الناس يصرخون والحكومة تهدهدهم بالميكرفونات
لا شك أن الحكومة أوفت بوعودها، ونفذت ما كانت تصبو إليه من تركنا نبكي بعد فطام قاسٍ، نحن الذين تعودنا منذ أن صرنا مواطنين عندما ولدتنا أمهاتنا على أعطياتها وسعة صدرها، وتحملها الشديد لفقرنا الشديد، ولا يستطيع أحد منا أن ينكر فضائلها من السكر والرز وزيت القلي، والمازوت المدعوم، وصوت الطنابر وزماميرها التي تنطق في شوارعنا: (ما..ز..و.ت).
نعم لقد تركتنا الحكومة غير آسفة علينا نحن «الشعب الكسول»، الذي لا بد من تركه ليجرب كيف يعيش دون «دلال»، فلقد كبرنا وصار من الواجب أن نعتمد على أنفسنا وإلا سنكون من وجهة نظر فريقها الاقتصادي.. لا نستحق الحياة.
بالمقابل نحن أبناء الحكومة، عرفنا من عشرتنا معها كيف يمكن أن نحافظ على رمقنا دون عطش وعلى بطوننا دون جوع، إلا الثلة القليلة من «العصاة» «المؤدلجين» آثرت أن تدعو الحكومة ليس للعودة عن قراراتها الزلزالية، بل لإزالة الآثار السلبية الكبيرة المترتبة على اجتهاداتها العبقرية.
- من آخر أزماتنا التي تجاوزناها ليس بالدعاء، إنما ببعض الزحام والفوضى والتدافع، هي أزمة الخبز، ولعل هذا ما جعل الحكومة تعود إلى حيث كان الخبز خطاً أحمر لا يمكن لأحد تجاوزه. فمن اللحظة الأولى لرفع سعر المازوت، بدأ الزحف باتجاه السلع الأكثر تضرراً والأكثر التصاقاً ببقائنا، الخبز تلك السلعة المقدسة لدى كل البشر، تجمهرنا على الأفران كما كنا في الماضي، نتدافع، نتدافش، الذاكرة الموروثة لأجيال لم تعايش تدافش آبائها تدافشت، كأن DNA الخوف من الجوع نتوارثه كلون بشرتنا، وطول أصابع أيدينا، وبصمة إبهامنا.
لم يرتفع سعر الخبز، تناقصت فقط كميات الطحين المرسلة للمخابز، حدث إرباك ليس هناك من شك بأن من يتحمله هو الجهة التي جربت ذلك، لكننا لم نقصر وقد جربنا أزمات سابقة، كأن المجاعة بدأت للتو ودبت في مفاصلنا، كأن أبناءنا انتفخوا واضمحلت هياكلهم.. إذاً نجحت تجربة زرع الذعر من فقد آخر ما تبقى للناس من دعم.. والخشية مشروعة، لذلك تصرفنا كمن غرق في الأزمة، صار كل واحد منا يريد أن (لو استطاع) يحمل الفرن إلى بيته، صار يشتري لنفسه، لأهله، للجيران، للأحباب، هذا حال السذج.
أما حال المعتاشين منا على الأزمات، فكان فظيعاً، أصحاب المحلات أخفوا الخبز بانتظار أن يرتفع سعره، وبالتالي ليبيعونا إياه على السعر الجديد، الأفران السياحية ضاعفت زيادة أسعارها، وكانت قد رفعته دون مبرر (السياحي، السكري).
الأفران العامة أغلقت باكراً، فقد نفذت المخصصات، أما الخاصة فصارت ربطة الخبز الحكومي بـ25 ليرة، السياحي 45 ليرة، السكري 25 ليرة.
المعجنات فسحة يوم الجمعة للمواطن السوري الذي قبض علاوة أو بعض القروش لم تعد كذلك، فطيرة الجبنة زادت ليرة ونصف، الجبنة مع المحمرة بـ12.5 والزعتر بـ7 ليرات.
حتى المطاعم التي كانت تبيع الخبز صارت الربطة فيها بـ 25 ليرة، الفلافل صديقة الأمعاء السورية وبعضها مخلوط بالخبز اليابس وليس الحمص تضاعف سعرها، سواء على شكل سندوتش، أو بالمفرق.
لم نكد نسمع بحصول الأزمة حتى حاولنا البحث عن مفاتيح تفادي جوع أطفالنا، وكما في كل مرة، استثمر مرضى النفوس الهشة الأزمة ليستغلوا حاجاتنا.
- في النقل كانت الصدمة الكبرى، صدمة مرعبة حلت على الجميع، أول المتلقين والمتضررين مباشرة سائقو النقل العام، انكمشوا على أنفسهم لساعات لم تطل، التوقف عن العمل ريثما تصدر الحكومة تسعيرة جديدة للخطوط العاملة على المازوت، لكن ذلك لم يحصل في اليوم الأول من الفوضى العارمة.
ما الذي يمكن أن يفعله هؤلاء، الناس امتلأت بهم الكراجات، لا أحد يعرف كم صار أجر النقل، محطات الوقود باشرت من الليل بيع المازوت بالسعر الجديد.
فجأة المحطات العامة والخاصة كمن انتزع منها الروح، لا أحد، لا طوابير، لا كالونات متنوعة الأحجام، فقط صاحب المحطة يضع الأرجيلة وكأس الشاي دون حراك.
الحائرون حسموا أمرهم في وقت قصير، ريثما توزع الأسعار الجديدة، السعر× 2 = السعر الجديد للأجرة، الراكب الذي كان يدفع 5 ليرات سيدفع مكرهاً لا بطل 10 ليرات.. وهكذا.
من كان يأخذ 3 ليرات صار يأخذ 7 ليرات، والـ5 ليرات صارت 10 ليرات، وتعرفة الـ10 ليرات صارت 20 ليرة.
الأسوأ بعد حصول الأمر الجلل، وتحديد التعرفة أنه ظل بعضنا غير مقتنع، ويرى الأمر من زاويته، السعر قليل! مثال ذلك أحد السائقين العاملين على خط جديدة عرطوز، فبعد أن حددت تعرفة النقل من دمشق إليها بـ13 ليرة، ظل يأخذ من كلية الآداب للبرامكة 10 ليرات! فبأي منطق يتصرف هؤلاء، ومن يراقبهم ويحاسبهم؟.
- تواكبت الأزمة مع اقتراب موسم المؤونة من الخضار وبعض السلع التي تعين في أشهر الاستهلاك الكبير مثل (رمضان)، والأسعار بحد ذاتها تجاوزت الخط الأحمر منذ وقت، ضاقت الحياة وسبلها على الناس، و(المونة) لدى السوري كمن يًخبِّئ قرشه الأبيض ليومه الأسود.
عدا عن كون هذه المواد موسمية، ويمكن بتموينها استثمارها في الفصل الذي تأفل به، فأراد بعض المواطنين استباق الغلاء، فأول سعر لها 35 ليرة، وصاروا ينادون (شغل بيت جن)، الآن بـ 45 ليرة.
بعض فلاحي كفر سوسة لم تعد شاحناتهم تبيع في المكان الذي اعتاد المستهلك أن يراهم فيها، نقلت أكياس البازلاء ثم أتبعوه بالفول (الموسم الآخر) إلى مفرق بيت جن، لكي يبدو الموسم من إنتاج بيت جن المعروفة بمائها العذب وخصوبة الأرض، أما فلاحو كفر سوسة فكانوا يسقون مزروعاتهم بشيء أخطر من الريح الأصفر (الصرف الصحي)، حيث كل ما لدينا، الموت في انتظارك.
- لم تنجُ من الاضطراب أية مادة، السوق التي كانت تستعر ببطء شديد بعاملي الاستيراد والتصدير، العرض والطلب، عامل جديد دخل المنافسة، الجشع، والذي جعل له مكاناً للنمو والازدهار غياب العامل التمويني، وقول: «يا حرام، الله يأخذ حقنا منه، الله يلعنو..»
الألبان تأثرت، وكأن كل أبقار وأغنام سورية صارت في ذمة الله، ستموت لكنها تتأثر لأكبر عملية تجويع في تاريخها: نقص في المادة العلفية، ومواسم الجفاف المتلاحقة.
في مناطق ما زالت تنتج اللبن ومشتقاته، وما زال موسمها المطري على حاله وإن انتابه بعض الجفاف، كالقنيطرة التي تنتج الحليب، اللبنة، الجبنة، القشدة وسواها و بالأسعار نفسها مع زيادة طفيفة، وصلت الأسعار لدى مستجريها إلى أسعار وازت وساوت المناطق التي لم تحصل على 60 مم في هذا الموسم كالبادية وبعض أطراف البادية السورية.
البقول كافة لم تسلم من الغلاء الجماعي، الرز 45 ليرة، وهكذا البرغل، العدس، الحمص، كل البقوليات تبعته إلى دور الغلاء المتعاظم يوماً بعد يوم إلى الإحساس المتخم بالمجاعة تدق البيوت والشوارع، إلى البطون.
في المحل (الدكان) يرمى العبء على الفلاح، زادت أسعار الوقود، وبالتالي الفلاح عمد إلى زيادة الأسعار، في الوقت نفسه يشكو الفلاح من الخسارة وهو الخاسر الدائم في بلد ما زالت في ميزانها التجاري تصنف بلداً زراعية.. والرابح الوحيد هو السمسار: الوسيط.
مواد البناء أولى بالارتفاع، لمن ليس في الأسعار المحمومة التي وصلت إليها، الدهانات أصبحت بجودتها وعدمها تملك السعر نفسه إلا قليلاً، المسامير التي كانت تضاف بالمجان على الفاتورة صارت تحسب.
- الوجه الآخر للأزمة ليس الحكومة، الوجه الأول لا يمكن أن نتغاضى عن دوره فيما وصلنا إليه، الدور الذي لم يحمنا من سقطات السوق المخيفة، ومعه التجار الذين تقاسموا الاحتكار في أساسياتنا، من هرّب المازوت خارج حدودنا، ثم رأى في القمح والحنطة مادة أثيرة على قلبه، بعيدة عن أفواهنا.
الوجه الأول الحكومة والتاجر في صراعهما، صرنا نحن الوسط المغلوب على أمره والذي دفع الثمن باهظاً، مرة من جشع التاجر، ومرة عندما حاربته الدولة وقلصت من حصصنا.
ولكن لا بد من الاعتراف بالدور السلبي الذي يشكل فسيفساء الدور الذاتي في الأزمة، لم نصرخ.. لم نشتك.. لم نتذمر.. لم نغضب لتهديدنا بالجوع.. كل ما فعلناه مجرد محاولة أن نستأثر لأنفسنا بمادة نتوقع فقدانها بعد أن يمرر كل من الحكومة والتجار شائعة عن دنو موعد غلائها.
- ما زالت العجوز المتهاوية إلى أرذل العمر في البلدة القديمة التي كانت هي البلد، تحشو حبات الخيار واحدة تلو أخرى في وعاء الفخار لتصنع مخلل الخيار البلدي من أجل وجبة (مجدرة) مع بصل مقلى حتى الاحمرار، لكن نظرها البسيط لم يجعلها تلحظ الزيت البلدي الذي كانت تعتقد أنه أصلي مخلوطاً بزيت (الأونا).
العجوز في البلدة القديمة ما قد كناه، ووهم أن تنكة الزيت المغشوشة صالحة هو ما صرناه.
عبد الرزاق دياب
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد