العملية التعليمية وأزمة كورونا (الاستجابات والتحديات)
مع بداية شهر نيسان/أبريل الجاري، وضمن حزمة الإجراءات العابرة للقارات للحدّ من انتشار وباء كورونا المستجد، تجاوز معدل تعليق الدوام في المدراس والمعاهد والجامعات نسبة 80% على المستوى العالميّ. الأمر الذي ينذر بهبوط مستوى وجودة العملية التعليميّة في بعض الدول إلى ما دون المؤشر المعتمد في البنك الدوليّ عن "فقر التعلّم" [1].
في ظلِّ هذا الظرف، فُرضت استراتيجية "التعلّم عن بُعد" كبديل ضمن خطة الطوارئ الوطنية للبلدان، وتباينت الاستجابات في تطبيقها بحسب قدرات البلد واستعدادات البنية التحتية اللازمة من جهة، وتفاقم الوباء فيه من جهة أخرى.
البلدان الأكثر تقدماً كانت طبعاً الأكثر استعداداً للانتقال إلى هذه الاستراتيجية رغم ما تتضمنه من تحدّيات للمعلمين والطلاب وذويهم، بينما لم تكن الحال على شاكلة واحدة في البلدان الأقل تقدماً.
أولاً- الاستجابات على المستوى الدولي والإقليمي
أطلقت الصين منصّة وطنية إلكترونية كبرى (منصة السحابة) تبث مباشرة مع إتاحة الوصول إلى المحتوى التعليمي من الشبكة دون مقابل، وتدريب المعلمين على استخدام تطبيق (بينغ توك) المتاح من قبل شركة علي بابا لإدارة الدروس عن طريق البث المباشر.
بعض الدول الأوربية استخدمت التعليم الافتراضي مع وجود منصات تعليمية مجانية على الإنترنت مثل المركز الوطني لـ "التعلّم عن بُعد" في فرنسا (CNED) ومنصات التعليم الخاصة في بريطانيا.
أما أمريكا فنظامها التعليميّ المتعدد الوجوه أصلاً يتضمن منظومة التعليم المنزليّ الذي طُبّق على نحو مليوني طالب، وكذلك نظام "الميكروسكولينغ" المعمول به سابقاً أو التعليم الهجين، وكلها أنظمة تصلح للتعميم لديهم في هذه المرحلة.
تسابقت الخطابات الرسميّة في تركيا وإيران ودول الخليج، إضافة إلى الأردن وبعض الدول العربية الأخرى، ضمن نطاق الجهوزية لكل بلد بطبيعة الحال، إلى إعلان اعتماد نظم متعددة لـ "التعلّم عن بُعد" ضمن خططها الوطنية للطوارئ.
ثانياً- الاستجابات على المستوى المحلي
بعد إعلان مرحلة التعليق الأولى في 15/3/2020 طرحت وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية خطةً؛ ذلك لتعويض الفاقد التعليميّ، وتمثلت في النقاط الآتية:
- تسجيل موضوعات الدروس التعليمية للموادِ الأساسيّة كافّةً.
-تفعيل عمل القناة التربوية لبث الدروس التعليمية المسجلة بمعدل سبع ساعات يعاد بثّها في مرحلة ثانية، على أن يتم بث هذه الدروس بمعدل خمس ساعات للصفوف الانتقالية وساعتين لصفوف الشهادات العامة يومياً.
-تخصيص ساعة ونصف صباحاً من أجل الاختصاصيين لتلقي الاتصالات للأسئلة المطروحة من قبل الطلاب والإجابة عنها، ووضعها في موقع الوزارة وموقع القناة التربوية.
-على أن يتم تكثيف الدروس، بعد انتهاء مرحلة التعليق، بإضافة حصة دراسية يومية للمواد الأساسية، واختصار الحصة الدراسية إلى 40 دقيقة، وزيادة ساعات الدوام في التعليم المهنيّ بمعدل ساعتين يومياً.
مع تمديد مرحلة التعليق حتى إشعار آخر استجابة للإجراءات الاحترازية التي يقرّها الفريق الحكوميّ المعني بالتصدي لوباء كورونا، تم الإعلان عن إطلاق تطبيق نافذة التعليم عن بعد 2020 بالتعاون مع قناة سما الفضائية، يمكن للطالب عبرها مشاهدة جميع دروسه، مسجلة عبر القناة، بوساطة التطبيق الذي يوفر القدرة على تحميل الدروس ومشاهدتها ومراجعتها عن بُعد.
على هذا النحو فرضت استراتيجية "التعلّم عن بعد" انتشارها على جميع الدول –تماماً كما فعلت جائحة كورونا– بوصفها المرشح الأبرز لمهمة إنقاذ العام الدراسي. لكن في غمرة هذه الفروض هناك بعض التساؤلات التي تستحق التوقف عنها:
أولاً- هل تنحصر المهمة الراهنة للأنظمة التعليمية في إنقاذ العام الدراسي؟ثانياً- إذا كانت هذه الاستراتيجية قابلة للتطبيق بيسر في بعض الدول لتوافر الإمكانيات والخبرات اللوجستية اللازمة، فما هي درجة القابلية لدى البلدان الأخرى ومن ضمنها الجمهورية العربية السورية؟
ثالثاً- إذا كانت بعض تلك الدول ذوات الإمكانيات مثل بريطانيا وفرنسا خطت خطوة أخرى إلى الوراء أمام تفاقم الأزمة الصحية لديها وأعلنت إنهاء العام الدراسيّ (وكذلك فعلت بعض الدول العربية ذوات الإمكانيات الأقل مثل مصر [2] ولبنان والكويت وغيرها) فالأحرى بنا أن نسأل عن جدوى ودرجة الإنتاجية التي يمكن أن توفرها هذه الاستراتيجية في ظل انعدام اليقين الذي يحيط بتدابير التخفيف من تأثير الجائحة؟
لا تضمر هذه التساؤلات إنكاراً لأهمية الجهود الاستثنائية التي تبذلها الحكومة في استجابتها، التي صنفت بالصارمة من قبل متتبع الاستجابة الحكومية لـ Covid-19 الخاص بأكسفورد[3]، وكذلك الإجراءات التي تقوم بها وزارة التربية والتعليم في هذا الإطار، لا سيما في بلد قارب أن ينهي عقداً كاملاً في ظل حرب أنهكت قواه وبناه التحتية والفوقية، بل هذه تساؤلات ترغب في التصريح عن تقديرها ومساندتها لتلك الجهود؛ ذلك بالتفكير في البدائل الممكنة والواقعية التي يمكن استثمارها وعبر مراجعة بعض التصورات ومناقشة التحديات التي تحملها في قابليتها للتطبيق.
ثالثاً- التحديات والاحتياجات
المسألة الأولى التي يبدو من الضروري الوقوف عندها ومناقشتها هي قابلية "التعلّم عن بُعد" في المرحلة الراهنة في ضوء:
-غياب الجهوزية التكنولوجية وعدم توافر مواد رقمية (صوتية وبصرية) جاهزة عن المناهج.
- غياب الجهوزية لدى الأساتذة والطلاب سواء لجهة امتلاك المهارة الرقمية وأجهزة التواصل الإلكتروني (حاسب – هاتف ذكي – بريد إلكتروني) أو توافر إمكانية الوصول إلى الإنترنت، علاوة على مشكلة انقطاع التيار الكهربائيّ.
- انحسار الاستفادة من الاستراتيجية المستندة حصراً إلى الإنترنت بأبناء الأسر الأفضل حالاً، ما يخل بمبدأ تكافؤ الفرص بين من يقدر ومن لا يقدر.- ضعف تفعيل وسائط الإبقاء على حماسة المشاركة لدى الطلاب وأهاليهم أو ما يسمى بـ "الانضباط الافتراضي".
الاستجابة للتحديات هذه تضع أمامنا ضرورة تلبية احتياجات تطال جميع الوسائل الممكنة أو المتوافرة لإيصال الخدمة:
- أدوات إنترنت في إتاحة مخططات الدروس.
- مقاطع فيديو ودروس تعليمية.
-مدونات وتسجيلات صوتية.
-العمل مع شركة الاتصالات على تطبيق سياسات تعفي المستخدمين من الرسوم.
-تيسير تنزيل مواد التعليم على الهواتف الذكية التي يحملها أكثر الطلاب.
-عدم الاستهانة بجدوى الإذاعة والتلفزيون بصفتهما أداتين مهمتين.
-الاستفادة من الميزات التي توفرها شبكات التواصل الاجتماعي (واتساب والرسائل النصية القصيرة) للتواصل بفاعلية مع الأهالي والمعلمين وتزويدهم بالإرشادات التعليمية وهيكلية عملية التعلّم.
- لا يقتصر "التعلّم عن بعد" على استخدام الإنترنت فقط؛ لكنه يتضمن تعلّماً يعتمد على مجموعة مفتوحة من الوسائط التي تكفل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الطلاب.
- العمل مع شركة الكهرباء على تنظيم التقنين بما يتيح وقتاً أطول من توافر الكهرباء، فالتعلم عن بُعد لا يحقق الإنتاجية المطلوبة لا سيما إذا ما ترك للجهود الفردية للأساتذة والتلاميذ وقدرتهم على الوصول إلى شبكة الإنترنت وإمكانية استخدامها كل ذلك في ظل عدم توافر الكهرباء إلا سويعات لا تفي بالغرض.
رابعاً- سيناريو ممكن
ينبغي في جميع الأحوال بصدد أي خطة استراتيجية أن تكون مرنة تقبل التعديل في ظل التغيرات التي تطرأ على معلوماتنا حول مسار الجائحة من يوم لآخر ما دام الضوء لم يلمح بعد في آخر "النفق الكوروني". وتبعا لذلكفإن أحد السيناريوهات الواجب أخذها بالحسبان هو التعامل مع فرضية أن الأحداث ستأخذ وقتاً أطول، كما صرحت منظمة الصحة العالمية مؤخراً.
بعض هذه المرونة في المنظور الاستراتيجي تأتي من التفكير في إمكانيات واقعية وقادرة على تحقيق غايتها في حماية العملية التعليمية التي أثقلها الوضع الراهن وليس فقط في إنقاذ العام الدراسي. تقوم إحدى هذه الإمكانيات ربما في العمل على:
-إنهاء العام الدراسي للصفوف الانتقالية، واعتماد نقاط الفصل الأول ودرجات أعمال الطالب في الفصل الثاني حتى تاريخ تعليق الدوام، لا سيما أن نسبة تحصيل منهاج الفصل الثاني وصلت إلى 90%.
-تكليف موجهين وأساتذة أكفاء اختصاصيين من أجل حصر الموضوعات الأساسية الضرورية (والتي لم يتم تحصيلها وتعد ضرورية للبناء عليها في الصفوف اللاحقة) على أن يتم تحديد عدد الحصص اللازمة لاستيفاء التحصيل في كل مادة ليتم اعتمادها في أول المنهاج للعام القادم.
-تفريغ الكوادر التعليمية وبناها ووسائطها لمهمة تطبيق كل الخطط التي قدمتها الوزارة والجمع في ما بينها لصالح الشهادات الإعدادية والثانوية العامة والمهنية، على نحو يرفع من إمكانيات التعامل مع الاحتياجات والتحديات المذكورة سابقاً، وترفع من نسبة تحقيقها بجودة عالية بتوفير المواد الرقمية (الصوتية والبصرية)، رفع الجهوزية الرقمية لدى المعلمين والطلاب والأهالي، اقتراح آليات لضبط "التسرّب الافتراضي"، تفعيل كل الوسائل لضمان تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص، تسوية مشكلة الاتصالات والكهرباء.
-التركيز على أولوية ومركزية المواد الأساسية ضمن الوقت المتاح، وبحث آلية الامتحانات ضمن سيناريوهات متعددة بحسب الظرف المتاح وصولاً إلى بداية العام الدراسي القادم.
خاتمة
يستمد هذا السيناريو أهميته ومسوغاته من عدة نقاط:
أولاً- يختزل المشكلة التعليمية التي أفرزها الوضع الراهن، ويجعل التركيز في استثمار الإمكانيات ينصب على الحلقة الأصعب.
ثانياً- يحسم الغموض الذي اكتنف مسألة نهاية العام الدراسي للصفوف الانتقالية، بما يخفف من التوتر والقلق لدى الطلاب وذويهم، ويستبعد التأثيرات السلبية التي ستطال على الأغلب العملية الامتحانية، لا سيما أن المدّة الزمنية الطويلة نسبياً بين ما تلقاه الطلبة وصولاً إلى مرحلة التعليق وما يفترض أنّهم سيتلقونه عبر "التعلّم عن بعد" لن تكون بدون نتائج سلبية.
ثالثاً- يمثل استكمالاً لمبدأ الحماية الصحية التي على أساسها تم تعليق الدوام المدرسي ليمتد المبدأ إلى الصحة النفسية والعقلية للطلاب مقابل الحمولة التي أفرزتها الجائحة، لا سيما أنَّ ما عاشوه وعايشوه في هذه الأوضاع الاستثنائية لا ما درسوه وتعلّموه هو ما سيبقى في ذاكرتهم ووجدانهم.
أخيراً
- يستجيب السيناريو المقترح لفكرة أنَّ أمام الأنظمة التعليمية أولوية أهم تقوم في التغلُّب على أزمة التعليم الراهنة والحدّ من تأثيراتها السلبية من أجل إنقاذ العملية التعليمية بأكملها لا العام الدراسي فقط.
[1] يصدر البنك الدولي سنوياً عدة تقارير على مستوى العالم تتضمن مؤشرات عن فقر الدم، فقر الجوع أو الفقر المدقع، لكنه في تقرير تشرين الأول/أكتوبر 2019 أضاف مؤشراً عن "فقر التعلم" – Learning Poverty
– يمكن تبسيط المفهوم في أشكال عدة منها: على مستوى الأطفال يصف المفهوم أولئك الذين بلغوا سن العاشرة ولا يستطيعون قراءة قصة بسيطة وفهمها، أما على مستوى المراحل اللاحقة فيصف المفهوم عدم تطوير المهارات العقلية أو الفكرية والحياتية التي من المفروض أن العملية التعليمية توفرها. يُعَدُّ فقر التعلم التهديد الخطير لمستقبل التعليم ومستوى تحقيق أهدافه. ويؤثر ذلك في أهداف التنمية المستدامة وفي مستوى تحقيق رأس المال البشري لكل بلد. أنظر:
WWW.albankaldwli.org/ar/news/immersive-story/2019/11/06a-learning-target-for-a-learning-revolution
[2] على الرغم من إطلاقها منصة إلكترونية للتعلم عن بعد، لجأت وزارة التربية والتعليم المصرية إلى إنهاء العام الدراسي 2019-2020 بخطة تستثمر فيها الإجراءات السابقة للصفوف والمراحل كافّةً:
-سيتم في مرحلة رياض الأطفال والصفين الأول والثاني تطبيق نظام تعليم جديد يقوم فيه المعلمون بإعداد تقارير أداء الطلاب ويطالب أولياء الأمور بالتأكد من استكمال الطالب المنهج الموضوع على المكتبة الإلكترونية والمنصة.
- من الصف الثالث الابتدائي إلى الثاني الإعدادي لن يتم إجراء امتحانات للطلاب في نهاية العام والاكتفاء بعمل بحث لكل مادة على المنصة الإلكترونية مع إمكانية التواصل مع المعلم في وقت مدته شهرين من تاريخ هذا القرار.
- الشهادات العامة والدبلومات الفنية سيتم إجراء امتحان نهاية العام الحالي في موعده مع اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة كافّةً للوقاية بالتعاون مع أجهزة الدولة.
-الصفان الأول والثاني الثانوي سيتم تأجيل الاختبار الإلكتروني التجريبي بدون درجات ليوم 5 نيسان/أبريل 2020 ويؤديه الطلاب في المنزل. أما امتحان نهاية العام لهذين الصفين فسيتم على التابلت من المنزل، وسيتم تصيحيه إلكترونياً وإرسال النتائج للطلاب، إضافة لبعض الإجراءات الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة. للتفاصيل أنظر: موقع البيان الإلكتروني 20/3/2020.
[3] أنظر: "التباين في الاستجابات الحكومية لـ Covid-19 -جامعة أكسفورد آذار 2020-" ترجمة: علا منصور، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، 6 نيسان/أبريل 2020،
https://bit.ly/2XsDXr9
الجمل بالتعاون مركز دمشق للدراسات
إضافة تعليق جديد