اللاهوت السياسي: من حرب صفين حتى الدمار النووي
كما هو حالُ الناس عبر تاريخ البشر، اختلف ورثة "مُحَمَّد بنِ عبد الله" وصحابته على تَرِكَته، وقد كان خلافاً على السلطة والمال وليس على الشريعة والعقيدة والإيمان، فكلُّهم كانوا مسلمين مؤمنين... ثم أضفى الزمن والتابعون القدسيَّةَ على أقوال وأفعال الوَرَثة الأكثرِ قرباً من الرَّسول: أبو بكر وعمر وعائشة وعلي وفاطمة، ومَنْ يدور في فلكهم، بالرغم من أنهم بشر، وكذا كان الرَّسول حسب تأكيد الآية: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ) لهذا يمكننا اعتبار ما تقدَّم وما تأخَّر مِنْ أعمال قادة الإسلام إنَّما هو سياسة بشرية صرفة فرضتها الوقائعُ من حيث إنها خاضعةٌ لشرطها التاريخي والاجتماعي، الأمر الذي يؤكد راهنية المذاهب التي تشكَّلَتْ بالتواكب مع سيرة هؤلاء القادة كأحزاب سياسية متنافسة على إدارة مجتمعاتها، وقد انتهت صلاحيَّتُها بسبب الفَوَات التَّاريخي الذي خلَّفها كمذاهبَ جامدة كما لو أنَّها أصنام في كعبة الوثنيين، وجماعة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا" حيث يحكمُ الأمواتُ الأحياءَ ليُعيدوا تكرار سيرهم بزمن رجعي لاتقدمي!
فقد اختتم الرَّسول نسخة الإسلام كعقيدةٍ قبل وفاته، ولكنه لم يحدِّد شكلَ نظام الحكم من بعده، كما لم يحتوِ القرآن الكريم نظرية سياسية جامعة، الأمر الذي فتح باب الصِّراع، وأفسح مكاناً لعودة عصبيات ما قبل إسلامية، ساهمت بتشكيل نسخة إسلام سياسي من خارج النَّسق النَّبويّ، بدءاً من أحداث اجتماع "سقيفة بني ساعدة"، والخلاف بين الأنصار وقريش، ثم بين عائلات قريش، ثم بين عموم المسلمين وقريش برفضهم دفع الضَّريبة لقريش، وصولاً إلى مقتل الخلفاء الأوائل بالتَّسلسل على يد مسلمين متشدِّدين من غير قريش... فبغياب الرَّأس المدبِّر للأمَّة، احتاج الخلفاءُ إلى القياس والتقويم في القضايا المستجدَّة على الحدث الإسلامي، وكانوا قادرين فعلاً على إنتاج حكمٍ رشيدٍ، وإغناء النُّسخة الأصليَّة للإسلام، كونهم رافقوا النَّبيَّ وخبروا طريقته وأسلوبه في القيادة، إلى أن انفرد بنو أميَّة بالحكم مستعيدين تاريخ التَّنافس مع بني هاشم، حيث دُفنت النُّسخة المُحَمَّديَّة بغية التَّخلُّص من إرث آل بيته المطالبين بالخلافة، وبدأوا بتوليد النسخة الملكيَّة من الإسلام الشَّامي، التي تمَّت تغذيتها بالكثير من الأحاديث والروايات الموضوعة على لسان الرَّسول بهدف تثبيت أركان ملكهم.. وكذا حصل بعدما قامت على أنقاضها نُسخة الإسلام العبَّاسيّ، حيث أضيفت أحاديث عن عظمة العبَّاس عمِّ الرَّسول، وأحقِّيَّة عائلته دون سلالته، بزعم أن الأنبياء لايورِّثُون، مستعيدين مقولة الخلفاء الأوائل الذين لاينتمون لآل بيت الرَّسول!؟ واستمرت نسخ الإسلام العربية بالتوالد والتكاثر حتى آخر نسخةٍ فاطميَّةٍ، لتنتقل بعدها إلى غير العرب منذ عصر المماليك وصولاً إلى العثمانيين، حيث عومل المسلمون العرب كمواطنين من الدرجة الثَّانية. وهكذا تمَّ إنتاج كومة من النُّسخ التي تمثل حِقَباً زمنية عديدة، ولم تكن أيٌّ منها نسخةً مثاليَّة في الحكم والسياسة ليبقى السُّؤال: أية نسخة يريد دعاة الدولة الدينية استعادتها وتطبيقها على مواطنيهم قسراً خارج شرط الزمان والمكان ؟ فقد تكدست النسخ في الأزمنة الهاربة من الحاضر وبات الناس يتوقون إلى نسخة منقحة ومزيّدة تنقذ حياتهم وتحمي أرواحهم الهائمة بين العصور، بعدما تغيرت مدلولات الآيات في القرآن الكريم على أيدي الشراح لمطابقتها مع كل تغيير سياسي للأسر الحاكمة، وقد ساعدهم أن القرآن حمال أوجه حسب تعبير الإمام علي .. فقد كانت المؤسسات الفقهية عبر العصور الإسلامية أداة سيطرة وزجر وعقاب من دون ثواب دنيوي !
بالعودة إلى مصطلح الإسلام الشامي الذي أطلقته أواخر سنة 2011 في ثماني حلقات نشرتها على موقع "الجمل" ركزت فيها على متغيرات النسخة الراشدية من الإسلام بعد مرورها عبر فلتر دمشق وسوقها وثقافتها المسيحية البيزنطية وجغرافيتها المعتدلة وفاكهتها وذهبها ونساءها المنعمات وخماراتها الأنيسة ومكتبات أديرتها النفيسة، وكذا بلاد مصر التي احتلها جيش الشام، حيث كانت بالنسبة لمسلمي الجزيرة العربية أشبه بالجنة التي تجري من تحتها الأنهار كما في وصف القرآن الكريم، حيث تشكلت فيها أول نسخة إسلامية متمدنة خارج الجزيرة العربية متأثرة بمكونات البيئة الجديدة. وكان من الطبيعي أن تتنازع مع النسخة الراشدية في المدينة ومكة وأن تنتصر عليها بغض النظر عن أحقية الخلافة، حيث يطوع السياسيون الآيديولوجيا لصالح السلطة دون الناس .
يعتبر كارل شميت أول من استعمل تعبير "اللاهوت السياسي" معتبراً أن " مفاهيم النظرية الحديثة للدولة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة. وفي خاتمة كتابه "اللاهوت السياسي" يربط شميت بين اللاهوت والقانون، حيث أن القانون واللاهوت يتأتيّان عن الدافع ذاته. ويرى أن الملك كان يتماهى مع الله في جوهر واحد.. وقد مثل "جوزيف دومستير" هذه الفكرة مسيحياً بقوله: "أن البابا هو السلطة العليا والمطلقة، لأنه معصوم من الله وليس له أطفال ولا له ملكية شخصية مادية وليس له زوجات"...
وبالرغم أنه لا يوجد نظرية للحكم في القرآن الكريم، ولم ترد فيه كلمة سياسة، فقد تم تسييسُ الكتاب المقدَّس على يد صقور الإسلام المتنافسين على السلطة، منذ حادثة رفع المصاحف على أسنة الرماح في معركة صفين في أشهر مناورة سياسية عبر تاريخ المسلمين. وفي الواقع فإنَّ وَضْعَ باقي الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل) عند اليهود والمسيحيين، لم يكن أحسن حالاً، حيث استخدمهما حكَّامُ العصور الوسطى لإخضاع شعوبهم باسم الرَّبِّ قبل غزو العالم بهم، من القدس وسوريا شرقا إلى أمريكا غربا، حيث استعان المستعمرون الأوربيون الأوائل بأسفار العهد القديم لتطهير أرض القارة من سكانها الأصليين بدعوى أنهم اكتشفوها! وكذا فعل الصهاينة في استعمارهم لفلسطين باعتبارها أرضا بلا شعب .. إنَّهُ كتابٌ أعجوبة، وسلاحٌ ماضٍ وفَّر تأويلهم لأسفاره وآياته وإصحاحاته خضوعُ الأصدقاء والأعداء، حتى غدا كتابَ سيطرةٍ أكثرَ من كونه رسالةَ إيمان ومحبَّة! وقد لخَّصَ كاتب سيناريو الفيلم الأمريكي (كتاب إيلاي) هذه الفكرة، عبر أحداث الفيلم التي تبدأ بعد ثلاثة عقود من وقوع كارثة نوويَّة وغياب أي نظام اجتماعي، حيث نشاهد بلدةً متداعية تتحكَّمُ بها عصابة وزعيمُها المثقَّفُ "كارنيجي" الذي يحلمُ بتوسيع سيطرته على المزيد من التَّجمُّعات البشرية المتوحشة الذين يأكل بعضهم لحوم بعضهم الآخر. وهو يطلب من رجاله الأميين أن يجلبوا له ما يعثرون عليه من كتب بحثاً عن نسخة الكتاب (الإنجيل) الذي سيحكم به النَّاس ويكسب طاعتهم وولاءهم بعدما دُمّرت كلُّ نُسَخِهِ في الانفجار النَّووي، ويقال أنَّ هناك نسخةً باقيةً لم تدمَّرْ هي نسخةُ الملك إدوارد.. وتتطوَّرُ الحكاية بوصول المسافر إيلاي "دنزلي واشنطن" إلى بلدته ليكتشف كارنيجي عبر فتاته الجميلة أنَّ إيلاي إنسانٌ مختلف وهو يحمل نسخة الكتاب معه، فيحاول استمالته وإغراءه للبقاء معه بحيث يأخذ دور الكاهن، لكنَّ إيلاي المؤمن صاحب رسالة وهو يريد إيصالها إلى أصحابها. بعد ذلك تجري العديدُ من المعارك بين إيلاي (من إيل) وعصابة كارنيجي الإجراميَّة لرفضه البقاء والانضواء تحت إمرته كمشرِّعٍ ديني يرسخ له حكمه بسلطة عليا غير منظورة.. في المعركة الأخيرة يصاب إيلاي برصاصة ويفقد الكتاب لكنه يتمكَّنُ من إكمال رحلته إلى البوَّابة الذَّهبيَّة، ويسمحون له بعبورها مع فتاة كارنيجي الجميلة التي تؤمِنُ بإيلاي (مثل مريم المجدلية والمسيح)، فتتبعه ثم ترافقه في رحلته إلى السَّاحل الغربي حيث يوجد مجموعة من الناجين الذين يستخدمون بناء سجن لتدوين وحفظ ما يمكن إنقاذه من كتب.. أخيراً يصل إيلاي جريحاً إلى البوابة الذهبية ولكنه يعيش حتى ينتهي من إملاء الكتاب على المدوِّنين ثم يموتُ متأثراً بجراحه. وبالعودة إلى كارنيجي فإنه يكتشف، بعد حصوله على نسخة كتاب إيلاي، أنَّ عليه قفلاً تمَّ فتحُهُ باستخدام صانع أقفال (مثل الفقهاء والمفسِّرين)، لتأتي المفاجأة: أنَّهُ مكتوبٌ بلغة "بريل" للعميان، وأنَّ إيلاي كان أعمى، كإيحاءٍ بأنَّ كلمات الكتاب مُعَمَّاة، ولايستطيع قراءتها سوى العميان المختصِّين، بمعنى أنَّ كلَّ قارئ أعمى سيقدم صياغة مختلفة للأسفار عن بقية القُرَّاء العميان، بحسب قراءته لرموزها عبر التَّلَمُّس، وبالتالي فإن تعدُّد قراءات العميان للكتاب ستؤدي حكماُ إلى اختلافها وإلى تشكُّلِ مذاهب عديدة بعدد قراءاته، وكذلك ستنتج متدينين عميان يتلمسون طريقهم في متاهات اللاهوت السياسي...
في المشهد الأخير للفيلم نشاهد أمينَ مكتبة السِّجن، بعد الانتهاء من تدوين الكتاب وموت الراوي الأخير له، وهو يضع الإنجيل على أحد الرُّفوف في مكانه بين التوراة والقرآن كثلاثيَّةٍ تمَّ إصدارها خلال ثلاثة آلاف عامٍ من قِبَلِ مصدر واحد، وقد يوحي للمشاهد المسلم بتشابه أهداف عصابة كارنيجي مع جماعات الإسلام السياسي التي تستخدمُ (القرآن الكريم) للسيطرة على عقول أعضائها وخدمة أهدافها ومصالحها الشخصية.
في الفصل الأخير من كتابه "العقد الاجتماعي" يرى جان جاك روسو أن الدين يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًا في تعزيز القيم الأخلاقية والتماسك الاجتماعي، لكنه يجب أن يكون منفصلاً عن السلطة السياسية. وهو يتحدث عن دين مدني، يكون هدفه الحفاظ على القيم والمبادئ الأساسية للمجتمع، دون أن يتحول إلى وسيلة للسيطرة السياسية.
نبيل صالح: مركز مجتمع للدراسات
إضافة تعليق جديد