كتّاب وشعراء عرب يردون على أدونيس في حواره مع "الحياة"
كالعادة ومع كل حوار يجرى مع أدونيس يثار الكثير من الغبار ويشتعل السجال بين الشعراء والمثقفين حول أحكامه وآرائه وتقييمه لسابقيه ومجايليه والتالين له من السياسيين والشعراء العرب. ولعل ذلك يرجع إلى جرأة أدونيس وامتلاكه بالقطع لما يقوله ويضيفه من رأي وقارن أدونيس، في حواره مع الشاعر عبده وازن، بين الكتابة المغاربية والكتابة المشرقيّة مقارنةَ ناقدٍ استقرأ خصائص الكتابتين واطّلع على أهمّ الأسئلة التي تنطويان عليها.
وبالطبع لكل شاعر الحق في أن يكون له رأي في شعرية هذا أو ذاك، وموقف مما يكتبه ونظرة نقدية الى نصوص الآخرين. لكنّ ما قاله أدونيس يشعِر بأنه تجاوز هذا الحد، تجاوز تقديم رأي خاص به في شاعر آخر إلى نوع من المحاكمة لحساسية شعرية مختلفة عنه، شعرية لم تذهب في الاتجاه الذي ذهب إليه أدونيس، أو لم تسقط بوعي كبير في ما سقط فيه المقلدون والذين ساروا في طريق المحاكاة أكثر مما راهنوا على سبل أخرى في الكتابة الشعرية المغايرة.
أهكذا ينكر شعراء الحداثة العربية؟
كالعادة ومع كل حوار يجرى مع أدونيس يثار الكثير من الغبار ويشتعل السجال بين الشعراء والمثقفين حول أحكامه وآرائه وتقييمه لسابقيه ومجايليه والتالين له من السياسيين والشعراء العرب. ولعل ذلك يرجع إلى جرأة أدونيس وامتلاكه بالقطع لما يقوله ويضيفه من رأي، وليس كما يقول أحد أصدقائي من الشعراء الموتورين من أنه مثل الممثلين المتقدّمين في العمر لا يستطيعون الابتعاد عن الأضواء، حتى إذا ما انحسرت عنهم سارعوا هم إلى افتعال الإثارة حتى تلتفت إليهم الميكروفونات والكاميرات وصفحات الصحف التي باتت تراهم خارج الفعل والتأثير.
صديقي الشاعر الموتور، واجه أسئلتي على أجوبة أدونيس، باستحضار صورة البطريرك الطاعن في السن الذي تتهاوى السلطة من بين يديه في رائعة ماركيز «خريف البطريرك»، وكيف قضى لحظاته الأخيرة هائماً بين غرف قصره المهجور، هاتفاً بشعاره الخالد: «يعيش أنا ويموت ضحاياي»، وكلما نظر إلى مرآة من المرايا الكثيرة التي تملأ القصر، اعتقد بالخلود، ورأى لحظة ذهبية ماضية عندما كان قادراً على التنكيل بضحاياه ورسم الأعوان والمريدين ومسح الكهنة والوكلاء في الأمصار... لكني تجاهلت تلميحاته الحاقدة وبدأت في ترتيب أسئلتي لصاحب «مفرد بصيغة الجمع».
أول ملاحظاتي على أجوبة أدونيس تتعلق بموقفه من الفكر القومي، فقد سئل: هل سجنت بتهمة سياسية؟ فأجاب: «نعم. ولكن من دون جرم، إلا إذا كان يُعد انتمائي آنذاك إلى الحزب السوري القومي جرماً». وعندما سئل ثانية ألم تجذبك فكرة القومية العربية؟ أجاب: «لم تجذبني إطلاقاً». هذا في الوقت الذي قضى فيه ثلاثة عشر عاماً وهو عضو فاعل في الحزب القومي السوري كما كان شاعره الرسمي، ولعل قصيدته المشهورة «قالت الأرض» في نسختها الأولى في تقديم سعيد تقي الدين تكشف عمق هذا الالتزام الحزبي، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: «أكانت تلك الثلاثة عشر عاماً من فتوة أدونيس وشبابه في الحزب القومي السوري كذباً وادعاء واندراجاً كيفما اتفق تحت هذا الشعار أو ذاك، وتمجيداً للزعيم أو القائد الملهم أنطون سعادة، بحسب قصيدته الحزبية الموجهة: «قيل: كون يُبنى، فقلت: بلاد جُمعت كلّها فكانت «سعادة».
الملاحظة الثانية تتعلق بعلاقة أدونيس بالشعراء البارزين في جيله أو محيطه الزمني وفق قوسي «الظهور والإنكار»، إذ يعمد أدونيس إلى تشويه معظم الشعراء العرب الذين جايلوه تقريباً، سعدي يوسف مجرد متأثر باليوناني ريتسوس الذي كان لأدونيس أن يتعرّف إليه ويزوره في بيته في أثينا ويدهشنا كيف كان يكتب قصائده على أحجار مصقولة. توفيق صايغ الرائد الأول والأكثر إدهاشاً على صعيد قصيدة النثر، يصبح «حالة خاصة في كتابة الشعر نثراً. فهو، فنياً، لا يصدرُ عن جمالية اللغة العربية وشعريتها، بقدر ما يصدر عن جمالية اللغة الإنكليزية وشعريتها. وقد يسمح ذلك بالقول إن لغته الشعرية بِنيَةٌ إنكليزية بألفاظ عربية».
ومحمود درويش الشاعر المجيد فنياً ولغوياً وأحد الذين ساهموا فعلاً في الحفاظ على القصيدة على ألسنة العرب غير المثقفين فلسطينيين وغير فلسطينيين، مثلما استطاع اجتراح أسلوبية شعرية تقوم على البساطة العميقة والعذبة، تربط بين التراث والحاضر عبر جسر من العذوبة والغنائية والاختزالات العبقرية الشعبية، التي تستمد قوتها من استعمالاتها الدائمة الحاضرة وقدرة الفئات المختلفة على استقبالها في سياقها الدرويشي الغنائي والتراجيدي في الوقت نفسه، درويش يصبح شعره على لسان أدونيس: «شعره لا يصدر عن تجربة ذاتية اختراقية تساؤلية، وإنما يصدر بالأحرى، عن موقف ثقافي جمعي. فشعره، على هذا المستوى، كمثل حياته العامة شعر مصالحة. لم يُصارع في حياته أي نوع من أنواع الطغيان الذي تحفل به الحياة العربية، بل كان صديقاً لجميع الأنظمة، بدءاً من نظام صدام حسين. وكثيرٌ منها كان يستقبله بوصفه رمزاً شعرياً وطنياً، وكان يتقبّل أوسمتها. ولم يصارع في شعره كذلك أية مشكلة، صراعاً ذاتياً فنياً». أي ظلم فني ممن يعرف أكثر من غيره قيمة تجربة درويش، وأي رغبة في التنكيل والإزاحة تصل ذروتها في محاولة بائسة لتفسير الإجماع الذي يحظى به درويش من الشعراء والمثقفين والبسطاء باعتباره اصطناعاً يحسب ضده لا معه.»الإجماع يشهد، شعرياً، لا معه بل ضده. لسبب أساس: ليس في الفن، والشعر بخاصة، إجماع. كلّ إجماع على ما هو ذاتي يتم بعناصر ليست من داخله، بل من خارجه. يتم بتلفيق ما. كلُّ إجماعٍ اصطناع»، أي بؤس لجدل فارغ ينزع إلى ليّ أعناق المفاهيم برطانة لا أمامها ولا وراءها!
أمل دنقل الشاعر الذي استطاع أن يكون حلقة تطور أساسية بين جيل الرواد والشعراء الذين جاؤوا من بعده وتمكن من إعادة تعريف العلاقة بين الشعري والتراثي والأسطوري بعد أن أوصلها النمط الأدونيسي إلى أفق مسدود، والذي استطاع فتح القصيدة أمام إمكانات اللحظات الشخصية الصغيرة في حياة الشاعر، بعد أن كانت وقفاً على التهويمات والتداعيات اللغوية والعروضية، يصبح على لسان أدونيس : «الرؤية التي تقود هذا المُنجز كانت غالباً وظيفية – سياسية.
وهذا مما جعل شعره وصفاً للواقع يهجس بإصلاحه أو تغييره، أي جعل منه إعادة لإنتاج الواقع بعناصره ذاتها، ولكن مهذبة، مُنقحة». وقد تجاهل أدونيس أعمالاً بارزة الأصالة مثل «العهد الآتي»، و «أوراق الغرفة8». العجيب أن كل الأسماء التي جحدها أدونيس وأنكرها محاولاً استخدام عدته «المفاهيمية» واللغوية لتشويهها، ظهرت على منجزه وحضوره، وباتت الأقرب إلى وجدان أو ذائقة أجيال طالعة، تحكمها عمليات معقدة من التصفية والفرز تقوم بها الذائقة الجمعية، فتطمس مالا يكمل الوجدان الجمعي وتحفظ ما يعمل على إغنائه.
كلما أوغل أدونيس في إنكار الشعراء الأبقى، تراجع منجزه الشعري في أذهان الأجيال الطالعة من الشعراء والمثقفين، في جدلية من الظهور والإنكار يظل أدونيس طرفاً فيها وتستحق حيزاً واستبصاراً منفصلاً، مثلما الحال مع الأسماء الكثيرة التي لم يطرح عليها عباءته وظله: وديع سعادة، سركون بولص، محمد صالح، أمجد ناصر، بسام حجار، سيف الرحبي، منذر مصري وغيرهم. أما الملاحظة الأخيرة في هذه العجالة فهي تتعلق بنظرة أدونيس غير المحيطة بقوس الحداثة المصري وتحولاتها العارمة على الصعيد الإبداعي خلال العقدين الأخيرين، عندما انطلقت أشكال من القول الشعري والنثري تمثل قطيعة مع كل ما هو غائم وتهويمي في طريقة القول، مثلما تمثل قطيعة مع كل ما هو ظاهري زخرفي قشري في العلاقة مع اللغة أداة الوعي والقول، وهي في ذلك تقيم جسورها مع أشكال من الفنون البصرية والحركية والسماعية لتشكل خريطة مختلفة للإبداع الحداثي المتقدم، تصل ما تقطّع في أربعينات القرن الماضي الزاهية على أيدي رواد مثل بدر الديب وبشر فارس وإبراهيم شكرالله. وبينما يفتقد أدونيس الإحاطة بهذا القوس الحداثي ذي السمات الخاصة بين الحداثات العربية، يطلق أحكاما نهائية بصددها، ويصنف أعلامها والبارزين فيها، من دون سند إلا صداقاته لبعض الكتاب والفنانين التابعين.
حوارات أدونيس الخمسة في «الحياة» تستحق قراءة موسعة، انطلاقاً من عبارته المفتاحية «أعتقد أنني لم أُقرأ حتى الآن القراءة اللازمة خارج السياق الثقافي السائد. في حين أنني يجب أن أُقرأ عكسياً».
كريم عبد السلام
«مهيار» الدمشقي أمام الثقافة المغاربيّة
قارن أدونيس، في حواره مع الشاعر عبده وازن، بين الكتابة المغاربية والكتابة المشرقيّة مقارنةَ ناقدٍ استقرأ خصائص الكتابتين واطّلع على أهمّ الأسئلة التي تنطويان عليها.
ومن دون مواربة، أقرّ أدونيس بإسهام الكتابة المغاربيّة في تحديث الثقافة العربيّة، وإرهاف أدواتها الفكريّة والإبداعيّة، بل جنح، في بعض الأحيان، إلى توكيد تفوّق هذه الكتابة، في بعض المجالات، على أختها المشرقيّة.
وقد لا نجانب الصّواب إذا قلنا إنّ أدونيس هو أوّل شاعر كبير يتحدّث عن الأدب المغاربيّ بكلّ هذا الحبّ، بكلّ هذا الاطّلاع، بكلّ هذا الاعتراف.
لكن إقرارنا بقيمة هذا الحوار لا يحول دون تقديم بعض الملاحظات تستدرك على بعض ما جاء فيه، بل ربّما تكمن قيمة هذا الحوار في الأسئلة التي يثيرها لا في الأجوبة التي ينطوي عليها - هذا إذا أقرينا بوجود أجوبة ينطوي عليها هذا الحوار. وقبل إبداء ملاحظاتنا نحبّ أن نستعرض أهمّ أراء أدونيس التي جاءت في هذا الحوار.
ينفي الشاعر منذ انعطافه على الثقافة المغاربيّة وجود وحدة شعريّة تجمع بين مختلف الأقطار المغاربيّة «فما يكتب في تونس مثلاً يتميّز عمّا يكتب في المغرب والجزائر، فهو الأكْثَرُ قرباً إلى اللّغة المشرقيّة، وما كتب ويكتب باللّغة الفرنسيّة يختلف كليّا عمّا يكتب بهذه اللّغة في لبنان» غير أنّ أدونيس سرعان ما يستدرك ليقول «إنّ الكتابة المغاربيّة باللغة الفرنسيّة أكثر قوّة منها باللغة العربيّة» ثمّ يضيف «لا نجد في الدّول المغاربية حتّى الآن روائيين أو شعراء باللّغة العربيّة في مستوى كتّابِها باللغة الفرنسيّة، كاتب ياسين، محمد ديب أو رشيد بوجدرة أو ياسمينة خضره أو آسيا جبّار أو محمد خير الدّين أو عبدالكبير الخطيبي». ثمّ يلتفت من جديد إلى الشّعر المغاربي المكتوب باللّغة العربيّة ليقارن بينه وبين الشعر المشرقيّ فيقول «الشعر المغاربيّ باللّغة العربيّة، وأعني شعر الأجيال الرّاهنة الشّابة، أعمق دلالة وأقلّ هجساً بالذّاتيّة (وهما مزيتان) من شعر الأجيال الرّاهنة في المشرق العربي»، لكن الثقافة المغاربيّة ليست ثقافة شعريّة فحسب بل هي ثقافة فكريّة «فالفكر في المغرب متمثّلاً في محمد أركون وعبداللّه العروي وهشام جعيّط تمثيلاً لا حصراً أكثر غنًى وعمقاً من المشرق العربيّ».
لكنّ الإبداعيّة المغاربيّة تتجلّى أقوى ما تتجلّى، في نظر أدونيس، في الفنون التشكيليّة، وفي هذا السياق يتساءل «ما يكون في هذه الظّاهرة دور التوتّرات والصّراعات اللّاواعية والواعية التي تعيشها لغات المغرب العربي غير التشكيليّة: العربيّة الفصحى، العربيّة الدّارجة، الأمازيغيّة، اللّغة الفرنسيّة».
تلك هي الآراء التي تضمّنها حوار أدونيس حول الثقافة المغاربيّة وهي، على أهميتها، وربّما لأهميّتها تستدعي منّا الملاحظات الآتية:
1- ثمّة، في الحوار احتفاء كبير بالأدب المكتوب بالفرنسيّة في المغرب العربي وأخاف أن يكون أدونيس قد صدر في آرائه ومواقفه عن اعتقاد خاطئ ما زال يستبدّ بعقول بعض المثقّفين في المشرق العربي وهو أنّ المنطقة المغاربيّة «منطقة فرنكفونيّة» وأنّ أدبها الحقيقيّ لم يكتب باللّغة العربيّة وإنّما كتب باللّغة الفرنسيّة. ففي قوله «إنّنا لا نجد في الدّول المغاربية حتّى الآن روائيين وشعراء باللّغة العربيّة في مستوى كتابها باللّغة الفرنسيّة» تعميم مخلّ لا يقرّه واقع الثقافة المغاربيّة.
لا أريد، في هذا السياق، أن أقارع أسماء بأسماء. (الأسماء التي ذكرها أدونيس بأسماء أدباء ومبدعين مغاربيّين يكتبون باللّغة العربيّة) كما لا أريد أن أقارع نصوصاً بنصوص ولكنّني أكتفي بالقول إنّ الأدباء المغاربيّين المعاصرين أنجزوا أعمالاً إبداعيّة باللّغة العربيّة لا تقلّ بهاء وغنى عن الأعمال التي أنجزها الأدباء المعاصرون الذين يكتبون باللّغة الفرنسيّة.
2- نحن لا ننكر أهميّة الأدب المغاربي المكتوب باللّغة الفرنسيّة ولا «قوّته» على حدّ عبارة أدونيس، لكنّ هذا الأدب، بات ينتمي، في مجمله، إلى مرحلة تاريخيّة آفلة أو هي بصدد الأفول - ما يمثّل اللّحظة الرّاهنة، ويفصح عن عميق أسئلتها هو الأدب المكتوب باللّغة العربيّة. ويكفي أن يتأمّل أدونيس المشهد الثقافي المغاربي حتّى يقف على تقهقر الأدب المكتوب بالفرنسيّة وتراجعه. أسباب عديدة تسوّغ هذا التراجع وذلك التقهقر بعضها سيّاسي/ اجتماعي/ وبعضها ثقافيّ تعليمي...
3- إنّه لأمر ذو دلالة أن يتحوّل الكثير من الأدباء والمفكريّن المغاربيّين من الكتابة باللغة الفرنسيّة إلى الكتابة باللغة العربيّة، وأن تظلّ كتاباتهم مع ذلك لافتة وقويّة من بين هؤلاء نذكر: عبدالفتّاح كليطو، هشام جعيّط، عبداللّه العروي.
4- إذا جاز لنا أن نتحدّث عن الظاهرة الإبداعيّة المغاربيّة بشكلها الأكثر خصوصيّة على حدّ تعبير أدونيس فينبغي في اعتقادي الحديث عن الظاهرة المسرحيّة.
فالمسرح في البلاد المغاربيّة بعامّة، وفي تونس على وجه الخصوص، فتح آفاقاً جديدة في اللغة المسرحيّة العربيّة وأنجز خطاباً دراميّاً حديثاً في أدواته وفي أسئلته وفي رؤاه.
هذه بعض الملاحظات أردنا أن نبديها لا لاستدراك ما جاء في هذا الحوار، لكنّ هذا الاستدراك لا ينبغي أن يحجب عنّا قيمته فهو من قبيل الحوارات التي تضيء وتثير: تضيء جوانب من شخصيّة أدونيس وأدبه، وتثير المزيد من الحيرة، المزيد من الأسئلة.
محمد الغزي
الشاعر متقمصاً شخصية الأب المتعالي
رأت باستمتاع كبير الحلقات الخمس من الحوار الذي أجراه الشاعر والصحافي عبده وازن مع الشاعر الكبير أدونيس، ومع ذلك لم يمنعني الاستمتاع من الامتعاض في بعض الأحيان أو من التساؤل في أحيان أخرى عن جدوى بعض المواقف والآراء التي أدلى بها شاعرنا الكبير في صدد بعض الشخصيات الشعرية والأدبية، وبالخصوص ما قاله عن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.
وبالطبع لكل شاعر الحق في أن يكون له رأي في شعرية هذا أو ذاك، وموقف مما يكتبه ونظرة نقدية الى نصوص الآخرين. لكنّ ما قاله أدونيس جعلني أشعر أنه تجاوز هذا الحد، تجاوز تقديم رأي خاص به في شاعر آخر إلى نوع من المحاكمة لحساسية شعرية مختلفة عنه، شعرية لم تذهب في الاتجاه الذي ذهب إليه أدونيس، أو لم تسقط بوعي كبير في ما سقط فيه المقلدون والذين ساروا في طريق المحاكاة أكثر مما راهنوا على سبل أخرى في الكتابة الشعرية المغايرة.
لم يختر محمود درويش طريق أدونيس، أي طريق مجلة «شعر» التي كانت تراهن على نوع واحد من الحداثة الشعرية العربية، أو على توجه معين في تحديث الشعر العربي، واختار رهاناً آخر، طريقاً مختلفاً، لا أحد في مقدوره اليوم أن يقول عنه إنه طريق خاطئ لأنه أعطى تجربة أخرى، أو لنقل حساسية مختلفة في فسيفساء الحداثة العربية. وبالتالي تمكن درويش مثلما تمكن آخرون من شق طرق متعددة وتعبيد سبل أخرى لهذه الشعرية لئلا تسقط الحداثة في مركزية الواحد الشعري، في سلطة الخيار الواحد، خيار القصيدة الحداثية المغلقة على نفسها، أو التي تعيش فقط داخل التجربة الشعرية ذاتها وليس خارجها فقط، أي الشعر كلوحة متنوعة فيها ما يطرب الأذن وما يفتح الرؤية على مداها الواسع، واللغة على خياراتها المتعددة والمختلفة.
وإننا إذ حاولنا أن نقارن التجربة الشعرية لبعض شعراء الحداثة العربية بتجارب شعرية أخرى من فضاءات ثقافية مغايرة لنا، فيمكننا أن نجد هذا التنوع الثري والمتعدد والذي هو مكسب لها بالفعل. وكقارئ لا غير، قارئ يحب الشعر، ويدافع عنه، ويعتبره ميراثه الروحي العميق، أعتقد بأنني إذ أن لكل شاعر سواء كان أدونيس أم درويش، خصوصيته التي لا تلغي فرادة الآخر وأهميته وقيمته الشعرية. ولعلي هنا أسمح لنفسي بأن أقول بأن ما أثار امتعاضي هو انطلاق أدونيس من موقف استعلائي بعض الشيء يجعله يصدر تلك الأحكام كما لو كان يملك حقيقة الشعر نفسه، أو كما لو كان الأب الذي منه تنطلق الحقيقة وإليه تعود، ولم يسلم من أحكامه إلا القلة القليلة، فالكل محل نقد شرس ولا يرحم.
اختار الشاعر عبده وازن طريقة الحوار المباشر أي التي تجعله يفوز بأكبر قدر ممكن من الآراء والإجابة على لسان الشاعر أدونيس كما كان يمكنه أن يختار طريقاً آخر للحوار فيدخل الاعتراض والنقاش وبالتالي تكون ربما مواقف أدونيس نسبية بعض الشيء، لكن هذا خيار صحافي وليس كما ظهرت اطلاقية في معظمها. مواقف تقول نظرتها للشعر كما لو أنها النظرة الوحيدة والأخيرة، تلك النظرة التي تحتاج اليوم الى طرح أسئلة عليها، ولكن من منظور آخر وبصورة تخرج الشعر من أفق واحد، وتفسير أحادي، نحو ما يعتبر فسيفساء الشعر العربي الحديث.
ما قاله الشاعر الكبير أدونيس عن محمود درويش على أنه صديق كل الأنظمة، لا أدري أين أضعه هل في خانة النقد السلوكي والأخلاقي؟ وهنا نعرف جميعاً بأن كل شعرائنا متورطون في شكل أو آخر مع هذا النظام أو ذاك، أو أن ذلك هو نتاج تعقد السياق الثقافي العربي المعاصر الذي يجعل الثقافي غير معزول عن السياسي، أو متداخلاً معه في أكثر من طريق، في أكثر من صورة. وليس هنا مجال للتدليل على ذلك، ويكفي أن نقرأ ما كتبه الشاعر سعدي يوسف عن أدونيس في سياق آخر. وبالتالي يظهر لي أنها أحكام أخلاقية لا مبرر لها، قد لا يكون مصدرها الشعر والشاعرية،بل ما سماه وازن ذات يوم في إحدى مقالاته بالعداوة الأدبية.
يبقى الحوار مع ذلك مهماً على مستويات عدة، ويصلح كما قال شاعر مهم آخر هي أنسي الحاج، للتأريخ الأدبي للحداثة الشعرية العربية المعاصرة.
بشير مفتي
المصدر: الحياة
التعليقات
شكرا
إضافة تعليق جديد