مقاومة التكنوقراط 4: التشاركية

22-01-2022

مقاومة التكنوقراط 4: التشاركية

تحدثت سابقا عن الأغورية والأناركية والحياة الخاصة كإيديولوجيات تعارض إيديولوجيا التكنوقراط الشمولية، وأغلب ردود الفعل التي أتتني عبرت عن الاهتمام والحاجة إلى التفكير في هذه الأفكار. إضافة لذلك جاءتني انتقادات بسبب تركيزي على الحلول والمبادرات الفردية، وعدم التطرق لأية حلول جماعية.

للأسف لا أجد أية حلول جماعية يمكن أن تحدث تأثيرا في مواجهة التكنوقراط، كما أنني لا أرى أي مستقبل للحرية عندما لا ينطلق الأفراد من إيمانهم بحريتهم الشخصية. من لا يؤمن بحريته الشخصية لا يمكن أن يكون حرا، وكل الدعوات الجماعية التي رفعت شعار الحرية سابقا انتهت باستعباد أو قتل الكثيرين ممن انتموا إليها وتبنوا الشعار معها. ورغم ذلك فقد بحثت عن الحلول الجماعية التي تطرح شعارات مستندة إلى القانون الطبيعي ومقالتي هذه تتحدث عن أفضل حل جماعي استطعت العثور عليه في بحثي.

أنا لا أعتقد أن من الممكن مواجهة التكنوقراط في النظام السياسي التقليدي، فهم يسيطرون على هذا النظام منذ عشرات السنين في كل مكان، كما لا أظن أن المظاهرات والاحتجاجات تعطي نتيجة عملية، فمشروع التكنوقراط يهدف إلى قمع الناس والسيطرة عليهم، وليس إلى الاستماع إلى طلباتهم وتنفيذها. ورغم ذلك فأنا لست ضد الأحزاب التي تطرح شعار مواجهة التكنوقراط، بل أشجعها وأدعمها دون أن أنتمي إليها، كما أنني لست ضد المظاهرات والاحتجاجات الجماعية، بل أشجعها وأدعمها وربما أشارك بها بطريقة ما. النشاط السياسي والاحتجاجات الجماهيرية مفيدة في نشر المعلومات وتنبيه الناس إلى خطر الشمولية الذي يهدد العالم حاليا، ولكنها ليست حلا استراتيجيا. لا يمكن أن نواجه الشمولية ضمن نفس النظام السياسي الذي أوجدها، وكل الطروحات التي تدعو إلى العودة إلى القوانين والدساتير والوضع الذي كان قائما ليست مفيدة لأنها لا تحل المشكلة الأساسية، مشكلة استعباد البشر من قبل السلطة.

هذه ليست فكرة نظرية، بل هي خلاصة التجارب التي اطلعت عليها، وأبرزها في هذا المجال تجربة مايكل تيلينجر. أعتقد أن مايكل تيلينجر Michael Tellinger أحد أكثر البشر انفتاحا على الأفكار الثورية، وإيمانا بقدرته على تغيير الواقع الذي يعيش فيه، وتجربته في مواجهة التكنوقراط في النظام السياسي، وعبر القضاء في جنوب افريقيا لم تعط أية نتيجة عملية، فالنظام مازال مستمرا، وحركة تالينجر فقدت شعبيتها في جنوب افريقيا وتحولت إلى حركة نخبوية تنتشر في العالم. وخلاصة تجربته أدت إلى إطلاق إيديولوجيا التشاركية بالصيغة التي نراها حاليا.

التشاركية Contributionism أو تشاركية أوبونتو Ubuntu Contributionism إيديولوجيا تستند إلى القانون الطبيعي أسسها تيلينجر ويقوم بتطويرها بشكل مستمر في جنوب افريقيا. يقول تيلينجر أن فكرة التشاركية هي استخدام أدوات استعباد البشر في تحريرهم، وأهم أداة هي المال.

تعتمد فكرة التشاركية على إنشاء جمعيات تجارية أو تعاونيات في البلدات الصغيرة يقدم فيها الناس وقتهم الفائض على شكل ثلاث ساعات من العمل أسبوعيا، وتستخدم التعاونية هذا الوقت الفائض كرأس مال وتستثمره لتحقيق مردود إضافي للمشتركين في التعاونية. يرى تالينجر أنه في مدينة صغيرة تبلغ قوتها العاملة 5000 شخصا، تقديم كل شخص ل 3 ساعات أسبوعيا ينتج 15000 ساعة عمل، أي ما يعادل إنتاج 375 عاملا وهي قوة جبارة وتقدر بثمن كبير في الحسابات الاقتصادية للمشاريع.

وبالنسبة للمشاركين في المشروع، ثلاث ساعات عمل إضافي مأجور في سوق العمل التقليدية تنتج مبلغا يسيرا، ولكن المشاركة بثلاث ساعات عمل في إنتاج 375 عاملا على مدى أسبوع تنتج مردودا أكبر بكثير إذا تم توجيه الاستثمار بشكل جيد.

أطلق تيلينجر فكرة "مدينة صغيرة مستقلة" أو “One small town” استنادا إلى إيديولوجيا تشاركية أوبونتو وبدأ بالعمل على تسويق الفكرة، ثم طبقها لأول مرة في بلدة كندية عام 2018، شهد إطلاق الفكرة لأول مرة اهتماما كبيرا من قبل الإعلام، ولكن التطبيق واجه مشاكل متعددة. يقول تيلينجر أن الفكرة مازالت تنتشر وأن لديها سفراء في دول متعددة وأن العديد من المدن وقعت معه اتفاقية تعاون، ويعد بإطلاق المشروع في عدة مدن خلال هذا العام بعد أن استغرق وقتا أطول لإعداد خطط العمل، وللاستفادة من دروس تجربة المشروع في كندا. ويبدو أن أول درس استفاد منه هو عدم إطلاق الحملة الإعلامية قبل أن يكون المشروع جاهزا تماما، ولذلك فهو لا يصرح عن المدن التي تتعاون معه، بل يكتفي بالتصريح عن أسماء سفراء فكرته في الدول، ومنهم مثلا سفيره في لبنان فايز مكرم الذي أعلن عن تعيينه يوم 21 تموز الماضي، رغم أن الصفحة المخصصة له لا تحوي معلومات اتصال به.

الصورة

هناك اختلافات متعددة بين التشاركية من جهة، وإيديولوجيات الأغورية والأناركية والحياة الخاصة من جهة أخرى. التشاركية فكرة خدمية تدعو سكان المدن للتشارك من أجل تحسين واقعهم، في حين أن الإيديولوجيات التي ذكرتها سابقا أفكار مبدئية، تدعو البشر لتبني فكرة حريتهم واستقلالهم، ثم العمل على هذا الأساس. والتشاركية فكرة جماعية تحتاج اتفاق آلاف البشر لنجاحها، في حين أن الإيديولوجيات الأخرى فردية ويستطيع أي شخص أن يتبناها بغض النظر عن مواقف جيرانه. بالمقابل، نجاح التشاركية في مدينة ما ينتج مستوى عاليا من التحرر، ولكنه قد لا يعني التحرر التام للبشر من العبودية للسلطة، في حين يعني النجاح في الإيديولوجيات الفردية التحرر التام من السلطة، ولكنه قد لا ينتج أكثر من البقاء على قيد الحياة حرا في مجتمع من عبيد السلطة.

من المبكر الحكم على تجربة المدن الصغيرة، رغم أنني لست متفائلا بمستقبلها، ولست معجبا بطريقة إدارتها، إلا أنني أعتقد أن من الواجب دعمها ودعم كل المشاريع التي تستند إلى فلسفة القانون الطبيعي، وكل المشاريع التي تطرح اللامركزية كاستراتيجية لمواجهة الشمولية والحوكمة الشاملة.

في الختام أود أن ألفت الانتباه إلى مشروع الولاية الحرة Free State Project، وهو مشروع أطلقه ناشطون تحرريون في أمريكا ويهدف إلى استقطاب عشرين ألف أسرة للاستقرار في نفس الولاية ثم استخدام قوانين الولاية للسيطرة عليها وتحويلها إلى ولاية حرة. المشروع قيد التنفيذ حاليا، وهناك آلاف الأسر التي انتقلت إلى ولاية نيو هامبشاير واستقرت فيها بهدف تحويلها إلى ولاية حرة، ولكن تأثيرهم مازال محدودا جدا.

الأيهم صالح

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...