الإقتصاد السياسي في الإسلام

27-10-2024

الإقتصاد السياسي في الإسلام

نبيل صالح:
لايمكن فهم السياسة بمعزل عن الاقتصاد، غير أنَّ المالَ في الإسلام هو مالُ الله، والخليفة هو من ينفذ مشيئة الله ويقدّر كيفيَّة جمعه وصرفه، وهذا أكثرُ ما أساء لروحيَّة الإسلام، إذ صار الرَّبُّ مالكٌ افتراضيٌّ لما يجمعه جُباة الضَّرائب عن الأموال والأراضي والدَّواب والبشر، يوزعها الخليفةُ والوالي بمعرفته دون الاستناد إلى إدارة وقوانين مالية تنظم اقتصاد الدولة، فمال الله يوزع على الأمراء والجند والصحابة والشُّعراء والمتسولين (الذين مازالوا يستخدمون إلى اليوم جملة: من مال الله)، بينما بقية الرعية هي من تنتج وتدفع إلى الله ! وكان ديوان العطاء (سجل الرواتب) الذي تأسس سنة 20 للهجرة يُطبًّق على النخبة الإسلامية في المدينة، وعلى مقاتلة الشام والعراق وفق سابقتهم في الإسلام بدءاً من تاريخ معركة بدر، وفي المقدمة عطاءُ أراملِ النَّبي المقدَّرة 12 ألف درهم سنوياً، ثمَّ بالدَّرجة الثانية يأتي المهاجرون والأنصار والمقدرة 5 آلاف درهم، ثم المهاجرون إلى الحبشة والمشاركون في "أُحُد" 4 آلاف درهم، ثم المهاجرون إلى المدينة قبل فتح مكة 3 آلاف، وأخيراً الدَّاخلون في الإسلام بعد فتح مكَّة، ويتقاضى واحدهم ألفي درهم في العام.(البلاذري / فتوح 437)


فمثل كل الكتب المقدسة لاتوجد نظريات اقتصادية في القرآن الكريم، وإنما بيانٌ لموقف الدين من المال وكسبه عن طريق الحلال، وإنفاقه فيما يحقق صالح الإسلام والمسلمين. فبارك أعمال التجارة، وقيَّد البُيُوع، ومَنَعَ الرِّبا والاحتكار ومَنَعَ الغِشَّ وأكْلَ أموال اليتامى، وحَضَّ على تقديم المُهُور والأجور إلى مستحقيها، وحدَّدَ توزيع أسهم الغنائم والأسلاب بين المسلمين، بالإضافة إلى تحديد قيمة الزَّكاة والجِزية والخِراج والعُشْر والصَّدقات (كتاب الأموال لابن سلام)... أما كلمة الاقتصاد الواردة في القرآن الكريم فكانت تعني التوسُّطَ والاعتدال، وفي الحديث: "ماعالَ مَنِ اقتصد"، ولم يكن قد تطوَّرَ معناها إلى العلم الذي تُدَبِّرُ به الحكوماتُ شؤونَهَا اليوم، كما لم يكن هناك عملة إسلامية حتى سنة 74 للهجرة، فقد كانت صورة هرقل وابنيه تضرب على الدنانير النحاسية الإسلامية حتى غيرها عبد الملك بن مروان فجعلها ذهبية وضرب صورته عليها فاحتج الصحابة وتم وضع شهادة التوحيد عليها. واستمر هذا التقليد ألف عام، إلى أن جاء سلاطين بني عثمان فاستبدلوا الشهادة والآيات بوضع أسمائهم وألقابهم المعظمة عليها، حيث أخذ السلطان دور الله تعالى في تقدير معاش مسلمي الإمبراطورية !؟ ومن يعود إلى التشريعات النقدية عند أئمة المذاهب يجد أن الشرع قيد أرباح العملة في ذاتها فهي مجرد حوالات بقيمة ثابتة وكأن متغيرات السوق لاتمر عليها ! وأما المصارف الإسلامية القائمة اليوم، فلا تربطها علاقة بالإسلام سوى اسمها الذي تستقطب به المودِعِين المتديِّنين، إذ لا يسمح الإسلام بالمرابَحَة عن المال في الأجل، ولم يعترف بتنامي قيمة الأرباح في الزَّمن، واعتبرها من الرِّبا، وكذا في المقايضة: الذَّهبُ بالذَّهب، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعير، ولم يميِّز حتى في جودة النَّوع الواحد، كما مَنَعَ المُقايَضَةَ بين نوعين مختلفين، فعطَّلَتْ شُبهةُ الرِّبا حيويَّةَ وحركةَ الاقتصاد، لأنَّ: "كلُّ قرضٍ جَرَّ منفعةً فهو رِبا" ، وإنما اقتصرت فائدة القرض على الثَّواب للمقرِضِ في الآخرة، وتمَّ بذلك هدرُ مضاعفة الأرباح في الزَّمن.


يقوم بنيان الدول على الضرائب المحصَّلة من الرَّعايا، وهذا ما دفع الخليفة أبو بكر إلى إعلان الحرب على القبائل التي رفضت دفع الزكاة عن أموالها وقال جملته الشهيرة: "والله لو منعوني عقال بعير لحاربتهم عليه"، وصدر قوله هذا كحاكم دنيوي، كونه لم يستشهد بقرآن أو حديث شريف في قرار الحرب، ولم يعترض الصَّحابة الذين حكموا من بعده على قراره بكونهم رجالُ دولة. ويقول المفكر هشام جعيط في هذا الصَّدد: "إنَّ الفتح العربيَّ الذي استهلَّه وقرَّره أبو بكر حدَّدَ مَهمَّة العرب بالحفاظ على هُويَّتهم، والجُهُوزيَّة الدَّائمة للجهاد، وأن ينقادوا للأعمال الحربيَّة، وكان يتعيَّن على الشُّعوب المغلوبة الباقية فوق أرضها، أن تلبِّيَ حاجاتِ العرب، وأن تعفيهم من السَّعي وراء اللقمة، وذلك بدفعها الخراج على الأرض والجزية على الرؤوس والعشر على التجار من غير المسلمين، لكن خلافاً لقوانين الحرب العربية، لم يَجْرِ تقاسُمُ الأرض بين الغالِبين، ولم يُحوَّلْ السُّكَّانُ الأصليُّون إلى رقيق، وأُعلنت الأراضي أملاكاً عامة. وكان نظام التوزيع والمكافأة الذي ابتكره عمر وطبَّقه يقوم على جعل المقاتلة العرب يعيشون من عمل فلاحي الأرض المفتوحة".


 ومع توسُّع دولة الإسلام في سورية والعراق ومصر، توسَّعت مظلَّة الضَّرائب، وبدأ تشكُّلُ اقتصاد الدولة بإنشاء بيت مال المسلمين الذي تتدفَّق الأموال إليه من توسُّع الغزو في البلدان، "فكانت أراضي الخراج في السَّواد، التي يشغلها الفلاحون وتديرها طبقة النُّبلاء المحليُّون (الدهاقنة)، كانت تنتج القسمَ الأساسيَّ من عائدات العراق التي قدرت في عهد عمر بمئة مليون درهم" ( كتاب الأموال). وما زالت  قبة الخزنة قائمة وسط الجامع الأموي بدمشق إلى اليوم شاهداً على تراث الاقتصاد الإسلامي الذي تشكَّلَ متأثراً بنظام *السُّوق الدِّمشقي المحيط بالجامع، إذ تم ربطُ الاقتصاد بالدين لإنتاج السياسة، وبات أميرُ المؤمنين هو آمرُ الصَّرف لمصرفٍ يمنعُ الفائدة (الرِّبا) ولكنه لايمنع الهبة، الأمر الذي أغلق الباب أمام المسلمين، وفتحه أمام المُرابين من اليهود والمسيحيين للإثراء والتقرُّب من الولاة بالهدايا طوال ثلاثة عشر قرناً، حتى أواخر العهد العثماني، عندما سمحت السَّلطنة بإنشاء المصارف الأوروبية الرَّبَوية التي كانت تدفع ضرائبها إلى "الدَّولة العليَّة"، فكان اقتصاد القصر هو الغالب في العصور الإسلامية المتعاقبة، وكان ابن خلدون لاحظ ذلك في الفصل الأربعين من مقدمته إذ يقول: "إنَّ التجارة من السُّلطان مضرَّةٌ بالرَّعايا ومَفْسَدَةٌ للجباة". وقد فصَّل في المَضَارّ النَّاتجة عن تدخُّل الدَّولة في النَّشاط الاقتصادي، وأشار إلى الممارسات الخاطئة من قبل السُّلطان من الاتجاه لمزاحمة الفلاحين والتُّجار، وعدم وجود حالة من التَّكافؤ بين السُّلطان وباقي شركاء السوق.


لذلك فإن الجزء الأكبر من الخلافات بين ولاة المسلمين ومناهضيهم كان على مال الله، حيث تظنُّ كلُّ فرقة وجماعة أنهم أكثر إيماناً بالرَّب من خصومهم، وبالتالي فإنهم الأحقُّ بإدارة دولته وتوزيع ماله، وقد قُتِلَ وشُرِّدَ الكثيرُ من المسلمين الصَّالحين لأجل ذلك، وحتى فقدان الأندلس كان بسبب الأموال... والواقع أنه لو لم يكن هناك مال وطمع وجشع في الأرض لما اختلف الناس على الله في السَّماء، ويكفي أن نذكر أنه بالرغم من منع الخليفة عمر لوجوه المؤمنين من مغادرة المدينة فقد هاجر أكثرُ من 500 صحابيٍّ جليلٍّ إلى مدينة حمص وحدها ، تركوا مكة المكرمة والمدينة المنورة ليقيموا مع القائد الكريم خالد بن الوليد بعدما ولاَّهُ عثمان بن عفان على حمص وباديتها بغالبيتها المسيحية، حيث كان يُجِري عليهم خراجاً وفيراً بعدما ضاعف الجزية على غير المسلمين حتى تحول أغلب سكان حمص إلى الإسلام.. إذاً فَمَنْ يضمنُ أنَّ الإسلاميين اليوم حين يضعون يدهم على مال الله سيوزِّعُونه على الرَّعايا بالتَّساوي، ومَنْ يضمنُ عدم تنازعهم وانقلابهم على بعضهم قبل غيرهم؟
يقول د.هشام جعيط: أن الفترة الأولى من ولاية عثمان كانت فترة هدوء تركز فيها الاهتمام على المشاكل الداخلية، وكما هو الحال في كل فترة تلي الفتح، فإنا نشهد هنا فترة إدراك تجاه تدفق الثروات، وفي وقت واحد اختلَّ التوازن وتراكمات الذَّهب والفضة والأحجار الكريمة، وكانت الثروات تجد طريقها نحو أولئك الذين يستطيعون أو يجيدون التقاطها، وكان بيتُ مال الخليفة يغصُّ بالمال بعد عشر سنوات من الفتح المتواصل، على الرغم من أنه لا يحق له سوى خمس الغنائم، كما أنه كان يتغذَّى من صدقات الجزيرة وضرائب الزكاة المفروضة على الماشية المخصَّصة للمساكين وأبناء السبيل، وأخيراً كان يتغذَّى بقسم من الفيء (خُمْسِ عائدات الأراضي من الملوك المغلوبين والارستقراطيين الحربيين الذين فرُّوا أو تم قتلهم). وكان العمال وقادة الجند يتعاملون مع مبالغ هائلة مصدرها الغنائم وعائدات البلدان المفتوحة، وكان التجار يقتفون آثار الجيوش فيشترون عبيداً وحجارة كريمة وأشياء ثمينة يبيعونها بأضعاف ما اشتروها. (الطبري: ج 4 ص 117).


إنَّ رَبْطَ الاقتصاد بالدين كان سببَ فشلِ الإسلاميين المعاصرين في إدارة معاش النَّاس واقتصادهم في الحكومات التي أداروها لعدم وجود نظرية  اقتصادية أو مثال عمليٍّ مناسب في التَّاريخ الإسلامي يهتدون به، كما لم يفهموا آليات عمل الدولة وجهازها البيروقراطي ومراكز القوَّة ونقاط الضَّعف فيه. وما تقدم يثبتُ خَطَلَ مقولة الإسلاميين بأنَّ الإسلام دينٌ ودُنيا، بينما الرَّسولُ يقول: أنتم أعلمُ بأمور دنياكم!


 فقد شكلت الزكاة والجِزية والغنائم عصبَ الاقتصاد النَّبوي، وكان للنَّبيِّ خُمْسُها بحيث أنَّه توفِّيَ وهو يملك 1217 كغ ذهباً، وخمسة عشر أرضاً، (عبد الفتاح محمد السمان: أموال النبي: رسالة دكتواراه بإشراف الشيخ محمد الزحيلي) ولكنه كان يعيش كزاهد، إذ كان يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة ، فيكون أربعة لمن شهدها ويأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه ، فما أخذ من شيء جعله للكعبة (وهو سهم الله )، ثم يقسم ما بقي على خمسة فيكون سهم لرسول الله وسهم لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل، والأخيرة مازالت مشرعنة في الآداب الإسلامية حيث يتصدق المؤمن من ماله على المتسولين الذين تحولوا إلى طبقة تعتاش على حساب المجتمع، بينما تقوم ضابطة الشؤون الإجتماعية بتوقيفهم وتعليمهم مهنة يعتاشون منها، ذلك أن سيادة الدولة ومنعتها من كرامة وعزة وشبع مواطنيها..

مركز مجتمع للدراسات

 

 

التعليقات

مهتم بمتابعة دراساتكم التي تعتمد على المنهج العلمي و البحث الموضوعي

مقال رائع فيه حقائق دامغة وخلاصة تجارب الأمم اضافة الى تجارب أمتنا
بالتوفيق وشكرا لجهودك القيمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...