التكنوقراط 1: الحوكمة الشاملة

29-12-2021

التكنوقراط 1: الحوكمة الشاملة

الأيهم صالح: نشر جون بيركينز عام 2004 كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي" الذي يوثق فيه تكتيكات البنك الدولي في السيطرة على الدول وإخضاعها للاحتكارات الكبرى. عندما ظهر الكتاب كان دور البنك الدولي قد انتهى فعليا، فقد خضعت أغلب دول العالم منذ تسعينات القرن العشرين، وتم تدمير استقلالها عبر إغراق حكوماتها بالديون التي تلتزم الشعوب بتسديدها مع فوائدها للبنك الدولي ومموليه. وبقيت مجموعة قليلة من الدول المارقة تم استهدافها بالتقنيات التي طورها خبير المخابرات المركزية جين شارب، وهي ما عرف عمليا بعمليات الثورات الملونة. تم تنفيذ هذه العمليات على شكل موجتين، الموجة الأولى بدأت بإسقاط رومانيا ويوغسلافيا، واستمرت في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، والمرحلة الثانية بدأت في إيران وفنزويلا واستمرت في عمليات الربيع العربي. وقد نشرت سابقا مجموعة من الوثائق حول هذه العمليات تجدونها في سلسلة أساطير الربيع العربي وسلسلة الأوتبوريين على موقعي.

في بداية القرن الحالي كانت أغلب دول العالم تحت سيطرة البنك الدولي ومموليه، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل السيطرة على الدول سميت وقتها النظام العالمي الجديد. لعل أهم وثيقة عن إطلاق هذه المرحلة كانت دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية في شباط عام 2000 بعنوان "الشراكة العامة الخاصة الشاملة Global public-private partnership" (يمكن تنزيلها من هنا) تقول خلاصتها أن حكومات العالم لا تملك لا الخبرة ولا الموارد الكافية لإدارة الدول، ولذلك فهي تحتاج إلى شراكات مع الشركات الكبرى ومع منظمات الأمم المتحدة والمنظمات العالمية غير الحكومية، ولكي تلعب الأمم المتحدة ومؤسساتها دورها المطلوب فهي بحاجة لتمويل من المنظمات العالمية غير الحكومية.

Image
Iain Davis
إيان ديفيس

يوثق الباحث إيان ديفيس في سلسلة من المقالات على موقعه (هنا وهنا وهنا) نشوء وتطور هذه الفكرة ووثائقها الأساسية كما يقدم نموذجا مميزا لطريقة تنفيذها، ومقالتي هذه تستفيد بشكل مكثف من كتابات ديفيز.

يقول ديفيس أنه وفق مبدأ السيادة في القانون الدولي، وهو مبدأ متفق عليه منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648، لا يحق لأية دولة أن تتدخل في شؤون أية دولة أخرى، وأن أية قوانين تسنها أية دولة لا يمكن أن تطبق في أية دولة أخرى. ويضيف أن فكرة الشراكة العامة الخاصة الشاملة تقدم نموذجا جديدا في الحوكمة Governance تبنته الأمم المتحدة وأسمته الحوكمة الشاملة Global Governance، وبواسطته تستطيع الأمم المتحدة أن تتدخل في شؤون الدول وتفرض سياسات محددة عليها بحيث تجبر الدول على تبني هذه السياسات عبر تحويلها إلى قوانين محلية.

يستند ديفيس إلى كتابات كلاوس شواب Klaus Schwab، وهو مؤسس ومدير المنتدى الاقتصادي العالمي World Economic Forum ليقدم نموذجا لعملية التحكم بالدول التي تنفذ حاليا تحت شعار الحوكمة الشاملة، وهذا النموذج يأتي على شكل خمس طبقات.

  1. طبقة صانعي السياسات: وفي أعلاها نجد بنك التسوية الدولية BIS ومجموعة من كبار البنوك المركزية في العالم، والمؤسسات الدائرة في فلكهم مثل المنتدى الاقتصادي العالمي، نادي روما، مجلس العلاقات الخاريجة الأمريكي، وغيرها. يقوم هؤلاء بصياغة السياسات في نظام الحوكمة الشاملة.

  2. طبقة موزعي السياسات: تشمل الأمم المتحدة ومجموعة من المؤسسات التي تدور في فلكها، مثل المجلس العالمي لتغير المناخ ومنظمة الصحة العالمية، وتشمل أيضا الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات غير الحكومية الكبرى في العالم. في هذه الطبقة يتم تلقي السياسات التي تصاغ من قبل صناع السياسات، وإكسابها صفة رسمية ثم توزيعها على المؤسسات المعنية بتنفيذ هذه السياسات.

  3. طبقة منفذي السياسات: في هذه الطبقة تجد الحكومات المحلية، وتجد أيضا مجموعة من المؤسسات الخاصة الكبرى، والمؤسسات العلمية. هذه الطبقة تتلقى السياسات وتقوم بتحويلها إلى تعليمات تنفيذية، فمثلا تقوم وزارات الصحة في دول العالم بتحويل سياسات منظمة الصحة العالمية إلى قوانين وتشريعات وأوامر تنفيذية، وتقوم المؤسسات العلمية المعنية بمجال الصحة بتنظيم عمليات التنفيذ ووضع الأسس العلمية وتصميم أدوات القياس وكل ما يساعد نجاح تنفيذ السياسات.

  4. طبقة مسوقي السياسات: هنا تجد الشركات الإعلامية والتقنية الكبرى، والشبكات الاجتماعية، وتجد أيضا بعض المنظمات المتخصصة في تسويق أنواع محددة من السياسات، مثل منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات حماية البيئة. في هذه الطبقة يتم تسويق السياسات عبر الضغط على الحكومات لقوننتها، وعبر إقناع الناس بتبنيها والالتزام بها.

  5. طبقة موضوع السياسات: وهنا تجد الناس العادين ومؤسستاتهم كالشركات الصغيرة والأحزاب السياسية والحكومات المحلية ، وهم الأشخاص الذين يفرض عليهم الالتزام بالسياسات التي تصاغ في الطبقة الأولى.

Image
الحوكمة الشاملة
نموذج الحوكمة الشاملة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وفق نظام الحوكمة الشاملة، تصبح الحكومات مسؤولة عن سن القوانين التي تصيغها مؤسسات الحوكمة الشاملة مما يجعل هذه المؤسسات مصدر السلطة في كل دولة رغم أن الدساتير المحلية في كل مكان تقول أن الشعب هو مصدر السلطة وأن القوانين تصدر باسم الشعب. وهكذا تصبح القوانين التي تسنها الحكومات وسيلة إخضاع الشعب للإملاءات الخارجية التي تفرضها الحوكمة الشاملة.

يستند ديفيس في توثيقه إلى مجموعة من الوثائق المنشورة للعموم، ويلفت الانتباه إلى مستند صدر عام 2010 عن المنتدى الاقتصادي العالمي وشاركت في صياغته حكومة قطر (اقرؤوه هنا) يتحدث عن إنشاء مجموعة من المجالس العالمية لإدارة عملية اقتراح السياسات، وبعد تنقية هذا المستند من بروباغاندا التنمية المستدامة وحماية الأطفال والقضاء على الفقر والجوع وما يشبه ذلك، تجد مهام هذه المجالس واضحة تماما، فهي مسؤولة عن تحديد الثغرات بين السياسات العالمية والقوانين المحلية، واقتراح "تطويرات" لها. ويورد المستند بعض الاقتراحات في كل مجال، ففي مجال التربية والتعليم مثلا يقترح المستند إعادة تصميم هيكلية النظم التعليمية بمشاركة عدد من المؤسسات بينها البنك الدولي، وزارتا التنمية الدولية في بريطانيا وهولندا، وعدد من المنظمات غير الحكومية. ويقترح أيضا أن يساهم المنتدى الاقتصادي العالمي في تقييم مستوى خريجي النظم التعليمية.

على مدى 604 صفحات يشرح هذا المستند اقتراحات محددة لتدخل الحوكمة الشاملة في شؤون الدول المحلية في كل المجالات، بما فيها الترفيه والقيم Values والعقيدة Faith. وفي كل فصل يورد أسماء أعضاء المجلس الذي يقترح هذه السياسات، فتجد مثلا أن الاقتراحات المتعلقة بالتعليم جاءت بمشاركة من شركات إنتل وسيسكو، والاقتراحات المتعلقة بالدين جاءت بمشاركة من حسام بن سعود بن عبدالعزيز ال سعود، بصفته رئيس شركة زين في السعودية، إضافة إلى مشاركة رئيس مركز الوليد بن طلال للتفاهم الاسلامي المسيحي ومشاركة رئيس الجمعية اليهودية الأمريكية.

وفق النموذج الذي وصفه ديفيز، يقع المنتدى الاقتصادي العالمي، وهو الجهة التي أصدرت هذا المستند، في المستوى الأول، مستوى صانعي السياسات، ورغم أن المستند يعتبر أنه يكتفي باقتراح سياسات، ولا يلزم أحدا بشيء، فالتدقيق يوضح أن السياسات التي اقترحها المنتدى الاقتصادي العالمي تتحول إلى تشريعات في العديد من دول العالم، ويتم ذلك بشفافية وتحت شعارات رنانة، فمثلا أعلنت حكومة بريطانيا عام 2019 عن شراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي لقيادة ثورة في التشريعات لتشجيع صناعات المستقبل (المصدر)

باستخدام نموذج الحوكمة الذي وصفه ديفيس يمكن فهم كيفية انتشار تشريعات كوفيد ولقاحاته عبر العالم بشكل متزامن، فقد تم تأسيس القوانين الأساسية للاستجابات الصحية منذ أيام وباءات سارس وإيبولا وأنفلونزا الخنازير، وفي عام 2020 تم تفعيل هذه القوانين ثم تطويرها بشكل متزامن عام 2021، واتضح للعيان أن استجابات جميع الدول للوباء المزعوم تخضع لسياسات توزعها منظمة الصحة العالمية وتطبقها الحكومات الوطنية على الناس ومؤسساتهم المحلية.

منذ بداية هذا القرن واجهت سياسات الحوكمة الشاملة بعض الرفض الشعبي من قبل فئات نخبوية قرأت المخطط وفهمت خطره على حرية البشر، وقد نجحت مؤسسات الطبقة الرابعة للحوكمة الشاملة في عزل من يفضحون سياساتها واعتبار أنهم "منظرو مؤامرة"، ولكن مؤخرا أطلقت سياسات كوفيد الاستعبادية حركة من الرفض الشعبي، وهي حركة تتسع حاليا في العديد من دول العالم، وتفضح في خطابها دور الحوكمة الشاملة ومؤسساتها مثل المنتدى الاقتصادي العالمي ومنظمة الصحة العالمية.

أعتقد أن حركة المقاومة هذه هي آخر خط دفاع للبشر الواقعين ضمن الطبقة السفلى في نموذج ديفيس ضد السيطرة الشاملة عليهم من قبل الطبقة الأولى وعملائها في بقية الطبقات، وقد أعلنت موقفي الداعم لحركة المقاومة سابقا وأكرر إعلانه الآن، كما أدعوك أنت لمراجعة موقفك من السياسات التي تفرض عليك من قبل حكومتك، وللتحقق من كونها تفرض فعلا باسم الشعب وليس باسم الحوكمة الشاملة.

يتبع…

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...