مقاومة التكنوقراط 2: الأناركية

16-01-2022

مقاومة التكنوقراط 2: الأناركية

الأيهم صالح: الأناركية إيديولوجيا تحررية مثل الأغورية التي تحدثنا عنها في الحلقة الماضية من هذه السلسلة، واسمها يعني "حالة عدم وجود السلطة". الأناركية إيديولوجيا قديمة جدا، وترجع جذورها إلى فلاسفة اليونان القديمة وفلاسفة الصين القديمة. اختفت الأناركية من التاريخ مع ظهور الامبراطوريات الدينية، مثل امبراطورية الرومان والفرس والعرب، ثم عادت للظهور في عصر النهضة مع ضعف سلطة طبقة النبلاء وبداية تشكل البيروقراطية.

يعتبر الفرنسي إتيان بويسي (1530 ـ 1563) Étienne de La Boétie واضع أسس الأناركية الحديثة في كتابه العبودية الطوعية “Discours de la servitude volontaire” وهو منشور قصير تزداد قيمته الفكرية على مر الزمان بسبب خضوع الملايين من البشر للعبودية الطوعية. وفكرته الأساسية أنه لا فرق بين كل أشكال السلطة، فكلها تنتج أشخاصا يتسلطون وأشخاصا خاضعين بشكل طوعي للتسلط، ومجرد رفض الناس للخضوع سيسقط أي سلطة مهما كانت.

تطورت الأناركية باتجاهات متعددة خلال القرون الماضية، وظهرت عدة عقائد أناركية بعضها مازال مستمرا، وأشهر كتابها المعاصرين هو لاركن روز صاحب كتاب "الخرافة الأخطر The most dangerous superstition" الذي يعتبر أن فكرة حاجة البشر إلى السلطة هي أخطر خرافة تعشعش في عقول الناس.

تعلن الأناركية عداءها للسلطة وأجهزتها ومنفذيها، وتعتبر أن مجرد وجود السلطة هو تهديد بالعنف بحق الناس، والتخلص من هذا التهديد يتم بالتخلص من حكم البشر، أي بتحرير البشر من العبودية للسلطة. وهنا نجد الفرق الأساسي بين الأناركية والأغورية، فبينما تستند العقيدتان إلى نفس الأسس، نجد الأغورية أقل صدامية وتعمل على تقويض السلطة اقتصاديا بالتدريج، في حين لا تهاب العقائد الأناركية الصدام مع السلطة بجميع الطرق، بما فيها الصدام المسلح والحرب الاقتصادية.

تستند الأناركية، بجميع اتجاهاتها، إلى فكرة مسؤولية كل شخص عن حياته وأفعاله، وأن لا أحد مسؤول عن الآخرين، ولذلك فنظرة الأناركية للمجتمع متناقضة تماما مع نظرة التكنوقراط. التكنوقراط يريدون إدارة مركزية للعالم كله، في حين يريد الأناركيون أكبر مستوى من اللامركزية في إدارة العالم، بحيث يكون كل شخص مسؤولا عن إدارة حياته.

يطور الأناركيون فكرة اللامركزية والمسؤولية الفردية بكل الاتجاهات، فهناك أشخاص يطورونها باتجاه مسؤولية كل شخص عن إنتاج غذائه أو الطاقة التي يحتاجها أو عن أمنه، ويوفرون مساعدة لمن يرغب بتحقيق اكتفائه الذاتي من الغذاء أو الطاقة أو الأمن. ويشمل ذلك إنتاج الغذاء والطاقة وتحقيق الأمن بشكل فردي أو على شكل تعاونيات. وفي العالم تجارب متعددة لنجاح الأشخاص في تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولعل أبرزها تجربة مدينة شيران المكسيكية، ففي عام 2011 ثارت المدينة ضد سلطة المافيا المحمية من الشرطة والحكم المركزي، وطردت كل مؤسسات الحكومة المكسيكية ومازالت منذ ذلك الوقت تخضع لإدارة لامركزية بدون أي تدخل من الحكومة، وقد اعترفت الحكومة بذلك وأقر القضاء المكسيكي للمدينة حريتها في رفض الحكم المركزي. في هذه المدينة حاليا لا أحد يعرف من الحاكم، ولا أحد يفرض أي شيء على أحد، وجميع الناس مسلحون رغم أنك لا ترى أي سلاح ظاهر، ولذلك لا أحد يعتدي على أحد، فالجريمة فيها معدومة. ينظم سكان المدينة بنفسهم كل الخدمات، بما في ذلك تحديد من يدخل المدينة ومن يمنع من دخولها.

تستضيف مدينة أكابولكو المسكيكية أكبر مؤتمر سنوي للأناركية في العالم، ويعقد عادة في شباط من كل عام تحت اسم أناركوبولكو. يجذب المؤتمر عادة ناشطي الأناركية ومفكرين آخرين يرغبون بطرح أفكارهم على الأناركيين، بمن فيهم أشخاص يناصرون السلطة أو ينتمون إلى الطيف السياسي التقليدي، ويمكن مشاهدة بعض محاضرات السنوات السابقة في هذا المؤتمر هنا.

ينشط الأناركيون ضد التكنوقراط والبيروقراط في كل مكان بطرق مختلفة، وحسب ملاحظاتي أعتقد أن نشاط الأناركيين ينطلق من نشر الأفكار التحرريية والتعاون مع من يرغبون باعتناقها ومساعدتهم. في العالم أناركيون متخصصون في مساعدة من يرغب بإنشاء مزرعة خاصة به، ومن يرغب بإنشاء معمل أو منشأة خاصة، ومن يرغب بإنشاء سوق أناركية أو أغورية، ومن يرغب بتعلم الاعتماد على النفس في كل المجالات، وكمثال على ذلك أذكر مناهج التدريس المنزلي التي أعدها توم وودز وتستخدم من قبل الأمريكيين الراغبين بتدريس أولادهم في المنزل خارج نظام التعليم الحكومي.

يؤدي انتشار أفكار الاعتماد على الذات إلى إنشاء عدد من البنى الاقتصادية والاجتماعية المستقلة التي تتعاون بشكل لامركزي، مما يجعل التحكم بها وتوجيهها شبه مستحيل على التكنوقراط والبيروقراط. وتطور مقاومة مخطط التكنوقراط يعتمد على كثرة وتنوع هذه البنى في المجتمع وعلى حرص كل منها على حريته وقراره المستقل، وتعاونها مع بعضها في الدفاع عن حرية كل منها.

في حين يستطيع أي شخص أن يشارك في الاقتصاد الأغوري المقاوم، تستند المساهمة في اللامركزية التي يطرحها الأناركيون إلى قناعة تامة بالقانون الطبيعي ومبدأ عدم الاعتداء. الأناركيون يفعلون ما يفعلون لأنهم يؤمنون بحريتهم، ولا يكترثون بما يقوله قانون السلطة لأنهم لا يعترفون بالسلطة ولا بقانونها بل يخضعون للقانون الطبيعي، وهذا فرق مبدئي بين سلوكهم وسلوك أشخاص آخرين يفعلون نفس الشيء لأنه مسموح وفق قانون السلطة أو لأن السلطة لا تعترض عليه.

يمكنك أن تجد مؤسسات الأناركيين اللامركزية في كل مكان رغم أنها لا ترفع شعار الأناركية أو ربما تتبنى خطابا يستند إلى الفلسفة التحررية. بعض المحلات الصغيرة مؤسسات أناركية، وبعض المزارع الصغيرة مؤسسات أناركية، وبعض المعامل الصغيرة مؤسسات أناركية، وبعض مواقع الإنترنت الصغيرة مؤسسات أناركية. ودعم هذه المؤسسات أو التعاون معها يساهم في مقاومة مخطط التكنوقراط. إضافة لذلك، إنشاء مؤسسة صغيرة تقدم خدمة أو تنتج منتجا ينافس منتجات المؤسسات المنخرطة في مخطط التكنوقراط.

الأناركيون يعادون السلطة، ولكن للسلطة أعداء آخرين، وكثيرا ما يعتبر الناس أن كل أعداء السلطة أناركيون، وهذا تعميم خاطئ، فهناك أشخاص يرفضون السلطة لأنهم يرغبون بتدميرها، أو بإسقاط النظام، دون أي إيمان بالحرية الشخصية ودون أي اعتبار لمبدأ عدم الاعتداء. أنا أسمي هؤلاء "فوضويين" للتمييز بينهم وبين الأناركيين. الفوضويون لا يتورعون عن فعل أي شيء بهدف إسقاط السلطة، بما في ذلك ارتكاب مذابح لا ترتكبها السلطة، ولا هدف لهم إلا إسقاط السلطة وترك فراغ مكانها. نحن نعرف الفوضويين وشهدناهم خلال عمليات الفوضى الخلاقة المسماة بالربيع العربي، ويجب أن لا نخلط بينهم وبين الأناركيين الذي يعتنقون إيديولوجيا تستند إلى الفلسفة التحررية ومبدأ عدم الاعتداء.

إضافة لذلك، رفض الأناركيين للسلطة وقوانينها لا يعني رفض الخضوع لأي قانون، فالأناركية تستند إلى القانون الطبيعي وهو أحد مصادر التشريع المعتمدة في العالم كله، الأناركيون يرفضون القوانين التي لا تستند إلى القانون الطبيعي ومبدأ عدم الاعتداء، ومن الخطأ الخلط بينهم وبين الفوضويين الذين يرفضون كل أنواع القوانين.

تبدو الأناركية إيديولوجيا نخبوية، فهي تحتاج إلى مستوى من الثقافة والمعرفة لفهمها، وتحتاج إلى مستوى من الاستقلال المالي لممارستها. في الحلقة القادمة سأحدثكم عن إيديولوجيا تحررية يستطيع أي شخص أن يمارسها.

 

التعليقات

فيما بين عامي 2008 - 2011 نشر موقع الجمل 19 مقالة مترجمة حول الأناركية للكاتب مازن كم الماز ويمكن مراجعتها على أرشيف الجمل. الكلمات المفتاحية: الأناركية مازن كم الماز

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...