كتاب بمثابة مكتبة .. مراجعات في الفكر والسياسة
الجمل ـ د.نزار خليل العاني:
مقدمة : قرأت خلال السنتين السابقتين مجموعة كبيرة من الكتب الفكرية والأدبية ، وبعض السِيَر الذاتية للسياسيين ، والأخيرة أثيرة عندي منذ شبابي الأول ، وقرأت روايات ودواوين شعر منوعة ، لكتّابٍ سوريين وعرب وأجانب ، ولم أهمل سُبُل الاطّلاع على ما يستجد على ساحة العلوم والخيال العلمي ، وأضفتُ بهذه القراءات الكثير إلى محصولي المعرفي .
من الكثير الذي قرأت ، لم تسعفني ظروفي الصحية الخاصة للكتابة عن الكتب التي استحوذت على اهتمامي ، كما اعتدت بدافع هاجس تعميم المعرفة ونشر الثقافة ، ومن هذه الكتب كتاب ( تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل) للكاتب نبيل صالح ، الذي أعجبني لثراء ما جاء في طياته من مقولات وأطروحات وأفكار قابلة للعرض والتناول والنقاش .
الكتاب والمكان والزمان
بدعوة عامة من دار الشعب ودار التكوين بدمشق ، جرى حفل توقيع الكتاب مساء يوم الاثنين الخامس من حزيران 2023 في قاعة الأمويين بفندق الشام ، وتضمنت الدعوة ملاحظة هامة تقول حرفياً: يباع الكتاب بربع قيمته المالية ومجاناً للصحافيين دعماً للقراءة . وتلك الملاحظة لعمري سابقة في مناسبات توقيع الكتب .
لماذا هي سابقة ؟
لايخفى على أحد أن أسعار الكتب حلّقت إلى السماء السابعة ، ومن حسن حظي إنني دفعت عشرة آلاف ليرة ثمنا للكتاب في حفل التوقيع ، بسعر (ساندويشة) فلافل ، وأقل من سعر ( ساندويشة) شاورما ، لاتُسمنان ولا تُغنيان من جوع ، في حين ملأ الكتاب حياتي لثلاثة أشهر وأشبع عقلي بما لَذَّ وطاب من موائد المعرفة والترشيد، وكنتُ أنا الكاسب ، والخاسر من فاته الحضور ، على رغم أن قاعة الأمويين في فندق الشام على اتساعها، غصّت بحضور كثيف لم أشهد مثيلاً له في مناسبات مشابهة لتوقيع الكتب ، وفي يوم مشهود هو (الخامس من حزيران) ، الذي لم يكن اختياره مصادفة ، بل بتأمل وقصد !
والنجاح الذي أصاب الكتاب يتأكد من خلال ظهور طبعة ثانية منقحة له منذ أيام ، بغلاف مختلف ، بعد نفاد طبعته الأولى خلال تسعين يوماً ، ويشكل هذا دليلاً جديراً بالوقوف عنده !
ولا ينبع هذا الرضى من التطابق بين آراء الكاتب وآرائي ، ولكنه ينبع من الانبهار بسعة اطِّلاع المؤلف على المواضيع التي يتناولها ، ومرجعياتها الموثقة من كتب ومؤلفات وصحف ، وإعجابي بمنهج تبويب وترتيب الدراسات والأبحاث ، والموزعة على كل ما يهم السوري والعربي من قضايا فكرية واجتماعية وسياسية إشكالية - وأقصد بالإشكالية ، أنها موضع خلاف تقسم الناس إلى مجموعات وشرائح - ساهمت خلال ربع القرن الماضي في تمزيق الوعي العربي الجمعي وتمزيق الهوية ، وبعثرت جهود الأمة في تطويق الخسائر والهزائم المتلاحقة .
الكتاب من القطع الكبير ، ويتألف من 423 صفحة ، و34 مقالة مع مقدمة ، وحوالي مائة ألف كلمة ، استوفت تلبية الطلب الذي يحمله عنوان الكتاب ، بجناحيه المقصوصين : التحرير بكل أشكاله والمستقبل .
يُقلق الكاتب همٌ وطني عروبي صادق ، ويتمَسَّك بمكنوناته الذاتية الداخلية سؤالان جارحان وقاهران ، وهما :
ـ هل تحررت البلدان العربية فعلاً من الاستعمار القديم ؟
ـ وهل العرب يسكنون في الماضي ويغمضون أبصارهم عن النظر إلى المستقبل ؟
منذ أواسط القرن العشرين يهجس جميع العرب بهذين السؤالين ، وترتدي الإجابات طاقية الإخفاء ، وتؤكد الوقائع على الأرض ، أن المحن والمصائب تتكالب على الأمّة لجهلها بخفايا الأمور ، ما يستدعي إطلاق استغاثة للخروج من المأزق ، إذ لم يَفُت الوقت بعد ، في إجراء حوار عقلاني ، وفي بذل محاولات جادة لتشخيص الوهن والعلل والعثور على أدوية وعلاجات ، وهذا ما فعله نبيل صالح في نشره لهذا الكتاب ، والذي جاء في المكان والزمان المناسبين .
محاور الكتاب
استهوتني تجربة تلخيص الكتب منذ كنت في المرحلة الثانوية . في الصف الأول الثانوي طلب منا أستاذنا الشاعر عبد الباسط الصوفي تلخيص رواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنجواي . وطلب مني أستاذنا قراءتها أمام الطلاب لأنها أعجبته . وأول تلخيص منشور لكتاب في صحيفة سورية كان لكتاب ( الطريق إلى بئر سبع) عام 1964، للكاتبة إيثيل مانين . وخلال مسيرتي الإعلامية والثقافية لخصت عشرات الكتب . لا أذكر ذلك من باب التباهي ، لكن لأقول أن بعض الكتب يصعب تلخيصها ولو توفرت الخبرة . ومن هذه الكتب ، كتاب نبيل صالح ، موضوع مقالتي هذه .
هناك مئات الأفكار التي يتضمنها الكتاب ، وعددها أكبر بكثير من عدد المقالات ، لأن الكاتب لا يتقيد بعنوان المقالة المحدد ، بل يستطرد حسبما تقتضي الضرورة . وليس أمامي حيال هذا الطيف اللامحدود من المحاور سوى الركون إلى الأهم والتغافل عن الأقل أهمية .
على رأس الأولويات نذكر المحور المتعلق بمأساة الحرب السورية ، بكافة جوانبها الميدانية ونتائجها ، والكشف عن أسرارها الخفية ، وأطراف النزاع ومصالحهم ، وماتركته الحرب الطاحنة من آثار تدميرية وتخريبية . وليس في أسلوب التناول لهذه المأساة المحزنة كما ككل الحروب في تاريخ البشرية ، ما يستفز العصبيات ، بل تأتي اللغة مهادنة وهادئة ومعززة بالتوثيق قدر الإمكان ، وفي طيات التناول آمال مرجوة بتفاهم وطني يخرج سورية من محنتها .
وهذه الأولوية بتفصيلاتها التاريخية مبثوثة في أكثر من مقال ، في محاولة حثيثة للإمساك بحقيقة الحرب ، والكشف عن أجواء الغموض والدوافع والأهداف المباشرة وغير المباشرة لها ، القريبة والبعيدة .
أستطيع التخمين أن الحرب السورية ومقدماتها ونتائجها وظلالها كانت حاضرة حتى في المقالات التي تتحدث عن الجزائر ، أو تتناول نظرية الجدل التاريخي الدولتي والنهضة والسقوط ، وحتى لو كان الحديث عن الأصول والأمراض العثمانية التاريخية التقليدية والجديدة .
والمعنى من ذلك ، أن المسألة السورية تكمن في كواليس وخلفية الكتاب كمعيار معرفي ترتبط به سلسلة المراجعات ، وهذه التسمية من قبل المؤلف موفقة ، لأن المقصود منها إعادة النظر بمسائل قديمة وراهنة مستعصية على الإدراك .
مسرد بخواطر ملتبسة والموقف منها
في المرتبة الثانية على قائمة الأولويات ، يتربع محور مسألة الدين والسياسة ، ويالها من إشكالية حقيقية كلغم متفجر على خارطة التاريخ .
وسأذكر عناوين مختزلة لمقالات ولمراجعات المؤلف ، وكما جاءت في فهرس الكتاب :
• الدين والقومية ص 25 ،الإسلام العثماني ص47 ،القرآن السياسي ص87 ،الإسلام الشامي ص97 ، فشل الإسلام السياسي ص 103 ، تفخيخ الدين بالسياسة ص 117 ، معالجة التكفير بالتفكير ص 129، ما بعد الدين .. ما بعد العلمانية ص 141، تحرير الدين من السياسة ص 155، رسالة في اللاهوت والسياسة العربية ص165، مكافحة "المتحور السلفي" ص 181، الدين الابراهيمي الجديد ص 215 ، النفط والإسلام ص 227 ، خروج النسوية من القمقم السلفي ص 241 ، في الصراع بين أصوليِّي الديانات الإبراهيمية ص 297 .
وإذن ، هناك 15 مقالة من أصل 34 ، تدور حول الدين والسياسة ، أي حوالي 45% من مادة ومواضيع الكتاب .فهل يستحق الأمر كل ذلك ؟ بلى يستحق ..
إن عصرنا الكوني الحالي بدأ بالتنوير أو النهضة في أوروبا ، ولم يتحقق ذلك الأمر إلا بفصل الدين عن الدولة ، وهما كيانان متقابلان يستمدان حضورهما من منبعين مختلفين . الأول من الماورائيات والروحانيات والغيب ، والثاني من الواقع المادي المحسوس ، وأن الأول ثابت ، والثاني متغير .
وقد علمنا التاريخ ، وعلمتنا التجارب ، أن المنطق يقتضي ترك كل واحد منهما في حاله ، كي يكون طريق التقدم للمستقبل متاحاً .
ويختزل نبيل صالح موقفه الشخصي باعتماد الَعَلمانية طريقاً للخلاص مما نكابد من وهنٍ ومحن ، ويعرّف العَلمانية بفصل الدين عن الدولة ، وتكريس مذهب المواطنة ، ويرى في عكس ذلك توطئة لخروج العرب من التاريخ الحي ، والوقوع في فخ العقم الحضاري ، والذهاب إلى متاهة الأوهام !
وعالج المؤلف خلال مراجعته لمسألة الدين والسياسة عشرات القضايا الفرعية : الحرية ، التطرف ، الإرهاب ، الاستبداد ، الأحزاب ، الثقافة ، الطائفية والمذاهب ، الأقليات ، الهويات ، الغرب والشرق ، الفساد ، الجوع ، حرب العقائد …وغير ذلك مما يطفو على سطح أحداث العالم المتصدع والحافل بالأزمات البيئية والمناخية والجشع في الاستهلاك .
خاتمة
لكل قارئ أسبابه الخاصة فيما يعجبه أو لا يعجبه في كتاب . ومن جهتي تعجبني غزارة المعلومات والمعارف الجديدة ، على أن تكون موثقة ومسندة بالمراجع لكتاب متميزين ، وأن تكون لغة الكتاب جزلة وسلسة ، وأسلوب التعبير واضح وجلي ، والمنهج مترابط ومحكم .
وبالنسبة لي ، فقد توفرت كل هذه الأسباب النظرية في كتاب ( تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل ) وهناك اقتراحات ، وهناك أسئلة معلقة ، وخيراً أن الكاتب نبيل صالح قد أنجز ماعليه في المكان والزمان المناسبين ، وأخلى مسؤوليته حين وضع مراجعاته بين أيدينا ليحثنا على التفكير ، معه أو ضده ، وهذا الهدف هو أسمى ما يرغب فيه كاتب ، وخلاصة ما يطمح في الوصول إليه مطلق كتاب .
وبقي على القراء أن يتفاعلوا مع أطروحاته وأفكاره ويفعلوا ما عليهم ، لتتحقق عدالة الفعل ورد الفعل ، مع توصية مني بقراءة هذا العمل لأنه جذاب وغاية في الأهمية .
دمشق 11 أيلول 2023
التعليقات
سورية ظمانة! وليس كمثل فكر …
سورية ظمانة! وليس كمثل فكر نبيل صالح المنير من يبدو بمثله قادر إطفاء ظمئها! لا تسخيف بما كان ادلى من دلوهم رعيل كتاب ومفكري سورية من الرعيل الاسبق ولكنه ما عاد باكثره صالح للتطبيق في عالمنا المعقد اليوم وخاصة من بعد كوارث سورية الحالية من هجمة ظلامية وأقسام وتقسيم واحتلالات. الأستاذ نبيل صااح؛ شكرا على رسالتك التنويرية. على تضحباتك الجمة من أجل حمل رسالتك والعمل على نشرها حيث سورية والسوريون في تعطش لمغكر وفيلسوف ومنظر مفكر صاحب تجارب جمة تساعد إمكان مقدرتهم على استيعاب مفاعبل اللحظة .. ومتطلبات المستقبل.
بوركت وسلمت وقلمك ورسالتك أيها الكبير.. شكرا لك السوري الكبير .. شكرا لك نبيل صالح
إضافة تعليق جديد