العيال حلوين
الجمل : هدف.. صاح المذيع، وانطلق أبو شاهر بجثته الضخمة وشعره الأشقر ولحيته الكثّة وصوته الجهوري الذي يشي بأنه من القبضايات، إلى البلكون (الشرفة)، واستلّ مسدسه من وسطه، وأخذ يطلق النار في الهواء فرحاً.هرع إليه أصدقاؤه متسائلين: علام الفرح؟!فالهدف فينا وليس لنا! فقال: لايهم. المهم أنه هدف وأني أريد أن "أقوّص" فرحاً به..حدث هذا في إحدى "علب كبريت" المدينة الجامعية في حلب، في غمرة أحد المونديالات. أبو شاهر لا يعرف عن لعبة كرة القدم، إلا أن هذه الكرة يجب أن تخزق الشباك. لكن لمتابعة المباريات معه طعم مختلف. كذلك الأمر مع عدنان، الذي استغرب حزن أصدقائه وانتكاس معنوياتهم بعد نهاية إحدى المبارايات! فأجابوه بسخط: إنها إيطاليا! إيطاليا التي خسرت. ألا تعي الأمر؟ فقال: وما المشكلة؟ فحتى أميركا خسرت أيضاً! أما الموسم السابق فقد خيم الحزن والخيبة في طرطوس على بعض الحارات التي تشجع المنتخب الألماني. وأقدم شباب هذه الأحياء على طبع وتوزيع "أوراق نعوة" ينعون فيها خسارة فريقهم!
عاد المونديال..أكبر وأضخم طقس انتخابي في العالم. حلّ موعده المنتظر كل أربع سنوات. عادت حياة الناس والمجتمعات لـتتنكّـه بنكهات كأس العالم. صدق الإعلان التلفزيوني بأن كرة القدم لغة العالم، لغة يفهمها البشر أجمع، لغة تزاحم مفرداتها السائد والنمطي من المفردات. منذ اليوم سيكتب الصحافيون عن الناس والمجتمع بلغة المونديال، وسيناقش عتاة التحليل السياسي أحداث الأمم بخطابات اللعب والملعب: الهجوم والدفاع، الفوز والخسارة. يا ترى كم مرة استخدمت جملة (الكرة الآن في ملعب فلان)؟ لا مجال للعد، فالكرة كانت دائماً في ملعبنا نحن العرب..هكذا قيل لنا.
وبالحديث عن العرب، فربما هم الأمة الأسعد والأكثر شوقا للمونديال؛ فكل مباراة نحضرها كأنما هي جرعة مكثفة من فرح ومتعة وتشويق، لطالما كنا فقراء إليها ونستجديها في أي مناسبة أو حدث.
إنها المناسبة الوحيدة التي نتحزّب فيها إلى من نحب دون إكراه، ونشجع ونعلق اليافطات والأعلام ونحفظ الأسماء طوعاً ومحبة، وندعوا لهم مع كل خفقة قلب، لا ندع قديساً أو شفيعاً إلا ورجوناه أن ينتصر لفريقنا المفضّل..واذا كان النصر وكسب المباراة، خبرنا نشوة ما بعدها نشوة: نطير في السماء فرحاً وولها لانتصار أناس نعرفهم ولا يعرفونا..إاذا ما كانت الهزيمة وخسارة المباراة، حلّفنا بالروح الرياضية ألا نزعل ونذرف الدموع ونثور غضباً. هذا وكثر منه ما يستحق أن يسمى دفقاً شعورياً إنسانياً صادقاً وبريئاً وعفوياً.
كأس العالم في نظر حسام، فرصة لأمم صغيرة، كاليونان أو كرواتيا أن ترفع اسمها عالياً وتتبوأ المراكز الأولى و"تغبّـر" على منتخبات بريطانيا وأميركا. فلا إمبـريالــيـة في كرة القدم.
لكن الإمبريالية والرأسمالية، في رأي قصي وشلّته، هي أن تجبر على شراء المتعة، وأن تمتلك حقوق البث من مصنع السعادة: كأس العالم لتبيعه للناس بالمفرّق، صالح كامل صاحب شبكة (art) يريد بيعنا هوايتنا ولعبة البشر الأكثر شعبية واستقطاباً؛ فأنت الآن مضطر إما إلى الاشتراك في (art) أو أن تذهب إلى أحد المقاهي لتتابع مبارياتك المنتظرة.
في طريقها من دمشق إلى طرطوس سمعت (علا) أحد الشابين الجالسين أمامها في البولمان يقول لصديقه: عندي شقة أرضية فارغة، سأستثمرها وأقلبها مقهى لفترة المونديال فقط، أشترك بالـart وأشتري تلفازاً كبيراً و"خود على مصاري"..مشروع محرز.
لعبة الكرة هذه تنشل أناساً وأشخاصاً موهوبين، من غياهب الفقر إلى قلاع الغنى؛ فيخطب ودهم القاصي والداني، الملك والأمير والرئيس، ملكات الجمال وحسناوات العارضات. وعندما سئل مدحت شلبي، المعلق الرياضي المصري المعروف: لماذا تحب الفتيات، وتشجع الفريق الإيطالي، أجاب: عشان العيال حلوين.
حسان عمر القالش
إضافة تعليق جديد