره، وإن كان النقد في الصحافة المكتوبة اتُّهم بالسطحية والخفّة، فهو في الأكاديمية اتُّهم بالجفاف والتقصير عن مواكبة أحدث منشورات الإبداع (شعراً، روايةً، قصّةً، مسرحاً...). وكان من تبعات الحبر المهرَق هذا، أن عُدّ النقد مسؤولاً عن طيف من الأزمات: أزمة الشّعر، أزمة المسرح، ضعف اللغة، ركاكة التعبير، وغيرها من الأزمات التي تعبّر في حقيقتها عن ضعف القراءة أولاً وأخيراً. والظنّ أن ضعف القراءة هو لبّ المشكلة وجوهرها، لأنه أوّلاً ينطوي على معانٍ سلبية لا حصر لها، ولأنه ثانياً يمثّل الانعكاس الصادِق لمرآة الاستخفاف بالإبداع وبالنقد معاً، وهو ما يظهر أثره بصورة خاصّة على النقد، من خلال التهكّم عليه باستمرار.
وإن كان التهكّم على النقد الصحفي رائجاً ويسيراً تحفّ اللامسؤولية به، فإن التهكم على النقد الأكاديمي يُبطن رفضاً صريحاً للمعرفة، إذ ينطلق تهكمٌ مماثلٌ من تحميل النقد ما لا طاقة له عليه؛ كأنُ يُطلب من النقد الأكاديمي أن يكون ممتعاً ومسلياً ومراسِلاً ميدانياً لما تصدره دور النشر من كتب. أو أن يُطلب من النقد الصحفي تأدية دور الرقيب الموجِّه للإبداع، وذلك من خلال الترويج لوهمٍ يقول إن مهمّة النقد هي فرز الغثّ من السمين بشكلٍ يوميّ كي يتمّ ردع دور النشر عن إصدار كتبٍ لا تعجبنا. وفي كلا الحالين، يؤدّي التهكّم دوره الرئيس كمطلقٍ للتعميمات البليدة، وكجاهلٍ متميّزٍ بطبيعة النقد وماهية وظائفه التي تقوم أوّلاً على القراءة، فالتحليل، فالمقارنة، فالمعرفة.
وغالباً ما تَظهرُ وظائف النقد بصورةٍ جليةٍ وواضحة في الكُتُب الأكاديمية (التي نادراً ما تلتفتُ إليها دور النشر)، كذا هي حال الكتاب الذي صدر حديثا عن جامعة بوردو الثالثة في فرنسا (منشورات بوردو الجامعية، سلسلة العالم العَربي والعالم الإسلامي)، تحت عنوان (الشعريّة والسياسة : شعر محمود درويش). يمثّل الكتاب جهد طائفة من الباحثين العرب والمستعربين، الذين شاركوا بأعمال ندوةٍ علميةٍ نظّمها مركز الدراسات والبحث عن العالم العربي والإسلامي CERMAM، وأُقيمت في الجامعة بعد رحيل الشاعر (نيسان/ ابريل 2009).
ويبحث المحور الرئيس، الذي تنتظم حوله المشاركات العلميّة، في العلاقة بين الشعريّ والسياسيّ في شعر درويش. ولعلّها من أهمّ الإشكاليّات التي قسّمت النقد إلى اثنين: يتمّسك الأوّل بصورة شاعر المقاومة، مُنكِراً أو متجاهِلاً جهد درويش في صقل أسلوبه الشعريّ الفريد قصيدةً فقصيدة، والمستند بصورة جوهرية إلى تقنيات تلتزم بما هو جماليّ، من عناية بالصورة الشعريّة والاستعارة والمعاني الكبرى وغيرها من متطلّبات فنّ الشعر الرفيع. أمّا النقد الثاني، فيتمسّك بإنكار الأوّل على نحوٍ مجحفٍ، إذ هو يسمح، من حيث لا يدري، بنَزعِ تجليات الهوّية الفلسطينية عن شعر درويش، لكأنّ معنى شعره غائب عن الواقع، كذا تمّ الاحتفاء أحياناً بما يظهر من جماليّ في قصيدة ما، والتخفّف ممّا تبطنه من معانٍ تشي بفلسطينيتها. كما لو أنّ نقداً من هذا النوع يرفض اقتران فلسطين بالجمال.
من هنا، يغدو مديح الكتاب الذي بين أيدينا واجباً، إذ لعلّها من المرّات القليلة (فرنسياً على الأقلّ) التي تمّ فيها بسط إشكاليةٍ مماثلةٍ، ومعالجتها بأقلام نقّاد مختلفي المشارب والخلفيّات. ونظراً إلى ذلك، تتباين التحليلات بين ناقد وآخر، أو قلْ بين ناقد عربيّ وناقد مستعربٍ، فليس سرّاً أن المستعربين يعزفون غالباً عن المقاربات اللغوية التي تتطلّب معرفةً مكينةً بالنحو والعَروض والبلاغة، تجنباً للوقوع في أخطاءٍ معرفية، (الخلط بين الموزون وغير الموزون مثلاً). أمّا النقّاد العرب، فتبرز معرفتهم باللغة من خلالِ حساسيَة نقديّة في قراءة الشعر، حساسية تستحق التحية، كما في دراسة صبحي البستاني (أستاذ في المعهد الوطني للغات والدراسات الشرقية) المُعَنْوَنَة بـ شعر محمود درويش وسمو باليومي. إذ لعلّها من أجمل دراسات الكتاب وأكثرها متعةً. وكيف لا؟ وسليلُ البساتنة اللبنانيين ينجح في إضاءة جوانب جمالية لأكثر قصائد درويش شهرةً (إلى أمّي). فكيفَ يزيدُ الناقد شيئاً على قصيدةٍ يحفظها الملايين ويدركون معانيها؟ يزيدُ حين يستندُ إلى معرفة يرفدها حدسٌ نقديٌّ مرهفٌ، ليلاحظ أنّ : «ثمة ربطاً جريئاً بين كيانين متباعدين في العمق: الإلهي من جهة، وخصلة شعر الأمّ وخيط ثوبها من جهة أخرى: وشدّي وثاقي/ بخصلة شعرٍ / بخيط يلّوح / في ذيل ثوبك / عساني أصير إلهاً»، وليلفت الانتباه أبسط البسيط (حبل الغسيل) في القصيدة ذاته، وفي قصيدة (عاشق من فلسطين): «رأيتكِ عند باب الكهف..عند النار/ معلِّقةً على حبلِ الغسيل ثياب أيتامك»، حيثُ يؤدّي هذا التعبير اليوميّ دوراً جوهريّاً، في الكشف عن مأساة الشعب الفلسطيني، فهو أداة الأمّ، إن صح التعبير، لكنها تكشفُ عن أمّ فلسطينية أبناؤها يتامى. ويستمرّ الناقد في إضاءة فِعل اليوميّ البسيط في رفع قصيدة درويش نحو المعاني الإنسانية الكبرى، والسمو بفلسطين، عبر تحليله المبتكر والممتع لـ «تقنية درويش في خلق عالمٍ شعري واسعٍ وفائق الغنى وعميق الإيحاء، منفتحٍ على الجهات كلّها: سياسية، اجتماعية، عاطفية، وإنسانية، بالاستناد إلى اليومي والعادي المألوف.. ليغدو العادي تحت قلمه سامياً».
أمّا دراسة المصرية رانيا فتحي (جامعة القاهرة)، فتبحث في (الفنون الشعريّة لدى محمود درويش)، وهي من الدراسات القليلة التي تُعنى بالجانب الشكلي للقصيدة، حيث تنظر الباحثة في هندسة قصيدة درويش القائمة على نوعٍ من المتغيرات التي «تظهرُ تحديداً من خلال التسلسل المنطقي الذي يربط بين خاتمة فقرة ويهيئ مطلع التي تليها»، مبرّرةً بذلك علمياً كيف أن الانتقال من سطرٍ إلى آخر لدى درويش لا يعلّله البياض، بل اتحاد المبنى بالمعنى. وربما كان من الممكن صقل نتائج بحثها علميّاً أكثر لو أنها بحثت في أثر الجانب العَروضي في ابتكار درويش لأشكال شعريّة خاصّة به، أغنت الشّعر العربي الحديث وميّزت عمارته، فليس سرّاً أن درويش اعتنى بهندسة قصائده، ونجح في ابتكار أشكالٍ متعدّدة تستند إلى الوزن لكنّها تتجاوزه، عبر الاهتمام بإيقاع الجملة وعلاقته بالإيقاع العَروضي.
وتنظر الفرنسية ماري – هيلين أفريل هلال، في أندلسيات درويش، لتلاحظ حسيّة غرناطة وصورتها الأنثوية لكن تتقاطع فيها شخصيتان: أنثوية وذكورية «يحكّ جناح سنونوة/ نهد امرأة قي السرير، فتصرخ غرناطةُ جسدي/ ويضيّع شخص غزالته في البراري، فيصرخ غرناطةُ بلدي»، الأمرُ الذي يخلق صورةً فصورةً، واستعارةً فأخرى، أندلسَ درويش التي تمتح من التاريخ، تمتلك ماضيها بكلّ بهائه وتعقيداته وخسارته، وترنو إلى حاضرها، لتظهر فلسطين وتسمو كاستعارةٍ: «هل كانت الأندلس/ ههنا أم هناك؟ / على الأرض ... / أم في القصيدة؟».
ولا ينقص الدراسات الأخرى أهميةً أو فائدة أو امتاعاً (عزيز هلال / سيلان في شعر درويش، الهواري الغزّالي/ صورة المسيح في قصائد درويش، بتول جلبي فيلينتز / من «الأنا» الشعريّة إلى «نحن» السياسيّة؛ المسرحة في جدارية، فرانشيسكا كاراو/ الغياب مصدرٌ للصورة؛ عن الهوية لدى درويش، كاظم جهاد/ السياسيّ في القصيدة؛ درويش في قصائده الأولى)، فكلّ واحدة منها تضيء جانباً أو أكثر لما أدركه قارئ درويش بقلبه، لكنها تقنع عقله وتعمّق فهمه من خلالِ هذا النقد الأكاديمي الجاد، الذي لا تعوزه المتعة، بل تفيض منه نظراً إلى سببين: المعرفة تمتّع من يقرأ بعمق ويحلّل، وشعر درويش صنو الجمال الصافي الرفيع، ولا جديد إذ نقول طوبى لروح الأمير الكريم.
ديمة الشكر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد