فتى يضيع بين سوريا ولبنان: وقعتُ في يد عصابة تسوّل و«تحرّش»

08-08-2013

فتى يضيع بين سوريا ولبنان: وقعتُ في يد عصابة تسوّل و«تحرّش»

ترجل وائل بسرعة من سيّارة صاحب الورشة حيث يعمل تقنياً كهربائياً، وهو شاب سوري يقيم في لبنان منذ أكثر من سنتين. ركض باتجاه طفل يتسوّل على الطريق العام في منطقة الجديدة، مسكه من كتفيه وجرّه إلى السيارة التي ركنت جانباً بانتظاره.
صرخ الطفل: «اتركني» وتخبّط للحظات بين يدي الشاب الفارع الطول، قبل أن يستدرك أنه بين يدي أصغر أعمامه. حدّق به طويلاً كمن لا يصدّق عينيه ثم استسلم لأحضانه مجهشاً في البكاء.
لم يسأل وائل ابن أخيه نزار أي سؤال في تلك الليلة. اكتفى بالقول: «الحمدلله أني لقيتك». تركه يبكي قبل أن يخلد إلى نوم عميق، لم يستفق منه إلا ظهر اليوم التالي.نازحون يحاولون تدبر أمورهم في عكار أمس (نجلة حمود)
كان ذلك يوم 7 تموز الماضي، يوم طوى فيها نزار صفحة من حياته لينطلق إلى مرحلة جديدة أقل غربة من تلك التي عاشها نحو شهر ونصف الشهر. صحيح أن آثارها ما زالت بادية على جسده ولا شكّ أنها شوّهت في نفسه، لكنه يؤمن أنها ستزول وإلى الأبد، يوم سيلتقي من جديد بأمه وأبيه وأشقائه الأربعة.
لوهلة لم يصدّق وائل ما كان يرويه له ابن الثالثة عشرة من العمر، وقد انهال عليه بمئة سؤال وسؤال دفعة واحدة. يملك نزار اجوبة لعدد منها، يجهل عدد آخر ويتجاهل الأكثر حساسية منها. ثم استدرك أن جعل الفتى يتحدث بنفسه عن نفسه أفضل.
بدأ من تلك الليلة المجنونة في أيار الماضي، قال: «كنت أنوي السفر إلى لبنان مع عمّي شوكت في اليوم التالي. تركني أهلي معه على أساس تأمين مصاريف الخروج من سوريا لي ولشقيقتي المتزوجة. في تلك الليلة أرسلت شقيقتي خبراً بأنها لن تسافر معنا لأن زوجها تدبّر طريقاً له إلى مصر. هرعت إلى عمي لأخبره بالأمر فوجدته مبتور الساقين والدماء تسيل من أنحاء كثيرة من جسده. أدركت أنه قتل ورحت أصرخ سائلاً عن زوجته وطفليه. لا بدّ وأنهم هربوا. اتصلت بشقيقتي وأخبرتها بالأمر فطلبت مني أن أتدبر أمري والذهاب إليها، علّها تجد وسيلة إما لتسفيري إلى لبنان أو أخذي معها إلى مصر».
طوال ايام لم تغب صورة عمّه القتيل عن باله، سمع شقيقته وهي تهمس لزوجها بأنها تشكّ بأن يكون «بيت منذر حرب» من وشى بتحركاته للقاتلين. «سأقتلهم جميعاً» جزم لعمّه وائل.
بعد أيام أوكلت شقيقته مهمة تسفيره إلى لبنان إلى أقارب زوجها. وقد كانت واثقة من أن أهلها لجأوا إلى خالة أمهم في حلبا. على الأقل هذا ما اتفقوا عليه قبل الرحيل.
وصل نزار إلى حلبا سأل عن منزل الخالة، استقبله رجل هرم وأبلغه أن السيّدة التي يسأل عنها توفيت منذ أكثر من شهر. سأل إن مرّ أهله بالمكان، وأُعلم أنهم توجهوا إلى منطقة أخرى يجهلها صاحب البيت.
سكنت العائلة التي اصطحبته في إحدى المدارس المهجورة، وقد أفهمه ربّها أنه غير قادر على تحمل أعبائه كفرد إضافي. لم يعرف نزار إلى أين يتجّه وماذا يفعل فنام لليلتين في باحة المدرسة، ثم قرّر الرحيل للبحث عن أمّه أمينة وأبيه نائل وربيع ورواد وربى، أشقائه.
سأل في حلبا أكثر من شخص ثم جال في قرى وبلدات المنطقة. كان يأكل ويشرب مما كانت تقدمه له ربات المنازل ويفترش الطرق، وقد استمرت الحال على هذا المنوال طوال أسبوع بكامله قبل أن يقع بين يدي كامل الذي ضمّه إلى مجموعة فتيان، «يزرعهم» صباح كل يوم في الشوارع الرئيسية في المدن للتسوّل.
أدرك نزار ظلم الرجل منذ اليوم الأول، فكان يقدّم إليهم القليل من الطعام بعد انتشال الغلة من بين أيديهم، لكنه رضي بالواقع علّه يلتقي بأهله في شوارع العاصمة وضواحيها أو يجد عملاً لائقاً له، كنادل في أحد المطاعم أو بائع في أحد المتاجر. لكنّ كامل أغراه بالتسوّل في الليل، قال له: «في الليل لا ينافسنا أحد. تقف تحت أضواء الشارع وسترى أن ساعة العمل ليلاً تساوي يوم عمل بكامله».
هذا هو الحدّ الذي وصل إليه نزار بروايته، يقول وائل. لكنّ العم شعر بأن الطفل المقبل على المراهقة يخفي شيئاً فظيعاً. سأله عن عمله في الليل، وعن الغلّة الليلية، وعن المحسنين في الليل، وعن المرات التي عمل فيها بعد غروب الشمس؟ إنهال عليه بالأسئلة، وما كان يحصل على أجوبة شافية. لا بلّ تلمس وقائع قد تكون بسيطة ولكن أيضاً قد تكون كارثية. أخبره نزار بطريقة غير مباشرة أنه تعرّض للتحرش من قبل أحد المارة. لم يفهم وائل إن كان تحرشاً لفظياً أم جسدياً. وفهم أن كامل هو من شجعه على القبول بجولة صغيرة مع بعض الشبان، لكنه لم يتأكد من أن ابن شقيقه رفض الجولة واستدرك المخاطر...
حتى الساعة يصرّ الطفل على تلك النهاية، يضع نقطة على السطر، ربما حيث يريد هو أن تنتهي روايته. مع ذلك يعقب عليها بين الحين والآخر، فيقسم أنه سيقتل من قتلوا عمّه في حلب، وسيقتل كامل ويحرّر الأطفال منه. وبين الحين والآخر يقسم أنه لو رأى أمه وأباه وأشقاءه في الطريق لن يلقي عليهم التحية لأنهم لم ينتظروه حيث كان من المفترض أن يكون اللقاء.
لم تنته قصة نزار بالنسبة لعمّه وائل. ما زال يبحث في تصرفات الطفل وأقواله عن أجوبة لأسئلة كثيرة: «هل تعرّض فعلياً لتحرش جنسي؟ هل بات يكره أبواه وعائلته؟ ماذا لو لم يلتق أبداً بهم؟ ماذا لو ضحكت لهم الحياة وظلّ هو على هامشها؟ هل ستفرض عليه الحرب السورية خوّات إضافية؟ وهو يبحث عمن يغيث النفوس.

مادونا سمعان

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...