صقر ابو الفخر:عن الدين والدهماء والفن
يحاول الكاتب والزميل صقر ابو فخر في كتابه «الدين والدهماء والدم» ان يقرأ في الواقع العربي, وأن يحدد موقع العرب على سلم التقدم والحداثة والمعاصرة, ويطرح اسئلة جذرية حول الهوة الكبيرة التي ما يبرحون يسقطون في قعرها. ويسجل في هذا السياق جملة من المعطيات تؤكد ان عصر الطموحات الكبرى الذي لف العالم العربي في اوائل القرن التاسع عشر, وبالتحديد منذ حملة نابليون على مصر, قد اقفل ابوابه في نهاية القرن العشرين من دون اي انجاز سياسي كبير او احراز اي تغيير اجتماعي جذري, موضحا انه كان من نتائج هذه الاخفاقات بروز السلفيات الدينية ولا سيما جراء هزيمة النهضة العربية. لكن السؤال الجذري الذي يطرحه ابو فخر هو: هل يستطيع فقهاء عصرنا اليوم ان يواجهوا العصر والعولمة الزاحفة والحداثة بعدتهم الثقافية المتقادمة؟ وهل تصمد مفاهيم الهوية المنخورة بالسوس امام الابتكارات العلمية التي تكتسح الآن اقوى اسوار العالم القديم وقلاعه المتهالكة؟ هذه الاسئلة وغيرها كانت محور هذا الحوار.
€ يشي عنوان كتابك بأنك تتخذ موقفا مسبقا من التيارات الاصولية. ألا تعتقد اننا امام اصولية جديدة تحت اسم العلمانية والبحث العلمي؟
نعم, فالكتاب له موقف نقدي وسجالي من التيارات الاصولية والحركات السلفية معاً. لكن هذا لا يعني, على الاطلاق, ان هناك اصولية علمانية جديدة في مواجهة الاصوليات القديمة. انما الامر عبارة عن مواجهة فكرية عالية النبرة وذات لغة واخزة ومدببة. وهذه المواجهة ليست جديدة, بل هي استمرار لأفكار «عصر النهضة» التي تطلعت الى الارتقاء بالمجتمعات العربية نحو التقدم والحداثة والانخراط في العصر وعلومه واكتشافاته. ومع الاسف, فها نحن, بعد نحو مئة سنة على «عصر النهضة», نعود الى اثارة مسائل السفور والحجاب وخروج المرأة الى العمل ومصافحة المرأة للرجال التي اعتقدنا انها حسمت منذ زمن بعيد. غير ان السلفيات المتجددة تعيدنا الى الوراء اكثر من مئة سنة. وربما ان هذا العبث الفكري الذي تمارسه تلك السلفيات هو الذي املى عليَّ اسلوبا في المساجلة فيه بعض القسوة والنقد الحاد. وفي اي حال, فلا اعتقد اننا امام اصولية علمانية جديدة البتة. لأن الفكر العلماني, في مختلف تياراته واتجاهاته, يتطلع الى المستقبل لصوغ افكاره. بينما الاصوليات لا تنفك ناظرة الى الماضي كي تصوغ مشاريعها السياسية, هذه المشاريع التي تريد ان تتحكم, بالاكراه, في حاضرنا وماضينا. وهذا الامر هو فارق اساسي وخطير بين الاصوليات المختلفة والتفكير العلماني.
ثم انني, بالفعل, لديَّ موقف مسبق من التيارات الاصولية. لكن هذا الموقف ليس نقيصة معرفية, لأن التجربة الفكرية والسياسية لبعض الحركات الاسلامية في العالم العربي مدعاة للنفور والمقاومة ايضا. فنحن لم ننسَ تجربة المجماعات الاسلامية في الجزائر وما انزلته بشعبها من تقتيل همجي. وتجربة هذه الجماعات في مصر وسوريا واليمن ولجؤوها الى العنف الاعمى, والطائفي معاً, برهان على الانحطاط السياسي الذي يتم ترويجه بلبوس ديني جذاب. وما يجري في العراق اليوم, فضلا عن آلاف الفتاوى التكفيرية هنا وهناك, هو امر راعب من شأنه ان يدمر مجتمعاتنا تدميرا نهائيا. وكما هو واضح لكل من له عينان ويرى فإن رجال الدين هم الذين يقودون المجتمعات العربية الى الهاوية بخطبهم الهاذية, وبمضامينها المعادية للعلم وللعصر وللتحضر. ان الفاشية المعاصرة في بلادنا العربية هي الفاشية الدينية, اي التي يتسنم زمامها رجال دين يعتصمون خلف النصوص «الدينية» ليمارسوا العنف الرمزي والمباشر على الناس وعلى المجتمع.
€ ما هي الخطوات التي ينبغي ان يخطوها المثقف العلماني للتحاور مع التيارات الدينية التي باتت راسخة في مجتمعاتنا العربية الى درجة ما عاد في الامكان تجاهلها؟
لا يمكن ان يلتقي العلماني ورجل الدين في ميدان الفكر إلا قليلا. فلكل منهما ميدانه المختلف. فالعلماني يستند في تفكيره لبناء مجتمعه الجديد على العلم وعلى التجربة البشرية المتغيرة دائما, وعلى نسبية الافكار وتبدلها من عصر الى عصر. بينما تستند الجماعات السلفية, على سبيل المثال, الى النص الذي لا يتغير, وإلى التجربة التي انتهت منذ نحو 15 قرنا. اي ان الفكر السياسي المعاصر يتكئ على العقل, بينما يتكئ الفكر الاسلامي على الشريعة. وأي شريعة في هذا الحقل من المعرفة؟ انها شريعة الفقهاء ورجال الدين والمحدثين والحفاظ الذين لا صلة لهم البتة بهذا العصر.
اذاً, فالحوار بين العلمانيين والتيارات الاصولية في ميدان الفكر بلا جدوى, إلا من باب معرفة كل واحد بالآخر, او بالتثاقف المحدود في احسن الاحوال. غير ان الحوار ربما يكون مجديا, وهذا احتمال ضئيل, اذا انصب على فكرة النظام السياسي, وعلى فكرة الدولة المعاصرة. اي ان يجتمع جميع التيارات السياسية والفكرية, علمانية ويسارية وليبرالية وقومية واسلامية ومسيحية, على محاولة صوغ مفاهيم عصرية للعقد الاجتماعي في الدولة الحديثة. فمن المحال التطلع الى دولة جديدة في مجتمعاتنا المنهكة, اذا ترك الشأن العام للحركات الاسلامية, لأن هذه الحركات بأفكارها السياسية العتيقة من شأنها ان تفتت مجتمعاتنا. وهذا ما يحصل في العراق على سبيل المثال. فالكلام مثلا على الدولة الاسلامية في مصر او في لبنان او في سوريا او في فلسطين او في العراق, وهي مجتمعات متعددة الهوية الدينية, سيؤدي, على الفور, الى ان يتحسس المسيحي مسدسه, لأنه لا يريد ان ان يهاجر او ان يعيش ذميا في دولة اسلامية يرفضها حتى معظم المسلمين ايضا. وهذا ما يحصل مع الاسف الشديد.
ان الحل الامثل لمجتمعاتنا المتعددة طائفيا واثنيا وقوميا هي الدولة الديمقراطية العلمانية حيث الشأن الديني منفصل تماما عن الشأن السياسي, وحيث يصبح للجميع الحق في تطوير هويته القومية كما يشاء وبالاختيار الحر. اما الدولة الدينية فغير ممكنة على الاطلاق في هذا العصر, فضلا عن خبالها وتخلفها. وبهذا المعنى, فالحوار يجب ان ينصرف لاقناع هذه الحركات بالتخلي عن افكارها العتيقة في هذا الشأن, وإمالتها نحو التبصر في الفهم العصري للدولة الدستورية, ونبذ مصطلحات معوّقة للتقدم مثل دار الاسلام ودار الحرب, والكفار والمؤمنين والردة, والخلافة والرياسة, والنظر في ما تفرضه قواعد التطور من ضرورة وقف النص في الحدود مثل قطع يد السارق وفقء العين والرجم وإعادة المرأة الى ما وراء الاستار, وهجرة الثقافة الآثمة التي لا تلتفت إلا الى اهوال القبر وعذاب الآخرة والجن والعفاريت والسحر والربط... الخ.
€ تعتبر في مقدمة الكتاب, ان المثقف العربي لم يستطع ردم الهوة بين تقدم العلوم والفنون في الغرب وتخلفها في البلاد العربية. كذلك تؤكد ان هذا المثقف لم يستطع اجتياز مسيرة الحداثة التي دعا اليها. برأيك, اين موقع المثقف العربي ولا سيما انه خسر الماضي التنويري وفقد الحاضر في سياق الحداثة؟
المثقف العربي اليوم في دوامة من الخيبة والبلبلة والاضطراب. وهذا واضح تماما على ما اعتقد. ومن علامات هذا الاضطراب ان المثقف ما عاد قادرا على الاقناع, وحججه باتت متقادمة, اي انه ربما اصبح متخلفا عن مجريات الاحوال. لماذا؟ لأن التنوير والتحديث واليقظة والتقدم, وهي مصطلحات القرن التاسع عشر, جميعها أخلفت وعدها في بلادنا العربية. لأن التنوير الذي بدأ في مصر مع حملة نابليون بونابرت, انتشر بين النخب المتعلمة التي شهدت بنفسها تقدم الغرب €الطهطاوي مثلا€ وتخلف العرب. ولم يكن التنوير شأنا من شؤون الفئات الاجتماعية الرئيسية, فبقي هامشيا وميدانه الجامعات والمجلات والصحف. بمعنى آخر, ان الطبقات الاجتماعية لم تتصد قط للتنوير, او تحمل بين يديها مشروعا للتقدم على الاطلاق. وهذه الطبقات كانت: ملاك الاراضي ورجال الدين والفلاحين, وبدرجة اقل تجار المدن. فرجال الدين الموظفون في خدمة ملاك الارض كانوا دائما, إلا في حالات قليلة ومحدودة, معادين لأي تغيير. والفلاحون كانوا وما زالوا رازحين تحت افكار وعقائد وخرافات مصدرها رجال الدين اياهم. اما ملاك الارض فكان دأبهم ابقاء الحال على ما هي في الارياف, والانصراف الى شؤون الحكم والسياسة في المدينة.
ان بعض افكار الحداثة نشأت في المدن بين ابناء الفئات الوسطى من التجار او بين ابناء الاعيان ممن تسنى لهم الاطلاع على علوم الغرب وفنونه. لكن لم تحمل اي فئة اجتماعية مشروعا سياسيا للتغيير مثلما فعلت الطبقة الثالثة €البرجوازية€ في المدن التجارية الاوروبية. لذلك فشلت الحداثة في بلادنا لأنها لم تتحول الى مشروع سياسي اجتماعي, وبقيت مجرد افكار وطموحات لدى بعض المثقفين المتنورين. وهنا لا بد من التفريق بين الحداثة والتحديث؛ فالتحديث عملية بسيطة وتلقائية وهي الاخذ بأسباب العصر مثل استخدام التكنولوجيا في مختلف وجوهها. وهذه العملية تحدث في اكثر المجتمعات تخلفا. بينما الحداثة تعني النهضة, اي تغيير المجتمع كله وإعادة صوغه مجددا على اسس ثورية. وهذا التغيير هو الذي فشل في عالمنا العربي. وكان من شأن ذلك ان انتقلنا من التبعية للاستعمار الى الاستبداد, وها نحن ننتقل اليوم الى ما هو اشد وأدهى, الى الاستبداد الاصولي الجديد. فالاستبداد العسكري لا يفعل شيئا حيال الافراد والمجموعات إلا اذا نازعه هؤلاء السلطة. وعند ذلك يصبح مستعدا لنزع الرؤوس عن الاعناق. اما الاستبداد الاصولي فهو يدخل الى سريرة الناس ويفرض عليهم رؤيته ومسلكه والويل لمن لا يطيع. وعند ذلك يعاقب بتهمة الكفر ويقتل حدا او تعزيرا بحسب ما يرى ولي الامر. والنهضة, في نهاية المطاف, لا تعني, على صعيد النظام السياسي إلا الدستور والحريات والديمقراطية وفصل السلطات والتعددية الحزبية.
في معمعان هذا الاضطراب اصيب المثقف العربي بخيبة كبيرة. فكل ما دعا اليه اندثر. وكل ما بشر به اطاحته السلفيات الصاعدة, فبات ظهره الى الحائط وصدره نحو الرصاص. لنتذكر كيف قتلوا فرج فودة, وحاولوا قتل نجيب محفوظ, وطاردوا نصر حامد ابو زيد ومحمد سعيد العشماوي ومارسيل خليفة او حيدر حيدر وغيرهم. ان هذا لم يحدث على الاطلاق في السابق. وفي اي حال, فإن المثقف العربي النقدي لا يمكنه ان يدير ظهره الى هذا الانحطاط او الانحلال, فموقعه هو في صميم المواجهة: مواجهة الفكرة بالفكرة, والحجة بالحجة, والسجال العقلاني. وكتابي «الدين والدهماء والدم» انما هو شوط صغير جدا جدا في مسيرة طويلة جدا جدا نحو الحرية والتقدم والنهوض. لقد كان المثقف النقدي يخشى السلطات عندما يريد ان يعبر عن آرائه, فبات الآن يخشى السلطات والشارع معاً. وهذا المثقف واقع بين شاقوفين: الانظمة تهدده باستقلاله وحريته, والاصولية تهدده بحياته. غير ان الخيبة الكبرى للمثقف العربي ناجمة في الاساس عن ان المشكلة الآن ما عادت تغير العالم كما كان يحلم به المفكرون الرومانسيون امثال ميشال عفلق وقسطنطين زريق وساطع الحصري, وحتى انطون سعادة الذي كان اقربهم الى التاريخ العلمي, ذلك لأن العالم يتغير بصورة متسارعة وبمعزل عن ارادة من دعا الى التغيير, وعلى نحو يبدو معه دعاة الثورة والتغيير في منتهى الرجعية والمحافظة.
باختصار, لم تكن هناك نهضة عربية او مشروع نهضوي عربي بقدر ما كان هناك نهضة جزئية اقتصرت على الافكار الاصلاحية المتأثرة بالتقدم الغربي. وللمقارنة, فإن الاصلاح في الغرب كان, في احد وجوهه, تمردا على المسيحية وقطيعة مع الدين. وهو في العودة الى التراث الاغريقي والروماني كان يريد ان يجد جذورا له في حضارة ماتت نوعا ما, وما عادت قادرة على التأثير في الحاضر. اما الاصلاح في العالم العربي فلم يكن قطيعة مع الدين البتة. وهو في محاولته العودة الى التاريخ الاسلامي القديم وإلى التراث, كان يتكئ على ثقافة ما زالت حاضرة وذات تأثير كبير. ولهذا لم يكن من المستهجن, عند اول مواجهة مع السلفيات, ان يكسر رواد الاصلاح اقلامهم. وهذا ما فعله طه حسين عندما حذف الفصل المثير للجدال في كتابه «في الشعر الجاهلي». وهذا ما فعله ايضا علي عبد الرازق ومنصور فهمي وأحمد امين ومحمد عبده.
€ اللافت في كتابك انك تثير شبهات عديدة حول اسهام العرب في الحضارة الاوروبية. انك بهذا المعنى تسقط عن العرب جميع المقولات حول نهضتهم ومساهمتهم في الحضارة الانسانية في الماضي. بل انك تسعى الى تبديد هذا الارث النهضوي الذي يتفاخرون به. ألا تعتقد انك تلتقي مع شريحة من المثقفين العرب يقولون بأن ما سمي «نهضة» هو سبب تخلفنا؟
من يقول ان «النهضة» هي سبب تخلفنا هو الاصوليات الجديدة وليس انا. ومرجع القول لديهم ان ما سمي «النهضة» ليس إلا الاسم المستعار للتدخل الخارجي والاستعمار... وهذا هراء. صحيح ان الاصلاحات الطفيفة التي شهدها العالم العربي والاسلامي في ظل الدولة العثمانية جاءت كثمرة للاكراه الخارجي فرضها التوسع الرأسمالي, ولم تكن بدافع من نمو قوى الاصلاح نفسها, إلا ان الاصلاح كعملية تطورية كان حيويا جدا لمقاومة الانحطاط الحضاري الذي حاق بالعرب منذ سقوط بغداد في سنة 1258 فصاعدا. ومهما يكن الامر, فأنا لا اسقط عن العرب, وأنا عربي اولا وأخيرا, اسهامهم الكبير في الحضارة الانسانية, بل اردت ان افكك تفاخر العرب بهذا الاسهام كبديل من ركودهم الحالي.
لقد قامت الحضارة الاوروبية على ثلاث ركائز: المطبعة والبوصلة والبارود. وهذه الركائز الثلاث نشأت في الصين. واليوم لا يتفاخر الصينيون على الاطلاق بهذه الانجازات التاريخية, ولا يتشاوفون على الاوروبيين, وإنما يحاولون ان يكون لهم مكان ما على هذه الارض يلائم مكانتهم التاريخية. اما العرب الذين يفاخرون بابن رشد فكانوا اول من طرد ابن رشد من ثقافتهم. ان ثقافة الغزالي التي كانت الثقافة الرائجة في العالم العربي اي ثقافة النقل, هي التي انتصرت على ابن رشد, اي على ثقافة العقل, وأقصته عن المجتمع. ما لنا اليوم نعود الى ابن رشد بعدما كنا ضربناه بالاحذية في الامس؟ ان هذا الامر فيه مكر كبير. ولا تستقيم الحالة أبداً إلا إذا أعدنا الاعتبار لا لابن رشد, فمكانته المرموقة لا يشكك فيها أحد, بل للحيوية النقدية التي أطلقها ابن رشد في وجه الركود المعرفي الذي حمل لواءه آنذاك فقهاء من عيار الغزالي وابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما.
€ تفرد في الكتب فصلاً طويلاً عما اسميتهم «شيوخ الحسبة» وفتاوى الدم. برأيك ما هي الأسباب الكامنة وراء انبعاث الأصوليات الدينية؟ وماذا عن هذا الحنين الى الدولة الدينية؟
شهد العالم العربي في حقبة ما بعد الاستعمار موجتين: موجة القومية العربية ثم موجة الأسلمة. وقد نجحت موقتاً الموجة القومية في عدد من الدول العربية مثل مصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر, لكنها اتخذت شكل الاستبداد العسكري. أما موجة الأسلمة فقد أخفقت في الجزائر ومصر وسوريا والسودان مع أنها اتخذت العنف وسيلة لها. وها نحن نشهد اليوم موجة ملتبسة ومتسربلة ببعض الشكوك هي موجة «الديمقراطية». لقد كان من نتائج هزيمة حركة التحرر العربية أن سجلت السلفيات العربية أولى انتصاراتها. وجاء نهوض الأصوليات والسلفيات في سياق انفجار الأصوليات الدينية كلها في العالم, كالأصوليات البروتستانتية والكاثوليكية والهندوسية واليهودية. أما «الصحوة الاسلامية», وهي ما يعنينا هنا, فليتها لم تحدث قط. ففي افغانستان حطم المعتوهون تمثال بوذا, ودمروا المجتمع تدميراً فظاً. وفي الجزائر لم تتورع الضواري الهمجية في الولوغ بدماء الابرياء البتة. وفي مصر وسوريا شاهدنا الارهاب كيف يتسربل بفتاوى الدم والعنف. ومن نافل الكلام القول ان الدول الاسلامية هي الأسوأ من بين دول العالم كله في مجال الحريات وحقوق الانسان والتقدم الاجتماعي والاقتصادي واحترام حقوق الفرد وعدم اضطهاد أتباع الديانات الاخرى. واللافت أيضاً ان ارتفاع وتيرة التدين في حقبتنا الحالية يترافق, بقوة, مع ازدياد الفساد في المجتمع.
ان استعصاء النهضة في العالم العربي كان السبب الأساس في صعود الأصوليات الجديدة والسلفيات المتجددة. ولا ريب في أن هذا الاستعصاء عائد الى عدم ظهور البرجوازية الحديثة, والى عدم ثبات الملكية الخاصة للأرض €نظام الاقطاع العسكري ثم نظام الالتزام والجباية€, والتعلق المرضي بالماضي. وهنا بالذات يصبح الحنين الى الماضي, أي الى الحقبة الوحيدة التي كان للعرب فيها صولة وجولة وشوكة ومكانة, نوع من النوستالجية الواهنة, لأن في غياب المشروع النهضوي المعاصر, يتحول الماضي الى نوع من التعويض النفسي. وهذا أمر مهين للارادة الجماعية, مع أن السلفيات الحالية لا تستطيع أن تنتعش إلا في هذه البيئة الفكرية العاجزة حضارياً, والقوية جماهيرياً. والعوام سلاح الاستبداد على ماي قول الكواكبي.
€ تتحدث باسهاب عن انحطاط الجسد البشري. وتفرد كذلك فصلاً في كتابك تتناول فيه مسألة الجنس في الأدب العربي. ماذا أردت التوكيد عليه؟ وأين يقع الخطاب الديني من هذه المسألة؟
أردت أن أقول, باختصار, ان انحطاط الحضارة العربية جراء سقوط بغداد في سنة 1258 أدى الى انحطاط دور الحب في المجتمع كقيمة اجتماعية مرموقة ومشروعة. وتحول الحب على أيدي الفقهاء الى مجرد جنس فقط, أي الى عملية ميكانيكية فحسب. لقد كان الحب دائماً عند العرب مسألة يحس بها الفرد €الذكر والانثى معاً€. بينما تحول لاحقاً الى مسألة يقوم بها الفرد €الرجل والمرأة€ من دون احساس. وقد اشتهر العرب, من بين الشعوب القديمة, بولوعهم بالحب, وصوروا ذلك في ادبهم واشعارهم بجرأة مذهلة. ولم يدانيهم في هذه الجرأة الا الهنود والصينيون. وقد عرف العرب ضروباً من الكتب اللذية اشهرها, كما هو معلوم, «ألف ليلة وليلة» و«الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة» و«عروس العرايس» و«الأغاني» و«التذكرة الحمدونية» و«العقد الفريد» و«المستطرف في كل فن مستظرف» و«الرسالة البغدادية» علاوة على عشرات الكتب الأخرى من عيار كتب الأسماء امثال «الخليع الدمشقي» و«جلنار البحرية» و«الأربعون جارية» و«ملك البحرين سيحون وجيحون» وغيرها. وقصارى القول في هذا المجال ان العرب امتلكوا جرأة عجيبة في أدب البوح. بينما اليوم اضمحلت هذه الجرأة تماماً., وبات الكلام على الحب واللذة من محرمات الفقهاء الذين حولوا الحب الى نوع من الاثم. واللافت ان العرب لم يعرفوا التصوير الجنسي والتمثيل الذي برع فيه الصينيون أيما براعة, ومع ان الفن العربي الحديث تعرف الى «الموديل» ولا سيما في كليات الفنون في اوائل القرن العشرين, إلا أن هذا الضرب من الضرورة الفنية انتهى تماماً في أواخر القرن العشرين على أيدي الفقهاء وبتأثير مباشر من التحريمات اليومية. ان انحطاط فكرة الجسد انما جاء على ايدي رجال الدين الذين قلبوا حياة الناس فجعلوها منسوجة بالسواد والاثم والخطيئة. وما اعادة المرأة الى الجلباب والنقاب والحجاب الا نوع من الاعتداء الذكوري على الجمال الانثوي.
ان الخطاب الديني في هذا الشأن هو خطاب معاد للحياة, خطاب لا ينظر الى الناس وحاجاتهم بل الى ما وراء القبور فحسب. وبهذا المعنى فهو خطاب معوق للتفكير المستقبلي ومدمر لحيوية البشر.
€ ما الأسباب التي أدت الى عدم نشوء فكر ديني في لبنان, على الرغم من أنه اكثر البلدان العربية اصطخاباً بالديانات والطوائف والمذاهب كما تقول؟
لعدم ظهور حاضرة في لبنان. فالمعروف ان المدن في العالم العربي كثيرة, لكن الحواضر قليلة. وقد لعبت دمشق وبغداد وحلب والقاهرة دور الحواضر العربية, بينما لعبت المدن ادواراً متفاوتة في التجارة والعمران والثقافة مثل فاس وبيروت والاسكندرية والقدس. والأفكار الكبرى تنشأ عادة في الحواضر لا في المدن الساحلية التي تبرع في التجارة ونقل البضائع والسفر بالدرجة الأولى. لنلاحظ أن بغداد كانت الحاضرة لا البصرة. والقاهرة كانت قاعدة مصر لا الاسكندرية. ودمشق او حلب هي الحاضرة لا حيفا ولا بيروت ولا اللاذقية على أهمية هذه المدن. وصنعاء كانت حاضرة اليمن لا مدينة عدن. والأمر نفسه ينطبق على الحضارات الاخرى. ففي فرنسا كانت باريس, وهي مدينة داخلية, حاضرة الفرنسيين, وليست مرسيليا أو نيس. ولندن حاضرة بريطانيا العظمى لا ليفربول او برايتون او نيوهافن. وروما حاضرة العالم القديم كله وليس نابولي او جنوى او فينيسيا. وموسكو هي حاضرة البلاد الروسية وليست أوديسا. ودلهي حاضرة الهند العظيمة وليست بومباي او مدارس او كلكوتا. وبيكين حاضرة الصين وليست شنغهاي أو نانكينغ... وهكذا. لأن الحواضر تنشأ, بالدرجة الاولى, عند تقاطع الطرق التجارية في السهول الخصبة, وليس على السواحل. اما المدن الساحلية فهي تلعب ادواراً مهمة في التجارة والعمران والازدهار, لكنها لا تنتج بنفسها, بل تتاجر ببضائع الحواضر اساساً. وقد كانت بيروت, والاسكندرية أيضاً, استثناء مهماً, فجمعت في ازدهارها العمراني الدور الريادي في الثقافة ايضاً. لكن هذا الامر ظل محدوداً في الزمن, ولم يمتد طويلاً. فالازدهار في بيروت محصور في الفترة ما بين 1949 و1975, أي ما بين النكبة الفلسطينية واندلاع الحرب الأهلية, وهو مدين للفلسطينيين الذين لجأوا الى لبنان في سنة 1948 كرأسماليين وأيد عاملة مدربة, ثم الى السوريين الذين تقاطروا على لبنان منذ سنة 1956 فصاعداً حاملين معهم اموالهم خشية التأميم.
ان لبنان, في نهاية المطاف, كيان حديث تاريخياً. ولم تظهر فيه حاضرة تستطيع ان تخلق في فضائه مدارس دينية مثل التي نشأت وازدهرت في دمشق وحلب والرها ونصيبين وبغداد وجنديسابور والاسكندرية والقاهرة.
€ ألا تعتقد أننا نعيش في لبنان اصوليات متطرفة, اسلامية ومسيحية, على عكس ما تذهب اليه؟
انا ذهبت الى أن لبنان لم تزدهر فيه المدارس الفكرية الدينية مثل مدرسة حلب او مدرسة دمشق او مدرسة الاسكندرية, أو مثل التيارات الفكرية المسيحية على غرار الطبيعة الواحدة للمسيح او الطبيعتين حتى أن تيارا فكريا وسياسيا في العصر الحديث هو تيار الاخوان المسلمين ظهر في القاهرة, ولم يظهر مثله في لبنان. هذا ما قصدت اليه, أي الجانب الفكري. أما التعصب في جانبيه الاسلامي والمسيحي فقد كانت الجماعات اللبنانية المختلفة غارقة فيه حتى الاعناق. نعم, ان الاصوليات الاسلامية في لبنان بمنوعاتها المختلفة €حزب التحرير, الاخوان المسلمون, جند الشام جند الله... الخ€ يسهمون في تفكيك لبنان حينما يجهرون بآرائهم المتقادمة في ضرورة قيام دولة اسلامية في لبنان تطبق الشريعة. ان هذا الامر مدعاة لخوف المسيحيين وهم أهل هذه البلاد منذ ألفي سنة. فالمسيحية ليست غريبة عن هذه البلاد, وليست من منتجات التبشير, انما هي اصيلة في هذه البلاد. ومن نكد الدنيا ان هذه الاصوليات تشترك مع الاحتلال في فلسطين ومع الاستبداد العربي على تهجير المسيحيين من بلادهم, ولا سيما من العراق وفلسطين وسوريا. حتى ان السريان الذين اعطوا اسمهم الى هذه المنطقة €سوريا€ صاروا الآن في السويد وكندا واستراليا, وصارت ضياعهم اليوم على غير ما كانت من عظمة وبهاء وتحضر. هكذا هي حال القامشلي والرها €أورفة€ ونصيبين وماردين وغيرها. وهكذا ربما تصبح حال بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وبيرزيت وغيرها أيضاً.
€ أين العرب من عصر العولمة ولا سيما بعد الانتصار الساحق للعلم على الغيبيات؟ ولماذا لم يجد العرب موقعاً لهم ضمن الثورة التقنية والمعلوماتية؟
العولمة هي, في أحد وجوهها, انكماش العالم مقابل تمدد الكون. والعولمة جعلت المسافة بين واشنطن وصنعاء مثلاً اقرب بكثير من المسافة بين صنعاء وقرية ما في جبال صعدة المنيعة. وهذا الأمر ما كان ليتم على هذا النحو لولا العلم. لكن العرب اليوم يبدو كأنهم اصبحوا خارج الزمن العلمي تماماً. فلم يسجل العالم العربي كله في القرن الحادي والعشرين اكثر من ثلاثين براءة اختراع ذات قيمة بينما تسجل دول مثل كوريا او ماليزيا مئات براءات الاختراع. والعالم العربي لا ينفق على العلم أكثر من 04.0€ من دخله, بينما تنفق افقر دولة أوروبية اكثر من 2€ من دخلها على العلم والتعليم. لنلاحظ ان مصر, وهي اهم بلد عربي وتعد نحو 70 مليون نسمة, فيها نحو 35€ من الأميين, ونحو ثلاثة ملايين ساكن قبور, ونحو ثلاثة ملايين معوّق. وفي القاهرة نحو مليون نسمة يهيمون على وجوههم بلا مأوى. أما في العراق فالحال ادهى وأشد مرارة. فكيف يستطيع العرب أن يضمنوا لهم مكانا في هذه البيداء السديمية؟ ثم هل يستطيع فقهاء عصرنا ان يواجهوا العولمة الزاحفة علينا بمفاهيمهم المعلوكة عن الهوية والثوابت والسلف؟ وهل تصمد هذه المفاهيم أمام العلم والابتكارات العلمية التي تكتسح الآن أقوى أسوارالعالم القديم وقلاعه؟ لقد واجهت النخب العربية التقليدية كل جديد بالريبة: وقفت ضد السفور, وضد تعليم المرأة, ثم ضد عمل المرأة, وضد الحداثة وحتى ضد الشعر الحديث. ثم صارت جميع هذه الامور عادية. وهكذا تقف النخب السلفية الجديدة اليوم وقفة المرتاب حيال منجزات العلم كعلم الجينات والاستنساخ وارتياد الفضاء واكتشاف المحيطات وغيرها. وبهذه العدة المعرفية المتخلفة لا تلعب السلفيات والاصوليات اي دور الا اعاقة التقدم.
ان العرب اليوم لا ينتجون اكثر من ثمانية آلاف عنوان جديد من الكتب في كل عام, بينما تنتج بلجيكا وحدها عشرة آلاف عنوان جديد, وتنتج اسرائيل 12 الف عنوان وتنتج اليابان نحو 16 ألف عنوان جديد. مع العلم ان نحو 20€ من الكتب العربية الجديدة هي كتب تافهة ومخلفة للوعي العربي مثل كتب زواج الجان من بني الانسان والعلاج بالادعية وفك الربط والسحر والتنجيم والابراج والعفاريت والكباريت وغير ذلك مما يروجه المشعوذون ولا يستنكره رجال الدين إلا في حالات مخصوصة.
اذا كانت الافكار العالمية ارادت ان تحول العالم بحسب افكارها كالمسيحية والاسلام والماركسية, فإن العولمة لا تريد تحويل العالم ليتلاءم مع افكارها, لأنها تصنع في كل يوم عالماً متغيراً. واكثر ما اخشى ان يكون العرب قد صاروا ذاهلين تماما عن هذا العالم, بل باتوا واقفين في مكانهم, فإما ان يحملوا المناديل لوداع هذا العصر, أو أن يسرعوا الى حمل الحقائب للالتحاق به. وهذه الحقائب ما هي الا العلم والديمقراطية والحريات وفصل الدين عن السياسة. وبهذه العدة يمكننا ان نؤسس مجتمعاً قادراً حقاً على مواجهة العصر والاستعمار والاحتلال واسرائيل معاً.
حسين نصر الله
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد