كتاب بمثابة مكتبة .. مراجعات في الفكر والسياسة

11-09-2023

كتاب بمثابة مكتبة .. مراجعات في الفكر والسياسة

Image

الجمل ـ د.نزار خليل العاني:

مقدمة :  قرأت خلال السنتين السابقتين مجموعة كبيرة من الكتب الفكرية والأدبية ، وبعض السِيَر الذاتية للسياسيين ، والأخيرة أثيرة عندي منذ شبابي الأول ،  وقرأت روايات ودواوين شعر منوعة ، لكتّابٍ سوريين وعرب وأجانب ، ولم أهمل سُبُل الاطّلاع على ما يستجد على  ساحة العلوم والخيال العلمي ، وأضفتُ بهذه القراءات الكثير إلى محصولي المعرفي .
من الكثير الذي قرأت ، لم تسعفني ظروفي الصحية الخاصة للكتابة عن الكتب التي استحوذت على اهتمامي  ، كما اعتدت بدافع هاجس تعميم المعرفة ونشر الثقافة ، ومن هذه الكتب كتاب ( تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل) للكاتب نبيل صالح ، الذي أعجبني لثراء ما جاء في طياته من مقولات وأطروحات وأفكار قابلة للعرض والتناول والنقاش .

الكتاب والمكان والزمان
 بدعوة عامة من دار الشعب ودار التكوين بدمشق ، جرى حفل توقيع الكتاب مساء يوم الاثنين الخامس من حزيران 2023 في قاعة الأمويين بفندق الشام ، وتضمنت الدعوة ملاحظة هامة تقول حرفياً:  يباع الكتاب بربع قيمته المالية ومجاناً للصحافيين دعماً للقراءة . وتلك الملاحظة لعمري سابقة في مناسبات توقيع الكتب .

لماذا هي سابقة ؟
لايخفى على أحد أن أسعار الكتب حلّقت إلى السماء السابعة ، ومن حسن حظي إنني دفعت عشرة آلاف ليرة ثمنا للكتاب في حفل التوقيع ، بسعر (ساندويشة) فلافل ، وأقل من سعر ( ساندويشة) شاورما ، لاتُسمنان ولا تُغنيان من جوع ،  في حين ملأ الكتاب حياتي لثلاثة أشهر وأشبع عقلي  بما لَذَّ وطاب من موائد المعرفة والترشيد، وكنتُ أنا الكاسب ، والخاسر من فاته الحضور ، على رغم أن قاعة الأمويين في فندق الشام على اتساعها، غصّت بحضور كثيف لم أشهد مثيلاً له في مناسبات مشابهة لتوقيع الكتب ، وفي يوم مشهود هو (الخامس من حزيران) ، الذي لم يكن اختياره مصادفة ، بل بتأمل وقصد   !
والنجاح الذي أصاب الكتاب يتأكد من خلال ظهور طبعة ثانية منقحة له منذ أيام ، بغلاف مختلف ، بعد نفاد طبعته الأولى خلال تسعين يوماً ، ويشكل هذا دليلاً جديراً بالوقوف عنده !
ولا ينبع هذا الرضى من التطابق بين آراء الكاتب وآرائي ، ولكنه ينبع من الانبهار بسعة اطِّلاع المؤلف على المواضيع التي يتناولها ، ومرجعياتها الموثقة من كتب ومؤلفات وصحف ، وإعجابي بمنهج تبويب وترتيب الدراسات والأبحاث ، والموزعة على كل ما يهم السوري والعربي من قضايا فكرية واجتماعية وسياسية إشكالية - وأقصد بالإشكالية ، أنها موضع خلاف تقسم الناس إلى مجموعات وشرائح - ساهمت خلال ربع القرن الماضي في تمزيق الوعي العربي الجمعي وتمزيق الهوية ، وبعثرت جهود الأمة في تطويق الخسائر والهزائم المتلاحقة .
الكتاب من القطع الكبير ، ويتألف من 423 صفحة ، و34 مقالة مع مقدمة ، وحوالي مائة ألف كلمة ، استوفت تلبية الطلب الذي يحمله عنوان الكتاب ، بجناحيه المقصوصين : التحرير بكل أشكاله والمستقبل .
يُقلق الكاتب همٌ وطني عروبي صادق ، ويتمَسَّك بمكنوناته الذاتية الداخلية سؤالان جارحان وقاهران ، وهما :
ـ هل تحررت البلدان العربية فعلاً من الاستعمار القديم ؟
ـ وهل العرب يسكنون في الماضي ويغمضون أبصارهم عن النظر إلى المستقبل ؟
منذ أواسط القرن العشرين يهجس جميع العرب بهذين السؤالين ، وترتدي الإجابات طاقية الإخفاء ، وتؤكد الوقائع على الأرض ، أن المحن والمصائب تتكالب على الأمّة لجهلها بخفايا الأمور ، ما يستدعي إطلاق استغاثة للخروج من المأزق ، إذ لم يَفُت الوقت بعد ، في إجراء حوار عقلاني ، وفي بذل محاولات جادة لتشخيص الوهن والعلل والعثور على أدوية وعلاجات ، وهذا ما فعله نبيل صالح في نشره لهذا الكتاب ، والذي جاء في المكان والزمان المناسبين .

 محاور الكتاب
استهوتني تجربة تلخيص الكتب منذ كنت في المرحلة الثانوية . في الصف الأول الثانوي طلب منا أستاذنا الشاعر عبد الباسط الصوفي تلخيص رواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنجواي . وطلب مني أستاذنا قراءتها أمام الطلاب لأنها أعجبته . وأول تلخيص منشور لكتاب في صحيفة سورية كان لكتاب ( الطريق إلى بئر سبع) عام 1964، للكاتبة إيثيل مانين . وخلال مسيرتي الإعلامية والثقافية  لخصت عشرات الكتب . لا أذكر ذلك من باب التباهي ، لكن لأقول أن بعض الكتب يصعب تلخيصها ولو توفرت الخبرة . ومن هذه الكتب ، كتاب نبيل صالح ، موضوع مقالتي هذه .
هناك مئات الأفكار التي يتضمنها الكتاب ، وعددها أكبر بكثير من عدد المقالات ، لأن الكاتب لا يتقيد بعنوان المقالة المحدد ، بل يستطرد حسبما تقتضي الضرورة . وليس أمامي حيال هذا الطيف اللامحدود من المحاور سوى الركون إلى الأهم والتغافل عن الأقل أهمية .  
على رأس الأولويات نذكر المحور المتعلق بمأساة الحرب السورية ، بكافة جوانبها الميدانية ونتائجها ، والكشف عن أسرارها الخفية ، وأطراف النزاع ومصالحهم ، وماتركته الحرب الطاحنة من آثار تدميرية وتخريبية . وليس في أسلوب التناول لهذه المأساة المحزنة كما ككل الحروب في تاريخ البشرية ، ما يستفز العصبيات ، بل تأتي اللغة مهادنة وهادئة ومعززة بالتوثيق قدر الإمكان ، وفي طيات التناول آمال مرجوة بتفاهم وطني يخرج سورية من محنتها .
وهذه الأولوية بتفصيلاتها التاريخية مبثوثة في أكثر من مقال ، في محاولة حثيثة للإمساك بحقيقة الحرب ، والكشف عن أجواء الغموض والدوافع والأهداف المباشرة وغير المباشرة لها ، القريبة والبعيدة .
أستطيع التخمين أن الحرب السورية ومقدماتها ونتائجها وظلالها كانت حاضرة حتى في المقالات التي تتحدث عن الجزائر ، أو تتناول نظرية الجدل التاريخي الدولتي والنهضة والسقوط ، وحتى لو كان الحديث عن الأصول والأمراض العثمانية التاريخية التقليدية والجديدة .
والمعنى من ذلك ،  أن المسألة السورية تكمن في كواليس وخلفية الكتاب كمعيار معرفي ترتبط به سلسلة المراجعات ، وهذه التسمية من قبل المؤلف موفقة ، لأن المقصود منها إعادة النظر بمسائل قديمة وراهنة مستعصية على الإدراك .  

مسرد بخواطر ملتبسة والموقف منها
في المرتبة الثانية على قائمة الأولويات ، يتربع محور مسألة الدين والسياسة ، ويالها من إشكالية حقيقية كلغم متفجر على خارطة التاريخ .
وسأذكر عناوين مختزلة لمقالات ولمراجعات المؤلف ، وكما جاءت في فهرس الكتاب :
•    الدين والقومية ص 25 ،الإسلام العثماني ص47 ،القرآن السياسي ص87 ،الإسلام الشامي ص97 ، فشل الإسلام السياسي ص 103 ، تفخيخ الدين بالسياسة ص 117 ، معالجة التكفير بالتفكير ص 129، ما بعد الدين .. ما بعد العلمانية  ص 141، تحرير الدين من السياسة ص 155، رسالة في اللاهوت والسياسة العربية ص165، مكافحة "المتحور السلفي" ص 181، الدين الابراهيمي الجديد ص 215 ، النفط والإسلام ص 227 ، خروج النسوية من القمقم السلفي ص 241 ، في الصراع بين أصوليِّي الديانات الإبراهيمية ص 297 .
وإذن ، هناك 15 مقالة من أصل 34 ، تدور حول الدين والسياسة ، أي حوالي 45% من مادة ومواضيع الكتاب .فهل يستحق الأمر كل ذلك ؟ بلى يستحق ..
إن عصرنا الكوني الحالي بدأ بالتنوير أو النهضة في أوروبا ، ولم يتحقق ذلك الأمر إلا بفصل الدين عن الدولة ، وهما كيانان متقابلان يستمدان حضورهما من منبعين مختلفين . الأول من الماورائيات والروحانيات والغيب ، والثاني من الواقع المادي المحسوس ، وأن الأول ثابت ، والثاني متغير .
وقد علمنا التاريخ ، وعلمتنا التجارب ، أن المنطق يقتضي ترك كل واحد منهما في حاله ، كي يكون طريق التقدم للمستقبل متاحاً .
ويختزل نبيل صالح موقفه الشخصي باعتماد الَعَلمانية طريقاً للخلاص مما نكابد من وهنٍ ومحن ، ويعرّف العَلمانية  بفصل الدين عن الدولة ، وتكريس مذهب المواطنة ، ويرى في عكس ذلك توطئة لخروج العرب من التاريخ الحي ، والوقوع في فخ العقم الحضاري ، والذهاب إلى متاهة الأوهام !
وعالج المؤلف خلال مراجعته لمسألة الدين والسياسة عشرات القضايا الفرعية : الحرية ، التطرف ، الإرهاب ، الاستبداد ، الأحزاب ، الثقافة ، الطائفية والمذاهب ، الأقليات ، الهويات ، الغرب والشرق ، الفساد ، الجوع ، حرب العقائد …وغير ذلك مما يطفو على سطح أحداث العالم المتصدع والحافل بالأزمات البيئية والمناخية والجشع في الاستهلاك .

 خاتمة
لكل قارئ أسبابه الخاصة فيما يعجبه أو لا يعجبه في كتاب . ومن جهتي تعجبني غزارة المعلومات والمعارف الجديدة ، على أن تكون موثقة ومسندة بالمراجع لكتاب متميزين ، وأن تكون لغة الكتاب جزلة وسلسة ، وأسلوب التعبير واضح وجلي ، والمنهج مترابط ومحكم .
 وبالنسبة لي ، فقد توفرت كل هذه الأسباب النظرية في كتاب ( تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل ) وهناك اقتراحات ، وهناك أسئلة معلقة ، وخيراً أن الكاتب نبيل صالح قد أنجز ماعليه في المكان والزمان المناسبين ، وأخلى مسؤوليته حين وضع مراجعاته بين أيدينا ليحثنا على التفكير ، معه أو ضده ، وهذا الهدف هو أسمى ما يرغب فيه كاتب ، وخلاصة ما يطمح في الوصول إليه مطلق كتاب .
 وبقي على القراء أن يتفاعلوا مع أطروحاته وأفكاره ويفعلوا ما عليهم ، لتتحقق عدالة الفعل ورد الفعل ، مع توصية مني بقراءة هذا العمل لأنه جذاب وغاية في الأهمية  .

دمشق 11 أيلول 2023

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...