«تطور مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي» جديد ماهر الشريف

13-01-2008

«تطور مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي» جديد ماهر الشريف

يأتي كتاب د ماهر الشريف: «تطور مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي»، في مرحلة ساخنة، انشغل فيها القاصي والداني بظاهرة الإسلام السياسي، وضمنها تفرعاته وتنوعاته المتطرفة: التكفيرية والإرهابية، التي باتت تشكل عبئاً وخطراً على العالمين العربي والإسلامي، وعلى صورة الإسلام كدين وعقيدة، فضلاً عن أنها باتت موضع استهجان واستهداف على الصعيد الدولي، بما لذلك من تداعيات على وحدة المجتمعات واستقرار الحكومات في البلدان العربية والإسلامية.

يتألف الكتاب، الصادر عن «دار المدى» (2008)، من مقدمة وستة فصول واستخلاصات ختامية، ويقع في 244 صفحة، ويندرج ضمن دراسة تاريخ الأفكار، ويستند الى منهج التمييز بين الدين والمقدس والمطلق والثابت وبين الفكر الديني/البشري والنسبي والمتحول، وتتمحور إشكالية البحث في تفحّص العلاقة بين النصوص التأسيسية وتفسيرها أو تأويلها، في محاولة من الباحث للإحاطة بالسؤال الآتي: إذا كان مفهوم الجهاد يجد سنده في القرآن والأحاديث النبوية فكيف تعامل المعبرون عن الفكر الإسلامي مع هذا المفهوم عبر التاريخ؟

في تقديمه لكتابه يؤكد الشريف أنه ليس ثمة تواصل، وإنما ثمة انقطاع، بين نتاجات تيار رواد الإصلاح الديني (الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، مثلاً)، الذين كانوا جزءاً من التيار النهضوي، وبين نتاجات تيار الإسلام السياسي/الحركي، التي عبر عنها تيار أبو الأعلى المودودي وسيد قطب والزرقاوي.

الفصل الأول من الكتاب بحث في بواكير التفكير الجهادي، في مرحلة النبوة والفتوحات الإسلامية، التي في كتب السير، وفي مواقف بعض الفقهاء والأئمة، وضمنهم الاوزاعي وبن مالك والشافعي وأبو حنيفة. وينقل الشريف عن الاوزاعي (الذي عايش فترة توسع الفتوحات الإسلامية ومن أوائل من كتبوا السير) عدم جواز قتل الأسرى، والشيخ والأعمى والراعي والراهب إذا لم يقاتلوا، ولا يجوز رمي أهل الحرب ولا إحراقهم إذا تترسوا بنسائهم وصبيانهم كما لا يجوز قطع شجر المشركين أو حرقه ولا إغراق نحلهم أو حرقه، ولا عقر دوابهم لغير الأكل. أما الإمام مالك فقد عارض قتال الفجأة، أو البيات (مهاجمة العدو ليلاً) لأنه لا بد من دعوة الناس للإسلام قبل الهجوم، كما عارض الاستقتال أي الهجمات الانتحارية على العدو، لأن قصد الإسلام هداية الناس. وبحسب البحث فإن الإمام الشافعي هو الذي أسس لعقيدة الجهاد في مؤلفه «الرسالة»، وأفرد لها ثلاثة كتب: الجزية، وقتال أهل البغي والردة، والحكم في قتال المشركين، حيث تمايز بموقفه عن غيره من الفقهاء بأن علة الجهاد هي الشرك وليس العدوان على المسلمين وان الجهاد يرمي إلى إظهار دين النبي على الأديان. وقد خالف الإمام أبو حنيفة موقف الإمام الشافعي بتبنيه موضوعة الدين الواحد والشرائع المتعددة، مؤكداً أن رسل الله لم يكونوا على أديان مختلفة، لأن دينهم كان واحداً.  
 ويبدو من البحث أن ظاهرة الجهادية الإسلامية تبلورت مع ابن تيمية (وهو من أتباع المذهب الحنبلي)، وولد عام 661 للهجرة، وهي فترة صد غزوات الصليبيين والتتار، وهو شارك في القتال، وقاتل بعض الطوائف الشيعية والإسماعيلية، وأفتى بوجوب قتال كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام، وهاجم الطرق الصوفية. وكان على عداء للفلسفة، ورجل نص، أكثر منه رجل فقه وقياس، بدعوى انه على فرض وجود تعارض بين العقل والنص يجب ترجيح الأخذ بالنص. وهو يعتقد بوجوب قتال كل من بلغته دعوة النبي محمد ولم يستجب لها، واعتبر الجهاد من أهم الفروض بالإسلام، وأفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة والصوم.. وأوجب قتال كل من يقف في مواجهة دعوة الإسلام.

الفصل الثاني عرض لمفهوم الجهاد من منظور رواد الإصلاح الديني، وضمنهم الشيخ جمال الدين الأفغاني الذي شدد على وحدة النوع الإنساني، ووحدة الأديان، وأن العدل أساس الكون. والذي ناهض السياسات الاستعمارية، ودعا شعوب الشرق للنضال من اجل الانعتاق والتحرر، إلا أنه ركز على الطابع الدفاعي لقتال المسلمين، دفاعاً عن أوطانهم، حيث لا تفريط ولا إفراط، لا نقص ولا تعصب وتطرف، ونهى عن الإفساد وسفك الدماء. أما محمد عبده فأكد أن من أصل الإسلام البعد عن التكفير. وأنه ليس لأحد بعد الله ورسوله سلطان على عقيدة أحد. وليس على مسلم أن يأخذ عقيدته إلا من كتاب الله وسنة رسوله من دون توسيط من سلف ولا خلف. ودعا للتأليف بين الأديان التوحيدية، مؤكداً أن الإسلام ينهى عن الغلو في الدين، ويضمن حرية التفكير والاعتقاد. على أساس الآية القرآنية: «لا أكراه بالدين قد تبين الرشد من الغي».. «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين». وعند عبده فإن الجهاد فرض كفاية، والحروب في الإسلام ليس سببها العقيدة وإنما السياسة، وطمع الحكام وفساد أهوائهم وحبهم السلطان. أما علي عبدالرازق فيرى بأن الجهاد لم يكن لمجرد الدعوة إلى الدين وإنما كان لتثبيت السلطان وتوسيع الملك، وان الدعوة للإسلام لا تكون إلا بالبيان وتحريك القلوب بوسائل التأثير والاقتناع أما القوة والإكراه فلا يناسبان دعوة يكون الغرض منها هداية القلوب.

الفصل الثالث خصصه الباحث للحديث عن الانقلاب الحاصل في التفكير الإسلامي، في شأن مفهوم الجهاد: مبرراته وغاياته ووسائله، مع محمد رشيد رضا، وذلك في المرحلة الأخيرة من حياته، التي عاصرت جملة تحولات محلية ودولية، ضمنها: تصاعد الهجمة الاستعمارية، وتفكك الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة، وقيام دولة علمانية في تركيا، وتنامي نفوذ المثقفين العلمانيين في المجتمعات الإسلامية، والتحول من الرابطة الدينية إلى الرابطة الوطنية. وأدت هذه التحولات إلى انقلاب رضا على أفكار الإصلاح الديني، بل وأسس لقطيعة معها، حيث جعل الإيمان قائماً على الإذعان وليس على العقل. وفي هذا السياق شن هجوماً على العلمانية ومن اعتبرهم متفرنجين وملاحدة.

الفصل الرابع خصص لعرض آراء المعبرين عن «الإسلام الحركي»، من مسألة الجهاد، مثل حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب. حيث رأى البنا أن الإسلام دين ودولة وعبادة، وهاجم التواصل مع الغرب ومقولة التفاعل الحضاري، وطرح مسألة الجهاد باعتبارها فريضة من فرائض الإسلام، لم يفرق بينها وبين الصلاة والصوم. حيث برأيه من الأفضل للمؤمن أن يموت في ساحة الوغى وميدان الجهاد في سبيل الله. وهو ينطلق من أن القتال فرض على المسلمين لحماية الدعوة وأداء الرسالة، على رغم انه دعا المجاهدين للرحمة والعدل وعدم قتل النساء والأطفال والشيوخ، والواجب عنده قتال من بلغته الدعوة ولم يسلم.

ومع المودودي تبلورت أكثر العقيدة الجهادية، حيث الحكم والسلطان لله وحده، ما ينفي حاكمية البشر، وأن رسالة الإسلام نسخت ما قبلها من شرائح سائر الأنبياء وأن فلاح الإنسانية متوقف على أسلمتها. وعنده في بعض الأحوال فإن الجهاد أكثر أهمية من الصلاة والصوم. وبرأيه فإن الإسلام فكرة انقلابية تهدف لهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره كي يؤسس بنيانه من جديد والمسلمون أعضاء في الحزب الانقلابي العالمي. وقد لاقى الفكر الجهادي دفعة جديدة من التطرف والتكفير مع سيد قطب، الذي رأى في الإسلام مولد إنسان جديد تسلم قيادة البشرية، مؤكداً أن الحاكمية لله، ورأى وجوب وجود طليعة وعصبة تنفصل عقيدياً وشعورياً عن أهل الجاهلية والكفر. وهو في ذلك اختلف حتى مع البنا الذي يرى بأن المجتمعات الإسلامية تعاني من نقص في الإسلام ويجب التواصل معها لتغييرها. وبرأي قطب فإن الله اختار الأمة الإسلامية لتكون قوامة على البشرية، ويرى بحرب مشروعة لتقرير الوهية الله على الأرض، على أساس أن الإسلام ليس مجرد عقيدة بل هو إعلان عام تحرير الإنسان من العبودية للعباد وإزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر.

في الفصلين الخامس والسادس عرض الباحث مجموعة مواقف فقهية متباينة إزاء مسألة الجهاد، لعديدين من مثل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الذي بدا أكثر تسامحاً، ويوسف القرضاوي الذي حذر من الإفراط والتفريط، مؤكداً الاعتدال، والسيد محمد حسين فضل الله، الذي أكد أن جهاد النفس أشد خطراً من العدو الخارجي. كما عرض لمواقف من اعتبرهم رجال دين مصلحين، من الجهاد، من مثل الشيخ محمد مهدي شمس الذي أكد أن لا إكراه في الدين، واعتبر العنف المسلح وسيلة فاشلة، تلحق ضرراً بالمشروع الإسلامي، مؤكداً الدعوة للإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة. كذلك عرض مواقف جودت سعيد ومذهب اللاعنف في الإسلام، الذي اعتبره امتداداً لخطى رجال الإصلاح الديني، حيث يرى أن العنف والدعوة متنافيان، ويسند رأيه بالحديث الشريف «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» أي ليس السيف أو الرمح أو القتل. أما خليل عبد الكريم فهو يعيد الجماعات الجهادية إلى أصلها الدنيوي، ويرى فيها مجرد حركات سياسية، لها أهداف دنيوية سياسية اجتماعية اقتصادية، شأنها شأن أي حزب علماني، وان البشر يختلفون في تفسير النصوص المقدسة لاختلاف مداركهم ومشاربهم ونزعاتهم ومصالحهم ومكانتهم في المجتمع. ويقدم الكاتب بعض آراء محمد شحرور، الذي نزه الدين عن التفرقة بين الناس، وأن هذا عمل بشر وفقهاء، وأن الدين لم يقسم العالم إلى دار إسلام ودار كفر، تقوم على كره الآخر وإقصائه. وبالنسبة للجماعات الإسلامية التي لجأت إلى العنف المسلح، فهو يرى بأنها وصمت الإسلام بالإرهاب، وحتى انه عارض العمليات الانتحارية والاستشهادية، مؤكداً أن على المسلمين أن يعيشوا عصرهم لا عصر الشافعي قبل أكثر من ألف عام. كما انه خالف مقولة لا اجتهاد في مجال النص حيث لا اجتهاد إلا في النص أما خارج النص فنحن نفعل ما نشاء.

ويخلص الشريف من كل ذلك إلى أن أسس عقيدة الجهاد لم تطرح في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي الشريف، وان الفقهاء المعنيين جعلوهما مصدرين لهذه العقيدة، لإضفاء شرعية عليها. ويدعو الشريف إلى ضرورة إحداث إصلاح ديني حقيقي، يعيد النظر في التراث الفقهي ويقرأ القرآن والسنة النبوية قراءة جديدة. ويرى بأن المناخ التعليمي والإعلامي وفقدان حرية التعبير والتفكير والبحث، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتعثر مسألة السلام، وسياسات إسرائيل وأميركا، عوامل تشجع على التقوقع والانغلاق، والعداء للآخر، ومع ذلك فبرأيه إن الدعوة للإصلاح الديني حقيقي تظل مدخلاً لنهضة العرب والمسلمين.

ويمكن القول بأن الباحث والمؤرخ الشريف غامر مرتين بإقدامه على إصدار هذا الكتاب، الذي يقدم فيه مساهمة مهمة للمكتبة العربية، الأولى حين انتقل من البحث والتأريخ في قضايا الماركسية والحركة الشيوعية، إلى حقل جديد بالنسبة اليه يختص بالقضايا الإسلامية (علماً أنه قارب هذه القضايا مؤخراً من باب الاهتمام برواد الإصلاح الديني والنهضة)، والمرة الثانية حين اختار قضية مشتعلة، صعب على كثير من الضالعين الاقتراب منها، ولكنه قارب هذه القضية من وجهة نظر بحثية وموضوعية، بعيداً عن الأحكام الجاهزة والرؤى المسبقة، كما سبق ووعد في مقدمته. وكما قدمنا فالكتاب هو بمثابة بحث تاريخي، لتطور مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي، لذلك تجنب الباحث الدخول في تحليل ومناقشة الأفكار الواردة، تاركاً الحكم للقارئ، أو ربما لدراسات أخرى قد تأتي لاحقاً.

ويستنتج من البحث أن فكر التكفير هو ظاهرة طارئة في الإسلام، ولم تعرفها المجتمعات الإسلامية إلا حديثاً جداً، أي مع المودودي، وقطب، حيث أنها لم تظهر على تلك الصورة حتى لدى بن تيمية. أيضاً يمكن الاستنتاج، من الكتاب، بأن الفكر الجهادي في الإسلام تجاهل تماماً مسألة خضوع الأمة لهيمنة خارجية، بدعوى الخلافة الإسلامية (العثمانية مثلاً)، وبدعوى تقسيم العالمين إلى دار الإسلام ودار الكفر، وأن الأولوية للرابطة الدينية على الوطنية، على ما في ذلك من مقاربات خطيرة في هذه المرحلة. أيضاً تطرح هذه الرحلة في الفكر الجهادي مسألة تبرير أو التغطية الدينية لمسألة الاقتتال الداخلي، مثلاً في الحالة الفلسطينية، حيث قتل من الفلسطينيين هذا العام حوالي 500، عدد كبير منهم، خلال سيطرة حماس على قطاع غزة، أكثر مما قتلت منهم إسرائيل، في حين أن عمليات المقاومة لم تقتل خلال العام 2007 سوى 11 إسرائيلياً! «من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذاباً عظيماً».

أخيراً يبدو انه من الصعب الحسم في شأن كيفية انفاذ رسالة الإسلام، وعلاقته بالآخر، فهل يدعو إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، أي بالكلمة والإقناع، أم بالتهديد بالقتل؟ وهل يجيز الإسلام قتل المرأة الحامل والطفل والشيخ والمقعد والجريح، أم حرّم ذلك، وحتى إزاء العدو المحتلّ؟ ثم هل ثمة إكراه في الدين؟ وهل الحساب يعود لله أم لأدعياء الوصاية على الأرض؟ «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين..». وهل ثمة خيار أم جبرية في الإسلام؟ «لا إكراه في الدين».. «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». وإذا كان البشر يحكمون، فكيف يمكن ادعاء أن الحاكمية لله؟

ماجد كيالي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...