إيران والولايات المتحدة: التصعيد والتهدئة، وما بينهما
إعداد: لينا جبور
ما إن أبدت واشنطن وطهران رغبتهما في تخفيف حدّة التوتّر، حتى تنفّس العالم الصُّعَداء –إلى حدٍّ ما– بعد أسبوعين من التطورات الدراماتيكية التصعيدية. وقد تنوّعت التحليلات والتنبؤات حول ردود الأفعال ومسارح الاستجابة المتوقعة في ما يتعلّق باغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني وتداعيات الأزمة الأمريكية-الإيرانية على المنطقة وما يرتبط بها سياسياً واقتصادياً.
كان اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، نائب رئيس قوات الحشد الشعبي العراقي، ومن ثم الرد الإيراني بالصواريخ البالستية على قواعد القوات الأمريكية في العراق، تتويجاً لتصعيد خَشِيَ الكثيرون أن يؤدي إلى اندلاع حرب مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران.
هذا، ورغم تحرّك الجانبين نحو التهدئة، عززت أحداث أوائل كانون الثاني/يناير المخاوف بشأن السياسة الخارجية لإدارة ترامب وصدقية الولايات المتحدة بصفتها حليفاً. فواشنطن التي تجادل بأن سليماني كان يشكّل تهديداً وشيكاً، تركت مشهداً معقّداً من التحديات السياسية والأمنية، يظهر أن إدارة ترامب لم تخطط استراتيجياً بالقدر الكافي.
كما يُرجّح أن يكون اغتيال سليماني خطأً بتبعات طويلة، إذ يمكن لطهران أن تستخدم جميع الوسائل المتاحة وفي مسارح عدة، لتأخذ ثأرها. ويرى باحثون كُثر أن العراق مرشح ليكون المسرح الأوسع متعدد الجوانب، ولذلك قد يدفع الثمن الأعلى للأزمة الأمريكية-الإيرانية وتوابعها.
في هذا السياق، نشرت مراكز الأبحاث الدولية العديد من التحليلات المختلفة لما قد يترتب من تبعات على عملية الاغتيال. فكتب رائد القادري مقالاً بعنوان: «العراق يدفع ثمن تصعيد الولايات المتحدة وإيران» نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS في 14 كانون الثاني/يناير 2020، يرجح فيه أن يكون تأثير مقتل سليماني والمهندس على ميزان القوى المحلي أكثر تكلفة بالنسبة لمستقبل العراق، إذ تظهر الأدلة على أنَّ المكاسب الإيرانية واضحة فيه. سرعان ما أدى الغضب بسبب مقتل جنرال إيراني ومسؤول عراقي كبير على الأراضي العراقية إلى تحركات من جانب حكومة بغداد مطالبةً بطرد القوات الأمريكية من البلاد. قد يؤدي تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات محتملة إلى إبطاء انسحابها عن طريق التفاوض، لكن ما ستؤول إليه الأمور سيكون نتيجة تحريض طهران وحلفائها في العراق على مدى السنوات القليلة الماضية، والتي ستقوض أيضاً الجهود المبذولة لمنع عودة تنظيم "داعش".
غيّرت الضربات الأمريكية الديناميات المحلية، إذ تحول النقاش على الفور من تغيير النظام إلى حماية السيادة العراقية. ربما حاول وزير الخارجية مايك بومبيو إظهار مشهد مخالف لذلك بنشره مشاهد المتظاهرين العراقيين الذين يحتفلون بوفاة سليماني في تغريدة، لكن كانت ردة الفعل الأكثر شيوعاً بين المتظاهرين، هي انتقاد العملية على وجه التحديد بصفتها نوعاً من التدخل الخارجي في الشؤون العراقية الذي كان المتظاهرون يتجنبونه عند إدانة التدخل الإيراني محلياً. هذا، ومن بين النخبة السياسية، أُجبر القادة الذين تعاطفوا سابقاً مع أهداف المتظاهرين، والذين سعوا إلى قص أجنحة مجموعات الحشد الشعبي ذات النفوذ المتزايد (والتي ترتبط معظمها بعلاقات وثيقة مع إيران)، على تقدم الصفوف التي كانت تطالب بـ "الدفاع عن السيادة" "خروج أمريكا" التي روجت لها الفصائل المتشددة المؤيدة للحشد الشعبي.
ربما تكون إدارة ترامب قد ساعدت عن غير قصد عن طريق القضاء على الرجلين، في تقويض القوة التي تدعمها وتعدّها الأكثر قدرة على الإصلاح السياسي في المرحلة التي شهدها العراق لثلاثة أجيال، وتسليم المبادرة في الوقت نفسه إلى نخبة سياسية أخرى كانت، بمساعدة طهران، تقاتل من أجل البقاء السياسي الطويل الأجل.
كانت المظاهرات في بغداد والمحافظات الجنوبية منذ أوائل تشرين الأول/أكتوبر قد أجبرت بالفعل رئيس الوزراء الحالي والحكومة على الاستقالة، وأدت إلى مطالبة النخبة الدينية "الشيعية" بإجراء انتخابات جديدة واتخاذ تدابير ملموسة لتحسين الحكم ومكافحة الفساد. كانت النخبة السياسية متماسكة في مواجهة هذه التحديات، إلا أن هناك إشارات تدل على ضعف تماسكها، إذ سعى بعض القادة إلى التنحي جانباً في ما يخص استجابة الحكومة القاسية والدموية ضد الاحتجاجات (التي تسببت في مقتل نحو 500 متظاهر وخلفت أكثر من 20.000 جريح).
ويُحتمل أن يكون لهذا التحول تداعيات واسعة، بما في ذلك في الاقتصاد العراقي وقطاع النفط. وإذا كانت واشنطن ستمنع وصول بغداد إلى حساب الدولار الأمريكي بالبنك المركزي في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك رداً على طرد القوات الأمريكية –كما هددت إدارة ترامب– فإن العواقب الاقتصادية والنقدية ستكون كارثية.
لكن حتى لو لم تفعل واشنطن شيئاً، فإن الإضرابات ستترك مع ذلك تأثيراً دائماً في القطاع الاقتصادي والنفط. أدى الاضطراب السياسي الناجم عن العملية، إلى جانب الاضطرابات في المظاهرات، إلى تقويض عملية صنع السياسات في جميع أنحاء الحكومة وسوء الإدارة.
تجلت أوجه القصور هذه في قطاع النفط، وأدت إلى انهيار عملية صنع القرار جزئياً وتآكل الالتزام بالعقود، وبخاصّة عندما يتعلق الأمر بحقوق المستفيدين الأجانب وآليات حل النزاعات التي تم وضعها. لقد ارتبط تنامي قومية الموارد مع الضغوط المالية ما أدى إلى تدمير العلاقة بين المستثمرين الأجانب والحكومة. يتجاوز هذا التغيير التحولات التي يمكن توقعها في إطار نظرية التقادم؛ تشكك النخبة السياسية العراقية بشكل متزايد في قيمة الاستثمار الأجنبي للبلاد.
وقد تتضرر آفاق هذا القطاع على المدى الطويل، بشكل أكبر بسبب تقهقر احتمالات الإصلاح. لن تغير الاحتجاجات العراق بين عشية وضحاها، ولم تكن مضمونة لتغيير توزيع اقتصاد البلد. لكن كان من الممكن أن يساعد كلٌّ من التركيز على حكومة أكثر انفتاحاً، وتحسين الإدارة، ووضع حد للحصص العرقية-الطائفية، والحد من الفساد، وإن يكن جزئياً، على كسر عملية صنع القرار والمعيقات التشغيلية التي تحد من القدرة الإنتاجية العراقية. تحتاج البنية التحتية البرية، المتعلقة بكل من تصدير الخام وإدارة الاحتياطيات، إلى التوسع. وفي الوقت نفسه، تتطلب البنية التحتية الخارجية إعادة التأهيل. كانت المشاريع المتعلقة بكلتيهما موجودة في خطة وزارة النفط لسنوات، دون أن تكتمل. إذا لم يتغير أي شيء من حيث الحكم وصنع القرار في الوزارة والقطاع، فلا يوجد أمل كبير في نوع النمو السريع في الإنتاج الذي يُنْبِئ به مسؤولو الوزارة.
في نهاية المطاف، قد يكون قطاع النفط نموذجاً مصغّراً للنتائج الأوسع للضربات الأمريكية: لقد عرقلت –وربما قوّضت في الوقت الحالي– احتمالات أي تغيير سياسي واقتصادي إيجابي في العراق. لو لم تقم الولايات المتحدة بتنفيذ العملية، ربما كانت فعلت الكثير لتحقيق الأهداف الطموحة التي حددتها في الإطاحة بنظام صدام حسين في عام 2003 أكثر مما فعلت منذ ذلك الحين. لكن أساءت واشنطن قراءة السياسة العراقية مرة أخرى. وعند القيام بذلك، قد ينتهي تأييد النخبة السياسية العراقية الحالية لها، وتفضي الأمور إلى حماية مصالح إيران في العراق وكذلك على حساب الولايات المتحدة.
هذا، وعلى الأرجح لن يقع الضرر على سوق النفط العراقي وحده، بل سيكون قطاع النفط وسوق النفط العالمية عرضة لتداعيات الأزمة الأمريكية-الإيرانية على المدى البعيد، إن لم يكن القريب. فكرة تمت مناقشتها في مقال للباحث بول ستيفنز عنوانه: «تأثير أزمة إيران في أسواق النفط» نشره موقع تشاذام هاوس في 14 كانون الثاني/يناير 2020، يبدأ فيه من التكهنات الكثيرة التي أثارها اغتيال الجنرال قاسم سليماني حول التأثير المحتمل الذي قد يلقي بظلاله في أسواق النفط، فيقول: إن حجم التأثير سيتوقف إلى حد كبير على ما سيحدث في ما بعد من ردودٍ سياسية وعسكرية - نظرياً، توجد إمكانية أن تقوم إيران بزعزعة استقرار أسواق النفط بشكل خطير، وبذلك إلى رفع أسعار النفط.
يمكن القول: إنه من مصلحة إيران القيام بذلك. ولكن هذا سيضر بإمكانية فوز ترامب بولاية ثانية إذا استمر ارتفاع الأسعار لحين بدء الانتخابات الرئاسية لعام 2020. وسيساعد ذلك أيضاً في دعم اقتصاد إيران الفاشل.
تسببت عملية الاغتيال في البداية في ارتفاع أسعار النفط ببضعة دولارات قبل أن تتراجع بسرعة، وأدت الهجمات الصاروخية التي شنتها إيران إلى ارتفاعات مماثلة. ومع ذلك، من غير المحتمل أن تتخذ إيران إجراء مباشر من شأنه رفع الأسعار – مثل محاولة إغلاق مضيق هرمز.
تمر نحو خمسة خطوط إمدادات نفط عالمية عبر مضيق هرمز، وهو ممر ضيق بين إيران وشبه الجزيرة العربية. سيستدعي إغلاقه القيام بعمل عسكري جاد من قبل الأمريكيين والعديد من حلفائهم الذين كانت ردود أفعالهم، حتى الآن، فاترة كثيراً بسبب تصرفات ترامب. وتبعا لذلك سيحد ذلك من صادرات إيران النفطية.
وبالمثل، ربما تقتضي أي هجمات علنية على الحلفاء الأمريكيين في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ردة فعل شديدة الثقل، رغم أن هذا غير مؤكد، إذ لم يتم الرد بعد على الهجمات الإيرانية المزعومة على بقيق وخريص التي حدثت في منتصف أيلول/سبتمبر.
هذا، ولا يُرجّح أن تتخذ إيران إجراءات غير مباشرة للتأثير في إمدادات النفط، فهي تملك العديد من الخيارات باستخدام وكلائها للتأثير في إنتاج الآخرين للنفط. وهذا صحيح نسبياً بالنسبة للعراق، الذي يعد الآن مصدراً مهماً لإمدادات النفط العالمية، فقد بلغ متوسط الصادرات العراقية في عام 2019 نحو 3.53 ملايين برميل يومياً، وهي كمية كبيرة.
لقد تضرر الإنتاج المستقبلي للعراق بالفعل، حيث تقوم شركات النفط الدولية بسحب موظفيها لأسباب تتعلق بالسلامة، بسبب توقع حدوث هجمات من قبل جهات عراقية وإيرانية. ولا يُحتمل أن يتم الآن تنفيذ "مشروع إمدادات مياه البحر المشترك" الذي تديره شركة إكسون –وهو مشروع ضروري لتوسيع الطاقة الإنتاجية– في المستقبل القريب.
ومع ذلك، أعادت مهمة اغتيال سليماني –إحدى النتائج التي جذبت القليل من الاهتمام– بالكامل دور الجغرافيا السياسية في تحديد أسعار النفط. لعبت الجغرافيا السياسية حتى عام 2014، دوراً رئيساً في تحديد أسعار النفط في أسواق الأوراق المالية وفق التصورات والتوقعات.
تتأثر الأسعار المحددة في هذه الأسواق مثل –NYMEX في نيويورك، ICE في لندن وغيرها من أسواق العقود الآجلة بشكل أقل في جميع أنحاء العالم– من أسواق النفط حيث يتم تداول برميل النفط الحقيقي.
في عام 2014، عانى العالم من فائض كميات النفط الحقيقية المعروضة، ما أدى إلى انهيار سعر النفط –انخفض سعر خام برنت من 110.72 دولاراً في 23 أيار/مايو إلى 46.44 دولاراً بعد ثمانية أشهر. ومن بعد ذلك لم تعد تؤثر الأحداث الجيوسياسية، إن وُجدت، في تحديد أسعار النفط الخام.
ثم بدأ هذا بالتغير في عام 2019. ظلّ السوق يعاني من زيادة فعلية، لكن الأحداث في الخليج بدأت تجذب الانتباه. في حزيران/يونيو، وقعت سلسلة من الهجمات على ناقلات النفط بالقرب من الخليج، أعقبتها هجمات على منشأة بقيق السعودية للتجهيز وحقل خريص النفطي في أيلول/سبتمبر.
ادعى الأمريكيون أنَّ إيران هي من شنّ هذه الهجمات، لكن لم يتم تقديم أدلة مقنعة على هذا الادعاء. نتج عن كلا الهجومين ارتفاع أولي محدود لسعر برميل النفط. ومع ذلك، بدأ يدل ذلك على أن الجغرافيا السياسية قد تعود مرة أخرى إلى التأثير في أسعار النفط.
تجلى هذا بوضوح أكبر في الربعين الثالث والرابع، حيث بدأت الشائعات المتعلقة بمحادثات التجارة بين الصين والولايات المتحدة تؤثر في الأسعار –سارت المحادثات بشكل جيد ما يعني ارتفاع الطلب على النفط، وارتفعت الأسعار؛ كانت المحادثات السيئة تعني انخفاض الطلب على النفط، وانخفاض الأسعار.
أظهرت سوق النفط في الوقت نفسه، علامات على التشديد على كميات الإنتاج في نهاية عام 2019. رغم وجود الكثير من الغش في اتفاقية أوبك + التي كانت تحاول تقييد كميات الإنتاج وحماية الأسعار، شهد اجتماع أوبك في كانون الأول/ديسمبر الماضي اتفاق كلٍّ من العراق ونيجيريا على تحديد الإنتاج.
بدأت مستويات المخزون الأمريكية في الانخفاض في كانون الأول/ديسمبر، وبدأت الأسواق المالية الآجلة في التسعير مع اقتراب نهاية عام 2020. ويُلاحظ أنّه كلما بدت السوق أكثر تشدداً، كلما تم إيلاء اهتمام أكبر لمستوى المخزون الاحتياطي.قدرت الوكالة الدولية للطاقة(IEA) قبل الهجوم على بقيق مباشرة، أن طاقة أوبك الإنتاجية الاحتياطية تبلغ 3.5 ملايين برميل/اليوم، ويُعدّ هذا القدْر من الإنتاج تعبيراً عن مرحلة تاريخية مريحة جداً. ويقدر بأن نحو 2.5 من هذه الكمية موجودة في السعودية. ويظل السؤال هنا ما مقدار هذه الطاقة الاحتياطية التي لا تزال موجودة بعد هجوم بقيق؟
زعم السعوديون أنه تمت استعادة سعة بقيق بسرعة، لكن الخبراء التقنيين استقبلوا ذلك بتشكك كبير، لأسباب ليس أقلها أنَّ معدات بقيق كانت متخصصة للغاية. إذا كانت الطاقة الاحتياطية محدودة، فإن هذا يجعل سعر النفط عرضة للمخاوف والشائعات الجيوسياسية، إن كانت حقيقية أم متخيلة.
أدى اغتيال الجنرال سليماني إلى تفاقم حساسية أسواق النفط للأحداث الجيوسياسية، إلا أن هذا الأمر لا يهم إذا بدأت حرب فعلية خطيرة في المنطقة. لا تزال المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبنية التحتية النفطية في العراق معرضة إلى حدٍ كبيرٍ للهجوم المباشر من قبل إيران أو أحد وكلائها العديدين، ما يشير إلى أن أسعار النفط ستصبح متقلبة بشكل متزايد، ولكن ستتأثر، في الوقت نفسه بسبب الأحداث الجيوسياسية.
القضية الثالثة –من قضايا كثيرة تمت مناقشتها إثر التصعيد الأمريكي والإيراني– هي إمكانية استخدام إيران لحلفائها والقوات المدعومة من قِبَلِها في المنطقة والعالم، وحزب الله هو المَثَل الأبرز على ذلك. وهذا ما ناقشه بريان كاتز في مقال بعنوان: «حزب الله استعد لهذه اللحظة منذ عقود» نشرته مجلة الفورن أفيرز في 14 كانون الثاني/يناير 2020، فيقول: لا يوجد أي مسؤول أمريكي "على قدم المساواة مع سليماني أو المهندس"، حسب تقدير زعيمه في لبنان حسن نصر الله، لذلك سيكون استهداف «الوجود العسكري الأمريكي في منطقتنا» هو طريق الانتقام مستثنياً تعريض المدنيين الأمريكيين للأذى، لكن ستكون «القواعد الأمريكية والسفن الحربية الأمريكية وكل جندي أمريكي وضابط» في الشرق الأوسط أهدافاً متوقّعة، وهذه لعبة عادلة.
لكن من غير المرجح أن يختار حزب الله معركة مع الولايات المتحدة بنفسه. لدى حزب الله توترات خاصة به مع "إسرائيل" تقلقه، بينما تهدد الاحتجاجات الداخلية الضخمة قبضته السياسية على لبنان. ناهيك عن الخسائر التي تكبدها في سورية، حيث قاتل جنباً إلى جنب مع إيران لدعم الرئيس بشار الأسد.
صحيح أن حزب الله لا يريد حرباً، ولكن لا يعني ذلك عدم الرغبة في خوضها. يستعد حزب الله لهذا اليوم منذ عقودٍ من الزمن، ويقوم ببناء القدرات العسكرية الضخمة في لبنان والشرق الأوسط وحول العالم، من أجل الرد على الولايات المتحدة وأي شخص آخر قد ينضم إلى الحرب ضد إيران وحلفائها. والآن، قد لا يكون أمامه خيار سوى الدخول في صراع مع الولايات المتحدة بسبب التزامه الإيديولوجي وارتباطه العسكري مع إيران.
سوف تتكشف الاستجابة الكاملة في الأشهر والسنوات القادمة، ومن غير المرجح أن يلعب حزب الله دور البطولة عن طريق المواجهة التقليدية المباشرة مع الولايات المتحدة، ولكن قد يحاول مع شريكه قوة القدس تنظيم حملة إقليمية من الهجمات غير المتماثلة عبر الشرق الأوسط وربما خارجها. سيكون هدفهما تعطيل وتهديد وتقييد عمليات الجنود والدبلوماسيين وضباط المخابرات الأمريكية الذين أصبحت تكلفة وجودهم في الشرق الأوسط تفوق الفائدة العائدة منه.
قد تتخذ حملة حزب الله ضد الولايات المتحدة أشكالًا عديدة، لكن يُحتمل أن تتكون من سلسلة من أعمال العنف المحسوبة التي تتصاعد بمرور الوقت. سيكون الهدف هو تقييد حرية عمل في الولايات المتحدة وردع الهجمات الأمريكية مثل ضربة سليماني. يمكن لـ "حزب الله" استخدام الأدوات العسكرية و"الإرهابية" والمخابراتية والإلكترونية والمعلوماتية، ويمكن له أن يفعل ذلك بشكل علني أو سري في مجالات متعددة لإرسال رسائل استراتيجية مع إمكانية الإنكار. ستتم معايرة نطاق وشدة الهجمات حسب شدة التهديد المتصور من قبل الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وستكون الأهداف مفاجئة، ولكنها منطقية في النهاية.
إضافة إلى تحييد الولايات المتحدة في لبنان بشكل فعال، قد يبدأ حزب الله بمهاجمة المصالح الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. بعيداً عن ناخبيه ومصالحه الأساسية، سيكون التنظيم أكثر استعداداً للقيام بعمل عسكري عدواني. سيسعى حزب الله بالعمل مع قوة القدس، لإظهار إلى أي مدى تصل قدرة محور المقاومة من حيث إمكانية تجاوز القوات الأمريكية، إذ يمكن للتنظيم استدعاء مقاتليه في سورية والعراق واليمن للقيام بهجمات مماثلة قابلة للإنكار ضد القوات والمنشآت الأمريكية. يمكن له أيضاً العمل مع أعضاء آخرين في المحور، مثل الحشد الشعبي PMF العراقي والحوثيين في اليمن وآلاف المقاتلين السوريين والأفغان والباكستانيين الموالين، لشن مزيد من الهجمات العلنية. يتمتع هؤلاء المقاتلون بالخبرة في ساحة المعركة وترسانات الأسلحة المتنامية. إنهم أيضاً موالون للقادة الإيرانيين وقادة حزب الله الذين دربوهم وجهزوهم –وسيكونون على استعداد للقتال والموت من أجل المحور بعد استشهاد سليماني. تستطيع هذه القوات المتحالفة أن تشن حملة متواصلة من الهجمات على منشآت الولايات المتحدة، والاتصالات، إذا تصاعدت التوترات على وجه الخصوص، وأن تقوض عمل الولايات المتحدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط.
يحتفظ حزب الله، بالطبع، بورقة إقليمية أخرى يلعبها: التهديد الذي يشكله على أقرب حلفاء الولايات المتحدة، "إسرائيل". يمتلك التنظيم قوةً صاروخيةً هائلةً وترسانة من طائرات بدون طيار قادرة على ضرب ليس فقط الأهداف الإسرائيلية، ولكن أيضاً المنشآت الأمريكية في "إسرائيل"، وكذلك السفن البحرية الأمريكية العاملة في البحر المتوسط. وباستثناء هذا السيناريو الرهيب –وما لم تندلع حرب شاملة بين الولايات المتحدة وإيران– هناك سيناريو غير مرجح، إذ يمكن لحزب الله الاستفادة من روابطه العميقة مع النشطاء الفلسطينيين مثل الجهاد الإسلامي وحماس من أجل شن هجمات على نطاق أصغر لكنها فتاكة داخل "إسرائيل".
وفقاً لتقييم مجتمع الاستخبارات الأمريكي العام الماضي، فإن حزب الله «على الأرجح يمتلك القدرة على تنفيذ مجموعة من خيارات الهجوم ضد المصالح الأمريكية في جميع أنحاء العالم».
غير أن حملة الضربات الانتقامية ضد الولايات المتحدة، سواء في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر، ستشكل خطراً على حزب الله. وستكون الولايات المتحدة وحلفاؤها في حالة تأهب قصوى لاكتشاف وإحباط أي عملية يخطط لها. ربما يخشى "حزب الله" وشركاؤه الآخرون ووكلاء إيران في المحور أيضاً من الانتقام الأمريكي وقد يسعون إلى التراجع على المدى القريب، رغم رغبة إيران في الانتقام.
طورت "إسرائيل" وحزب الله فهماً مشتركاً ونظاماً لإدارة التصعيد عن طريق اختبارات دورية ولكنها متسقة في ساحة المعركة. ونتيجة لذلك، فهم يفهمون الخطوط الحمراء لبعضهم مع بعض، وعواقب تجاوزها، وكيفية معايرة الردود التي تسمح لكلا الجانبين بإعلان النصر والعودة إلى الوطن في الوقت المناسب. ليس لدى حزب الله أي طريقة لمعرفة إذا كانت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ستلتزم بهذه القواعد غير الرسمية للعبة. إن أي سوء تقدير حول استعداد الولايات المتحدة لاستيعاب الهجمات يمكن له أن يؤدي إلى تصعيد سريع يهدد موقع حزب الله ومصالحه في لبنان. إذا أثبت ترامب أي شيء عن طريق قتل سليماني، على عكس سابقيه، فهو على استعداد لاستخدام القوة المميتة ضد الإيرانيين ومحور قادة المقاومة. لكن يجب أن يكون الرئيس الأمريكي مستعداً أيضاً للانتقام الذي سيتبعه حتماً: "توابيت الجنود الأمريكيين"، كما هدّد نصر الله في خطابه في 5 كانون الثاني/يناير، وربما توابيت الدبلوماسيين الأمريكيين وضباط المخابرات والمواطنين العاديين كذلك.
الجمل بالتعاون مع مركز دمشق للدراسات
إضافة تعليق جديد