الصراع على الكأس المقدّسة في سورة يوسف بالقرآن
زكريا محمد:
خصّصت سورة يوسف في القرآن نفسها ليوسف النبي وأهله. في هذه المادة، سأتحدث عن «الصواع». فقد طلب يوسف من إخوته أن يحضروا معهم أخاه بنيامين في رحلتهم القادمة إلى مصر. وبعدما أحضروه ورآه بعينه، وتجهز الإخوة لرحلة العودة، وضع أتباع يوسف «الصواع» في رحل بنيامين، ثم تنادوا أن صواع الملك قد افتقد، واتهموا بنيامين بأنه سرقه كي يبقيه يوسف عنده: «ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون. فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون. قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون. قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم. قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين. قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين. قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم. قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون» (سورة يوسف: 65-77).
وكما نرى، فالصواع يدعى «صواع الملك»، أي أنه كأس المُلك. لكن له اسم آخر هو «السقاية»، كما تبين الآيات. ورغم وجود خلاف حول الصواع في المصادر العربية، فإن الاتجاه العام يقول إنه إناء ذهبي، أو كأس ذهبية، للشراب: «في حديث ابن عَبّاس رضي اللّه عنهما في تفسير قَوله تعالَى: صواعَ الملك»، قال: كهيئة المَكّوك، وكان للعبّاس [عم الرسول] مثله في الجاهليَّة يَشرَب به» (الزبيدي، تاج العروس).
وأطروحتي في هذه المادة أن القصة الأصلية، والأبعد زمنياً، كانت تتحدث عن الصراع بين يوسف وبنيامين على هذا الصواع، على هذه الكأس الذهبية. يؤيد هذا أن الصراع في مكة الجاهلية دار أيضاً حول وظيفة «السقاية»، التي كانت تجري في حوض من جلد. وقد كانت هذه الوظيفة في يد عبد الدار بن قصي. لكن عبد مناف بن قصي نازعه فيها. وشكل الطرفان انطلاقاً من ذلك حلفين كل منهما مكوّن من ست قبائل لحسم هذا الصراع:
«أما الرفادة والسقاية، فإنهما لم تزالا في حياة قصي إلى عبد بن قصي. ثم صارتا إلى عبد الدار بن قصي، حتى عظم شأن بني عبد مناف بن قصي. فقالوا: نحن أولى بما يتولاه بنو عبد الدار منهم، فجمعوا من مال إليهم وعرف فضلهم، وهم: بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، ومن كان داخل مكة من بني الحارث بن فهر، وهم قوم أبي عبيدة بن الجراح، وأتوا بإناء فيه طيب، فغمسوا أيديهم فيه ومسحوها بالكعبة، وتحالفوا أن لا يسلم بعضهم بعضاً ما بل بحر صوفة. ويقال إنهم تحالفوا وتعاهدوا في منزل ابن جدعان. فسموا المطيبين.
وحالف بني عبد الدار على منع المطيبين من نشبتهم وإرادتهم: بنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي بن كعب. واجتمعوا، فقالت بنو عدي: إنما الطيب لربات الحجال. وأتوا بجفنة فيها دم، فغمسوا أيديهم فيها. وكانت العرب إذا تحالفت غمست أيديهم في الملح والرماد. فسمى بنو عدى بها لعقة الدم، وولغة الدم. ويقال إن بعضهم لعق من الدم. فيقال أن الفريقين من المطيبين والأحلاف اقتتلوا، ثم اصطلحوا على أن جعلت الرفادة والسقاية لبني عبد مناف. ويقال أنهم لم يقتتلوا، ولكن الرجال سفرت بينهم حتى تراضوا بهاتين المكرمتين» (البلاذري، أنساب الأشراف).
والحق أن الرفادة لم تكن لعبد الدار كما يذكر البلاذري، بل كانت لعبد مناف. السقاية فقط هي التي كانت لعبد الدار. وهاتان الوظيفتان كانتا على علاقة بالصنمين- الإلهين المنصوبين على الصفا والمروة. فعلى الصفا كان الصنم «مجاوز الريح»، الذي يعني اسمه: «ساقي الخمر». بالتالي، فهذا الصنم على علاقة بوظيفة السقاية. وعلى المروة كان الصنم «مطعم الطير» الذي يعني اسمه الإطعام والرفادة. أي أن هذا الصنم على علاقة بوظيفة الرفادة.
وقد كان في الجاهلية حجان: حج صيفي مكون من شهر واحد يقع في شهر تموز على الأغلب، وحج خريفي- شتوي مكون من ثلاثة أشهر تقع بين تشرين الأول وكانون الأول. وفي الحج الثاني، كانت جماعة «مطعم الطير» بحاجة إلى ماء زمزم، أي الماء السفلي، ماء الينابيع. لكن هذا الماء تابع للصنم الإله «مجاوز الريح» وأتباعه. بذا لا يحق لجماعة «مطعم الطير» استخدامه. ولهذا عندما حاول عبد المطلب إعادة حفر بئر زمزم التي انطمّت، منعه أتباع «مجاوز الريح» من ذلك. فالماء ماؤهم لا ماؤه.
ومن أجل حل هذا الإشكال، فقد كان على عبد المطلب وأتباع «مطعم الطير» أن يقدموا ثمن هذا الماء. والثمن هو التضحية بعبد الله، كما حصل مع إبراهيم حين ضحى رمزياً بإسحق في مقابل ماء «بئر السبع». بالتالي، فبئر السبع هي زمزم فلسطين. وقد ضُحي بعبد الله رمزياً. أقيمت شعائر التضحية ثم جرى استبداله بحيوان كما حدث مع إسحق. وهكذا حلّ لعبد المطلب جماعته ماء زمزم.
لكن هذا لم يعنِ أن زمزم صارت ملكاً لجماعة «مطعم الطير». فقد سمح لهم باستعمال هذا الماء في حجهم من أجل الشرب فقط، وليس غير ذلك. وكان الماء يصب في السقاية، ويشرب منه الحجيج. أما في الحج الصيفي، حج «مجاوز الريح»، فكان يصبّ النبيذ في السقاية. وقد شرب الرسول نفسه النبيذ من هذه السقاية حسب حديث الصحابي طاووس: «ثم مشى [الرسول] إلى السقاية، سقاية النبيذ، ليشرب، فقال العباس: إن هذا [النبيذ] قد ساطته الأيدي منذ اليوم وقد انفل، وفي البيت شراب صاف، فأبى النبي (ص) أن يشرب إلا منه. فعاد عباس لذلك القول فأبى النبي (ص) أن يشرب إلا منه حتى عاد عباس ثلاث مرات فأبى النبي (ص) أن يشرب إلا منه. فسُقي منه. قال: فكان طاوس يقول: الشرب من النبيذ من تمام الحج» (الأزرقي، أخبار مكة).
والحال، أن قصة يوسف تتحدث عن هذه الماء وعن هذه السقاية. لهذا سمى الصواع في السورة «صواع المُلْك». إنه الإناء الذي يحدد صاحب الماء ومالكه، ويحدد الثمن الذي على من يريد استخدام هذا الماء. بالتالي، يمكن لي أن أقول إن النسخة الأصلية التي أفترضها لسورة يوسف تتيح القول بأن يوسف على علاقة بإله مشابه لـ «مطعم الطير» وأن بنيامين على علاقة بإله مشابه للإله لـ «مجاوز الريح- ساقي الخمر». يؤيد هذا اسم بنيامين ذاته. فهو يعني «ابن الجنوبي».
وجنوب السماء هو الذي له علاقة بالماء السفلي. ومركز جنوب السماء ورمزه هو «برج الجوزاء». والجوزاء في العربية تعني: الساقية، أي أن لها علاقة بالسقاية: «وقد اسْتَجَزْتُ فلاناً فأَجازَني، إِذا سقاك ماء لأَرْضِك أَو لِماشِيَتك… وجَوَّز إِبلَه: سقاها. والجَوْزَة السَّقْية الواحدة… وفي المثل: لكل جابِهٍ جَوْزَةٌ ثم يُؤَذَّنُ أَي لكل مُسْتَسْقٍ وَرَدَ علينا سَقْيَةٌ ثم يُمْنَعُ من الماء» (لسان العرب). وبرج الجوزاء يشمل عملياً نجم «الشعرى العبور اليمانية» ونجم «سهيل اليماني». وهما نجمان معبودان مرتبطان بصعود الماء السفلي إلى السطح من الأعماق. وبسبب هذا الصعود يفيض نهر النيل، والأنهار المشابهة. أما صفتهما (اليماني) فتعني: الجنوبي. ومن السهل ملاحظة أن اسمهما يتوافق مع اسم «بن- يامين»، الذي يعني: ابن الجنوبي. عليه، فالثلاثة يمانيون جنوبيون.
وكي لا يبدو أن هذا هذيان أو مبالغة في التأويل، فإن علينا أن نشير إلى أن قصة سجن يوسف في التوراة والقرآن تؤيده. فحين سجن، دخل معه السجن فتيان:
«ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه، نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين. قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي … يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» (سورة يوسف: 36-41).
وكما نرى، فواحد من سجينين مع يوسف سيسقي ربه خمراً، أي أنه سيكون «ساقي خمر» مثل «مجاوز الريح». أما الثاني فسيقتل وتأكل الطير من رأسه، أي أنه سيكون «مِطْعم طير» مثله مثل عبد الله بن عبد المطلب.
بذلك، فسورة يوسف تمثل النسخة الفلسطينية من الأسطورة، في حين أن «السقاية» وعبد الله الذبيح تمثل نسخة الجزيرة العربية. والسقاية أو، صواع الملك، في سورة يوسف هي نموذج مصغر يمسك باليد لسقاية مكة في نهاية الجاهلية.
بناء عليه، فبنيامين هو صاحب السقاية، الصواع، في القصة الأصلية. ولا يمكن له أن يسرق ما يملكه. لقد وضعت في رحله لأنها ملكه. لقد ردها يوسف لبنيامين لأنها تخصه. لقد استخدمها في موعد محدد ثم ردها. غير أن محرري التوراة كانوا قد فقدوا معنى الأسطورة، إضافة إلى أنهم قلبوا كثيراً من القصص الأسطورية كي تتواءم مع الصراع بين إسرائيل ويهودا، الذي انتهى إلى تكوين الديانة اليهودية كما نعرفها الآن.
ويبدو لي أن الكأس المقدسة في المسيحية، التي يقال بأن المسيح شرب بها في العشاء الأخير على علاقة بالصواع. وتدور حوله قصص آرثرية إنكليزية كثيرة حول محاولة العثور على هذه الكأس الأسطورية. إنها نسخة أخرى من نسخ الصراع حول الكأس المقدسة.
الأخبار
إضافة تعليق جديد