الثعلب والقنفذ: الولايات المتحدة إزاء الأزمة السورية (2 من 4)
الجمل ـ د. عقيل سعيد محفوض:
ثانياً-: سورية والولايات المتحدة: العلاقة المستحيلة
ربما كان "التفاهم" الوحيد شبه المستقر بين سورية والولايات المتحدة هو حول صعوبة (شبه استحالة!) التوصل إلى تفاهم مستقر. وقد نظرت الأخيرة إلى سورية نظرة ريبة، وعدّتها في معظم تاريخها المعاصر مصدر تهديد لسياساتها، وحَكَمَت العلاقات البينية سياسات احتواء وتدبير للمصالح والتناقضات، مالت غالباً لبراغماتية متفاوتة بين تعاون دون التحالف وصراع دون الحرب!
غير أن ذلك هو في ظاهر الأمور، أما الأساس العميق فهو العداء، وقد قالت الرئاسة السورية في بيان (7 نيسان/أبريل 2017): إن «ما قامت به أميركا، ما هو إلا تصرّفٌ أرعنُ غير مسؤول»، وأكدت أن استهداف «دولة ذات سيادة يوضح أن تعاقب الإدارات لهذا النظام لا يغيّر من السياسات العميقة لكيانه»[1]. ويمكن الحديث –ولو أن في ذلك شيء من التعميم والإطلاق–عن "جوهرانية" ما للعداء أو استمراريته، بالأحرى الطبيعة الخاصة من العداء التي لم تمنع من وجود حالة من "التكيف" أو "التعايش" مع حالة حرجة لم يكن من سبيل للتخلص منها، حتى الآن.
وقد تحولت العلاقات من منظور واشنطن من سياسات "تغيير سلوك النظام" التي برزت في أعقاب حرب الاحتلال الأمريكي للعراق (2003)، إلى سياسات "تغيير النظام" التي برزت في أعقاب حرب تموز/يوليو بين حزب الله وإسرائيل (2006)، ولكنها لم تتول الانخراط المباشر والتام في العملية، وأرادت أن تفعل ذلك بنوع من "الحرب بالوكالة" أو ما يعرف بـ "الحرب الهجينة"[2].
وهكذا فإن الاعتداء المباشر على سورية ليس جديداً، ذلك أن الولايات المتحدة تدعم الجماعات المسلحة في غرف عمليات في: تركيا، والأردن، وفلسطين المحتلة، وتمدها بالمال والسلاح والمقاتلين، وتنشر قوات وتقيم قواعد عسكرية ومطارات في الشمال والشرق، وترعى التوغل التركي في الشمال. وتنسق جهود فواعل عديدة مناهضة للحكومة السورية. وقد سبق للولايات المتحدة أن أعلنت عن فشل جهودها في قيام انقلاب عسكري أو خلق حالات انشقاقٍ لكبار الضباط في الجيش والمؤسسة الأمنية وغيرها، لأنها "لم تجد مواطن ضعف تذكر يمكن استغلالها"[3]. كل ذلك لم يكن ظاهراً مقارنة بالجلبةِ والصخبِ اللذين أحدثهما اعتداؤها المباشر على قاعدة الشعيرات الجوية، وبدا الاعتداء المذكور كما لو أنه أول تدخل عسكري مباشر ضد سورية في أزمتها الممتدة منذ آذار/مارس 2011.
تغيرت أنماط التورط الأمريكي في الأزمة منذ آذار/مارس 2011، ليس بالإحلال وإنما الإضافة، أي ليس بإحلال نمط محل الآخر، وإنما بالإضافة إليه، إذ تواصلت الضغوط ودعم العمليات الرامية لـ "إسقاط النظام"، وزادت التورط العسكري، وتولت بشكل متزايد القيام بمهام مباشرة عندما وجدت أن النمط بالوكالة لم يحقق الأهداف المرجوة، وعندما وجدت أن روسيا وإيران مكنتا دمشق من مواجهة الاستهداف المُرَكَّز والمتواصل الهادف لإسقاطها.
لم تقف الولايات المتحدة عند أنماط التدخل أو التورط المذكورة، بل أقامت حتى الآن (7) قواعد عسكرية ومطارات عسكرية في غير مكان من شمال سورية، ومن المتوقع أن تزيد الولايات المتحدة –بالتعاون مع القوات الكردية–في عدد القواعد وفي طبيعتها واستعداداتها. والقواعد المشار إليها هي:
- قاعدة الرميلان، وتقع في مطار "رميلان" شرق مدينة "القامشلي" الحدودية، وهي من أولى القواعد العسكرية الأميركيةالمعروفة في سورية.
- قاعدة "المبروكة" قرب قرية بالاسم نفسه غرب مدينة القامشلي.
- قاعدة الجلبية المعروفة باسم "خراب عشق" غرب بلدة "عين عيسى".
- قاعدة "عين عيسى" وتقع في محيط المدينة نفسها، وهي من أكبر القواعد الأمريكية في شمال سورية مساحة.
- قاعدة مطار روباريا، قرب مدينة عين العرب بريف حلب الشمالي.
- قاعدة "تل حجر" قرب منطقة بالاسم نفسه، شمال محافظة الحسكة.
- قاعدة تل أبيض، في مدينة "تل أبيض" على الحدود السورية التركية.
- بالإضافة إلى قواعد عسكرية بريطانية وألمانية في البادية قرب مثلث الحدود بين: سورية، والأردن، والعراق، وثمة وجود عسكري فرنسي.
وواصلت الولايات المتحدة مسعاها لأن يكون التدخل المباشر والكبير تحت لواء الأمم المتحدة وبغطاء منها كما فعلت في ليبيا. وقد استخدمت روسيا حق النقض الفيتو (8) مرات، كان آخرها (12-4-2017)، وهذا مؤشر على حجم الرهان من قبل الولايات المتحدة على تمرير قرارات في مجلس الأمن، تكون غطاء أممياً لاستهداف سورية، في مقابل الإصرار من قبل روسيا على إعاقة أو احتواء أي مسعى من هذا النوع.
ثالثاً-هيّا نضرب كيماوياً!
العنوان ليس دعوة لاستخدام السلاح الكيماوي، وإنما يأتي من باب المفارقة، وسوف أبين مصدر هذه الاستعارة غير المطمئنة ولكن المعبرة في آن، فقد كتب الروائي البرتغالي ألفونسو كروش نصاً جميلاً بعنوان "هيا نشتر شاعراً"[4]، فيه قدر كبير من التهكم على أنماط المدارك والعيش في عالم العولمة التي "شَيَّأَت" كل شيء تقريباً، وجعلت منه سلعةً أو أداةً، وهي أن "شراء الشاعر" مثلاً أفضل من "شراء" النّحات أو الرّسام، لأنه لا يُخَلِّفُ وراءَه سوى القليل من "النفايات"، مقارنة بأولئك الذين يُخلِّفون الكثير منها (الخشب والأحجار والأوراق والألوان وغيرها).
تحيل الاستعارة "هيا نضرب كيماويّاً"، أو "هيا نختلق كيماويّاً"، من ثم "نتخذه ذريعة"، والهدف هو تحقيق مكاسب سياسية ورمزية تمهد لخطوات عسكرية لاحقاً، وبأقل قدر من الجهود والتبعات. وحيث إن الادعاء إذ يتم تبنيه يحل محل الواقع أو هو ينتج واقعاً، كما لو أنه حقيقة. وقد خَبِرَ الغربُ وخصوم سورية الآخرون ذلك، عندما حققوا مكاسب كبيرة نسبياً في الحرب السورية، باستخدام الميديا التي أمكنها أن تختلق واقعاً افتراضياً تحول سريعاً إلى واقع مادي[5].
كما أن الاتهام/الاختلاق/الذريعة يمكن أن يساعد في تحقيق تحوّل سريع نسبياً في المواقف أو الوقائع، ليتم بعد ذلك التفاوض على الوضع الجديد، أو على موضوع آخر، كأن يتم الضغط في سورية للتفاوض في أوكرانيا، أو الضغط في ريف حماه للتفاوض في ريف حلب، كما يساعد في التعجيل بالتحولات، بقدر أقل من "البقايا" ومن "الوقت".
وهكذا كانت ترتيبات حادثة الغوطة بريف دمشق (21 آب/أغسطس 2013)، التي أدت إلى تدمير السلاح الكيماوي السوري (قرار مجلس الأمن 2118)، ومثل ذلك ترتيب/اختلاق حادثة خان شيخون (4 نيسان/أبريل 2017)، والتي أعقبها الاعتداء الأمريكي على قاعدة الشعيرات الجوية (7 نيسان/أبريل 2017)، والتهديد باعتداءات أخرى، وقد يحدث ذلك، ريثما يتم التوصل إلى تسوية ما تضمن وضعاً جديداً. هنا يبدو "شراء" الحادثة، أو الإعداد لها، من أجل التذرع بها، مفيداً للفاعل، ذلك أن التكاليف أقل والمردود أكبر.
وهكذا كانت التغطيةُ الإعلامية والسياسية لحادثة "خان شيخون"، وتظهيرُ المقاطع والصور وغيرها مُعدَّة بعناية فائقة، وكذلك الأمر بالنسبة للاتهامات والمواقف السياسية، ما يحيل إلى جهة/جهات الاستهداف وإلى المدبر في آن، وعلى قولة المثل "يكاد المُريب أن يقول خذوني".
قد يكون من المناسب القول: "هيا نسعى لأوسكار آخر"، وهو ما حصل بالفعل، ذلك أن الإعداد للحادثة أو الادعاء بحدوثها، وإن بدا مكشوفاً، إلا أنه ربما حقق هدفه بأن أظهر للعالم أنَّ الواقعَ الافتراضيَّ أو المُختَلَقَ أو المُعَدَّ له هو حاضرٌ و"متعيّن" و"حقيقي" أكثر من الواقع الفعلي. ومن الممكن أن يجد الرئيس بشار الأسد نفسه يوجه التهنئة مرة أخرى للإرهابي محمد الجولاني على فوز تنظيم "جبهة النصرة" الإرهابي بأوسكار ثان[6]، ولكن بالمشاركة مع الرئيس "ترامب" وإدارته، مع يقينه أن الاستخبارات الأمريكية والتركية هي المُعدّ ومسؤول الإنتاج والتوزيع، وقد وصف الرئيس الأسد حادثة خان شيخون، قائلاً: «انطباعنا هو أن الغرب وخاصة الولايات المتحدة متواطئون مع الإرهابيين، وقاموا بفبركة كل هذه القصة كي تكون لديهم ذريعة لشن الهجوم» على قاعدة الشعيرات الجوية في ريف حمص[7]. وكان على العالم أن يقرأ ما كشفت عنه التحقيقات حول حادثة الكيماوي في الغوطة بريف دمشق، وخاصة تحقيقات الصحفي الشهير "سيمور هيرش" التي أظهرت أن الحادثة مُفبركة من قِبَل الاستخبارات التركية وشركائها[8].
إنَّ خطورة اتخاذ الكيماوي ذريعة، بناء على وقائع مختلقة، أو: مُعَدٍّ لها، أو: حتى وقائع فعلية، ولكنها منسوبة لطرف بعينه دون الآخر، وعادة ما يكون المتهم –أمريكياً وغربياً–هو الحكومة السورية، هو ما حَدَا بنائب وزير الخارجية السورية لأن يعلن يوم حادثة "خان شيخون" أن الحكومة السورية حذرت الأمم المتحدة من أن الجماعات المسلحة ربما تخطط لأعمال إرهابية باستخدام السلاح الكيميائي، قائلاً: «أعطينا معلومات عن إدخال النصرة لمواد سامة إلى سوريا وتخزينها للقيام بهذا العمل»، وأضاف «أن الجيش السوري لا يملك أسلحة كيميائية وهو لم يستخدم يوماً أسلحة كهذه»، مؤكداً أن بلاده «نفّذت كل التزاماتها تجاه منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والمنظمة اعترفت بذلك»، كما عَدَّ أن«انتصار حلب وانجازات الجيش السوري في محيط دمشق وحماة وراء الهجمة التي نشهدها»[9].
ولكن التحذير أو الإبلاغ لم يغير شيئاً في التقديرات والاتهامات، بل إن المبعوث الدولي "استيفان دي مستورا" الذي يفترض أنه تبلغ بما قاله "فيصل المقداد"، صرح أن الهجوم "نفذ من الجو"، ما يعني أن المنفذ إما الطائرات السورية أو الروسية. ولم يبين "دي مستورا" كيف تمكن من تحديد طبيعة الهجوم قبل القيام بأي تحقيق.
هذا يحيلنا إلى مستوى آخر من "لعبة الكيماوي"، وهو "هيا نتحدث عن الكيماوي" ونستبق اختلاق حادثة جديدة عن الكيماوي. وقد عبر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" عن رؤية استباقية ومدارك تهديد عالية بهذا الخصوص، عندما حذر (11 نيسان/أبريل 2017) من "استفزازات" بشأن استخدام السلاح الكيماوي يتم الإعداد لها في غير مكان من سورية للادعاء بأن الجيش السوري هو من استخدمها[10]، تمهيداً لاستهدافات أمريكية وغربية وإقليمية جديدة ضد سورية. ويحيل تحذير "الرئيس بوتين" إلى قناعة روسيا بأن حادثة خان شيخون مدبرة، وأن الفاعل أو الفواعل المدبرة بصدد الإعداد لحلقة اعتداء جديدة.
[1] بيان الرئاسة السورية، (7 نيسان/أبريل 2017).
[2] عقيل سعيد محفوض، خط الصدع: في مدارك وسياسات الأزمة السورية، دراسة، (دمشق: مركز دمشق للأبحاث والدراسات، 2016).
[3] "أمريكا أجرت اتصالات سرية مع الحكومة السورية"، رويترز، 24كانون الأول/نوفمبر 2015.
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0U718E20151224
[4] ألفونسو كروش، هيا نشتر شاعراً، ترجمة: عبد الجليل العربي، (تونس: دار مسكيلياني للنشر والتوزيع، 2017).
[5] عقيل سعيد محفوض، الحدث السوري: مقاربة تفكيكية، دراسة، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012). وخط الصدع: في مدارك وسياسات الأزمة السورية، مصدر سابق؛ ومفهوم الأمن: مقاربة معرفية إطارية، دراسة، (الرباط: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والنشر، 2016).
[6]قال الرئيس بشار الأسد في لقاء مع قناة فينيكس الصينية (11 آذار/مارس 2017): «علينا أن نهنئ جبهة النصرة على حصولها على أول أوسكار، هذا حدث غير مسبوق في الغرب، أن يتم منح القاعدة جائزة أوسكار، أمر لا يصدق».
[7] حوار الرئيس بشار الأسد مع وكالة فرانسبرس، 14 نيسان/أبريل 2017.
[8]سيمور هيرش، "من استعمل الأسلحة الكيميائية في سورية؟ دور أوباما وأردوغان والمتمردين السوريين:الخط الأحمر وخط الجرذان"، المستقبل العربي، العدد 423، أيار/مايو 2014، ص126-137. والنص الأصلي في:
Seymour M. Hersh, "The Red Line and the Rat Line: on Obama, Erdoğan and the Syrian Rebels", London Review of Books, vol. 36 no. 8, (17 April 2014), http://www.lrb.co.uk/v36/n08/seymour-m-hersh/the-red-line-and-the-rat-line
[9]"المقداد للميادين: قدمّنا معلومات عن إدخال "النصرة" مواد سامة للقيام بهجوم كيماوي"، الميادين، 7 نيسان/أبريل 2017.
[10]"بوتين يحذر من استفزازات كيماوية بسوريا"، روسيااليوم، 11 نيسان/أبريل 2017. https://goo.gl/AJgCcm
الجمل : بالإتفاق مع مركز دمشق للأبحاث (مداد)
إضافة تعليق جديد