الإسلام كثورة اجماعية
نبيل صالح:
يركِّزُ كُتَّابُ السِّيرة والمؤرِّخون على مقاطع محدَّدة من سيرة البطل لخدمة فكرتهم، فأعداء الإسلام يركِّزون على السَّلبيات في سيرة محمد (ص) ويبالغون فيها لدرجة التَّلفيق والتَّزوير، وكذا يفعل المتعصِّبون للإسلام، فيركزون على الإيجابيات ويضخمونها ويؤسطرونها! فالشَّخصنة والتَّعصُّب هي الغالبة على سرديَّات الفريقين أكثر من القراءة الموضوعية! وقد ساهمت روايات الطرفين خلال القرون اللاحقة في تكوين صور لانهائية لشخصية "مُحَمَّدُ بنُ عبد الله" حتى تاه فيها المؤمن والكافر!
لا تتحدث آيات الكتاب عن حياة محمد بن عبدالله وعائلته بينما نلاحظ تخمة في السيرة النبوية والأحاديث الشريفة، ومع ذلك لا يذكر الرواة مايكفي عن والدي نبي الأمة وطفولته وشبابه الأول للتعرف على مكونات شخصيته البشرية قبل بعثته، كما هو الحال في سيرة المسيح وموسى قبل التبشير، فلم يذكروا شيئا مهماً عن والده عبدالله سوى أنه مات في طريق عودته مع قافلة تجارية قبل ولادته، كما لايذكروا شيئا عن والدته آمنة التي أُخذ من حجرها وهو رضيع ليتربى عند أسرة حليمة السعدية التي لانعرف عنها سوى أنها كانت تعيش في فقر مدقع برملة بني سعد بالحديبية، وغير مفهوم لماذا تركته والدته وعائلته الثرية في بيت فقير يرعى الغنم حتى السادسة من عمره حيث تأخذه أمه في زيارة لقبر والده وأخواله في المدينة ثم تموت في طريق عودتها وتدفنها جاريتها أم أيمن يساعدها طفلها بدفنها، في مشهد قاسٍ وغريب، إذ كيف لامرأتين وطفل أن تسافران وحدهما مسافة 400 كم في البوادي !؟ فهل أن تعمية حياة الرسول في مكة قد طُمست في العهد الأموي كي لايتذكر المسلمون مأساة الرسول وعائلته على يد بني أمية ؟! أم لعل الرواة لم يرغبوا بالحديث عن بشرية النبي قبل البعثة فمالو إلى الأسطرة عبر روايات متأخرة، كحديث حليمة عن امتلاء ضرعها وضرع أغنامها بعدما حضنت طفل النور والهداية، وحديث اعتقال جبريل وملاك مساعد لمحمد في المرعى (فشقَّ صدره وأخرج من قلبه علقة الكفر) حيث كان يرعى الغنم مع ولد حليمة السعدية، وكأن الكفر يشكل جزءا ماديا في الجسد الإنساني الأمر الذي يرفع عن الكفار تهمة كفرهم بكونه مزروعا فيهم، حيث عمل رواة الحديث دونما قصد بتقديم الزمن الإسلامي إلى ماقبل البعثة فعلياً، إلى اللحظة التي تبدت فيها النبوة كنور ظاهر في وجه والده عبدالله تلقته منه آمنة وحبلت برسول الله، حتى أن أسماء والديه واسمه (عبدالله وآمنة ومحمد) هي أسماء أقرب إلى أن تكون إسلامية إذ لم نسمع قرينا مشابها لها فيما وُسم بمجتمع الجاهلية !؟
يوجد فراغات زمنية كبيرة في القسم الأول من حياة النبي أهمل الرواة ملئها، إذ هل يعقل أن تُعتمد ستة أحاديث صحيحة لأبي بكر (ر) الذي رافقه من طفولته حتى وفاته بينما يروى 5374 حديث لشخص مختلف على اسمه هل هو : عبد الرحمن بن صخر أم عبد الرحمن بن غنم أم عبد نهم بن عامر أم عبد شمس بن عامر أو عمير بن عامر أو عبد شمس بن صخر أو سَكين بن دومة أو سَكين بن هانئ أو يزيد بن عشرقة أو عبدالله بن عائذ أو بربر بن عشرقة أو سعيد بن حارث أم عبد ياليل أو عبد تيم أم أباهريرة الذي أخذ عنه 800 راوٍ لم يذكروا فيها شيئا مهما عن تاريخ النبي قبل البعثة، وهذا أمر مريب وغير منطقي في إغفال ذكر الأعمال التي أعطت محمدا قبل بعثته صفة الصادق الأمين بين قومه حتى أن سادة قريش دعوه لتوقيع وثيقة حماية المستضعفين في مكة، وأنهم أخذوا برأيه في أزمة نقل الحجر الأسود المقدس !!
الملاحظ أن الأب غير موجود في سيرة الأنبياء جميعا، فالنبي أب نفسه، وليس له ولد ذكر يرثه حتى لاتورث النبوة .. فقط نرى الوالدة موجودة ولكن سيرتها أيضا معمّاة ولانعرف عنها سوى اسمها وعائلتها، وكذا كان محمد في مرحلة الطفولة الأولى، حيث جعلوه راعيا للغنم بالأجرة مثل بقية الأنبياء من قبله مع أنه من عائلة تجارية صاحبة مال وسيادة حيث تقول الروايات أن أبرهة الحبشي استقبل عبد المطلب وأجلسه مكانه ورد عليه مئتين من النوق التي غنمها جيشه، بينما تقول الروايات أن محمداً استمر برعي أغنام قريش وهو في بيت جدُّهُ عبد المطلب وهو السيد في قومه والعالم بأديان العرب، كونه سادن الكعبة الذي ينظم الحجيج على تنوع آلهة الحجاج في البيت العتيق. ويمكننا أن نتخيل حياته المعرفية في أجواء بيت جدِّهِ وضيوفه من أشراف العرب وسادتها، ممن سمع منهم وعاين شخصيَّاتهم القياديَّة والثَّقافيَّة المميَّزة، فاتَّسمت شخصيَّته بالجديَّة وحبِّ المعرفة في عائلة حنيفيَّة على الأغلب لم يتأكد أنها عبدت الأصنام ولكنها لم تكن تمانع وجودها في كعبة الله تعالى كنوع من حرية العبادات التي ألغاها الرسول فيما بعد. فقد ذكر الرواة أن "عبدُ المطَّلب" كان يعبد الله ويختلي بنفسه في غار حراء كعادة الأحناف، وقد سمَّى ابنَهُ "عبد الله"، وليس عبداللات أو العزى، وكذا كان الرسول على طريقة جده قبل بعثته. فقد كان الأحناف ينتمون إلى مِلَّة إبراهيمَ الخليل ويعبدون اللهَ الواحد، ويميلون إلى الانعزال للتأمُّل في أرض حراء، وكانوا يتطهَّرون بالماء قبل الصَّلاة، ويغتسلون من الجنابة/ ويختتنون/ ويمتنعون عن الخمر وأكل الميتة والذبائح المقدمة إلى الأصنام، إذ أنهم يرون الأصنام "لا تبصر ولا تسمع، ولا تضُرُّ ولا تنفع"، غير أنَّ مفهوم الله عندهم لم يكن قد تطوَّرَ إلى ما صار عليه في الإسلام، فكانت شخصيَّةُ "مُحَمَّد" قبل البعثة مندغمةً في أجواء عائلته ومحيطها الحنيفيِّ، بتأكيد أنَّ جدَّهُ "عبد المطلب" ختنه يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسمَّاه محمداً، وقد استمرَّ في هذا المحيط بعد وفاة جده، وانتقاله إلى كنف عمِّهِ "أبو طالب" الذي ورث عن والده منصبَهُ الدِّينيَّ وبقي على حنيفيته دون أن يسلم أو يعارض الإسلام ، ويمكننا التخمين أنَّ والدَيْ الرَّسول وجدُّه وعمُّه وأبناء عمه لم يكونوا وثنيين يعبدون الأصنام، كما تقول رواياتُ العصر الأمويّ التي كانت تعمل على تكفير محيط "مُحَمَّد" لكي يَحُطُّوا من شأن المعارضة الهاشميَّة كما نرى في الجدل المتأخر حول شرك أبو طالب الذي حمى ابن أخيه ولكنه بقي على حنيفيته التي لاتختلف عن الإسلام إذا لم تكن هي الإسلام في بذرته الأولى ...
إذاً نحن لانعرف شيئا مؤكدا عن طفولة وشباب نبي الأمة إلى أن أخذه عمه أبو طالب معه في قافلة تجارية إلى الشام، والأغلب إلى "غزَّة" التي كان يذهب إليها مع أخيه "عبد الله" قبل مرضه في طريق عودته منها ووفاته عند أخواله من بني زهرة في المدينة (الذين سيكون لهم دور فيما بعد بتهيئة المدينة لمجيء حفيدهم محمد)، إذ كان القرشيُّون يعملون في التَّرفيق وحماية القوافل التي تصدِّرُ اللبان والبخورَ اليمني إلى مدن الشام والعالم، فكانوا حُرَّاساً أمنيين ووسطاءَ تجاريين، إذ لايوجد عندهم أيُّ نوع من الإنتاج الصالحٌ للتَّصدير في (واد غير ذي زرع) ، حسب وصف آيات الكتاب لمكَّة، وبحسب السيرة فقد قضى "مُحَمَّد" طفولة قاسية في بيئة شحيحةٍ مادياً وعاطفياً، وغنيةٍ ثقافياً وروحياً، ولم تكن تشغله النساء حيث تأخر في الزواج حتى الخامسة والعشرين من عمره عندما طلبته امرأةٌ ناضجة وقريبة من سن والدته لو أنها بقيت حية، ولها أزواج سابقون وأبناء منهم، أعجبها شبابه وجماله وإخلاصه حين كان وكيلا لتجارتها، بينما كانت بالنسبة له كتعويض عن حنان الأم الذي افتقده، فاكتفى من النساء بها. وبعد وفاة خديجة باتت فاطمة ابنتهما "أم أبيها" كما كان يقول الرسول.. وكانت خديجة تحبه وترعاه وتدعمه، ولعلها كانت حنيفية مثله فتأخذ له طعامه أثناء عزلته في غار حراء كعادة الأحناف، وكانت أول من سمع القرآن بين المسلمين، وهذا يعني أنه توفرت له أسرة صالحة لنمو رسالة الإسلام المُحَمَّدي لولا خصومة بني أميَّة وحلفائهم من الوثنيين، الذين شكَّلوا عائقاً أمام الإسلام الحنيفي كونهم يمثلون افتراضيا غرفة تجارة قريش التي تثرى من حجيج الوثنيين عبر المقايضة معهم، غير أن هذه الخصومة ساعدت المسلمين بشكل عكسي في الانتقال إلى مرحلتهم الثانية بعد تهجيرهم من مكة، فكان أول عمل لهم مهاجمة قافلة (غرفة تجارة) قريش وقلبها المحرك في بدر وتهديد رحلاتها التجارية، الأمر الذي دفع قريش إلى التحالف مع القبائل المتضررة من هذا الحصار الاقتصادي لمواجهة دولة محمد الصاعدة. حيث شكلت معركة بدر انتقالا في الإسلام من شكله الدعوي إلى بعده الإسبارطي الذي وسم المرحلة الثانية من الإسلام، ولولا ذلك لما تشكلت دولته حيث وضع السيف إلى جانب الكتاب، يفتح به المسالك التي لاتستطيعها الكلمة .
حمل اليتيم "مُحَمَّد" طفولته القاسية في حياته العاصفة، فكان أباً وأُمًّا للفقراء والعبيد والمستضعفين، يتبعونه فينالون نصيبهم من العدالة والاحترام والطعام والحماية، مقابل الدُّخول في حزب الله، ضد "الأرستقراط" القرشي. وقد بسَّط إجراءات الدُّخول في الدين الجديد بجملة واحدة يشهد فيها المرءُ أنَ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه، فكان كلُّ عضوٍ منتسب إليه يدعى عبد الله، وكان دخول الفرد فيه يمثل انفصالا عن أسرته المشركة، وخروجا من حزب القبيلة وأعرافها ليندغم في حزب الإسلام ونظامه، هو وسلالته من بعده ، إذ لايسمح الإسلام بخروج أعضائه منه، وهم منذ ولادتهم يرثون عهد أجدادهم حيث الشهادة عابرة للزمان والمكان (حتى يوم القيامة)..
فقد حطم محمد (ص) الأصولية القرشية ثم أعاد بناءها كقائد مجدد، غير أنَّ صورة الإسلام ورسالته وشريعته لم تكن كاملة لدى أعضائه الداخلين فيه، وإنما استمرَّ الدين بالتشكُّل تدريجيا على امتداد 23 سنة: منذ البعثة حتى حجَّةِ الوداع التي أكمل النَّبيُّ فيها صورة مجتمع الإسلام وفكرته الثورية، أي أنَّ إسلام الأولين ترقى في الزَّمن ونضج فقهيا وروحيا، وهذا أدعى إلى ارتباط آيات الكتاب وأحاديث الرسول بالأحداث والوقائع التاريخية ضمن تسلسلها الزمني، فلو كان الكتاب قديماً أزلياً لكان قد أُنزل دفعة واحدة قبل التبشير به، ولما كان فيه تكرار أو ناسخ ومنسوخ، فقد كانت آياته مواكبة لقضايا ومشاكل مجتمعه فقط وليس مجتمع روما أو فارس، بغية إصلاحه والإرتقاء به وسط منافسة الثقافات اليهودية والمسيحية والوثنية، فقد كان التحدي كبيرا ..
في ختام رسالته تمكن مُحَمَّد (ص) من خلط الطبقات الاجتماعية القبلية، وإعادة تشكيلها في طبقة جديدة تضمُّ المؤمنين المتكاتفين حدَّ التَّآخي هي أمة الإسلام، وجعل من الأسبقيَّة في خدمة حزب الله مقياساً لرفعة النَّاس ورياستهم، فحرَّرَ الفرد المسلم من هيمنة القبيلة وطبقة النُّبلاء والسَّادة، وساهم بتحرير العبيد وأعطاهم فرصة للارتقاء في مجتمع الإسلام. كما حَرَّمَ وَأْدَ الإناث، وأشركهنَّ في الإرث والشَّهادة وحفظ القرآن وجمعه، ولَجَمَ شبق الرجال الأثرياء بجمعِ أعداد لانهائية من الزَّوجات حيث كان يمكن للرجل أن يجمع مئتي زوجة تحت عصمته. وخلال عقدين من الزَّمان تمكَّن من إدماج القبائل وإلحاقها بمملكة السماء بدلاً من بطاح الأرض. وحوَّلَ طاقاتِ العرب المسفوحة في غزو بعضهم البعض، إلى قوة موحَّدة ابتلعت فيما بعد قارَّات العالم القديم وأعادت تشكيل حياة شعوبها كرهاً أو حباً... غير أن الإسلام في العصور اللاحقة استعاد طبقة الكهنوت والسادة والعبيد والجواري والخصيان، وازدهر الرقّ وحرمت المرأة الجارية من كل الحقوق، فكانت مجرد متاع تباع وتهدى، وكان الخلفاء والأثرياء يتسرّون بالمئات من النساء المسبيات خارج نطاق الزواج، حتى بات الرجال يميلون إلى المرأة الجارية أكثر من الحرة التي صارت تجهد في منافستها الأمر الذي حط من منزلتها كندٍّ مساوٍ للرجل، سوى أمهات المؤمنين اللواتي كن نموذجا للسيدة الحرة ..
تشكِّل حياة الرسول وإرثه روايةً فريدةً لاتماثلها حياةُ أيِّ بطلٍ آخر على مرِّ التَّاريخ القديم ، وما يُفْقِدُها بعضَ دهشتها وسحرها هو ردُّ نجاحها الكلِّيِّ إلى القدرة الإلهيَّة التي تقدِّمُ مُحَمَّداً كمخرجٍ مُنَفِّذ، على الرُّغم من النَّكبات المريرة والخسائر الكثيرة التي واجهته في حياته التي لم تتدخل العناية الإلهية فيها، فكان رجلا قويا بما يكفي لاستمرار رسالته ونجاحها في بيئة صعبة لم ينجح فيها أحد قبله بجمع شمل العرب، ذلك أن القرآن جاء لهداية قبائل العرب روحيا بينما عمل الرسول على توحيدهم اجتماعيا كأمة متجانسة في كيان الدولة التي ستتحول إلى امبراطورية عظمى، فقد بدأت ثورته ثقافية بامتياز، ولو كان مجتمع مكة مسالما له لما احتاج إلى السيف في نشر رسالته.
وقد أنتجت هذه السيرة في إطارها الآسر أبطالاً آخرين تأثَّرُوا بالنَّبيِّ وتقمَّصوا شخصَّيتَهُ الفذَّة، كعليّ وعمر وأبي بكر وأبي ذَرّ وسَلمان وعمَّار بن ياسر، وكانت سِيَرُهم كما وصلتنا تنهلُ من اسم المقدَّس محمد بدلاً من كونها تأتي من تميُّزهم وتفردهم الإنساني مثلما وصلنا من سيرهم العظيمة.. هذه السِّيرة السَّاحرة لبطلٍ فريدٍ ألهمت الكثير من الأفراد عبر القرون اللاحقة، بحيث أنهم تقمَّصُوها وقلدوها في سلوكهم وخطابهم، كما لو أنهم "مُحَمَّداتٌ" صغيرة تستعيد سيرته بحذافيرها، نقلاً لا عقلاً، مع الإضافات الأسطورية والبهارات التي أضافها الرُّواة للحكاية، بحيث باتت لدينا تصوُّرات عديدة لدى هؤلاء المأخوذين بقصًّة "مُحَمَّد"، بحسب الجزء الذي قرؤوه وأحبُّوه: فالصُّوفيُّون والأشاعرة يميلون إلى نُسخة "مُحَمَّد" الحنيفية المكيَّة، بينما تميل جماعاتُ الإسلام السياسي إلى النُّسخة المدينيَّة، ويميلُ الشيعة إلى نسُخة "مُحَمَّد" العَلَويَّة، أما السُّنَّة فيميلون إلى نُسخة "مُحَمَّد" البكرية العُمَريَّة، بحيث بات لدينا "مُحَمَّداتٌ" عديدة بعدد تصوُّرات المتقمِّصين لشخصيته وما يدمجونه معها من صحابته أو آل بيته، وهذا سببُ اختلافهم على كلِّ شيء، باستثناء الشريعة والعقيدة، وموضوع تعدُّد نساء الرَّسول (بكون النَّبي فحلاً أوتي قوَّةَ أربعين رجلاً) ، ففهموا الأمر من ناحية آيروسية دون أن يأخذوا بعين الاعتبار أنَّ الزَّواج، فضلاً عن أنه كان لتعزيز التَّحالفات مع القبائل والبطون، فإن الطفل المهجور في لا شعور "مُحَمَّد" كان يحتوي النِّساء اللواتي أحببنه فعلاً وعوَّضنه عن فقدان حنان الأم ورعايتها، سواء أكُنَّ كبيراتٍ في السِّنِّ كخديجة وأم سلمة، أو صغيرات كعائشة، التي كان يلاعبها ويستعيد معها بعضا من طفولته المنسية، هذا التعدد النسوي جاء بعد وفاة "خديجة" التي احتلت سيرته النِّسائيَّة المَكيَّة، فقد كان مكتفياً بحنانها وحبها ورعايتها، ويبدو أنه لم يجد بديلتها بعد غيابها في كل زواج كان يوافق عليه، إذ أن الكثير من النساء كن يعرضن أنفسهن عليه كرجل متميز يعلي من قيمة المرأة إلى درجة أنها تغدو أماً مقدسة لرعاياه المؤمنين، كما كن أمهات له يمنَحْنَهُ من طاقة الحبِّ والإعجاب والدَّعم المعنويِّ ما يجعله إنساناً متفوقاً يليق بالرسالة، بعدما كان طفلاً منسيًّا وشابًّا منفيًّا من قبل سادة مكَّة، حسب وثيقة المقاطعة التي وقعها أربعون زعيماً قرشياً هزمتهم "حشرة الأرضة" التي أكلت وثيقتهم المعلقة في الكعبة، وصولاً إلى محاولة اغتياله وتفريق دمه على القبائل حتى يعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، الأمر الذي دفعه أخيراً إلى هجر مكَّة وذكرياتها بعد وفاة "خديجة"، ليستقرَّ في المدينة ويبدأ من هناك المرحلة الثانية في مسيرته الحافلة بالتَّحدِّي، حاملاً كفنه بيد ورسالته بالأخرى، غير عابئ بالعقبات والأحداث التي شكَّلت نُسخة الإسلام الأولى، حيث تبدو حكايته أكثر درامية من بطل أي مسرحية في الأدب العالمي ؟
إن متابعة سيرة حياة محمد بن عبدالله ستكشف لنا عن شخصيتين متمايزتين، الأولى تبشيرية مسالمة نبتت في مكة، والثانية قيادية سياسية مُحاربة نضجت في المدينة، وكذا في آيات القرآن المكيَّة والمدنيَّة، حيث نجد في الأولى مجازاً وبلاغة وروحانية عالية أفرزتها تجربة العزلة والتأمل، بينما تنهج المدنيَّة نحو التشريع وتستخدم السَّرد المبسط في المراسيم والعقوبات التي لاتحتمل المجازات، لأن الغاية منها تنظيم كيان المجتمع المسلم وما يدخله من تحريم وتحليل وزجر وعقوبات كانت تفرضها الوقائع اليومية لعدد من الناس بات أكبر من أن يتمكن الرسول من متابعتهم فرادى كما كان الوضع في مكة.. فإذا كان هناك اختلافٌ واضحٌ وبَيِّنٌ في السيرة النبوية، وفي صياغات النَّصِّ المقدَّس، بين زمنين ومكانين، قبل الهجرة وبعدها (بفارق 13 سنة قبل الهجرة للمكيَّة و11 سنة للمدنيَّة، خلال ربع قرن من الزمان، ومسافة 400 كم في المكان بين مكَّة والمدينة)، فكيف كان الأمر ليكون لو أنَّ الرسول الكريم بُعث بيننا اليومَ، وأراد أن يخاطب مجتمعاتٍ إسلاميةً متنوعة الثقافات وشديدة الاختلاف فيما بينها من الناحية التاريخية والأنثربولوجية واللغوية والعرقية ؟ بل ماذا لو جاء "المَهْديُّ " فكيف سيكون الإسلام الذي سيبشِّرُنا به اليوم أو غدا ؟ لاشكَّ أننا سنحصل على نسخة إسلامية محدَّثة تناسب مجتمعاتنا وتساعدها في مواجهة التَّحديات المعاصرة، ولا شك أنَّ السَّلفيين كانوا ليتمرَّدُوا على الرسول ويكفِّروه كما فعل الخوارجُ من قبلُ مع صهره عثمان بن عفان وتلميذه ونَجِيِّهِ عليُّ بنُ أبي طالب.
التعليقات
لكل ثورة ثورات مضادة تنتظرها…
لكل ثورة ثورات مضادة تنتظرها وراء الباب.
زوجته خديجة كانت مسيحية وابن…
زوجته خديجة كانت مسيحية وابن عمها كان ينتظر ظهوره حسب الكتاب الذي يتبعه
إضافة تعليق جديد