20-10-2017
ورحل سيرج تيون: الفرنسي عدوّ الصهيونية اللدود
ذات يوم في أواخر الستينيات كنت في منزل الصديق المخرج اللبناني كريستيان غازي (1934 – 2013) وزوجته الممثلة مادونا مجدلاني (توفيت في حادث سير في الأردن عام 1978)، الكائن آنذاك في محلة بربور في بيروت. هناك قدّمني كريستيان إلى شاب فرنسي طويل القامة، نحيل، شعره الأشقر منسدل حتى كتفيه، يرتدي جينزاً قديماً على قميص بنصف كمّ، ومعه سيدة جميلة شقراء.
"الرفيق سيرج تيون وزوجته ميشال"، قال كريستيان ثم قدمني إليهما. منذ ذلك اللقاء إنعقدت بيني وبين سيرج صداقة ظل كريستيان طرفها الجامع حتى وفاته. وكان سيرج يأتي إلى لبنان بين وقت وآخر إما للقائنا وقضاء عطلة في لبنان، أو عبوراً إلى بلدان عربية أخرى مثل سوريا والأردن ومصر. في كثير من هذه الزيارات كنا نقوم بجولة في القرى الجنوبية الحدودية نطلع خلالها سيرج على ما نعرفه من المستعمرات الإسرائيلية المحاذية، لا سيما من بلدتي العديسة حيث كان سيرج وزوجته يمضيان الليلة ويتمتعان بالضيافة القروية عند الأهل والأقارب، ويتذوقان أصنافاً من الأطعمة التقليدية مثل الكبة النيّة والمجدرة التي أسهما في ذيوع صيتها لدى أصدقائهما الفرنسيين الذين كانوا يرسلونهما إلينا على سبيل السياحة، والتعرف على جوانب من الصراع العربي – الإسرائيلي وأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات اللبنانية.
آنذاك كنا جميعنا ننتمي إلى تيار اليسار العالمي المناهض للإمبريالية والاستعمار في أقطار الدنيا ابتداءً من فلسطين مروراً بالجزائر وفييتنام وجنوب أفريقيا وبلدان أميركا اللاتينية. وكنا مساندين لحركات التحرر الوطني حيثما وجدت. وكان كريستيان أو مخرج لبناني جعل من قضية الكفاح الفلسطيني المسلح قضيته الأولى وأخرج في هذا السياق بضعة أفلام أشهرها "مئة وجه ليوم واحد"، و"الفدائيون".
أما سيرج تيون فبدأ حياته النضالية بمساندة الثورة الجزائرية عبر الكتابات والتظاهرات التي كانت تجري في باريس، وشارك في حملات الدعم المادية للثوار وكان أحد الذين أطلقت عليهم آنذاك صفة "حَمَلة الحقائب"، كناية عن أنصار الثورة الجزائرية الذين كانوا يقدمون خدمات مادية ومعنوية للمقاتلين في الميدان.
كذلك بدأ سيرج يهتم من وقت لآخر بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين، والصراع العربي –الإسرائيلي، وذلك منذ عام 1961 عندما زار قطاع غزة، الذي كان آنذاك تحت السلطة المصرية وكانت مصر في مرحلة النضال الوطني الذي استقطب اهتمام الشبيبة العربية واليسارية العالمية، ولا سيما منذ بدء العمل على بناء السدّ العالي، بتمويل وخبرات سوفياتية بعد رفض الولايات المتحدة المساعدة على بناء السدّ.
بعد ذلك دأب سيرج على القيام بجولات تتفاوت مدتها في لبنان، وفي الاردن حيث كان يعقد لقاءات مع مناضلين فلسطينيين من مختلف المشارب، ويقوم بزيارات للمخيمات ومعسكرات تدريب الفدائييين والاشبال قبل أيلول الأسود (1970). وتابع سيرج اهتمامه بالقضية الفلسطينية في المراحل اللاحقة مروراً باحتلال إسرائيل للبنان عام 1982، ونشأة المقاومة الوطنية اللبنانية، وتحرير الحنوب والبقاع الغربي عام 2000، وحرب عام 2006 والهزيمة التي منيت بها إسرائيل على يد المقاومة الإسلامية بمساندة الجيش اللبنانية. وفي كل هذه المراحل كانت لسيرج لقاءات ومناظرات إعلامية حول القضية الفلسطينية والقيام بزيارات لبعض المخيمات الفلسطينية. وعقد لقاءات مع عدد لا بأس به من الأصدقاء والمعارف اللبنانيين والفلسطينيين. وكان بيته في الضاحية الباريسية موئلاً لكثير من المناضلين العرب والفلسطينيين الذين يزورون فرنسا. كما كان هذا البيت بالذات هو بيتي الثاني طوال 15 عاماً قضيتها كصحافي في باريس.
ويمكن تلخيص فكرة سيرج تيون حول مآل الصراع العربي – الإسرائيلي أن لا جدوى من المؤتمرات الدولية الرامية إلى إيجاد حل للقضية الفلسطينية. وأن إسرائيل التي قامت بالقوة ولا تزال تعتمد على القوة العسكرية في بقائها ستكون هذه القوة بالذات هي سبب إنحلالها وزوالها.
وله في هذا السياق وجهةنظر تقول بأن الكفاح الفلسطيني المسلح قام في وقت غير مناسب من دون أن يمتلك فرصاً حقيقية للنصر. وأن النضال الفلسطيني كان يجب أن يركز أولاً على الداخل من خلال تعبئة المواطنين الفلسطينيين الذين يرى أن نهاية إسرائيل لن تكون إلا على أيديهم بصدروهم العارية وبالحجارة التي يقامون بها قوات الإحتلال. وعنده أن المقاومة المسلحة الناجحة هي التي تمتلك عناصر القوة وتحقيق النصر، وهذا يقتضي الاستعداد المسبق والطويل النفس، وامتلاك العقيدة الواضحة والتصميم من قبل المقاومين، وهذا ما اتصفت به المقاومة الإسلامية في لبنان. الخلاصة أن هذا المفكر والمناضل الأممي يرى أن لا مستقبل للكيان الصهيوني في المنطقة، وأن مصير إسرائيل هو الزوال.
ويتوقع أن يضع الغربيون قوانين تسمح للمواطنين الإسرائيليين بالعودة إلى البلدان التي جاؤوا منها إلى فلسطين عند قيام الكيان الصهيوني، وذلك بعد انحلال هذا الكيان في حركة عودة معاكسة يرى لطلائعها منذ الآن في ازدياد عدد الإسرائيليين الذين يقررون العودة إلى البلدان الغربية بصورة نهائية.
بعد حرب 2006 جاء سيرج إلى لبنان بدعوة من المناضلين الفلسطينيين واللبنانيين الذين كانوا قبل الحرب يعدون لمؤتمر حول القدس. وقام سيرج بجولة واسعة على القرى الجنوبية المدمرة نظمها إعلام المقاومة للصحافيين والزوار الأجانب. وأجرى بعد ذلك مقابلة مع تلفزيون المنار حول انطباعاته عن الحرب وانتصار المقاومة. كذلك قام بجولة مماثلة في الضاحية الجنوبية المدمرة هي أيضاً وأصرّ على أن يتناول الغداء في منزلي المتضرر والمطلّ على مشهد الخراب الكبير في الحيّ.
راقب تيون عودة كثيرين من الأهالي لتفقد منازلهم أو ما تبقى منها أو حتى ركامها مبدياً إعجابه بصمود هؤلاء المواطنين ومعنوياتهم المرتفعة، كما أعجب بنوع خاص بالشعار الذي الذي كتب على اللافتات الكبيرة والذي رفعه سيّد المقاومة آنذاك السيد حسن نصر الله، من أن الضاحية ستعود أجمل مما كانت ... وهكذا كان.
غير أن المواجهة الأخطر التي جعلت سيرج تيون عدواً لدوداً للصهيونية والأنظمة الغربية المؤيدة لإسرائيل هي قضية "المحرقة اليهودية"، التي بدأت بتشكيك الباحث الفرنسي الباحث الفرنسي روبرت فوريسون في وجود "غرف الغاز"، العمود الأساسي االذي تقوم عليه "أسطورة" الإبادة لليهود على يد النظام الألماني النازي في الحرب العالمية الثانية. وبالتالي كشف الكثير من الأكاذيب والحقائق المزورة والمذكرات المفبركة، التي كتبت بأقلام يهود زعموا أنهم رأوا "غرف الغاز" تلك، أو أنهم كانوا في مراكز الاعتقال التي أقامها النازيون لها.
كما شكك فوريسون في العدد المزعوم للضحايا اليهود على يد النازية، وهو 6 ملايين قضوا في "غرف الغاز" وفي معسكرات الاعتقال الحقيقية.
بدأ الانخراط العملي لسيرج تيون في هذه القضية عام 1978، عندما نشرت صحيفة "لوموند" نصاً لفوريسون يشكك في وجود "غرف الغاز" وفي "المحرقة" مما استدعى ردود فعل غاضبة من قبل العديد من المثقفين والكتاب اليهود، واعتراضات شديدة لعدد من الجمعيات والمؤسسات الدائرة في فلك الصهيونية.
تلا ذلك صدور كتاب "حقيقة تاريخية أو حقيقة سياسية" بتوقيع سيرج تيون ومشاركة فوريسون، مع مقدمة للمفكر الأميركي نعوم تشومسكي. وفيه يعرض تيون لقضية فوريسون عرضاً شاملاً بالوقائع والحقائق والابعاد، مما حمل إدارة المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، الذي يشغل فيه سيرج وظيفة باحث، على تشكيل لجنة حكمت عليه بالفصل من المركز بتهمة "إنكار جريمة ضد الإنسانية". وكانت قضية فوريسون قد انتهت بسنّ قانون فرنسي يعاقب كل من يشككّ في "المحرقة اليهودية"، وهذا من أغرب القوانين التي تصدر في دولة كفرنسا ينص قانونها على حرية التعبير وعلى حقوق المواطن والإنسان.
منذ ذلك الحين أصبح سيرج تيون عرضة للمنع من النشر في جميع الصحف الفرنسية، وموضع إفتراءات صهيونية بأنه معاد للسامية، وهو أبعد الناس عن العنصرية بشتّى أشكالها.
ولكن ذلك لم يفتّ من عضد هذا المناضل الصلب فأنشأ موقعاً إلكترونياً، ونقل مركزه كما نقل مكان إقامته إلى إيطاليا حيث عمل على تغذية الموقع دفاعاً عن حرية الرأي، وفضحاً لجرائم الصهيونية والإمبريالية الأميركية والتبعية الفرنسية لهما.
وفي كانون الأول 2006 تحدى سيرج تيون القانون الفرنسي الذي يعاقب من ينتقد المحرقة اليهودية، فحضر مع روبرت فيسك وزملاؤهما في حركة إنكار المحرقة وغرف الغاز، المؤتمر الدولي حول المحرقة والآفاق العالمية الذي انعقد في طهران، وكنت من بين المدعويين لحضوره.
وبعد أن أمضى سيرج تيون نحو سنتين في إيطاليا عاد إلى منزله في بلدة أوبراي ليتابع نشاطه النضالي تحت أسماء مستعارة. وهناك يشيّع جثمانه غداً الجمعة عن عمر يناهز 75 عاماً (1942- 2017).
من مؤلفات سيرج تيون:
السلطة الشاحبة، أو العنصرية الجنوب أفريقية (1969).
حقيقة تاريخية أو حقيقة سياسية (1980)
عود ثقاب على جبل جليد (1992).
المصدر: الميادين نت
إضافة تعليق جديد