دور "بي بي سي" في النزاع السوري
الجمل- "أورينتل ريڤيو"- ترجمة:د. مالك سلمان:
نشرت مجلة "أورينتل ريڤيو" محتوى شريط فيديو (12 دقيقة) يقدم دليلاً على تقنيات الفبركة التي يستخدمها مراسلو محطة "بي بي سي" في تقاريرهم حول سوريا عشية التصويت التاريخي في البرلمان البريطاني في 29 آب/أغسطس 2013.
هكذا يقدم موقع "بي بي سي" الإلكتروني تقريراً أعدَه مراسلا برنامج "بانوراما" – الذي تقدمه "بي بي سي" – إيان بانل ودارن كونوي في 30 آب/أغسطس 2013. تضمنت القصة شريط فيديو, من المفترض أنه صور بالقرب من حلب, في شمال سوريا, من قبل مدير مدرسة مجهول الإسم, ويوثق اللحظات التي تلت هجوماً بالنابالم على مدرسته, يزعم أن القوات المسلحة السورية قد شنته في 26 آب/أغسطس. وتبعاً لهذه القصة, لم تجد قوات بشار الأسد "الشريرة" – في الوقت الذي حققت فيه إنجازات إستراتيجية من خلال دحرها لقوات المتمردين والمرتزقة الأجانب المناوئة للحكومة التي تحاربها طيلة سنتين وأكثر – شيئاً تفعله أفضل من مهاجمة مدرسة, وهي هدف لم يشكل أي اهتمام عسكري من أي نوع, بالنابالم – بالنابالم, انتبهوا – بحيث تعطي فرصة للإعلام العالمي, وبرنامج "بانوراما" الذي تعده "بي بي سي" بشكل خاص, لكي يلتقط هذه القصة ويبثها للمشاهدين الغربيين في توقيت مثالي لتتزامنَ مع تصويت البرلمان البريطاني حول ما يسمى "التدخل الإنساني" في سوريا, الذي كان يدفع به رئيس الوزراء ديفيد كاميرون للحيلولة, على حد زعمه, ضد ارتكاب مثل هذه الأعمال الوحشية بالذات.
هل كانت قوات الأسد بهذا الغباء حقاً؟ بالطبع لا.
لم يستغرق الأمر طويلاً حتى بدأ العديد من المعلقين والمراقبين الدوليين بالإشارة إلى عدد من الأشياء التي لا يمكن تصديقها في شريط الفيديو والقصة ككل. فمن بين هؤلاء بينَ الكاتب الإيطالي فرانشسكو سانتوياني الخللَ الذي يعتري القصة برمتها, مثيراً الشك بأن شريط الفيديو بأكمله مفبرك. وهذا هو التحليل الذي قدمه:
أولاً, النابالم مادة تولد درجات حرارة تتراوح بين 800 و 1,200 درجة مئوية: بكلمات أخرى, لم يسبق أن نجا أحد تعرض لهجوم بالنابالم. وهذه الصفات الفيزيائية تعني أنه عندما يتم استخدام النابالم في المسرح الحربي, فالغرض الرئيسي منه هو تدمير مناطق مغطاة بالنباتات والأشجار, وليس المناطق السكنية, حيث غالباً ما يتم استخدام الفوسفور الأبيض, كما فعلت القوات المسلحة الأمريكية في الفلوجة في سنة 2005, وكما فعلت القوات الإسرائيلية في غزة في سنة 2008. ومع ذلك, توقعت "بي بي سي" من مشاهديها أن يصدقوا بأن قوات الأسد قد هاجمت مدرسة بالنابالم. وطبعاً, مدرسة خالية من أية أدوات تدريسية, باستثناء مسبح في الخلف. آه, ومرجوحة. القضية أقفلت: لا بد أنها مدرسة. مع أن مصادرنا في سوريا قد أخبرتنا أن السنة الدراسية في سوريا لم تبدأ حتى 15 أيلول/سبتمبر: إذاً, ماذا كان كل أولئك الناس يفعلون في مدرسة مقفلة؟
نرى أيضاً في شريط الفيديو زوج حذاء شتوي – وليس من الواضح كيف وصل إلى هنا: فقد حدث ذلك في شهر آب/أغسطس – وكان حذاءً نسائياً أيضاً. هل كان الضحايا يلبسون هذه الأحذية؟ وكيف بقي هذا الحذاء كما هو دون أية آثار للقصف بالنابالم؟
جميع الصحف البريطانية التي نقلت القصة قالت لنا "إن الهجوم أودى بحياة أكثر من 10 طلاب وألحق الأذى بأعداد أخرى": ومع ذلك, وعلى الرغم من تحذير القناة بوجود صور مروعة, لم نرَ الجثث ولا الأهل الحزينين على موت أطفالهم.
ولكن هناك طفل, نراه يرتجف في أحد المشاهد. جلده سليم تماماً, وكذلك شعره: وهو شيء لا يتماشى مع النابالم أو أي شيء من هذا القبيل. وما هي هذه المادة البيضاء على جسمه؟ من المؤكد أنها لا يمكن أن تكون المادة الكيماوية التي أطلقتها الطائرات المقاتلة – لأن تلك المادة لن تترك شعر الصبي سليماً – ولذلك يجب أن نفترض أنها نوع من أدوية الإسعافات الأولية. أليس كذلك؟ فمن قام بذلك لم يخطر بباله أن يزيل الساعة من معصم الطفل. وفي الحقيقة, ليس هناك أحد يرافق هذا الطفل: فالشخص الوحيد المهتم به هو المصور.
الأقل إقناعاً هما رجل وامرأة, نراهما في الفيديو يقومان بالحركات التي تدربا عليها جيداً والتي ترافق إطلاق الشتائم بالعربية. ولكن هناك مشكلة: وجه المرأة مغطى بنفس المادة البيضاء: والزوجان وصلا لتوهما إلى ما يسمى بالمشفى, ولذلك لا يمكن أن تكون "نوعاً من أدوية الإسعاف الأولية". لا بد أنها "مادة كيماوية أشبه بالنابالم". من المفترض أن نصدق أن مادة كيماوية "شبيهة بالنابالم", أطلقتها طائرات مقاتلة, تغطي وجه امرأة بقي غطاء رأسها على حاله دون أي أثر لهذه المادة!
ونرى أيضاً ما يفترض أنه مشفى ميداني مؤقت. على الأرض هناك 5 رجال بالغين يرتجفون – ثلاثة منهم لا تزال ألبستهم سليمة تماماً, بالطبع – مع أن أحدهم يقف على قدميه بعد قليل ويمشي مبتعداً عن المكان بعد أن قرر – على ما يبدو – أنه سئم من هذه المسرحية الهزلية.
بالمناسبة, نرى باستمرار مسعفينَ مما يسمى بجمعية "يداً بيد من أجل سوريا" من المفترض أنهم يعالجون الحروق الكيماوية التي أصيب بها الضحايا دون أن يرتدوا أية قفازات – لكنهم يرتدون أقنعة واقية من الغازات لسبب ما. وحتى أقنعة واقية من الغبار: ماذا؟ وهذه المرأة هي بالطبع الدكتورة رولا, نجمة شريط الفيديو هذا [مقطع يقدم الدكتورة رولا].
بعد ذلك, بالطبع, نرى المقطع الإجباري الذي يظهر أحد سكان المنطقة المرعوبين وهو يصب جامَ غضبه على "المجتمع الدولي", الذي يتعرض باستمرار للهجوم بسبب عجزه وانكبابه على مفاوضات لا طائل منها. تقول قواعد "العلاقات العامة" إن مثل هذه الشخصية يجب أن تكون مرتبطة بالمأساة بطريقة ما (لا يقدم الشريط أية تفاصيل) وأنه, عندما يخاطب الكاميرا, يجب ألا يتحدث باللهجة المحلية – التي تبدو أقربَ إلى لغة الإرهابيين التي لا يفهمها المشاهد الغربي: فعوضاً عن ذلك, عليه التكلم بلغة إنكليزية سليمة, سليمة إلى درجة تبدو معها مكتوبة سلفاً أو مقروءة عن شاشة بعد تمرين كثيف. ففي نهاية المطاف, ساعدت قواعد "العلاقات العامة" هذه جداً في ليبيا.
لقد تم فضح كل هذه الأشياء العبثية فور بث شريط الفيديو على أقنية "بي بي سي". فما فائدة الحديث عنها الآن؟
أحد الأسباب هو أن "بي بي سي" نفسَها, بعد أن تلقت عشرات الشكاوى من المشاهدين الذين أبدوا انزعاجهم من استغبائهم بهذه الطريقة الفظة, قررت أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من هذه القصة وتحذف الخطأ الأكثر شناعة. وهنا يصبح الأمر مخيفاً. لأن ما يلي يقود المرء إلى الاعتقاد أن هذه لم تكن حالة من تلك الحالات التي وقعت فيها "بي بي سي" بسذاجة ضحية لقصة تم تلفيقها وبيعها لها من قبل آلة "العلاقات العامة" المناوئة للأسد (وقد حدث ذلك أكثر من مرة), بل أن "بي بي سي" نفسها قد فبركت مُنتجاً الغاية منه دفع الرأي العام باتجاه موقف يدعو إلى التدخل. وهناك اسم واحد لاسم مثل هذا المنتج: الدعاية.
ما حدث هو أن الناشط في "حقوق الإنسان" كريغ موري, من بين آخرين, اكتشف أن هناك شيئاً مختلفاً - بين الشريط الأول والشريط الثاني – في كلام الدكتورة رولا. فالشريط الأول يحتوي على كلام حول النابالم.
اختفى الكلام عن النابالم في النسخة المعدلة من الشريط.
لكن المقتطفات الصوتية تحمل نفس النوعية الصوتية: بالطبع يمكن للمرء أن يفعل كل شيء تقريباً مع توفر التقنيات التي تمتلكها "شركة الإذاعة البريطانية" ("بي بي سي"), والفضل يعود بشكل جزئي إلى حقيقة أن الدكتورة رولا كانت ترتدي قناعاً واقياً من الغبار, مما ساعد في تحييد كافة التحديات المتعلقة بالدبلجة, والتزامن اللفظي, إلخ. ولكن من المؤكد أن المقطع الصوتي المعدَل أضيفَ في مرحلة لاحقة, لأسباب كشفنا عنها للتو, مما يدفعنا إلى التساؤل: كيف يمكننا التأكد من أن المقطع الصوتي الأصلي لم يكتب ويُصَوَر في استوديو؟ كما أن روبرت ستيوارت, في مقالته المنشورة في "ميديل لينزز فورَم", يشير إلى أن الدكتورة صالحة إحسان, التي تظهر في النسخة الجديدة من الشريط, هي صانعة أفلام تتمتع بخلفية عسكرية: رائد سابق في "الكتيبة الطبية التابعة للجيش الملكي" وصحفية مستقلة تكتب حول القضايا الراهنة. فهل شاركت في فبركة هذا المنتج؟
كما أن خلفية الدكتورة رولا نفسها مثيرة للاهتمام. وهي, بالطبع, ليست غريبة عن "بي بي سي"؛ حيث تظهر في برنامج سياسي تطلب فيه بقصف سوريا.
ومن المثير للاهتمام أيضاً أن المؤسسة الخيرية "يداً بيد من أجل سوريا", حيث من المفترض أن الدكتورة رولا تعمل كطبيبة متطوعة, تضع علمَ الانتداب الفرنسي على شعارها- وهو علم يتبناه الآن "الائتلاف" المناوىء للأسد. وهذه معلومات لم ترَ "بي بي سي" أنه من المناسب الإفصاح عنها لمشاهديها.
لأولئك الذين لا يزالون يؤمنون بما تبقى من سمعة "بي بي سي" في احترام الأسس الإعلامية ونقل الأخبار بشكل متوازن, إليكم بعض المعلومات المفيدة حول "جمعية خيرية" أخرى مزعومة. "العمل الإعلامي/بي بي سي" (المسماة سابقاً "المؤسسة الإعلامية العالمية/بي بي سي"), التي ترفع شعاراً مثيراً للانتباه: "تحويل حياة الناس عبر الإعلام في العالم".
في تقرير مثير للاهتمام على موقعها الإلكتروني, توضح جمعية "العمل الإعلامي/بي بي سي":
"في سنة 2008, أطلقت ‘العمل الإعلامي/بي بي سي’ مشروعها, على مدى 3 سنوات, ‘برامج الإعلام المسؤولة اجتماعياً في العالم العربي’ بتمويل من ‘مكتب العلاقات الخارجية والكومنويلث’ البريطاني. كانت ‘سيريا نيوز’ الشريك السوري الرسمي, والتي تم إقرارها من قبل ‘وزارة الإعلام’ نيابة عن ‘بي بي سي’. كان المشروع يهدف إلى تأسيس برنامج تدريبي تفاعلي على الإنترنت", ‘أكاديمة آراء 2’, للمجتمع السوري الصحفي والتدويني, مع خلق شبكات بين الاثنين. وقد عكس هذا الحالة المتغيرة للمدونين في الإعلام الإقليمي واستجابَ لطموحاتهم في النظر إليهم كمعلقين اجتماعيين موثوقين. كما دعم المشروع ‘سيريا نيوز’ كمثال على المنظمة الإعلامية المستقلة الدائمة, حيث يشارك الموظفون الإداريون في جولات دراسية في لندن تقدم تدريبات في مجال تطوير الأعمال. لم تعمل جمعية ‘العمل الإعلامي/بي بي سي’ مع شريك محلي على تدريب المدونين, لأن من شأن ذلك أن يقصي أجزاء من المجتمع التدويني. وبدلاً عن ذلك, تعاونت ‘بي بي سي’ مع شبكة غير رسمية للمدونين من كافة أنحاء البلاد وقامت بتجنيد المشرفين على نظام التعليم عن بُعد (‘أكاديمية آراء 2’) الذين تم تدريبهم في ورشات عمل في لندن ودمشق."
لم يكن بمقدور المرء أن يأملَ بتوصيف أوضح لحصان طروادة مموَل من قبل إحدى الحكومات لزعزعة استقرار حكومة أخرى. دعونا نراجع البرنامج الزمني مرة أخرى: بدأ ‘المشروع السوري’ من ‘العمل الإعلامي/بي بي سي’, والذي يستمر لثلاث سنوات, في سنة 2008. ثم بدأت "الانتفاضة السورية" في شهر شباط/فبراير 2011.
http://www.strategic-culture.org/news/2013/11/19/the-role-of-the-bbc-in-the-syrian-conflict.html
تُرجم عن ("ستراتيجيك كلتشر فاونديشن", 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد