من ينقذ الجغرافية العربية من براثن السياسة الغربية ؟
1
الصراع في المنطقة العربية هو الأصل والسلام هو الإستثناء إذ لم يكن يوما أكثر من هدنة بين حربين، ولطالما كانت الحرب مهنة في بلادنا حتى أن كثير من العائلات العربية تحمل اسم الجندي أو العسكري، في سوريا وفلسطين والأردن ومصر والكويت، فقد كانت بلادنا منذ بداية التاريخ الإنساني مسرحاً لصراع الأمم ومحركاً لسياساتها بحيث يمكن القول أننا نمثل أول تجلٍّ للجغرافيا السياسية في العالم وأن شعرة معاوية المراوغة ممتدة في تاريخنا أبداً، لهذا كان الحاكم السياسي هو أيضاً القائد الأعلى للجيش، وكان الجيش دائماً هو المؤسسة العليا التي تحكم مصير البلاد، وغالبا ما كان الجيش يضم جنرالات طامحون للحكم، وهذا أحد أسباب عدم توفر الشرط الديمقراطي للحياة المدنية العربية المعاصرة بعد الإنقلابات العسكرية للضباط الأحرار الذين شكلوا سياسة وطنية على مستوى ثقافتهم في خمسينات وستينيات القرن الماضي، ولم تكن ثقافتهم ومعدل ذكاءهم بمستوى وطنيتهم فقادوا مجتمعاتهم بالارتجال أكثر منه بالتخطيط وأهدروا الكثير من طاقات الأمة وفرصها دونما جدوى !؟
فقد وفر استمرار الحروب بيئة خصبة لظهور القادة الشجعان والمحنكين بالتجارب وإن كانت تنقصهم الثقافة؛ ومثلما كانت فلسطين بعد غزو الصليبيين سبباً لظهور صلاح الدين الأيوبي وعمه السفاح شيركوه، وحكم الأيوبيين لمصر وسورية والحجاز وشمال أفريقيا في القرن الثاني عشر، فإن وجود الاحتلال الإسرائيلي شكل فرصة لتضخم مؤسسات الجيش وانقلابات الضباط الأحرار في مصر وسورية وليبيا والسودان والعراق، واحتلالهم الإذاعات وإصدار البيان رقم واحد؛ حيث تمت عسكرة الحياة المدنية، وكانت السياسة العربية رهينة الصراع العربي الإسرائيلي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ليرتد الصراع إلى داخل هذه الدول بعد إغلاق باب الحرب الموجهة ضد إسرائيل عبر سلسلة اتفاقيات سلام بدأت قبل أربعين عاماً ولم تقدم للشعب الفلسطيني شيئا غير المزيد من الشهداء، فانفجر القمقم العربي منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، واشتعل الصراع بين الإسلاميين والقوميين فيما وسمناه بالربيع السلفي، بينما كانت "إسرائيل" تتمدد في الجغرافيا السياسية العربية من المحيط إلى الخليج. ليبقى السؤال: لماذا بقيت إسرائيل كياناً أقرب للديمقراطية رغم عسكرة مجتمعها المدني، وكيف يعيش سكانها بمستوى اقتصادي وعلمي جيد بينما لم نتمكن نحن العرب من ذلك ؟
2
إذا فالوجود الإسرائيلي ساهم بتشكيل الجغرافيا السياسية العربية بشكل سلبي، وهو وجود يشكل استمراراً للحرب العالمية الثانية وجملة التفاهمات التي حصلت بين دول التحالف، إذ اعترف الفرقاء جميعا "بإسرائيل" بما فيهم الشيوعيون، حيث تخلصوا جميعاً من فائضهم اليهودي باتجاه فلسطين، ويحكى أن بن غوريون حين زار الاتحاد السوفياتي طلب مساعدة ستالين الذي سأله: وكيف يمكنني مساعدتك؟ فأجاب بن غوريون: بركلة من الخلف.. وهكذا قامت أعمال العنف ضد يهود روسيا فجاءت أكبر دفعة مهاجرين منهم إلى فلسطين.. ولكن هل تشكل "إسرائيل" فعلاً قاعدة أمريكا لحماية مصالحها في الشرق الأوسط؟ هكذا يقول السياسيون العرب ليبقى السؤال: وما حاجة الولايات المتحدة إلى قوة إسرائيل طالما لديها800 قاعدة عسكرية موزعة في العالم، وفي كل دولة شرق أوسطية، (عدا لبنان وإيران والجزائر، وكانت سورية والعراق كذلك خالية من القواعد الأمريكية قبل احتلالها) !؟ ولماذا لم تحمِ إسرائيل نفط إيران الذي كانت تمتصه الولايات المتحدة قبل أن يحرمها الثوار منه؟ الواقع أن التزام الغرب المسيحي بإسرائيل هو كالتزامهم بالتوراة إلى جانب الإنجيل، ولكن بشكل منفصل، على الرغم من أن اليهود يديرون شؤون توراتهم مع إنكار كلي لإنجيل المسيحيين. بينما ينكر اليهود والمسيحيين قرآن المسلمين، حيث باتت القدس بمثابة قمقم الديانات التوحيدية التي تتصارع فيها وعليها عبر الفائض الديني التاريخي الذي يتدفق من المسجد الأقصى وكنيسة المهد وحائط المبكى ليصب في بحر الكراهية الميت من شدة ملوحته، مانعاً القدس من أن تغدو مملكة السماء والسلام ..
3
ضمن تلاعبها بالجغرافيا السياسية أطلقت الدول الإمبريالية مصطلح (دول العالم الثالث) في منتصف خمسينات القرن الماضي بعد مرور عقد على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو مصطلح استعماري عنصري يشمل بلداناً عريقة في حضارتها كمصر وسورية والعراق والهند، حيث رفضت هذه البلدان الإنخراط في سياسة الحرب الباردة بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي متبنيةً سياسة الحياد الإيجابي بانضمامها إلى دول عدم الإنحياز. فخلال نضال هذه البلدان للتخلص من آثار إستعمار (العالم الأول) ظهر أبطال الاستقلال كقادة وطنيين يتطلعون إلى النهوض بأوطانهم وتحسين حياة شعوبهم، غير أن الدول الإمبريالية، لم تتوقف عن التدخل في شؤون بلدان (العالم الثالث) والتآمر والتجسس عليها، والتدخل في شؤونها، وتمويل الإنقلابات على حكوماتها، وحتى العدوان المباشر على أراضيها كما حصل في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 بعد تأميم الضباط الأحرار لقناة السويس، ولم تنجُ الدول العربية التقدمية من شرور الأنظمة الإمبريالية التي كان يسوؤها كثيراً أن لا تخضع الجمهوريات العربية لإرادتها على غرار الممالك و المشيخات العربية التي استقر حكمها بخضوعها لهم وإعطاء شركاتهم امتياز استثمار ثرواتهم واستخدام جزء من ريعيتها لقلقلة الأنظمة العربية المتمردة عليها كما في سورية ومصر والعراق.. ويمكن القول أن استخدام المصطلح (العالم الثالث) هو تأكيد لاستمرار ثقافة الرجل الأبيض العنصرية تجاه الآخرين والتي كانت دولة جنوب أفريقيا مثالاً لها قبل تحررها من سيطرة الإمبرياليين البيض. حيث تم فيما بعد ابتداع مصطلح مخفف وهو "الدول النامية" الذي يوحي كما لو أن هذه الدول العريقة قد بدأت اليوم بالتحضر بينما هي في الواقع نية مبيتة للوصاية عليها بعد اقناع هذه الدول بمشاريع التنمية كوسيلة لتسلل مؤسسات الدول الغنية وشركاتها لإدارة مواردها واستغلال فقرائها.. فقد تجاهل المصنفون أن هذه الدول التي تفتقر إلى مؤسسات حديثة للرعاية لديها شبكات أمان اجتماعية متوارثة تعتمد على التضامن العائلي والعشائري والديني والإقليمي، وأنها تعوض بذلك عن ضعف الحضور المؤسسي حيث نرى كيف يفتقر مواطن (العالم الأول) إلى أي شبكة أمان خارج المؤسسة الرسمية بعد التفكك الأسري والديني والأخلاقي الذي تعاني منه مجتمعاتها، وفي المقابل فإن شعوب ما يسمى بالعالم الثالث النامية التي تشكل أغلبية سكان العالم تنظر إلى ما يسمى بدول العالم الأول على أنها دول ثرية مستغلة ذات تاريخ سياسي قذر ومكروه بحيث أن كلمة امبريالية التي توسم بها دول (العالم الأول) تحولت إلى شتيمة في ثقافتنا، شتيمة تنتمي إليها "إسرائيل" ربيبة المستغلين العنصريين الأغنياء التي أساءت إلى يهود العالم بعدما جندت غالبيتهم كسلاح إمبريالي شرير وظالم ألغى حكاية المظلومية اليهودية التي تاجر بها قادة "إسرائيل".. وعلى أي حال فإن المصطلح قد ارتد على مطلقيه وتحول تعاليهم وغرورهم إلى خوف بعدما نهضت العديد من الدول المصنفة ثالثا كالهند والصين وباتت منافسا قويا للغرب الإمبريالي.. إنها دورة التاريخ التي تسخر من الأقوياء وتفكك امبراطورياتهم الغاشمة بشكل خفي وعلى غفلة منهم..
4
على الرغم من التلاعب السياسي الغربي بالجغرافية العربية لنصف قرن فإن شعوب المنطقة استمرت بالحفاظ على القيم الأخلاقية والروحية والإعلاء من شأنها في تقييم أفرادها الذين ابتكروا فلسفة خاصة لتضحية الفرد من أجل الوطن تحت مسمى الشهادة، وأعلوا من شأنها كسلاح مقدس لا ينضب في مواجهة الآلة العسكرية الغربية الخارقة. وهي فلسفة متبناة من قبل الإسلاميين كما العلمانيين الذين مازجوا بين الدين والقومية كمنتج عربي عريق، فما كان من مراكز الأبحاث التي تمثل العقل الغربي المتفوق والشرير إلا أن يتلاعبوا بالمنتج العربي التاريخي ويحولوه عبر فتاوى موظفيهم في التنظيمات الإسلاموية إلى فخ "العدو القريب" الذي يتوجب مواجهته أولاً من أجل التفرغ لمواجهة العدو البعيد؛ فقد شكل هذا المصطلح قمة التلاعب الغربي بالإسلام السلفي وتغذيته بمخزون الصراع الديني بين المذاهب الإسلامية المتنوعة، بحيث تم إعادة توجيه الطاقة الإستشهادية ضد الذات حيث الجنة الإفتراضية تنتظر هؤلاء المضحين بذواتهم من أجل الدين بدلاً من الوطن الذي شبهه منظّرهم سيد قطب بالوثن معتبرا محبة الوطن كالصلاة للصنم، وهذا ما يتبناه أعضاء الإخونج اليوم حيث ترى مقاتليهم يحاربون في كل أنحاء العالم عدا العدو الإسرائيلي. وقد توجت خطة الغرب هذه بالتحالف الأمني والسياسي مع التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين بقيادة فرعهم التركي في الناتو ليقودوا التمرد ضد العدو الكلاسيكي "القريب" أي القوميين العلمانيين؛ فنشأ لدينا مفهوم الجغرافيا الدينية التي كانت سائدة في العصور القديمة، الأمر الذي عزز مفهوم الدولة الدينية في البلاد العربية ومهد لاختراع "داعش" ، غير أن المخزون العلماني الوطني والأخلاقي في المجتمع هو من قاد الثورات المضادة في الجمهوريات العربية، بدءاً من سورية وصولاً إلى تونس. وهذا يعطي نقطة تفوق ثقافي ووطني تقدمي لصالح شعوب المنطقة العربية في مواجهة الإمبريالية، رغم الثمن الباهظ الذي دفعته هذه الشعوب العريقة خلال العقد الماضي..
5
قد لا يكون بمقدورنا حل مشاكلنا الآن ولكننا على الأقل يجب أن نفهمها حتى لا نفاقمها بحركتنا العمياء، وهذا نوع من النضال غير المباشر والمفيد للمستقبل. ومشاكلنا تنحصر في الخطر الإسرائيلي، والسلفية الدينية والقومية، وغياب العدالة السياسية، وعدم توفر خطط جيدة للتنمية الإقتصادية والسياسية، وحماية العقول العربية واستثمارها. وكل ذلك يجب أن يتقدمه شرح مبسط لنشاط الإمبريالية العالمية ومتغيراتها اليومية بدلا من الإكتفاء بشتيمتها واستخدام مصطلحات سياسية لا يفهمها الجمهور، كما هو الحال في مسلسل "الخربة" الكوميدي، حيث يناهض الماركسيون الإمبريالية ويشتمونها ليل نهار في الوقت الذي يشترون منتجاتها من عبود الكازية صاحب دكان القرية، كما من كافة دكاكين البلاد، دون أن يفهموا أن التجارة الخارجية وغزو الأسواق العالمية هو مقدمة النمط الآنكلو ساكسوني الذي يشكل طلائع الإمبريالية القديمة التي وصلت إلينا مع جيش نابليون أولاً بعدما كانت طلائعها البريطانية وصلت إلى الهند والصين وسواحل أفريقيا، حيث قال جون هوبسون عالم الإقتصاد الإنكليزي المولود عام 1858عنها: "إن الإمبريالية هي محاولة يقوم بها كبار المتحكمين في الصناعة لزيادة تدفق الفائض بواسطة اكتشاف أسواق وقنوات للإستثمار في الخارج يمكن أن تستوعب البضائع أو الرأسمال الذي لا يستطيعون توظيفه في بلادهم" . وبالطبع لن يفهم المواطن العربي العادي آلية تمدد الإمبريالية الأمريكية الجديدة المعقدة بعد قرن ونصف على نشوئها واتخاذ موقف فاعل تجاهها دون توفر مراكز أبحاث قريبة من مراكز صنع القرار العربي لرصد تجلياتها في أسواقنا واقتصادنا وثقافتنا، لولا أن أوراق المراكز البحثية المتوفرة اليوم غير مقروءة، وهي في أغلبها مراكز غير مؤثرة بسبب عدم دعمها وضعف تمويلها، في الوقت الذي تمثل فيه المراكز البحثية الغربية عقل الدولة الإمبريالية وطليعتها السياسية كما هو الحال في مراكز راند وبروكينغز الأمريكية ومعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي وغيرها من مراكز المعرفة والقوة حيث تقيس الدول الإمبريالية مقدار مجدها وقوتها بقدر إذلالها لحكومات (العالم الثالث) الذي مازال ينفي عقوله المتفوقة نحوها لمراكمة مجدها بعدما فشلت الثقافة الإشتراكية الماركسية من فهمها فاكتفت برفضها باعتبارها: " أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية" على حد توصيف لينين للإمبريالية، ذلك أن كتاب "رأس المال" الذي شكل قرآن الماركسيين لم يعد كافيا لفهم تطورها ونقاط ضعفها من أجل مواجهة تمددها، لأن الزمان الذي يشكل حقل النمو الإنساني _ حسب تعبير ماركس _ توقفت معرفته بنمو الإمبريالية لحظة الإنتهاء من الجزء الثالث من كتابه المقدس "رأس المال" الذي أنجزه صديقه فريدريك آنجلز، بينما استمرت الإمبريالية بالتغير والتطور واكتساح العالم الرأسمالي، وهذا ماجعل الإشتراكيين يستسلمون لها في النهاية (كانوا يشكلون خمس سكان العالم) بما فيهم روسيا الخارجة من رحم الإتحاد السوفياتي حيث تتبنى اليوم نظام السوق الإمبريالي بلا ندم، بينما وجدت الصين معادلتها الخاصة حيث استخدمت قوة الإمبرياليين ضدهم مثل لاعب الجودو!؟
6
شكلت عقيدة الجيوش القومية العربية آيديولوجيا مناهضة للتوجهات الإمبريالية في سورية والعراق ومصر والجزائر والصومال واليمن، وكانت أسلحتها على الأغلب شيوعية المنشأ، وقد ساعدتهم هذه العقيدة في استمرار العداء للصهيونية ربيبة الإمبريالية، ولكن بعض هذه الجيوش تاهت عن عقيدتها القومية بعد معاهدات السلام التي وقعها قادتها مع إسرائيل فبدأت تدخل عقيدة الجهاد الإسلامية مكانها الأمر الذي ساهم بانشقاق المزيد من عناصر الجيش والتحاقهم بالمجموعات الإسلامية في الجزائر وليبيا ومصر والعراق ولم ينج من هذا التيه سوى الجيش العربي السوري الذي لم يوقع قادته أي معاهدة سلام مع إسرائيل، وكانت الإنشقاقات فيه محصورة بالمتعاطفين مع الإخونج، وهذا ما دفع الدول الإمبريالية للمشاركة في العدوان عليه، حتى أنها تمكنت من إشراك "حماس" في عدوانها هذا إلى جانب مئات الفصائل الإسلاموية التي اغتالت نخبة طياريه وعلمائه العسكريين، ولكن الجيش صمد على الرغم من ضعف تمويله بسبب عقيدته العسكرية العابرة للطوائف والقوميات. وبالتالي كان ضامناً لوحدة الأراضي السورية، كما أنه يشكل عامل استقرار في المنطقة، مع الخبرة التي اكتسبها في حرب العصابات بالتعاون مع حزب الله، والحروب النظامية بالتعاون مع الجيش الروسي. وقد أخطأت دول الجوار في مواقفها المتخاذلة تجاه الدولة والجيش السوري فارتدت عليها سلباً عبر حشود اللاجئين والمهربين وإغلاق منافذ الترانزيت عبر سورية، وكان بإمكان دول الجوار، على الرغم من ضعف مقاومتها للأوامر الأمريكية، أن تتذرع بحماية أمنها الوطني ضمن منطق الإرتدادات الأمنية وعدم القدرة على امتصاصها لكنها لم تفعل!؟ فربحت إيران وروسيا في سورية ما خسرته دول الجوار التي لم تفهم خفايا الجيوسياسية السورية وبالتالي لم تتقن التعامل معها استراتيجيا كما فعلت روسيا التي: "مكنها تدخلها في سورية ودعم الأسد من العودة إلى مجلس إدارة العالم من جديد" حسب وصف البروفيسورة أنجيلا ستينت من جامعة جورج تاون. لهذا سيبقى الجيش العربي السوري هدفاً معادياً للولايات المتحدة بالإضافة لحزب الله والمقاتلين الحوثيين، القوى العربية الوحيدة التي لم تستسلم لإرادة واشنطن من بين كل العرب، مما يعني أن الغرب لم يستكمل هيمنته بعد على الجغرافية السياسية للبلاد العربية لأن هناك من يقول لا، في الوقت الذي فشلت فيه واشنطن والإمبريالية الغربية من حل المسألة الفلسطينية مما زاد في الهوة الفاصلة بين القيادات الخانعة والشعوب العربية، وبقي السلام مع كيان الإحتلال مقتصراً على السياسات العليا وغير مقبول في المجتمعات العربية التي مازالت تلفظ مستعمريها عبر تاريخها الطويل.
7
يقول بروس جونز مدير مشروع النظام الدولي والإستراتيجية في معهد بروكنغز الأمريكي:" لقد ابتعدنا عن مرحلة في الجغرافيا السياسية، رأت فيها القوى الكبرى مصلحة مشتركة لإخماد الحروب الأهلية، أدى التعاون القوي في إدارة الصراعات إلى انخفاض كبير في مستويات الحروب في العالم خلال العشرين سنة الماضية، وفي الآونة الأخيرة رأينا اندماج الحروب الأهلية والإرهاب. أكثر من 90% من وفيات المعارك كانت في أماكن تشكل فيها مجموعة إرهابية واحدة أحد الأطراف الرئيسية في القتال. الناس يقولون: " أوه كل القوى تشترك في هدف سحق الإرهاب" ، لكنها ليست الحقيقة، وبدلا من التعاون تدخل الجهات المهتمة الفاعلة عن طريق وكلاء، مما يزيد من ديناميكية العنف في الواقع. لقد شهدنا زيادة مستمرة في حجم العنف في هذه السياقات حيث يتم دمج الإرهاب بالحرب الأهلية ونقله إلى ديناميكية تضخم حرب الوكالة بدلا من حلها".
ويبدو أن الحرب السورية كانت في ذهن بروس جونز وهو يقول هذا الكلام حيث تدير الدول الإمبريالية حرب الوكالة بينما الوكلاء (تركيا وقطر والسعودية) يخوضون باسمها حروبهم الخاصة. حيث يتم التلاعب بالديمغرافيا عبر إيقاظ تراث العصبيات الدينية والقومية فيربحون في المعارك الصغيرة ويخسرون في الحرب الجيوسياسية الكبيرة، ذلك أن بقايا العثمنة مازالت متوضعة في الجغرافيا والديمغرافيا العربية، إن كان في بقايا النظام الملّي أو في بقايا عائلات السلاجقة الذين تم توطينهم في المنطقة العربية على غرار ما تفعل إسرائيل في فلسطين اليوم.. ويمكننا القول أن بداية إنفجار الحروب الداخلية كانت في لبنان عام 1975 بسبب النظام العثماني الملّي الذي ورثه لبنان وحافظ الإحتلال الفرنسي على استمراره بقيادة الموارنة، فكانت حداثة لبنان عبارة عن قشور تغلف العفن العثماني، ومن حسن حظه أن الجيش السوري كان جيشاً ذو عقيدة علمانية فوقف مع جميع الطوائف وضدها وشكل بيضة القبان لمجتمع غير منضبط باسم التحرر والمحاصصة الطائفية التي أوصلتهم إلى اتفاق الطائف، وكان إخراج الجيش من لبنان خطأ استراتيجي ساهم بنشوء "المسألة السورية" التي قسمت اللبنانيين مع وضد سورية، فخسر اللبنانيون سلامهم واستعادوا مقدمات حربهم الأهلية!
بعد همودها تنقلت الحرب الأهلية اللبنانية عبر الجغرافية السياسية العربية، ولازالت هذه الحروب قائمة لأن النخب السياسية اهتمت بتمتين سلطاتها أكثر من تحديث مجتمعاتها، حيث مازالت العفونة العثمانية مستقرة في بعض طبقاتها العميقة، وقد استثمرت تركيا فيها إذ كانت موجودة في حروبنا الأهلية بالوكالة بحسب تنويه "بروس جونز" في المقدمة.
8
يشمل مفهوم الجيوسياسية العوامل الجغرافية والإقتصادية والثقافية التي تؤثر في سياسات الدول، وقد تطور مجال هذا المفهوم ليشمل دراسة المجتمعات والمؤسسات والمنظمات النسوية والبيئية ومراقبة العنصرية والحريات وصولا إلى خارطة الأمراض البشرية والحيوانية، حيث تستخدم القوى الإمبريالية كل هذه المعلومات لخدمة سياساتها، كما كان عليه أمر تصنيع ثورات الكرامة والحرية في البلدان العربية، وصولا إلى خلق أعداء مزيفين بدلا من الأعداء الفعليين للجمهور الغافل، حيث استبدل جزء من الجمهور العربي عداء "إسرائيل" بإيران، وعداء الولايات المتحدة بعداء روسيا! لهذا مازلنا نؤكد على أهمية المعركة الثقافية بنفس مستوى المعركة العسكرية حيث أن الصراع هو ما يصنع حياة الشرق، والذكاء هو ما يحدد الطرف الرابح من الخاسر .. ذلك أن الصراع الجيوسياسي متحور ومتبدل، وقد انتقل عربيا من مرحلة الصراع الداخلي بين الإسلاميين والعلمانيين إلى مرحلة أعلى في الصراع الإقليمي على البلاد العربية والذي تخوضه : تركيا، إسرائيل، الولايات المتحدة ، روسيا، إيران، بريطانيا وفرنسا، ونحن قد نخسر فيما تتفق عليه هذه الدول ويمكننا أن نربح فيما تختلف عليه، في سوريا واليمن ومصر وليبيا وتونس ولبنان، لذلك يجب أن نحدد الأولويات والممكن وغير الممكن على خارطة الصراع الزمنية كي لا نضيع الوقت والجهد فيما لا يفيد.
9
آخر مشاريع الإمبريالية في الديار العربية هي "صفقة القرن" التي وقعها ترامب ونتنياهو العام الماضي وتهدف ظاهريا لحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي عبر إنشاء صندوق استثمار عالمي لدعم اقتصاد الفلسطينيين والدول العربية المجاورة ، وهي مشروع محوَّر عن مشروع مارشال لإعمار أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خنعت بعده دول أوروبا لأمريكا، بينما في "صفقة القرن" تشتري الإمبريالية العالمية وطليعتها الإسرائيلية حق العودة والسيادة والقدس وخنوع العرب بخمسين بليون دولار موزعة على الفلسطينيين ودول الجوار، ماعدا سورية التي لم توقع سلاما مع إسرائيل؛ وذلك لإقامة 179 مشروع أعمال وبنية تحتية، يديرها مصرف تطوير متعدد الأطراف، وبالتالي سيتم فتح أسواق عمل جديدة تستكمل واشنطن من خلالها هيمنتها ترسخ ثقافتها التي تبيح كل شيء وتبرره مقابل المال، وهذا لا يستوي عند الشعوب العربية التقليدية التي مازالت تحمل ثقافة الآباء في الزهد والعفة والكبرياء وتمجيد الشرف واحتقار المال، لهذا ثار غالبية الفلسطينيين ضد صفقة القرن وكذا رفضتها غالبية الجماهير العربية حيث أن مجرد اسمها يعري مقاصدها. ولكن بعد ذهاب ترامب لم يلغ بايدن الصفقة رغم مطالبة عدد من النواب بذلك، ذلك أن النظام الإمبريالي أكبر من موظفيه حتى لو كانوا رؤساء. وبعد أربع سنوات من التوقيع سيبدأ التنفيذ، بعدما تكون موارد الفلسطينيين قد جفت، وكذا اقتصادات دول الجوار المتعثرة وعملتها المتدهورة. ومع نهاية هذا العقد ستُستكمل أمركة الأسواق وأذواق المجتمعات العربية، وسيتشكل خط مانع بوجه مشروع "الحزام والطريق" الذي يهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير القديم الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافئ وطرقات وسككا حديدية ومناطق صناعية، وقد وقعت 126 دولة و29 منظمة دولية اتفاقات تعاون مع بكين في إطار المشروع، حيث تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والوسطى. ويغطي المشروع 66 دولة في ثلاث قارات، هي آسيا وأوروبا وأفريقيا. كما قدمت المصارف قروضا للمشروع بقيمة 265 مليار يورو، وسيكون العرب وأنظمتهم مجرد بيادق على رقعة الشطرنج الجيوسياسية.. إذا لم يستخدموا عقولهم..
نبيل صالح: عربي برس
إضافة تعليق جديد