05-09-2020
عن سارتر الآخر
عندما يصدر كتاب عن علَم غيّبه الموت منذ مدّة، وتناول الأحياء فكره أو أدبه بالنقد والدارسة، وأحلّوا صاحبه في موضعه من طبقات الكتاب والمفكرين، ينتأ دائما سؤال مشروع: ما الجديد الذي سيضيفه الكتاب؟
المفكر الفرنسي فرنسوا نودلمان، الذي يدرّس بجامعة نيويورك، عوّدنا دائما على البحث عن مسارب لم يألفها قبله سابل، فهو غالبا ما يتناول المشاهير من زاوية غير مطروقة، كما فعل في كتابه الأسبق “عبقرية الكذب” عن تناقضات فلاسفة مشهورين كانوا يقولون ما لا يفعلون، أمثال روسو ودولوز وفوكو وسيمون دو بوفوار وسارتر. وكتابه الجديد عن الوجه الآخر لأحد هؤلاء الأعلام، ونعني به جان بول سارتر.
ما بعد الحرب
الكتاب، كما يدل عليه عنوانه “سارتر آخر مختلف تماما”، أراده صاحبه دعوة لإعادة اكتشاف سارتر الفيلسوف الوجودي والمثقف الملتزم انطلاقا من وثائق على ملك ابنته بالتبني أرليت القايم، لإضاءة ملامح مجهولة عنه، وعن رومانسيته المكبوتة، وعشقه الأسفار، وميله إلى أحلام اليقظة، فضلا عن حالات انهياره العصبي أو أوقات مرحه وتهريجه. تلك النصوص المنسية في الغالب، مثل أدب رحلاته، ووصفه الشاعري للمناظر الطبيعية الإيطالية، وأحلامه وهلوساته.. والغاية، كما قال، ليست تحطيم صورة سارتر الملتزم سياسيا، وإنما إظهار تواشج أنشطة كثيرة في حياته، بشكل أثر على فلسفته نفسها.
يعرف كل متابع للشأن الفلسفي أن سارتر، فيلسوف الوجودية، والمثقف الملتزم، لم يصوّت في انتخابات 1936 التي أوصلت أول حكومة اشتراكية إلى السلطة بقيادة ليون بلوم، ولم يعرف عنه موقف زمن الاحتلال النازي، ولم يبدأ نضاله الوجودي اليساري الملتزم إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وهو ما يؤكده فلاديمير ينكيليفيتش حول جنوح سارتر إلى الالتزام بكل اندفاع منذ عام 1945، وقد فسر ذلك بإحساس سارتر بالذنب وتبكيت الضمير، لأنه لم يحرك ساكنا زمن الاحتلال، إيثارا للسلامة.
بعد الحرب أظهر سارتر ازدواجية، فقد كان يرغم نفسه على نبذ النيهيلية بعد الدمار الذي حاق بأكثر من دولة، ولكنه كان في قرارة نفسه يأبى ذلك، ومضى يكتب ما لا يرغب فيه، وبدل أن يؤلف في الأدب والفلسفة، مضى يصوغ مقالات عن الصراع الطبقي أو تطور الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. وقد أعماه التزامه، وتعاطفه مع الفكرين اللينيني والماوي بشكل جعله يؤكد عام 1954 أن حرية تعبير مطلقة تسود الاتحاد السوفييتي، ويضيف عام 1955 بأن المساجين في الصين يعاملون معاملة إنسانية، “فلا حراس ولا أزياء خاصة، فهم يروحون ويجيئون أحرارا”، ثم كان سكوته عن دخول دبابات خروتشيف بودابست عام 1956 وسحقها الثورة على الحكم الشيوعي القائم مثار تنديد في الأوساط الثقافية في فرنسا وخارجها، بل ومثار سخرية أيضا.
ولكنه كان عنيدا لا يعترف بأخطائه، فعندما سألته سيمون دو بوفوار في “حفل الوداع” (1981) عن محاولاته المتكررة للعمل مع الشيوعيين، رفض الاعتذار والاعتراف بفشله الشخصي. هذا الإنكار يقع في صميم فلسفته الوجودية، التي يراها مغروسة في جوهر كل فرد، في حركته وتواصل أفعاله، وأن الحكم له أو عليه لا يكون إلا بعد وفاته، رغم أنه لا يستهين بالأخلاق، فالقيمة الإيجابية للمسؤولية وتحمل الفرد نتائجَ حريتِه وأفعاله، هما من صميم فكره، ولو أن مردّهما إحساسه الداخلي بالذنب ورثه عن ثقافته البروتستانتية.
فالحقيقة بالنسبة إلى سارتر تعاش دائما داخل وضعية ما، فهو لا يهتم كثيرا بالحقائق الموضوعية والخالدة. عندما سئل عام 1975 عن مواقفه السياسية وخاصة خطأ تقديره ما يجري في الاتحاد السوفييتي، أجاب، على المنوال الهيغلي، بأن “الحقائق أصبحت كذلك”، بمعنى أنه كان على صواب في حينها، أي في الخمسينات، ذلك أن الحقائق في نظره ليست ثابتة بل متغيرة، وأن الحكم على أحداث وقعت قبل ربع قرن من منظور الوقت الحالي فيه تضارب مع مبدأ الوضعية.
ونودلمان يتساءل: هل كان سارتر مقتنعا حقا بما صرّح؟ هل كان يريد إرضاء جهة ما؟ هل كان يحس أن من واجبه “إطلاق صرخة” حسب تعبيره هو نفسه لأن له دورا لا بدّ أن يقوم به، بعد أن تقوقع مثل الكثير من المثقفين داخل دور إعلامي لم يعد قادرا على التخلص منه؟
الانقلاب على الذات
لقد كانت نظريته عن الالتزام التي فصّل القول فيها ضمن “الكينونة والعدم” ثم في “الوجودية أنسنة” تقوم على ضرورة تجنيد النفس في أقصى طاقاتها دون مجاملة. ولنا أن نتساءل عن الدوافع المضمرة وحتى النفسية لهذا التأكيد، لأنه يخفي نوعا من الإحساس بالذنب، ذنبه تجاه سكوته، وذنبه تجاه تغييب جانب الأدب فيه، هذا الجانب الذي يحس في قرارة نفسه أنه خلق له. والمفارقة أنه يعيب على فلوبير والأخوين غونكور موقفهم المتخاذل من ثورة 1848، بل ويحمّلهم مجازر “الكميون”.
فقد كتب يقول “عندما يعتقد المرء أنه يمكن أن يهرب من اتخاذ موقف، فإنه في الواقع اختار ألا يختار، فيبقى بعد ذلك رهين خياره، ومدينا لكل المظالم”. وفي ذلك نوع من اتهام الذات، فهو أيضا ينتمي إلى وسط اجتماعي ميسور، وما يعيبه عليهم ينطبق عليه، ومن ثم فهو ينظّر بطريقة فلسفية لحرية الضمير والمسؤولية السياسية، ولكن تنظيره يستند هنا إلى شعور ذاتي بالذنب، بأنه خفيف، لا وزن له.
وسواء في أحاديثه الخاصة مع ثقاته أو في مراسلاته، يتبدى تمزقه بين جانبه الأناركي وشعوره بالمسؤولية والالتزام والتضامن. وهو ما يسميه هو نفسه “تفكير المرء ضدّ ذاته”، و”تكسيره عظام رأسه”. فقد كان يحطّم ما يكتمل، ويتحول إلى سواه. وبدل أن يقتدي ببقية الفلاسفة الذين يجمعون حصيلة ما كتبوه ويستخلصون منها مفهوما يطورونه في شتى الحقول الأنطولوجية والأخلاقية والجمالية والسياسية، كان سارتر ينقلب على نفسه، ويتمرد باستمرار.
ولكنه كان في رسائله لا يني يعبر عن رغبته في إعادة ربط الصلة بالأدب غير الملتزم، ليشفي نفسه من “عسر الهضم الماركسي” (والعبارة له). فمن الأسرار التي اكتشفها نودلمان، ورأى فيها تناقضا بين سارتر المعروف وسارتر المخفي، علاقته بالموسيقى، فقد كان يعبر عن عشقه للموسيقى المعاصرة وكرهه للموسيقى الرومانسية، ولكن نودلمان عثر على تسجيلات صوتية مُدّتها نحو مئة ساعة لسارتر وهو يعزف على البيانو مقطوعات للرومانسيين وخاصة شوبان، ويردد بصوته أغانيَ كلاسيكية.
كما وجد الباحث في نصوص سارتر المخطوطة، تلك التي يبرز فيه موهبته الأدبية، ما لم يجده في “الأزمنة الحديثة” من مقالات عن الفلسفة والسياسة، السياسة التي اعترف سارتر مرة أنها “تقرفه”. هذه العبارة ليست زلة لسان أو كلمة ناشزة قيلت في لحظة غضب، بل هي كامنة وإن بأشكال أخرى في رسائله، فقد كان يسرّ لثقاته بأنه مضطر اضطرارا للاشتغال بالسياسة، كمن يلبس حذاء من رصاص وهو دونها وزنا، أي أنه كان يمارس السياسة كرها وكأنه يريد أن يكفّر عن أصوله البورجوازية أو يثبت لليساريين أنه يمكن أن يخون طبقته الاجتماعية.
فقد صرح بذلك مرة لميشيل، زوجة بوريس فيان، عند تحرير سلسلة مقالاته “الشيوعيون والسلام” التي نشرها بين عامي 1952 و1954 في مجلته “الأزمنة الحديثة”، وكان يصف تلك المقالات باللعينة ويعبر عن شعوره بالغثيان وهو يكتبها ويقرؤها، مضيفا: “لو تعلمين كم يقززني ذلك!” فاندفاعه وإحساسه بأنه مسؤول عن كل ما يجري في العالم، كانا يقودانه أحيانا إلى الغلوّ في ما يكتب، كدعوته إلى قتل المستوطنين الأوروبيين في تقديمه لكتاب فرانز فانون “المعذبون في الأرض”. تلك الدعوة التي فتحت عليه أبواب الجحيم من اليمين واليسار على حدّ سواء. ولكن عندما نقرأ رسائله، نكتشف أن فانون أثر فيه بشكل جعله يضع كل ثقله في النضال ضد الكولونيالية، فأكره قلمه على عنف وفظاظة تأباهما نفسُه وتكوينُه.
الهواية الأولى
كان سارتر يتألم من كل ذلك، دون أن يعترف صراحة بأخطائه، ويتألم أكثر من أن السياسة تشغله عن هوايته المفضلة، أي الأدب، فقد كان يشكو مما صار يلاقيه من صعوبة في كتابه نصوصه النظرية والسياسية حتى أنه صاح مرة: “عاش الأدب اللاملتزم!” وفي رسائله صفحات كثيرة يتألم فيها من رداءة نصوصه السياسية، ويعبر عن ميل كبير إلى الأدب والشعر الوصفي، بيد أنه ظل يكبح جماحه، وكأنه يخضع لشكل من تضخم الذات.
ولم يجد توازنه إلا في كتابه الأخير “أبله الأسرة”، حيث مارس الأدب (رواية عن فلوبير، كما قال) والنظرية الماركسية مسقطة على الإمبراطورية الثانية، ونجح في الجمع بين الأدب ورؤيته الفلسفية، بل نجح حتى في ابتكار جنس جديد، ولكنه لم يستطع الصمود في وجه رفاقه الماويّين، الذين عابوا عليه اهتمامه بروائي بورجوازي.
أي أن الكتابة الأدبية، وكذلك الموسيقى والرحلات كانت متنفّسا بالنسبة إليه، ينساب معها ويترك نفسه على سجيتها، في تناقض تام مع نظريته الفلسفية. ومؤلفاته عن سيرة فلوبير وبودلير وجيني كانت أيضا وسيلة للخروج من ذاته، والاستسلام في أجسادِ آخرين ليعيش عيشتهم، بل إن أسلوبه الشاعري خاصة في يومياته عن نابولي والهقار يجعله أقرب إلى ستندال من ماركس.
وصفوة القول إن سارتر، كما يقدمه لنا فرنسوا نودلمان، استنادا إلى مراجع جديرة بالثقة، لكونها بين يدي منفذة وصيته أرليت القايم، يتبدى موزّعا بين الثورة الدائمة والبحث عن تناسق بين حياته وفكره، والرغبة الجامحة في الاستسلام إلى ما يعتبره متعة ذات ذنوب، أي أدبا لا علاقة له بالسياسة.
وإذا كان كامو يطرح الأسئلة ولا يتشبث بالأجوبة، فإن سارتر يقترح أجوبة لكل ما يطرأ من الأسئلة، ومن ثمّ كانت أخطاؤه العديدة التي ميزت مسيرته حدّ التناقض، دون أن يقرّ بذنب أو يعترف بخطأ، لإيمانه بأن التاريخ هو وحده الكفيل بنقد وجوده على الأرض، بعد وفاته.
أبو بكر العيّادي
إضافة تعليق جديد