الاعتزاز بالنفس والمهارة جزء من العمل
في 5 أيلول (سبتمبر) 2007، نفَّذ سائقو التاكسي بنيويورك اضراباً عاماً عن العمل، فلم يبق في شوارع المدينة الكبيرة سيارة صفراء واحدة.
حمل السائقين النيويوركيين على اضرابهم مبادرةُ رقابتهم إلى فرض «جهاز تعيين الموضع» (GPS) على السيارات، الذي يتولى اقتراح الطريق الأفضل الى المكان المقصود ومراقبة حسابات السائقين والتحقق منها في آن، إضافة إلى أن عليهم شراء الجهاز هذا من جيبهم. كان الجواب الاضرابَ العام، وفي قلبه مسألة المراقبة. لعل هذا الاضراب خير مؤشر إلى نمط جديد من الحركات المطلبية، فهي لا تطلب زيادة الأجر، بل تريد الاعتراف بكرامة العاملين المضربين، فما الذي ضاق به السائقون وجَرَحَهم؟
من المعروف، أو يُفترض معروفاً، أن مبعث اعتزازهم المهني هو معرفتهم الحميمة بالمدينة واختيارُهم بأنفسهم الطرقات التي يسلكونها الى العناوين المقصودة. هذا الاختيار غالباً ما يكون شخصياً، يقررونه هم في ضوء اعتبارات ظرفية طارئة، مثل: الازدحام، والأشغال العامة، وأعمال الحفر والتمديد والتوسيع، وغيرها. ويرى السائقون القرار إدارياً خالصاً، يضرب عرض الحائط بالاعتبارات هذه كلها ويهملها، ويستقوي عليهم بمشروعية لا سند لها إلا شاشات مراقبة السير المركزية. يثور السائقون على الأمر الفوقي لأنه ينتزع منهم إلفتهم الطويلة بالمدينة، ويزدري بشعور الاعتزاز الذي خلفته ولا تزال هذه الإلفة المكتسبة. ويصاحب المراقبة تهديد بالقصاص، فالنقابة تحسب أن القصاص هو السبيل الناجع لإدارة حازمة.
هذا المثل عيِّنة معبِّرة من جهل أصحاب القرار معنى العمل في أذهان العاملين في مقابل أجر. وتتمسك إدارات الشركات بالصورة الكاريكاتورية للإنسان العامل لديها، لعل نموذجها هو الصورة التايلورية (نسبة الى مهندس مصانع فورد في مطلع القرن العشرين)، التي تقصر العمل على وظيفته الآلية: الأجر مقابل العمل، أما علاقة الانسان بعمله، ومباشرته العمل، واعتداده بالإنجاز الجيد والمهارة المكتسبة، وهي قوية ومهمة، فتُهمَل وتُنحّى جانباً.
وعلى هذا، يُغفِل معظم الأحكام والآراء الذي يتناول العملَ وقلقَ العاملين، وهو قد يؤدي الى ذروة هي الانتحار، دواعيَ العمل ومعناه في نظر المنكبّين عليه. وتطرح المعالجات الإدارية مسألتين جوهريتين، هما: الاعتراف بمكانة العامل وعمله، والمعالجة الجماعية للشكاوى والأحوال المشتركة. وتفترض المعالجة على الدوام أن المشكلات فردية، وأن مصدرها حاجات الأفراد، ولا تدعو الى النظر في معنى العمل، كما يختصر الأدب الإداري حاجاتِ العاملين في حاجات الأفراد، بمنأى من حال علاقتهم بعملهم، أفراداً في اطار جماعات.
ويلاحَظ أن اجتماعيات العمل قَصَرَت انتباهها على دوره مؤشراً إلى الحياة العمالية، والمنازعات، وصراع الطبقات، وعلى بنية الجماعات المتولدة منه، وعلاقات الانتاج الاجتماعية، وترتيب العاملين على مراتب ومؤهلات، أما العمل نفسه بما هو فعل وجهد، فالاهتمام به ضعيف، ويعود هذا الى عسر المعالجة والتناول الدقيقين. ونهج الملاحظة المناسب هو النهج المنخرط، ومباشرته ليست في المتناول غالباً. كان دونالد روي أحد أوائل الأميركيين الذين باشروا هذا النهج في خمسينات القرن العشرين، وسار كاتب المقال على أثره في السبعينات، وقلة هم الباحثون الذين تابعونا على نهجنا، فأنا عملت أشهراً في ورشة بمصانع بيرلييه على ما يسمى «حظاً»، وكان توزع علينا أصداف، هي قطع ثقيلة تزن كل منها 15- 25 كلغ تقريباً، وتتضمن أعمالاً معقدة. تنتقل الأصداف هذه من آلة الى أخرى، وتُعمل فيها عمليات متفرقة، من ثني الأطراف الى فتح مواضع البراغي، الى تمهيد النتوء. كنا عشرين عاملاً نعمل معاً، ونستوي في الخبرة، على رغم تفاوت الآلات ومراتبها أو مراتب مقتضياتها، من التعب والمهارة والنظافة. ومراتب الآلات تنتقل عدواها الى مراتب العاملين.
وأتاحت الملاحظة الانتباه الى أن العمال يصوغون قواعد العمل مجدداً، ويغيِّرونها على نحو يمكِّنهم من إدارة الورشة، وإبراز مهاراتهم، وعقلنة عملهم. ويطاول صوغ القواعد مَرافق الشغل كلها، من اختيار المرافق والمحال الى الايقاع اليومي وإدارة الإنتاج وربط الأفعال ببعضها بعضاً فما الباعث على إدارة صوغ القواعد على نحو يخالف سُنَنَ الإدارة؟ معنى تغيير القواعد هو تقريبها ما أمكن من الانتاج ومقتضياته الفعلية، ومزاولة سيطرة تقنية يتجاهلها التنظيم الرسمي. والحق أن نقد التنظيم التايلوري لم يترك باباً إلا وأحصاه، والمعنى المتحصل من مجمل النقد، هو أن العمال يريدون إثبات امتلاكهم عقلانية الانتاج المجدية، على خلاف إنكار امتلاكهم لها، وهو إنكار تضمره مراتب العمل العليا والمتنفذة صراحة أو تورية.
فهل لا تزال نتائج الاستقصاء، وهو يعود الى العصر الصناعي وطرائقه، ساريةً في مجتمع تغلب الخدمات على مرافق عمله، وتسوده تكنولوجيا المعلومات والاتصال الالكترونية والرقمية؟
تدل أعمال استقصائية جديدة على أن مسلك التملك لا يزال على حاله عموماً. ففي الصناعة والخدمات، وعلاقات العاملين بالمراتب العليا، والشكوك المتبادلة التي تطبعها، والخشية من عدم تنفيذ العاملين ما يُطلب إليهم تنفيذه، لا تزال الامور على حالها. وسند الشكوك هو نظرة مبتسرة الى طبيعة البشر والعمل. وذهب دوغلاس ماكغريغور في ستينات القرن العشرين، الى أن نظام التأهيل في الشركات الصناعية والمكاتب الاميركية ينهض على ثلاثة افتراضات: الفرد المتوسط ينزع نزوعاً غريزياً الى رفض العمل؛ ينبغي إكراه الافراد على العمل وتهديدهم بالقصاص إذا لم يلتزموا التعليمات؛ الفرد المتوسط يؤْثِر التوجيه والقيادة على المسؤولية والقيام بها.
ويردّ ماكغريغور على الافتراضات المتعسفة والمتسرعة بملاحظات يمكن التحقق منها من غير جهد، فبذل الجهد الجسماني والذهني في العمل لا يختلف عنه في اللعب والإخلاد الى الراحة. وعلى رغم انقضاء 50 عاماً على البداهات هذه، تركن دراسات كثيرة الى صورة متعسفة وفقيرة تخلِّف كوارث في أحيان كثيرة.
فيليب بيرنو - مركز ماكس فيبر للبحوث في جامعة ليون الثانية، عن «إسبري» الفرنسية، 10/2011
إعداد منال نحاس- الحياة
إضافة تعليق جديد