التحضير للحرب التالية
الجمل ـ بشار بشير: تتصاعد ألسنة اللهب من سيارة تحترق أمام مبنى رسمي يحترق بدوره بدخان أسود و في مقدمة المشهد حشد يهتف بشكل هستيري " حرية .. حرية " هل بدأت الأزمة في سورية هنا؟
وهل كان سبب هذه الأزمة ما أعلن في بدايتها من أكاذيب ومن حقائق، من أكذوبة أظافر طلاب درعا إلى مطالب أصحاب الأراضي الحدودية إلى المزارعين الذين يريدون حفر آبار إلى حقوق أصحاب الورش التي تضررت بسبب الإستيراد من تركيا إلى نظريات " مثقفي " المعارضة عن إلغاء المادة الثامنة وإلغاء قانون الطوارئ ومحاكم أمن الدولة وصولاً إلى الوفود التي قابلت الرئيس ومسؤولين آخرين حاملة مطالبها التي صيغ أكثرهاعلى عجل وجهل وطمع شخصي حتى أن البعض طالب بقطع غيار لجراره الزراعي .
وهل هذه الأسباب والمطالب (سواء عولجت وتحققت أم لا) كافية لتصل بجزء من السوريين لمحاربة دولتهم وقتل جنودها وتدمير بنيتها وسرقة آثارها وهدم مقدساتها وقطع رؤوس مواطنيها وحتى شيِّهم أحياء وأموات .
قبل كل شيء أريد أن أؤكد على ما أنا مقتنع به وهو أن الكتلة الأكبر من السوريين تأنف من الأنخراط في هكذا أعمال بدلالة أنه رغم كل ما حُضِّر وعُمل في سورية لم يستطع المتآمرون عليها من تأمين النصاب الكافي من السوريين لتحقيق مآربهم مما اضطرهم للإستعانة بالأفاقين والقتلة من أقطار الأرض وفي هذا دليل على أن جينة الحضارة والإنسانية والعقل راسخة في غالبية السوريين، ولكن ماذا عن الجزء الآخر من السوريين الذين انخرطوا في مؤامرة الحرب على بلدهم، هل كانت غضبتهم بنت يومها أم أن قولبتهم على هذا الشكل من العداء ليس فقط لبلدهم وإنما للإنسانية وقيمها قد اشتُغِلَ عليه بحرفية ومنذ زمن طويل؟
قد يمكن التأثير على العقل أو أخذه بواسطة الحصار الخارجي أي التأثير من العدو ولكن الأضمن والأكثر تأثيراً هو السيطرة عليه وأخذه بواسطة الزرع من الداخل أي بواسطة الصديق وهذا ما حصل معنا في سورية. استوعب المتآمرون على سورية بسرعة هزيمة مشروعهم في الثمانينات واستفادوا من تراكم خبراتهم ليبدؤوا بالتحضير الطويل الأمد لمعاودة هجومهم. اشتغلوا أولاً على نشر التدين في المجتمع. لم يشجعوا تياراً إسلامياً معيناً وإنما شجعوا الجميع. كان همهم إدخال أكبر قسم من المجتمع في الحالة الدينية، وساعدهم في ذلك النجاحات التي كانت تحققها الجماعات والأحزاب الإسلامية في مجال مقارعة إسرائيل وأمريكا وقوى الإستعمار العالمية مقابل إنكفاء الأحزاب القومية والوطنية والأيدلوجية، مما زاد في توجه مختلف فئات المجتمع نحو الحالة الدينية الإسلامية .. اشتغلوا كثيراً على كافة المناحي لإدخال الناس في الحالة الإسلامية ولو شكلياً، فأصبحت الموضة أن تضع النساء غطاء للرأس على أساس أنه حجاب بغض النظر عن شكل اللباس المرافق له (مهما كان بعيداً عن الشكل الشرعي الإسلامي) وأصبح من الضروري أن يكون لكل شخص مرشد ديني يعتمدعليه ويستشيره ويستنصحة في كافة مناحي حياته، وانتشرت الدروس الدينية العلنية والسرية، و اندمج الناس بالموضة الإسلامية (للأسف في أغلب الحالات كانت موضة أكثر بكثير مما هي قناعة بالمفاهيم الإسلامية) لدرجة أصبحت صلاة الجمعة مكاناً للّقاءات الإجتماعية و مظهراً من مظاهر التشاوف أكثر مما هي عبادة . وفي خضم كل هذا كان يجري العمل بخبث على أمرين الأول حرف الإسلام الصوفي الشامي ببطء وهدوء وبدرجات قليلة من الإنحراف نحو نوع أكثر تعصباً و أكثر بدائيةً من الإسلام . والأمر الآخر هو عملية ممنهجة وكبيرة للحجر على العقل والعمل على تسطيحة و قولبته للإقتناع بالتفاهات وإبعاده عن التفكير السليم وإعمال المنطق. وكملحق لهذا البند جرى الإشتغال على الأشخاص الذين لا يمكن إستقطابهم دينياً، فجهزت لهم بيئة بعيدة جداً عن الدين ولكنها غير بعيدة عن هدف تسطيح العقل تمثلت في الحالة الغثة ثقافياً وأخلاقياً التي مثلتها وسائل الإعلام خاصة الفضائيات التي عملت عبر برامجها على قتل الذائقة الصحيحة و الثقافة والعقل . البند الأول كان المقصود منه تحضير البيئة المناسبة أو التربة الصالحة لغرس المفاهيم الوهابية فمن خلال الملايين الذين انغمسوا في الحالة (الموضة) الإسلامية الجديدة أصبح من السهل إيجاد آلاف جاهزون للإنتقال إلى المرحلة الثانية أي إلى الوهابية . أما البند الثاني فالمقصود منه كان القضاء على أي مناعة ضد الأفكار الهدامة التي سيجري ضخها في المجتمع، وللأسف يمكن القول أن نجاحاً ملفتاً قد تحقق في هذا البند بند تغييب العقل لدرجة أننا شاهدنا دكاترة ومهندسين وأساتذة (عدا عن البسطاء والأميين) يلبون دعوة شيخ موتور لوضع قدور الطهي (الطناجر) على رؤوسهم والقرع عليها طوال الليل لأن هذا سيؤدي إلى إنشقاق الأرض وابتلاعها لرجال النظام الحاكم في سورية ومن والاهم، على رأي هذا الشيخ وقناعة من صدقه .
لابد أن المشتغلين على المؤامرة كانوا مطمئنين لما يحصل، فعلى صعيد الشكل كان واضح عياناً جهاراً مدى نجاح خطتهم وعلى صعيد المضمون بدأت فئات من المجتمع السوري تتمثل المفاهيم الخبيثة التي يجري ضخها والهادفة إلى خلق وحوش آدمية متعصبة ومنقادة نحو العنف كوسيلة للتعبير عن نفسها، وبدأ هؤلاء يطلون برأسهم علينا عبر سلسلة من الجرائم الجنائية التي تواترت قبل الأزمة بزمن والتي كان تتابعها وشكلها غريبان على المجتمع السوري . مثل العثور على جثث ثلاث فتيات موضوعة في حقائب سفر ومرمية في أرض مهجورة، و الأب الذي ضرب رأس ابنته بالجدار حتى قتلها، أو الأب والأخوة الذين قتلوا أختهم المتزوجة لشكهم في سلوكها (كانت تستمع لأغاني أم كلثوم وتتعطر) و الشابين على دراجة نارية اللذان رتكبا ثلاث جرائم قتل وسرقة خلال ساعة واحدة جهاراً نهاراً في طرقات مدينة حلب . ثم أتت البروفات والتجارب الأولى لعمليات غسيل الدماغ فشهدنا مقتل ضابط أمن في وسط شوارع دمشق على يد عصابة سورية أردنية مشتركة (أطلق زعيم العصابة النار بدم بارد على رأس الضابط في الطريق أمام نصب الجندي المجهول) ثم الهجوم على مبنى الأمم المتحدة في المزة والهجوم على مبنى التلفزيون في الأمويين وهما هجومان انتحاريان وعبثيان لم نعرف المقصود منهما في ذلك الوقت والآن يظهر أنهما على الأغلب كانا التجارب الأولى لما يحصل الآن .
هل من داع للقول أنها مؤامرة عميقة الأغوار و قديمة العهد وخارجية الأسباب والأهداف، لم تعد هذه أمور مخفية وخافية على الناس اتضح المشهد وأصبح السوريون مستعدون بل ومنغمسون بالقتال دفاعاً عن بلدهم وعن أنفسهم في وجه المؤامرة ومنفذيها، لكن هذا القتال لم يطَل حتى الآن عمليات زرع الأفكار التي ابتدأت بها المؤامرة والتي أصبحت حالة إجتماعية تتدحرج وتتوالد ذاتياً والمطلوب الآن معركة عقلية فكرية بشراسة المعركة العسكرية هدفها تنقية المجتمع السوري وأفكاره من الخزعبلات التي ضُخت فيه على مدى سنين وهدفها إعادة التلافيف للعقل الذي سُطّح وإعادة الإعتبار للذائقة الصحيحة وللثقافة الراقية التي كانت سورية من روادها .
هذه هي المعركة الأصعب والأطول والتي للأسف بدأ بعض الغير كفوئين والغير مؤهلين يدَّعون خوضها طمعاً في قطف بعض البطولات والأمجاد. ففي فترة انعدام التوازن كالتي تمر فيها سورية الآن ينشط الإنتهازيون، وهنا تقع المسؤولية على الطرف الأوزن ليتصرف أي الدولة (يبدو أننا لن نستطيع الفطام عن الدولة) الدولة يجب أن تهتم بالمعركة الفكرية بقدر إهتمامها بالمعركة العسكرية، وعلى رأس المسؤولين عن هذه المعركة (الفكرية) وزارة الثقافة ووزارة التربية ووزارة الأوقاف ووزارة الإعلام ووزارة الداخلية (لا تستغربوا ضم الأخيرة للمعركة الفكرية)، هاته الوزارات عليها مسؤوليات كبرى وأمامها معركة مصيرية، وكما تأقلمت وزارة الدفاع مع الوضع الغريب عليها الذي نشأ في سورية فأستطاعت تدريب كوادرها و تغيير خططها بما يناسب معركة لم تكن يوماً في حسبانها. كذلك على الوزارات الأخرى أن تنفض عن نفسها روتينها و بطئها والكثير من الأفكار القديمة التي تحكمها وتتنطح لقيادة معركة المجتمع الفكرية نحو النصر، أنا هنا لا أدعوها لخوض المعركة وحيدة بل أدعوها لقيادة جموع العقلانيين المنفتحي الأفكار الحضاريين المنطقيين نحو النصر . ما من أمة عظيمة إلا ولها ثورتها أو ثوراتها الثقافية وما من حرب كبرى أو أزمة كبرى إلا وكان لها نتائجها العميقة فكرياً وثقافياً . الهند كانت لها ثورتها الثقافية على يد غاندي نتيجة للإستعمار البريطاني، والصين على يد ماو تسي تونغ كنتيجة لثورتها الشعبية، وأوروبا على يد المفكرين الأشتراكيين من جهة والوجوديين من جهة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية ، في أوروبا تحديداً حتى الناس العاديين كان لهم ثورتهم الثقافية بعد الحرب العالمية الثانية والتي سموها الهيبيز.
هي ليست حاجة لثورة ثقافية بل حتمية الثورة الثقافية بعد الحرب العظمى التي نخوضها و دورنا في هذه الثورة ونتائجها إما نجعلها دافعاً للأمام أو ثقلاً يشد للخلف . يجب أن نبدأ بتشذيب المجتمع من المدعين و نخلق منصات للتنويريين المخلصين القادرين، فما سنقوم به يجب أن يكون ضمن خطة ذكية ومدروسة و مخلصة للوطن، إذ لا مكان للتجريب ولا للخزعبلات فمصيروطن ومصير استمرار إحدى عشر ألف سنة من الحضارة على المحك . نحن في خضم حرب عسكرية ولا يبدو أن هذا وقت الحديث عن الأفكار والثقافة ولكن ما يدفعني لهذا الحديث أمران أولهما أهميته وأهمية تأثيراته، وثانيهما تقتي كما غيري من السوريين بالنهاية المضمونة لهذه الحرب مما يجعلنا بل ويدفعنا لأن نخطط لما يجب علينا فعله بعد إحتفال النصر .
التعليقات
الفرصة التاريخية
إضافة تعليق جديد