حزب العمال الكردستاني وإعادة إشعال بؤرة الأزمة
الجمل: نفذ حزب العمال الكردستاني ليلة الجمعة الماضية عملية عسكرية دامية في منطقة تومسيبي الواقعة جنوب شرق تركيا بما أدى إلى مقتل خمسة من عناصر الجيش التركي وجرح سبعة آخرين, وما هو لافت للنظر هذه المرة يتمثل في ردود الأفعال السياسية, والتي حملت المزيد من احتمالات أن تشهد توجهات أنقرة إزاء ملف الأزمة التركية تحولا جديدا: فما هي تداعيات هذا الحدث الماثلة والمؤجلة, وما هو تأثيرها على الإدراك المتبادل بين أطراف الصراع وما يمكن أن يترتب على ذلك في مبادرة المسألة الكردية التي تبنتها العديد من الأطراف السياسية الكردية ومن بينها حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم؟
ملف الأزمة الكردية-التركية: في مواجهة المنعطف الحرج
ظلت الساحة السياسية التركية على مدى سنوات طويلة تشهد حالة استقطاب إثنو-ثقافي بين أكراد تركيا المتمركزين في الجزء الجنوبي الشرقي وبقية المجتمع التركي, وذلك على أساس اعتبارات إدراك أكراد تركيا المتزايد بخصوصيتهم الإثنو ثقافية التي تميزهم عن بقية الشعب التركي, وقد وجد أكراد تركيا في الدستور التركي الكمالي الذي يتشدد في مفهوم وحدة الأمة التركية سببا رئيسيا لجهة التعبير عن رفضهم لعملية التتريك القسري الذي يعتقدون بأنهم أصبحوا عرضة له, وفي هذا الخصوص نشير إلى النقاط الآتية التي تمثل أبرز المحطات في مسلسل سيناريو الصراع التركي-الكردي:
• أسفرت المعارضة الكردية عن ظهور مجموعتين أو بالأحرى جناحين أحدهما استخدم الوسائل السياسية وهو حزب الشعب الديمقراطي والذي استطاع أن يحصد خلال الأعوام الماضية الأغلبية العظمى من مقاعد البرلمان التركي المخصصة لمحافظات جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية التركية وأيضا على الأغلبية العظمى في الانتخابات المحلية بما مكنه من السيطرة على معظم مقاعد بلديات محافظات جنوب شرق تركيا, والآخر هو جناح يستخدم الوسائل العسكرية وهو حزب العمال الكردستاني والذي نجح خلال العشرين عاما الماضية في زعزعة أمن واستقرار تركيا من خلال العمليات العسكرية الجريئة التي نفذها والتي وإن كانت في معظمها تركز على محافظات جنوب شرق تركيا فإن عددا منها قد نفذ في العديد من مناطق تركيا الأخرى وعلى وجه الخصوص العاصمة السياسية أنقرا والعاصمة الاقتصادية والحضارية اسطنبول، إضافة إلى استهداف المزيد من البنيات الأساسية الداعمة لقوام الاقتصاد التركي, مثل خطوط أنابيب نقل النفط والجسور وشبكات المواصلات والاتصالات.
• في منتصف العام الماضي أدى النقاش والاهتمام المتعاظم بواسطة النخب السياسية التركية إلى طرح ما أطلقت عليه تسمية (مبادرة المسألة الكردية) والتي حددت الخطوط العامة لبناء سياسة تركية رسمية تتيح إدماج الأكراد ضمن البيئة السياسية-الاجتماعية التركية, وقد وجدت هذه المبادرة تأييدا من جانب أغلبية شرائح الرأي العام التركي إضافة إلى دعم وتأييد حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب المجتمع الديمقراطي, أما الحزب الجمهوري التركي (العلماني), والحزب القومي التركي (القومي الاجتماعي), فبرغم معارضتهما للمبادرة فإنهما اكتفيا بإبداء بعض التحفظات وذلك لإدراكهما بأن الرفض الصريح للمبادرة سوف يضعهما في مواجهة مع الرأي العام التركي.
• في شهر تشرين الأول (أوكتوبر) 2009 الماضي شهدت مناطق الحدود التركية الجنوبية الشرقية حدثا هاما فقد جاء تسعة من عناصر حزب العمال الكردستاني و28 مدنيا كرديا عائدين إلى الأراضي التركية من قواعد حزب العمال الكردستاني الموجودة في شمال العراق وقاموا بتسليم أنفسهم للسلطات التركية ضمن ما تم وصفه بمبادرة حسن النوايا والرغبة في بناء الثقة والمصداقية بما يعطي قوة دفع وزخم أكبر لإنفاذ المبادرة, وقد شهدت مناطق جنوب شرق تركيا المزيد من المظاهرات الهائلة تعبيرا عن الفرح وحفاوة الاستقبال للعائدين.
• سعت العديد من الأطراف التركية المتعصبة وعلى وجه الخصوص نخبة الحزب الجمهوري التركي والحزب القومي التركي إلى تفسير هذه المظاهرات باعتبارها تمثل تجاوزا صريحا لجهة استقبال المتمردين الذين حملوا السلاح ضد الثورة التركية كما لو أنهم أبطال عادوا بعد تحقيق النصر, وقد أدى ذلك إلى نقل المزيد من الإشارات السالبة في أوساط الرأي العام التركي الأمر الذي أدى إلى عرقلة وإعاقة المبادرة, ولم تكتف هذه الأطراف بذلك وإنما سعت إلى المطالبة بتقديم العائدين للمحاكمة لأنهم تورطوا في قتل آلاف الجنود الأتراك, وقد وجدت المؤسسة العسكرية التركية في هذا الرأي فرصة من أجل الضغط على حكومة حزب العدالة والتنمية لجهة التمسك بأن المؤسسة العسكرية سوف لن تقبل بأقل من محاكمة ومعاقبة المتمردين العائدين.
• سعى المدعي العام التركي والمحكمة الدستورية التركية العليا إلى إضعاف حكومة حزب العدالة والتنمية من خلال القضاء على حزب المجتمع الديمقراطي (الكردي) وذلك عندما نجحت أجهزة الأمن والمخابرات التركية في تقديم العديد من عناصر حزب المجتمع الديمقراطي باعتبارهم عناصر يقومون بدور مزدوج: يعملون على المستوى المعلن ضمن صفوف حزب المجتمع الديمقراطي المصرح له بالعمل, وعلى المستوى غير المعلن يعملون ضمن حزب العمال الكردستاني (المحظور) وقد أدى هذا الاتهام إلى تشكيل خلفيات مذكرة الاتهام التي قدمها مكتب المدعي العام التركي, وقرار المحكمة الدستورية التركية العليا الذي قضى بحل وحظر حزب المجتمع الديمقراطي التركي باعتباره هو و حزب العمال الكردستاني يمثلان شيئا واحدا: حزب العمال الكردستاني هو "الذراع العسكري" وحزب المجتمع الديمقراطي هو "الذراع السياسي" الذي يقوم بدور الواجهة السياسية.
وهكذا دخلت "مبادرة المسألة الكردية" في النفق المظلم وأصبحت عالقة في شباك الخلافات التركية-التركية بين أطراف المثلث المكون من الإسلاميين – القوميين الاجتماعيين – العلمانيين, ومن الواضح أن ملف مبادرة المسألة الكردية سوف يظل معلقا إلى حين انتهاء التعديلات الدستورية التركية الجارية حاليا, وتقول المعلومات بأن نخبة حزب المجتمع الديمقراطي تنتظر إجازة التعديلات الجديدة والتي من بينها التعديل الذي يمنع المدعي العام التركي والمحكمة الدستورية العليا التركية من إصدار أي قرار بحل أي حزب سياسي, وبعد ذلك سوف يقوم أكراد تركيا بتشكيل حزبهم السياسي الجديد, والذي سوف يتم بطريقة تتماثل تماما مع السيناريو الذي تم به تشكيل حزب العدالة والتنمية بعد حل سابقه حزب الرفاه الإسلامي.
حزب العمال الكردستاني وإعادة إشعال بؤرة الأزمة
تقول المعلومات بأن حزب العمال الكردستاني قد ظل طوال الأشهر الماضية يعاني من الخلافات حول تقييم موقفه من مبادرة المسألة التركية, وفي الوقت الذي رأى فيه جناح حمائم الحزب, الذي يتكون من كبار السن وقدامى المحاربين بأن هذه المبادرة تشكل تطورا إيجابيا ينبغي التعامل والتعاون معه والعمل على تصعيده بشكل إيجابي بما يؤدي إلى تعزيز فرص الحزب في تحقيق الآتي:
• إطلاق سراح زعيم الحزب التاريخي عبدج الله أوجلان المعتقل حاليا في السجون التركية.
• تخفيف الضغوط العسكرية والأمنية التي أصبح الحزب يتعرض لها في مناطق جنوب شرق تركيا.
• تخفيف التوترات بين حزب العمال الكردستاني وحكومة إقليم كردستان العراقية بمكوناتها المختلفة والتي من أبرزها الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه البرزاني, والاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني, وهي الحكومة التي رأت بضرورة أن يجمد حزب العمال الكردستاني أنشطته طالما أن الظروف الداخلية والخارجية أصبحت غير مواتية لذلك, إضافة إلى ان قيام حزب العمال بممارسة عملياته سوف يترتب عليه جعل إقليم كردستان العراقي يواجه المزيد من الخسائر والمخاطر وعلى وجه الخصوص بواسطة تركيا.
أما جناح الصقور داخل حزب العمال الكردستاني والذي يتكون من الشباب وصغار السن فقد ظل يؤكد على ضرورة تصعيد العمليات المسلحة وبأنه لا جدوى من مبادرة المسألة الكردية طالما أنها لا تنتهي بتحقيق الخيار الحقيقي الذي يطمح الحزب إلى تحقيقه, وهو قيام كيان كردستاني يتمتع بالاستقلالية في تركيا.
من الواضح أن القراءة في معطيات التطورات والوقائع الجارية في مناطق جنوب شرق تركيا تقودنا مباشرة إلى استنتاج جملة من النقاط والتي من أبرزها:
* شكلت عملية وحظر حزب المجتمع الديمقراطي ضربة قاصمة بالنسبة للنخب السياسية الكردية التركية التي كانت تراهن على استخدام الوسائل السياسية السلمية, وقد أدى ذلك إلى تراجع الرهان على الخيار السياسي, الأمر الذي أدى بدوره وبالمقابل إلى صعود الرهان على الخيار العسكري, ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا سعى حزب العمال الكردستاني التركي إلى تنفيذ عمليته الأخيرة وإلى التهديد بشن وتنفيذ المزيد من العمليات العسكرية, وتقول المعلومات والتسريبات بأنه إذا كان حزب العمال الكردستاني يسعى من خلال هذه العمليات والتهديدات إلى إلحاق الخسائر بالسلطات التركية فإنه في نفس الوقت يسعى إلى إعادة بناء وتمتين قوته الرمزية السياسية بما يتيح له الحصول على دعم ومساندة السكان المحليين الأتراك, بما يمكنه من نقل أعداد كبيرة من عناصره وعتاده وقواعده الموجودة في شمال العراق إلى داخل المناطق التركية الجنوبية الشرقية التي تتميز ببيئتها الجبلية الوعرة, وذلك وصولا إلى استعادة أمجاد الحزب العسكرية الأولى والتي استطاع فيها أن يخوض الحرب في المناطق الجبلية وهي الحرب التي أتقنت عناصر الحزب مذهبيتها ومهاراتها. وإضافة لذلك فإن الأطراف الإقليمية والدولية المعادية لحكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي (محور واشنطن-تل أبيب) سوف تسعى وبكل اطمئنان إلى تقديم الدعم والسند داخل الأراض التركية بما يبعد عن البرازاني وطالباني أي شبهات تركية جديدة تتهمهما بأنهما وحكومة إقليم كردستان يقدمان الدعم والمأوى لحزب العمال الكردستاني, وإضافة لذلك أيضا علينا أن نتوقع بأن يسعى حزب العمال الكردستاني إلى استغلال وتوظيف الخلافات والخصومات الأرمنية التركية وفي هذا الخصوص تقول بعض التسريبات والمعلومات بأن حزب العمال الكردستاني قد نقل بعض وحداته لجهة التمركز في الأراضي الأرمنية, ولكن, وإن كان هذا الافتراض صحيحا فإن قدرة حزب العمال الكردستاني في الارتكاز وإقامة القواعد في الأراضي الأرمنية سوف تكون محدودة بسبب الخصومات الأرمنية الكردية القديمة والتي مازالت مفاعيلها موجودة, ولكن على ما يبدو أن هناك محاولة للتوافق على مستوى اللوبيات في واشنطن: فاللوبي الإسرائيلي المعادي لتركيا واللوبي الأرمني المعادي لتركيا واللوبي الكردي المعادي لتركيا, سوف لن يترددوا في التعاون مع صقور الإدارة الأميركية لجهة العمل المشترك وحل الخلافات من أجل مواجهة العدو المشترك المتمثل في حكومة حزب العدالة والتنمية التركي الذي يقوده الثنائي غول-أردوغان.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد