الماركسية والدين: اعمال ندوة حوارية لتجمع اليسارالماركسي في سورية
نظمت هذه الندوة الحوارية في مدينة حمص بتاريخ 3/10/2007 تحت عنوان "الماركسية والدين" وقد دعي إليها كل من الأستاذ نجيب رومية والدكتور نايف سلوم والأستاذ منصور أتاسي ، وعدد من الشابات والشبان المهتمين بالشأن الفكري والسياسي وقد جرت أعمالها كالتالي :
الأستاذ منصور أتاسي : إن فكرة الحوار بين اثنين من المهتمين بالشأن الماركسي النظري أمام مجموعة من الشابات و الشباب المهتمين والمتابعين لأنشطة كهذه ولدت حين جرى حوار بين الأستاذ رومية والدكتور سلوم تبين من خلال تكراره للمرة الثانية أنه مفيد وأساسي ويمس قضايا حاسمة على مستوى الفهم الماركسي والطريقة الماركسية في التعاطي مع مسائل كبيرة وحساسة كمسألة الدين، و المحاور هي:
1- مقاربة الماركسية الكلاسيكية للدين – مقاربة ماركس
2- عالم الدين
3- نقد الدين كمدخل لكل نقد ؛ نقد الدولة ، نقد المجتمع المدني البورجوازي
4- تلقي مقاربة ماركس للدين بشكل قاصر عند مراجعي الماركسية الأوربيين وفي فكر الثورات الاشتراكية
5- الاستعارة من عالم الدين لفهم عالم السلع (البضائع) ، ولفهم استقلال المستوى الأيديولوجي في البنية الاجتماعية
6- الماركسية والإلحاد : التحرر السياسي، والتحرر الإنساني .
د. نايف: لقد وضعنا المحاور وهي خطوط عريضة: كيف قارب ماركس مسألة الدين، عالم الدين ، نقد الدين بالنسبة للفكر العلماني ، مسألة تلقي فهم ماركس للدين من قبل المراجعين الأوربيين والماركسيين وفي الثورات الاشتراكية إضافة إلى الأحزاب الشيوعية العربية. كيف تناولت الحركات الشيوعية العربية مسألة الدين بشكل بعيد كل البعد عن مقاربة ماركس ، أو تهربت من الأمر وقفزت من فوقه .
بالنسبة لعلاقة الماركسية بالإلحاد أقول : الماركسية ليست فلسفة في الإلحاد ولكنها نظرية في الصراع الاجتماعي الطبقي ونقد اجتماعي جذري . والآن دعونا نبدأ حوارنا
أ. نجيب: الدين ظاهرة اجتماعية تخضع لناموس التطور . والتوحيد الذي نراه في الأديان الثلاثة الكبرى قد مر بأطوار عدة ، وتخلص من جهالات كثيرة قبل وصوله إلى ما هو عليه في اليهودية والمسيحية والإسلام . ونشير إلى أن التوحيد ليس موجوداً عند البوذيين ؛ إنهم لا يؤمنون بإله واحد خالق للكون .الهندوس لا يؤمنون بوجود أنبياء . إذن ، فلكل بيئة دينها ، يتكيف معها ويسير وفق تطورها. ولا فصل بين دين ووسطه بحال. لا نريد الخوض في المذاهب والملل وما تفرع عنها ، إنما نود أن نضيء ولو بسرعة قضية التوحيد (الإيمان بإله واحد).
نشأ التوحيد عند الساميين (العرب واليهود والهكسوس) دون باقي الأمم والشعوب والأقوام ، وليس مرد ذلك إلى تفوق الساميين عقلاً على باقي الأمم التي عاشت في عهود الوثنية كاليونان والرومان ، وبعض الآسيويين ذوي الحضارة العريقة . إنما يرجع ذلك إلى أن أمماً مثل اليونان والرومان والمصريين القدماء قد عرفوا فن العمارة والنحت واستخدام الأحجار و المرو والآجر في بناء القصور والمعابد التي تضم الأصنام والأنصاب متقنة الصنع تروق النظر ، وفيها آثار دينية تتناقلها الأجيال ، وطبقة ترعى هذه التقاليد ، ومن مصلحتها المحافظة على هذا النظام الديني ، وهذا بخلاف ما عند البدو الرحل من عرب وإسرائيليين وهكسوس الذين ما عرفوا فن البناء ؛ وبطبيعة الحال ما عرفوا فن نحت التماثيل وصنع المعابد ليكون لهم أصنام مهيبة تستهوي النفوس وتسترعي الاهتمام. ووفق ناموس النشوء والارتقاء الذي يقضي ببقاء الأنسب للبيئة والوسط وزوال ما لا يتناسب مع هذا الوسط ، كانت الأصنام والمعابد لا تناسب بيئة هؤلاء الأقوام . فبسبب من إقامتهم في بيوت من الشعر وارتحالهم الدائم طلباً للغيث والكلأ كانوا يصنعون أصنامهم من أحط المواد ، فكانت ضئيلة ولا هيبة لها ، ينطلقون بها من مكان إلى آخر . لذلك وجدوا أن الأنسب لهم الإيمان بإله واحد موجود في كل مكان ، فيستغنون بذلك عن حمل أصنامهم من مكان إلى آخر .. بعد أن خلت حواسهم وأذهانهم من استرقاق عادات العبادة التي عرفتها الأقوام العريقة في الحضارة . بمعنى لم يكن لهم من شاهد الحسّ ما يتغلبون به على العقل ، فظل العقل لذلك حراً منطلقاً ساعد على الاهتداء إلى التوحيد . فالتوحيد إذن دين أمم بدوية لا تستقر بمكان واحد ولا معرفة لديها بفنون العمارة والبناء والنحت . أما الحديث المستفيض عن ديانات الشعوب جميعها وتنوعاتها فله مقام آخر .لكن ما نريد إثباته هنا أن الإنسان هو الذي يصنع الدين ، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان.[1]
إذاً ، طبيعة الحياة الاجتماعية لعدد من الشعوب قضت أن تكون أنماط من العبادات المختلفة: فالأمم العريقة حضارياً كاليونان والرومان والفرس لم تهتد إلى التوحيد بينما الأمم البدوية المتنقلة المرتحلة اهتدت ، وهذا متعلق بطبيعة الحياة وبنمط الاقتصاد السائد في هذا المجتمع أو ذاك .
د. نايف : دعنا نقف عند مسألتين : مسألة ظهور الأديان ، ومسألة الألوهة عند الإنسان بشكل عام ؛ ظهور الأديان بأشكالها الحسية والتجريدية : الأديان الوثنية؛ الحسية، التعددية عند اليونان والرومان، والتوحيدية بشكل أو بآخر. وأيضاً مسألة "غياب الوحي" في الديانات البوذية و الزارادشتية.
هناك مسألة طرحها الأستاذ نجيب فيها التباس: وهي مسألة التوحيد وعلاقتها بعدم الاستقرار الحضاري، وبالصحراء . أعتقد أنه حتى في الصحراء وعند عرب الحجاز كان هناك ما يشبه المعبد أو تحت- معبد حيث جمعت الآلهة – الأصنام في الكعبة أو البيت العتيق. حيث كان هناك استقرار عبادات ، وكان لكل قبيلة "إلهها- صنمها" داخل هذا البيت ، وكانت تنظم مواسم سنوية للحج والتجارة و التثاقف؛ حيث تنظم أسواق لذلك مثل سوق عكاظ الشهير.
مسألة أخرى مسألة الألوهة؛ مسألة ظهور النوع البشري، فقد أشارت إليها أساطير السقوط أو أسطورة السقوط . المدقق في هذه الأسطورة يرى قضية أساسية : يبدو أن ظهور النوع الإنساني ؛ انسلاخ الوعي وظهور النوع كنوع يتميز بالإدراك والوعي وبالنفس التي هي شفافة نيرة ، تلك التي خلقت مسافة بين هذا الكائن النوعي وباقي الموجودات الأخرى . كان هذا غاية في القسوة وغاية في الصعوبة؛ ظلال غامضة لفجر الوعي البشري هو ما راحت الأساطير و الأديان اللاحقة تتخيله وتحاول أن ترسم له صورة تقريبية . كائن نوعي مرمي في البرية ، غريب في هذا الوجود ، لديه مخاوف هائلة . كان لابد للأساطير ومن ثم الأديان أن تتصور هذا المشهد الأولي الجليل؛ هذه البداية المهيبة، حيث قدمت أساطير السقوط ولاحقاً قدمت التوراة قصة التكوين والسقوط وأخذت الكثير عن الأساطير السابقة.
مسألة أخرى هي مسألة التوحيد أو ظهور التوحيد في شبه جزيرة العرب. يتوجب هنا معالجة الأمر من ناحية التحضر والاستقرار وظهور الملكية الخاصة . ففي رسالة من ماركس إلى انجلز في 2 حزيران 1853 كتب يقول: "كان بيرنيه يعتبر بحق أن الشكل الأساسي لجميع الظواهر في الشرق... هو انعدام الملكية الخاصة للأرض . هذا هو المفتاح الحقيقي ، حتى للسماء الشرقية.." ويرد انجلز على هذا برسالة بتاريخ 6 حزيران 1853 يقول فيها: "إن انعدام ملكية الأرض هو في الحقيقة مفتاح الشرق بمجموعه . سواء بالنسبة إلى تاريخه السياسي أم تاريخه الديني . لكن كيف حدث أن الشرقيين لم يتوصلوا إلى الملكية العقارية ، حتى في شكلها الإقطاعي؟ أظن أن ذلك يعود بصورة رئيسية إلى المناخ" [العامل الجغرافي]
إن سر ديانات الشرق، سر التوحيد في الشرق (اليمن والحجاز وفلسطين ومصر- دلتا النيل) هي في هذا الغياب للملكية العقارية للأرض: مساحات صحراوية هائلة مع وضع طبيعي جغرافي قاس ، لا أحد يملك إلا الملك (مالك الملك) .
أعترض أيضاً على كلمة بني إسرائيل. ذلك أن التراث العبري هو جزء من التراث العربي الجنوبي في اليمن.فالكثير من الأسماء التي وردت في القصص التوراتي هي في الأصل عربية ، وكثير من القبائل اليهودية هي قبائل عربية اعتنقت اليهودية نتيجة استقرارها الزراعي وتميزها عن محيطها البدوي القائم على الترحال.
يقول انجلز: "إن النسب المعطى في التكوين ، الذي يزعم أنه نسب نوح وإبراهيم ، الخ.. هو تعداد مضبوط للقبائل البدوية في ذلك الحين ، وفقاً لقرابتها اللغوية الكبرى أو الصغرى.. وكما نعلم فإن القبائل البدوية سمت نفسها على الدوام حتى الوقت الحاضر بني صالد، بني يوسف، وهكذا دواليك. يعني أبناء فلان وفلان. وإن هذه التسمية ، التي تنبثق عن أسلوب الوجود الرعوي القديم ، تؤدي في آخر المطاف إلى هذا النوع من النسب .وإن تعداد التكوين ليؤكد أكثر أو اقل من قبل الجغرافيين القدامى ، كما أن الرحالة المحدثين يثبتون أن الأسماء القديمة ، مع التغيرات المترتبة على اللهجات المحلية ، لا تبرح موجودة في غالبيتها العظمى. ومهما يكن من شيء ، فإنه يترتب على ذلك أن اليهود أنفسهم لم يكونوا أكثر من قبيلة بدوية صغيرة ، مثل الباقين تماماً ، جعلتها ظروفها المحلية وزراعتها ، وقس على ذلك، في تعارض مع الآخرين " [2]
أريد هنا التركيز على مسألتين: مسألة تطور الألوهة: مثل تطور الألوهة مثل تطور اللغة عند البشر ؛ في البداية وعند فجر اللغة يشير الإنسان إلى الأشياء الحسية دون أن يسميها لأنه لا يمتلك تلك الأسماء ولا تلك اللغة. كذلك الأمر في الدراما الإلهية عند الإنسان ؛ حيث التقدم من الديانات الحسية إلى الديانات الأكثر تجريداً وآخرها الديانات التوحيدية الكبرى. فعوضاً عن حمل الأشياء الحسية حمل الإنسان أسماءها (مفاهيمها) ، والدين تطور في نفس الاتجاه : من الديانات الحسية الوثنية المتعددة (عبادة الطبيعة أو الحيوانات ، عبادة الأموات ، الخ..) إلى الديانات الأكثر تجريداً (التوحيد)
الذي ساعد على تطور هذه المسألة عند العرب (عرب الحجاز وعرب اليمن) واليهود والمصريين هو غياب الملكية الخاصة للأرض ، حيث الملك هو المالك الوحيد (مالك الملك).
أ. نجيب: لست هنا بصدد لا تعريب بني إسرائيل ولا منحهم الرؤية العربية ، أنا هنا أمام تاريخ فيه إسرائيليون وهم من الأقوام السامية و هناك الهكسوس وهناك العرب . هذه حقائق من التاريخ.
الانتقال من الحسي إلى المجرد هذا منطقي وأمر طبيعي . لقد ثبت في مطلع الحديث أن الأديان تخضع لناموس النشوء والتطور كأية ظاهرة اجتماعية وتاريخية وأدبية في الكون. تصور كيف نشأ التوحيد؛ تصور! أنا أتحدث عن الحضارة اليونانية والرومانية كحضارات عريقة، وتحدثت عن أقوام ترتحل من مكان إلى آخر بحكم ظروف متنوعة -لا سبيل إلى ذكرها الآن- إلى أن تصل إلى هذا النوع من الحضارة ؛ إلى فن البناء والعمارة والعمران؛ إلى نحت التماثيل والأصنام . آيات من الفن الرائع في أثينا، حتى الآن!.
الانتقال من الحسي إلى المجرد : هذا أمر منطقي. ما أردت أن أقول: اكتشاف التوحيد من الساميين لا يعني تفوقاً عقلياً من الساميين على الأقوام الأخرى كالرومان واليونان والفرس ، الخ..هذا ما أردت أن أثبته. إنما هناك ظرف اجتماعي- اقتصادي تاريخي مكّن الساميين من الوصول إلى التوحيد. اللغة تطوير في هذا المجال : حين نفتح القاموس ونقرأ: نفس، و نقرأ: روح فنرى أن النفس مشتقة من النفَس، والنفَس الذي يدخل الصدر ويخرج . والروح مشتقة من الريح. المؤدى واحد. فحين أراد الإنسان أن يضع حداً فاصلاً بين الموت والحياة ، لم ير إلاّ هذه النظرة في البداية : هذا نَفَس حين ينقطع تذهب الحياة. يراد من هذا الكلام المقولة: هذا الاعتقاد الإنساني القديم الذي مر بأطوار متنوعة ليس من العلم في شيء ، تجاوزه العلم. وقال العلم الكلمة في هذا الشأن . هذا ما نريد التأكيد عليه الآن كي نلغي أو نبطل من الذاكرة سلفاً بعض الاعتقادات وبعض الأوهام . يعني هناك فارق بين واقع موضوعي مادي أمامي، موجود خارج ذاتي، وبمعزل عن ذاتي، ولا يحتاج لذاتي كي ينوجد، وبين أن أنتج وهماً متخيلاً متصوراً موازياً لهذا الواقع وأدعي أنه هو الواقع الموجود. الحلم شيء والواقع شيء. هذا الوهم الإنساني القديم قبل أن يبلغ العقل الإنساني سن الرشد . هذا الوهم عاش قروناً في عقل البشرية . الفكر المادي قبل ماركس؛ مادية القرن الثامن عشر في فرنسا قاربت هذا الأمر ، الماديون الإنكليز قاربوا هذا الأمر ومنهم هوبز وهو شهير في هذا المجال. الثورة الفرنسية ركزت على مادية البريطانيين وثمّن ماركس تثميناً عالياً ماديتهم . الفكر المادي هو الذي قال لنا ليس هناك قوة خارقة يستحيل إدراكها. جميل صدقي الزهاوي، أذكر نصاً شعرياً بديعاً لكن يحمل فلسفة، يخاطب به الإنسان:
لمّا جهلت من الطبيعة أمرها وأقمت نفسك في مقام معللِ
أوجدت رباً تبتغي حلاً به للمشكلات فكان أكبر مُشكلِ.
حين أقول مثلاً ، هذا من صنع الله ! هذا ليس تفسيراً لظاهرة ، إنما خروج من التفسير إلى شيء آخر . الأخطر في هذا الكلام ؛ هذا من صنع الله أن ننصرف كلياً عن البحث العلمي . المادية أوقفت هذا المد في العصر الحديث وقالت لا: الإنسان يجب أن يقف على قدميه لا أن يقف على رأسه . هذا ليس إلحاداً بالمعنى الذي استخدمه الدين؛ كفراً زندقة، هرطقة. هذه المفردات مقززة تاريخناً، وإرثنا القديم استخدمها بجدية في سبيل أن يحكم بالإعدام على كل رأي حر ، وعلى كل فكر نظري جديد، وعلى كل فكر مادي .
دكتور – أود القول – هذا مرتبط عبر التاريخ بنظام قائم في هذا المجتمع أو في ذاك ، وهذه السلطة يعنيها استمرار الطقوس والأديان والعبادات ، بسلطة تحكم مجتمع ، تحكم بلداً . لأن السلطة السياسية مرتبطة حكماً بمؤسسة دينية أو كنسية ، والمصالح مشتركة ومتبادلة .
د. نايف: هنا ذكرت ظهور العلم. بالطبع الجهل منبع لخرافات كثيرة . سوف نعرّج على مفهوم العلم بالمعنى الماركسي ، كيف تعاطى العلم الماركسي مع الظاهرة الدينية ؛ مع الدين ؟ وماركس كما هو معروف مؤسس هذا العلم بالمعنى الفلسفي وبالمعنى التاريخي ؛ بالمعنى الفلسفي مؤسس لعلم الديالكتيك أو الديالكتيك المادي ، وبالمعنى التاريخي مؤسس للفهم المادي للتاريخ؛ علم التاريخ : انتقال المجتمعات من تشكيلة اجتماعية اقتصادية تاريخية معينة إلى أخرى.
يهمنا هنا مناقشة الأصدقاء الشباب بفكرة العلم التاريخي وعلم الديالكتيك . لكن هناك نقطة تتوجب الإشارة إليها : الدين مثله مثل أي مُنتَج بشري ، يتحول من وسيلة إلى عقبة في سياق التطور التاريخي والإنساني . نضرب مثلاً : المنزل الذي تبنيه ليحميك من النار والرياح هو الذي يعيقك فيما لو اندلع حريق داخله. دائماً نشير إلى عبارة : كيف تنقلب الوسيلة عقبة أو العكس وذلك حسب تغير الشروط ؛ شروط الظاهرة أو الواقعة، هيغل يشير إلى ذلك.
الدين الذي أنتجه الإنسان في ظروف معينة ليخدم الإنسان ويساعده ، وليخفف من مخاوفه وليعينه على تلمس بعض الظواهر الغامضة ، الدين هذا تحول مع ظهور العلم والتفكير العلمي إلى عقبة أمام الإنسان ، عقبة بالمعنى المعرفي ، وعقبة أمام التحرر السياسي عندما تحول في ظروف معينة إلى مِصدّ أمام تشكيل وعي سياسي حق ، كما استخدم لقمع تمرد ثوري أو تفكير حر أو مستقل. لكن الدين لعب دوراً تحررياً وتقدمياً بالمعنى التاريخي عند ظهوره ، مثال ذلك الانقلاب المحمدي؛ لقد قُمع أنصار محمد وطوردوا وعذبوا وتم نفيهم وهاجروا . وأعدم عيسى في سبيل دعوته الخ.. لقد نقل الانقلاب المحمدي عرب الحجاز من نظام القبيلة إلى مجتمع الدولة وهذا تقدم تاريخي. لقد هاجم النبي محمد ديانات الأقدمين وإصرار قريش على عبادة وديانة قديمة . لكن عندما يتحول الدين إلى مظاهر شكلانية وفكر تبريري لكل عسف وظلم، لكل استغلال ، عندما يتحول إلى قشور ميتة وتذهب ريحه المتمردة ، عندها يتحول من وسيلة لتحرر البشرية إلى عقبة أمام هذا التحرر البشري والسياسي حتى.
نسأل الأستاذ نجيب: كيف تقارب مفهوم العلم في الماركسية؟
دائماً ألح على كلمة علوم أكثر مما أختار علم ، أتحفظ على صيغة المفرد من علوم؛ على علم. لكن ما أريد قوله أنه من سوء حظ الماركسية في الوطن العربي أنها وجدت نفسها مرغمة على التصدي لتيارات أيديولوجية مذهبية عشائرية في هذا الوطن ، هذه التيارات مغرقة في بدائيتها وجهالتها وهذا التقديم يعزز ما نقول: لكن البورجوازيات العربية ترى من واجبها التمسك بالأيديولوجيا الدينية وباقي الأيديولوجيات المهترئة بعد أن أفلست هذه البورجوازيات على المستوى الأيديولوجي خاصة لأنها تحن إلى ماضيها الطبقي ، وهي ترى أن زوالها مرتسم في أفق الصيرورة التاريخية . وهي مقززة ومسخ بكل أشكالها وتريد أن تعاكس اتجاه التاريخ وحركته وتطوره فتبدو هزيلة إلى هذا الحد أو ذاك، لذلك لديها هذا الحنين الدائم إلى ماض تريد أن تحييه ولا يمكن أن يكون قابلاً للحياة.
فيما يخص مفهوم العلم أقول: العلوم تنبني على التجارب وتنبني على الاستقراءات . ماركس رأى في العلم حركة ذهنية عقلية معرفية مرتبطة بواقع ، وهذه العلاقة الجدلية بين الإنسان وبين الواقع هي التي تنتج المعرفة ، وكل ما نخرجه من الذهن ولا يمر عبر الواقع ليس بشيء . لذلك ماركس أفاد من جهود الأولين والآخرين وربط العلم بالتجربة ، وثمن عالياً علوم البريطانيين . القراءة الحسية تعطي المعرفة ، العلوم كثيرة و كثيرة جداً؛ العلوم هي هذه المعرفة المستقاة من الواقع الحسي لأن حواس الإنسان هي النوافذ الوحيدة التي يطل من خلالها على هذا الوجود . وهذا الوجود يرتسم عبر الحواس في الدماغ ، والدماغ هو عضو التفكير حسب التعريف الماركسي- اللينيني. يرتسم الواقع في الدماغ الإنساني فينتج معرفة. فالعلم لا يمكن أن نقول عنه علماً ما لم يرتبط بواقع حسي عياني مادي . كل ما يخرج عن نطاق الحواس يتولد فيما وراء الحواس تصورات ، هذه الحواس تمتص الوجود الخارجي تعكسه في الدماغ فتعطيك معرفة نظرية طبعاً ، هذه المعرفة تتحول إلى تصورات . هنا تتوجب الإشارة إلى العلاقة بين الحسي والمجرد.
ترى الماركسية أن هذا الواقع واقع موضوعي – كما ذكرت- وأنه موجود بمعزل عن الإنسان . كل ما هو موجود خارج الذات الإنساني ولا يحتاج إلى الإنسان كي ينوجد هو واقع موضوعي . وهنا يكمن الأمر الأساس؛ في التفكير العلمي المادي الماركسي تحدثنا فيما مضى عن البريطانيين كيف أنتجوا مادية حديثة ، وكيف تلقفها الفرنسيون ، وحسب قول ماركس في "الأسرة المقدسة": "الفرنسيون أعطوا المادية الإنكليزية الروح واللحم والدم والفصاحة . وهبوها المزاج الذي تفتقده والأناقة والرشاقة؛ مدَّنوها"
هذه المادية الحديثة المتسقة هي التي أصبحت على يد ماركس أرفع مادية عرفها التاريخ ، هذه المادية التي استقاها أصلاً من مادية القرن الثامن عشر الفرنسية .
د. نايف: لدي تعليقان، الأول: حتى يكون الحضور في صورة المسألة: الأول، تركيز الأستاذ نجيب على تاريخ المادية ؛ للمادية تاريخ . كثير من الكتب المدرسية في الفلسفة (كتاب الأول الثانوي) تعرّف المذهب المادي وفق معطيات مادية القرن الثامن عشر ، تلك المادية التي قامت أصلاً على مكتشفات نيوتن في علم الميكانيكا ، بقول آخر هي لا تعرّف المادية وفق تعبيراتها الأحدث والأكثر تطوراً : مادية فيورباخ أو مادية ماركس. بل تعرّف المادية عبر أكثر أشكالها فظاظة وابتذالاً وميكانيكية (المادية الفظة الميكانيكية المبتذلة في القرن الثامن عشر؛ دولباخ، ديدرو و هلفسيوس). حسب هذه المادية تظهر النفس وكأنها آلة ميكانيكية ، حيث لا تستطيع هذه المادية فهم المستوى النفسي أو الفكري للحركة كأرقى شكل من أشكال الحركة في مقابل المستوى الميكانيكي، ولا فهم ديالكتيك الروح/ العقل- النفس.
الثاني ، أن الماركسية حددت علماً واحداً هو علم التاريخ : كل شيء؛ كل ظاهرة لها تاريخ . الماركسية نفسها لها تاريخ ، الديالكتيك له تاريخ وكذلك المادية كما رأينا لها تاريخ حيث تبدأ مع التفلسف اليوناني عبر المادية الحسية المباشرة البسيطة (الهيولية) ثم تتطور عبر مادية القرن الثامن عشر الفرنسية والإنكليزية (المادية الميكانيكية) ومن ثم مادية فيورباخ وأخيراً مادية ماركس أو الديالكتيك المادي [بالمقابل هناك الديالكتيك المثالي عند هيغل]
التركيز على تاريخ المادية أمر أساسي حتى لا يحصل التباس ، حتى لا يرجع الفسيح المتطور الراقي إلى الضيق الفظ المتأخر. الفرنسيون مدّنوها ، هذّبوها ، هذه مسألة أولى.
المسألة الثانية : هناك نوعان من التاريخ: تاريخ الطبيعة (العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء، الخ.. ) من جهة وتاريخ البشر من الجهة الثانية: ولا يمكن فصل تاريخ الطبيعة عن تاريخ البشر ما وُجد البشر. الديالكتيك أو منهج العلم في الماركسية وعند هيغل أيضا. يأتي العلم الفلسفي ويقرأ نتائج العلوم ؛ قراءة على القراءة . هناك نتاج علمي حول الخلية الحية ، من ثم تقرأ نتائج هذا العلم في حقله ؛ قراءة على القراءة ، بالنسبة إلى المجتمع تتم دراسة تطور قوى الإنتاج في مرحلة معينة وعلاقة ذلك بأشكال الملكية السائدة أو المسيطرة ، ودراسة أشكال النضالات الاجتماعية.
موضوع علم الطبيعة هو الطبيعة (الفيزيائية أو الكيميائية ، الخ..) . في العلوم الإنسانية ليست الطبيعة المباشرة هي الموضوع؛ موضوع العلم ، هو الخطاب الإنساني كأثر صوتي أو مكتوب. الموضوع هنا نص أو أثر يصنعه الإنسان نفسه يدل على واقعة أو ظاهرة ، هذا ما يميز علوم الإنسان عن علوم الطبيعة. لهذا السبب اهتم ماركس بأسلوب الخطاب ، استعاراته واستراتيجيته؛ وبأسلوب العرض بعد دراسة الموضوع دراسة مفصلة؛ أي بعد انجاز البحث .
نتيجة خطورة موضوع علوم الإنسان التي هي نصوص تدل على واقع مادي لم يأخذ ماركس مثالاً اعتباطياً . مثلاً عند الحديث عن الانجذاب ، وهذا أحد انتقاداته للدين، يؤخذ الانجذاب العاطفي والانجذاب المغناطيسي ، لتمثيل الانجذاب ، هذا فيه تشويش مثال من علم الفيزياء وآخر من عالم الحب ؛ عالمين مختلفين ولكل قانونه في حقله وله خصوصية . بالتالي فإن جمعهما للتدليل على الانجذاب فيه إرباك ويحدث تشويش . لذلك عند التمثيل أو الاستعارة لابد من أخذ مثال محدد مناسب أو استعارة فعالة ؛ استعارة تبين الأمر وتشرحه وتبينه ، وإلا فهي تغمض الأمر . علينا الاعتناء بإستراتيجية كهذه في قولنا . عندما استعار ماركس من عالم الدين كان الهدف الإبانة والتوضيح . حول منهج العلم ؛ علم الديالكتيك : كيف أعرف ؟ هل أستطيع أن اعرف حقيقة الظواهر ؟ وإذا عرفت كيف أبني إستراتيجية القول والخطاب . العلم الوحيد علم التاريخ؛ هذا معناه أن كل ظاهرة هي تاريخية وكل علم هو تاريخي .
أستاذ نجيب: بخصوص اعتراضك على لفظة منهج ، ماذا تقول؟
بما يخص كلمة منهج تستخدم الكلمة كثيراً . المنهج هو طريق للوصول إلى الحقيقة ؛ أي هو الأدوات المعرفية التي تمكن من الوصول إلى الحقيقة . الأدوات هي السبيل ، أدوات معرفية نظرية ، هذه الأدوات المعرفية هي المفاتيح التي نستطيع من خلالها أن نفضّ ألغاز التاريخ، وألغاز المجتمع . فهم ماركس علم التاريخ ليس كتأمل بل عبر القراءة الناقدة . ركنين أساسين من أركان علم التاريخ الماركسي وهما علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج ، هذا ما جعل من الماركسية علماً . هذه العلاقات الجدلية بين قوى الإنتاج من جهة وعلاقات الإنتاج من الجهة الأخرى ، و التراكم الكمي الذي يؤدي إلى تحول نوعي أو كيفي حين تبلغ قوى الإنتاج مستوى متطور تؤدي إلى كسر إطار علاقات الإنتاج القائمة أو السائدة، تحطم بنية الإنتاج القائمة وتنقلنا إلى طور جديد وبنية جديدة .
التناقض أسّ المعرفة في الجدل المادي؛ هو البؤرة الأساس التي انطلاقاً منها تعالج جميع القضايا . لقد نفى ماركس الاستمرارية التاريخية ، نفى أن يكون الحاضر امتداد للماضي .نفى ماركس هيغل وتجاوزه ، وهنا لي ملاحظة على الدكتور نايف: الدكتور يذكر هيغل مراراً ، الهيغلية هي المدرسة الفلسفية الأم لماركس ، لكن ماركس تجاوزها عبر المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية . إذا ما نزعنا عن الهيغلية القشرة الصوفية يتكشف الجانب العقلاني فيها. لا شك هيغل مبدع الجدل ، لكن الجدل الهيغلي شيء والجدل الماركسي شيء آخر . ماركس أخذ روح الجدل ، ربط الإنسان بواقعه المادي ، هيغل وصل إلى المطلق؛ تفلسف كثيراً في الفكرة المطلقة . ماركس ربط الإنسان بوجوده المادي/ الحياتي فقط، وأسقط المطلق . المطلق الوحيد عند ماركس هو قانون التغير والتحول .
د.نايف: تعقيب سريع على كلمة منهج: منهج، طريق أو طريقة، الخ.. وهو ترجمة للكلمة الإنكليزية method. ويمكن أن نستخدم كلمة مذهب وهو مشتق من الذهاب إلى الماء، الذهاب إلى النبع ؛ إلى أصل التفلسف المقصود . أن تذهب إلى ماركس ؛ إلى ديالكتيك ماركس، أو تذهب إلى ديالكتيك هيغل، الخ..
إذاً طريق؛ طريقة أو منهج هذا صحيح ويمكن أن نستخدم كلمة مذهب doctrine.
أريد هنا أن أعطي مثالاً عن التراكم الكمي في قوى الإنتاج وما يستدعي ذلك من الدفع باتجاه انقلاب كيفي في العلاقات الاجتماعية والسياسية. نعطي الانقلاب المحمدي ، إن تزايد الثروة المتراكمة لدى تجار قريش دفعهم للاعتماد المتزايد على العبيد لحماية القوافل التجارية وطريقها. تزايد العبيد من حماة القوافل القرشية معناه أن قيام الدولة في شبه جزيرة العرب بات من أمر الراهن . محمد ومشروعه لبناء دولة العرب كان يعمل من الجهة الثانية ، لكنه يعمل ديالكتيكياً (اجتماعياً-سياسياً) بعكس جهد تجار قريش الميكانيكي الاقتصادوي . كان محمد قد أسس "الأيديولوجيا" المهيمنة و"الحزب" الضروريين لانجاز الانقلاب التاريخي المنشود ، للانتقال بالعرب من نظام القبيلة إلى نظام الدولة . أسياد قريش وتجارها الكبار لم يكن لديهم الوعي التاريخي بهذه المهمة ، محمد كان لديه هذا الوعي. وهذا ما يفسر رده على أسياد قريش في معرض قدومهم إلى عمه أبو طالب وشكواهم من أن محمد يدمر آلهتهم ، وعبارة محمد الشهيرة : والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهر الله أمره. أسياد قريش لا يعرفون أن التاريخ يوضّب أشياءه : القوافل بحاجة إلى جيش، الثروة تتراكم ، ولكن بناء الدولة لا يكون بالنمو الميكانيكي الاقتصادوي الكمي الذي تصوره القرشيون التجار ، الدولة بحاجة إلى أيديولوجيا قائدة ومهيمنة وإلى تنظيم ؛ إلى حزب يقوم بالانقلاب التاريخي والقطع السياسي ، وهذا ما أنجزه محمد وأنصاره. ومثال الثورتين الروسية والصينية دليل إضافي إلى الحاجة إلى الأيديولوجية المهيمنة القائدة وإلى الحزب لإنجاز الانقلاب التاريخي ومعه القطع السياسي المنشود.
أ. نجيب: جداً مهم ربط المعرفة النظرية بالممارسة السياسية ، وهذه الأخيرة هي الحقل الطبيعي للممارسة النظرية . نحن لا نطرح فكراً للترف ولا للمباراة الثقافية . على هذا الفكر النظري أن يعالج قضايا الإنسان ومشاكله ، الإنسان هو المبتدأ وهو الخبر . كيف نحرر الإنسان من الذل ومن العبودية ومن الاغتراب ومن الظلم، الخ.. كيف نجعل من الإنسان حراً بعيداً عن أية آلة قمع . وهنا يحضرني أن الذي كفل للديانات هذه الديمومة وللفكر الديني هذه السطوة في كل أنحاء العالم هو السلطات الحاكمة . النظام العالمي هو نظام إمبريالي يدخل العالم في شبكة هائلة من العلاقات العالمية الرأسمالية (هو نظام كوني) . في يوم ما كانت السمة الطاغية على العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ، كان هذا هو التصور ، وهذا هو الواقع . التجربة لم توفق ، دخل العالم في شبكة من العلاقات الرأسمالية العليا. النظام الاحتكاري الرأسمالي العالمي أدخل البلدان الآسيوية ومنها البلدان العربية في هذه الشبكة وأسس سلطات بورجوازية تابعة حافظت على القدسي وربطت مصالحها بالمعبد وبالمقدس . ربطت المعبد بالسلطة السياسية ، ربطت رجال الدين بمصالحها السياسية فصارت هذه المصالح متبادلة بين السلطة السياسية والسلطات الكهنوتية اليهودية والمسيحية والإسلامية . هذه العلاقة المادية القائمة مابين الطرفين ؛ كل يسوّق للطرف الآخر . مجتمعاتنا مجتمعات غيبية تؤمن بالأوهام وقراءة الفأل أكثر من إيمانها بالوقائع الحسية والعيانية ، هذا ما حافظت عليه السلطات البورجوازية الحاكمة ، من له مصلحة ببقاء المعبد. إن الوقف الديني يقف كالخثرة في الدورة الدموية للاقتصاد؛ هذه الطوابير والقوافل والجيوش من رجال الدين وفي كل المجتمعات ليست منتجة ، نصبت من نفسها وسيطة بين الإنسان و الخالق، أخذت المكاسب والامتيازات . هذه مسائل يجب أن نتأملها وأن نعيد النظر بها. الماركسية صفّت حسابها مرة واحدة مع كل هذا الفكر الغيبي ؛ قلت قبل قليل : كان الإنسان يقف على رأسه وأصبح يقف على قدميه.
الأستاذ منصور : ما زلتم في البداية ، في المقدمات ولم تصلوا إلى نتائج.
د. نايف : أريد أن أعقب على كلام الأستاذ نجيب: يجب أن نلاحظ أنه حدث في سوريا أواخر سبعينيات القرن العشرين أن واجهت السلطة البورجوازية "القومية" حركات سياسية دينية سلفية عنيفة ، أيضاً لدينا اليوم مظاهرات رجال الدين البوذيين ضد الحكم العسكري في بورما ، وهناك حركات دينية مسيحية كاثوليكية في أميركا اللاتينية مناصرة لليساريين وضد الحكومات المستبدة العميلة للنظام الإمبريالي الأميركي. بهذا المعنى يمكن للبورجوازي داخل السلطة وخارجها أن يستخدم العقائد الدينية والأيديولوجيات الدينية لصالح تحركاته السياسية ومصالحه الاقتصادية.
تعقيب آخر على الأستاذ نجيب: علينا أن نفرق وبوضوح بين المسيحية المهوّدة واليهودية الصهيونية من جهة وبين الإسلام ؛ الإسلام كثقافة يجد نفسه في مواجهة مع الغزو الإمبريالي، مع الغرب الإمبريالي ، هذا الغزو المنشغل بالسيطرة على منابع النفط وعلى مصادر المواد النادرة وعلى وجود دولة إسرائيل والمحمل بعقائد وأيديولوجيات مسيحية مهوّدة ويهودية صهيونية . بعض الحركات الإسلامية السياسية داخلة في مواجهة مع الغزو بأشكاله المختلفة ، لكن علينا أن نقر أن الإسلام غير مهيأ لمواجهة ناجحة تجاه الغزو . على الاشتراكيين أن يتقدموا للمواجهة بتنسيق مع الديمقراطيين والوطنيين ، وعليهم أيضاً الاستفادة من هذه المواجهة بين الغرب الإمبريالي والثقافة الإسلامية.
أ. نجيب: الأيديولوجيا؛ علينا مستقبلاً أن نضع الحد الفاصل بين الأيديولوجيا والعلم . الأيديولوجيا الدينية ليست منفصلة، هي جزء من أيديولوجيا البورجوازية . تريد البورجوازية في سبيل كبح الطبقة العاملة ، وفي سبيل زيادة نفوذها على قوى الكادحين أن تضع الأيديولوجيا الدينية في الواجهة . تتمترس البورجوازيات في العالم الثالث خاصة بالأيديولوجيا الدينية ، لكن هذه الأيديولوجيا الأخيرة هي تيار فقط من تيارات أخرى ، وحاضن هذه الأيديولوجيا الدينية هي البورجوازيات الحاكمة في الوطن العربي . أما الإسلام- الدكتور نايف تفضل وقال : الإسلام يواجه الغرب- [يرد الدكتور بأن المواجهة غريزية فحسب ؛ رد على تهديد الثقافات المحلية من قبل الغزو الإمبريالي] . ( الأستاذ نجيب) أنا أقول شيئاً آخر: الإسلام ليس هو الحركات الصراعية التي نراها هنا وهناك، ليس هو الحوادث المنفعلة في أصقاع الأرض التي تسبب أعمالاً عنيفة ، أنا آخذ الإسلام كقشرة، كفكر ديني فقط ، وكيف يتم توظيفه . البورجوازيات هي التي توظف الدين حتى في الولايات المتحدة الأميركية ، حتى في العالم الأوربي الغربي ، لا أعني غرب وشرق أعني العالم الغربي الرأسمالي في سبيل تأبيد المصالح الطبقية ، دعونا نتكلم بهذا الوضوح. فهذه الأيديولوجيا يجب أن تتأبد لأنها تؤبد المصالح الطبقية لرأس المال أولاً وأخيراً .إذاً فقط أشير إلى أن الأيديولوجيا الدينية ليست شيئاً مستقلاً وإنما هي جزء من الأيديولوجيا البورجوازية في الوطن العربي. هذا يجعلني أقول: في مسألة فهم البنية الاجتماعية لدينا ثلاثة مستويات، اقتصادي وسياسي ومستوى ثالث أيديولوجي .وهذا المستوى الأخير يتم التلاعب به . ثقافة الأمة، ثقافة الدولة ليست شيئاً مستقلاً عن التركيبة الطبقية للمجتمع . ليست هناك دولة فوق الطبقات ، فوق المجتمع. الدولة أداة قمع طبقي بيد الطبقة المسيطرة في سبيل الإبقاء على هذه السيطرة ، فهي تقمع كل شيء ، وتنشط جميع التيارات الأيديولوجية التي تديم سيطرتها . كل صراع طبقي هو صراع سياسي، الصراع الطبقي هو سر الصراع في التاريخ.
د.نايف : لدي تعقيبان، الأول؛ مسألة تحميل العقائد الدينية على حركة الغزو الأميركي الإمبريالي تولد تيارين من الأفكار: الأول يقول: الإسلام هو الحل. وأنا أقول الإسلام ليس هو الحل ولا يمكن أن يكون هو الحل . الإسلام كثقافة يرى نفسه في مواجهة مباشرة مع الغزو ومتاعه المسيحي المهوّد واليهودي الصهيوني. ما أن تظهر صور مسيئة للنبي في أوربا حتى تخرج مظاهرات إسلامية مليونية في أندونيسا ولبنان. الرد غريزي وبسيط . المسألة ليست صراعاً بين الإسلام والغرب الإمبريالي لأن الإسلام كثقافة ليس ضد الملكية الخاصة الرأسمالية. الحل هو تحرك سياسي اشتراكي فعلي يستفيد من كل هذه الإيذاءات و الإساءات والضرر ومن كل هذه "المواجهات الثقافية" التي تسببها الدينامية الإمبريالية وسياساتها في آسيا والعالم.
التيار الثاني : يشابه ويماثل بين التيارات السياسية المسلحة التي تقاتل الغرب والإسلام الثقافي من جهة وبين التحرك الإمبريالي وسياساته. هذه المماثلة تصب الماء في طاحونة الإمبريالية . يجب أن نلاحظ الفرق بين الإمبريالي الغازي والمحتل لبلدان بكاملها وبين المسلم المهانة ثقافته ومحتقرة رموزه الدينية وقد تكون أرضه محتلة ، وهذا الفرق أمر جوهري في التحليل السياسي والاستراتيجي.
تعقيب ثان: حتى نعطي الكلام للأستاذ منصور ، هو تعقيب حول مسألة المطلق والنسبي. قال الأستاذ نجيب أن الماركسية ألغت كل مطلق وأبقت على المطلق الوحيد الذي هو الحركة والتغير.
أضيف هنا نقطة: الماركسية تعترف بالمطلق وبالنسبي ، لكنها تعترف بالمطلق ضمن النسبي ،على العكس من الفكر المثالي والغيبي (الميتافيزيقي) القديم الذي يعتبر النسبي جزءاً من المطلق (لاحظ التأثير الميكانيكي في هذا الفهم). أعطي مثالاً، الخط المستقيم له قوانين وهذه القوانين مطلقة ضمن حدود الخط المستقيم ،لكن ما أن نتجاوز الحد إلى الخط المنحني حتى تغدو هذه القوانين نسبية وحتى خاطئة ، مع أن المستقيم جزء من المنحني. إن تجاوز الحد ينقلنا إلى مطلق آخر أكثر اتساعاً ورحابة وهو قوانين المنحني. هكذا تعترف الماركسية بمطلق ضمن حدود معينة وضمن مكان محدد وزمان محدد . كذلك الأمر بالنسبة للمثلث القائم كحالة خاصة من حالات المثلثات. كلما حصرنا أكثر حصلنا على معرفة مقاربة ودقيقة أكثر فأكثر للظاهرة أو الواقعة .أما عندما نتجاوز الحدود ونعالج الظواهر بشكل منفلش ندخل في النسبي ونحصل على معرفة غير دقيقة وحتى غير صحيحة. لذلك الماركسية تفهم المطلق في النسبي وليس العكس.
أ. نجيب: جميل، كلمة واحدة أقول : مجموع الحقائق النسبية تعني المطلق ، وهي علاقة جدل لا تنتهي . وحين أقول أن ماركس رفض المطلق أعني بذلك أنه رفض هذا الوهم المثالي الغيبي .
د. نايف: هناك ندوة في القريب حول الديالكتيك
تفضل أستاذ منصور
أ. منصور : بدعابة – في رأيي أن تتكلم عن الديالكتيك ، لم تترك شيئاً لم تتكلم عنه!.
أ. منصور: أريد أن أقول كلمتين، أريد أن أعود إلى الماركسية في علاقتها بالدين: الدين ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تناولتها الماركسية بالدراسة والتحليل . في حوار سابق مع الدكتور نايف والأستاذ نجيب استشهد الدكتور نايف بكلام لماركس يقول: "الدين خلاصة النضالات النظرية للبشرية والدولة خلاصة نضالاتها العملية ". لذلك إن الفهم الذي يرى أن الماركسية تتصدى للدين فهم خاطئ ، وأن كل دين هو عميل للبورجوازية وللسلطات الحاكمة قول يراد له أن يصل إلى عقول العمال وهذا خاطئ أيضاً .
قال ماركس في (مقدمة نقد فلسفة الحق عند هيغل) : "الدين أفيون الشعب". لقد طرحت وقتها بمعنى المديح، لقد كان الأفيون مكتشفاً حديثاً كمخدر جراحي ومسكن آلام.. وكم نرى الكثير من السعادة في أحياء بائسة مردها إلى الدين .
من وجهة نظر اجتماعية : ليس كل دين خادم للبورجوازية أو لسلطتها. يجب أن ننظر إلى المسألة من وجهة النظر الاجتماعية . مثال ذلك النظام السعودي يتبنى المذهب السني ومع ذلك أيد احتلال العراق بينما سنة العراق وقفوا في معظمهم ضد الغزو والاحتلال كذلك الأمر بين بعض شيعة العراق الذين أيدوا الاحتلال وبين أغلبية الشيعة في لبنان الذين واجهوا الاحتلال الإسرائيلي بقوة ولهم موقف مماثل من احتلال العراق. فهل المنطلقات دينية أم هي اجتماعية سياسية معقدة. نحن ننظر إلى الدين بوظيفته الآنية بما ينسجم مع مجمل التطور ، فصراعنا ومعركتنا ليست مع الدين هكذا بالتجريد ، بل مع القوى الاجتماعية والسياسية المضادة . كان على المتحاورين أن يقدموا فهماً يخفف من سيادة الفهم الخاطئ للدين ، أن يصحح الفهم الخاطئ لشكل تعاطي الماركسية مع الدين .
عندما يطرح بوش الحرب ضد "الإرهاب" كحرب صليبية ، نأخذ نحن هذا الكلام من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . فقط من خلال البحث الاجتماعي السياسي نصل إلى فهم صحيح للدين وموقعه كأيديولوجيات ومعتقدات في الصراع. لا نريد العودة بالقضايا إلى الماورائيات . وجهة نظري ، شكل تناول الدين في الماركسية ما يزال غامضاً وغير كاف كما طرحته الندوة . الدين حمّال أوجه ، في نظام رجعي، تبني الدين معرقل للتقدم ، في سياق آخر، تبنيه قد يدعم هذا التطور.
د.نايف: هذه الندوة حلقة في سلسلة ندوات ، والحديث عن الماركسية والدين لم ينته بعد.
الكلام الذي تحدث به أ. منصور مهم وأعطى أمثلة حول ذلك. يجب تفسير أية ظاهرة دينية بالشروط الاجتماعية السياسية وليس العكس . يتوجب عدم تفسير الفكر الديني و مظاهره بالفكر الديني نفسه ، عدم تفسير الدين وتحرك الظواهر الدينية على أنها مسألة دينية بل مسألة سياسية واجتماعية بامتياز.علينا مراقبة الشرط وملاحظته ودراسته لتحديد موقع التمظهرات الدينية بدقة ضمن هذا الشرط .
أ.نجيب: الدين كنص ما كان يوماً إلا ضمير أمة ، لكن حين ينخرط الدين في المعترك السياسي تبدأ الحكاية .الدين النص شيء وهو ضمير أمة ويتوجب نقده ، والدين السياسة شيء آخر داخل في الصراع . الصراع ليس ضد الدين كنص هذا موضوعه النقد . الصراع مع الدين – السياسة ، ضد استلاب الإنسان ، ضد رأس المال وجشعه ، ضد أعداء البشرية مدبري الحروب ، ضد هذه القوى التي لا تشبع ، ليست المعركة لا مع إله ولا مع ضمائر.
أردنا أن نقارب هذه المسألة لغرض بسيط ، أن نفكر تفكيراً علمياً مادياً سليماً ، لكن هناك جانب روحي يريد أن يستريح فيقيم الفرد من خلال ذلك علاقة بينه وبين مطلق هو الله ، والذي يرمز إلى المحبة والسلام والعدل، الخ.. ، ولا يشبه الإله اليهودي "يهوه" المدجج بالسلاح . الدين ضمير ، لكن حين يغدو الدين سياسة تبدأ اللعبة القذرة و يتلبس أمر الدين.
حين قلت أن السلطات البورجوازية في العالم ورأس المال يريد أن يؤاخي الدين فذلك لا حباً بالدين ، هي مظلة ، متراس سلاح يحاول أن يقاتل به وبضراوة كل فكر علمي مادي ، وهو الفكر الاشتراكي . لماذا يستخدم الدين هذا الاستخدام الرديء ، ألأن الرأسمالي يحب الإله أكثر من العامل ، أ لأن هذا الخالق هو خالق الرأسمالي ولا يخلق الفقير ، طبعاً لا . المسيحية تقول : لا يدخل غني ملكوت السماوات أكثر من دخول جمل في ثقب إبرة .الصراع مع رأس المال وليس مع الدين ؛ المعركة هنا وليست هناك . لكن يريدون تصويرها هناك؛ مع الدين تعمية وتضليلاً . قالوا الماركسية ضد الإله، وضد الدين وضد كل المقدسات لدى البشر . أنت أيها الرأسمالي الجشع مع كل هذا ، أنت تخرق الإله وتعاليمه في اليوم ألف مرة ، أنت حين تقتل وتجوع وتنهب و تحرق وتقذف بالخيرات في البحار وتحرم الجائعين منها ، أنت تعمل بوصايا الله !؟ علة البشرية الكبرى هي سيطرة رأس المال على مصيرهم وحياتهم ، ولا تحرر للإنسان إلا بتحرره الاقتصادي . التحرر الاقتصادي هو الكفيل بأن يحرر الإنسان اجتماعياً وثقافياً . من يملك السلطة في العالم كله، من يملك القرار الاقتصادي يملك القرار السياسي ، صح إن العامل السياسي أو المستوى السياسي هو مستوى مسيطر في البنية الاجتماعية ، لكن العامل المحدد المرجح هو العامل الاقتصادي. ليس الدين هدفاً يتوجب إسقاطه هذه كانت قبل الماركسية فريق من الماديين، جيل من الماديين قبل الماركسية سعت لإسقاط الدين ، وتعتبر نقد الدين هو منتهى كل شيء و نهاية المطاف. جاءت الماركسية و وضعت الأمور في نصابها لتنقد ذلك وتعتبر نقد الدين مدخلاً . اعتبر ماركس الدين تياراً أيديولوجياً تستخدمه البورجوازية كما سبق .
د.نايف : لذلك حتى لا يُفهم الأستاذ نجيب فهماً غير صحيح نحن هنا في سياق طريقة التفكير الديني وليس ضمير المتديّن. النقد الذي قدمته الماركسية هو نقد طريقة التفكير الديني، هذه فقط . إذا أردت أن تفسر الواقع وتبحث عن حقيقته عليك بالتخلي عن طريقة التفكير الديني .اعتماد الديالكتيك ونبذ التفكير الوضعي الديني؛ نبذ المثالية الدينية. إذن نقد الدين هو نقد طريقة في التفكير، الجبل خلقه الله، الأوبئة أبادت ربع أوربا ، لم تستطع الآلهة القضاء على الفيروسات والجراثيم حتى جاء باستور مشكوراً واكتشف العامل الممرض واكتشفت اللقاحات ضد الأوبئة. لذلك نقد الدين عند ماركس هو نقد طريقة في التفكير، نقد فهم مقلوب للأمور وليس الهدف محاربة المتدينين . ليس هدف الماركسية نزع دينية الإنسان ولا مطاردة الآلهة في الوديان والغابات، الهدف هو نقد هذه الطريقة في التفكير التي تبعدنا عن التفكير العلمي بالمعنى الماركسي ، أي علم الديالكتيك ، وعلم التاريخ.
أ. منصور: النقد ليس له معنى التقويض والتهديم بل يحوي معنى التجاوز والاحتفاظ
نعرض هنا أسئلة الأصدقاء الحضور ومداخلاتهم:
الأستاذ منصور : من يريد أن يسأل سؤالاً أو يداخل فليتفضل :
عارف: هل أفهم أن وصية الندوة أو توصيتها هي العودة إلى محاباة الدين؛ العودة إلى الدين؟
الأستاذ منصور : لا، على العكس ، المطلوب كيف نتعامل مع الظواهر الدينية في ظروف كظروف منطقتنا العربية .
صديق1: إذا كان الدين عبارة عن ظاهرة بشرية (من صنع البشر) ، هل النقد أو إعادة التقييم ينصب على الفكرة الدينية بحد ذاتها أم ينصب على الفهم الديني ، الفهم الخاطئ للفكرة الدينية؟ بكلام آخر ، إذا كان الدين قد تم تشويهه ؛ شوهه الناس فهذا يحتاج إلى مقولة أخرى. أما إذا كان الدين بحد ذاته فيه إشكال فهذا أمر آخر . أتمنى التوضيح. حتى لا نخلط الأوراق يوجد فرق بين الدماغ والفكر ؛ الدماغ هو الوعاء ، وعاء الفكر . يمكن إجراء عمليات ملموسة فيزيائية حسية على الدماغ ، أما الفكر فإصلاحه مختلف ؛ معنوي .
د. نايف: الأستاذ منصور ، أتمنى أن يكون نقاش كل مداخلة أو سؤال من الأصدقاء الحضور منفرد ، أي لا يفضل التعامل مع الأسئلة والمداخلات بشكل إجمالي ، أنا مع التفصيل والتدقيق في كل سؤال أو تساؤل.
صديقنا يطرح التساؤل التالي: النقد أو إعادة التقييم موجه إلى هذا الدين بنصه أم إلى هؤلاء المتدينين؟
أقول: النقد قصده طريقة التفكير الديني من حيث تعتمد أساساً على التمثيل؛ تمثيل الحقيقة. جاء في القران الكريم: "نحن نضرب الأمثال للناس لعلهم يتفكرون" يمكن في الفكرة الدينية أن تضرب مثلاً أي شيء ليشير إلى عظمة الخالق وحكمته الخ.. من النملة إلى الجبال إلى الكواكب والأفلاك. لكن هذا ليس علماً بالمعنى الحديث . التخصيص والتعيين والحصر من سمات العلم الحديث . أريد دراسة الجسم البشري أشرّح هذا الجسد . أريد دراسة الفيزياء النووية أدرس الذرة على سبيل التعيين والحصر. الفكرة الدينية تضرب مثل الجسد الإنساني والذرة معاً ليدلا على عظمة الخالق ! هذا ليس علماً بالمعنى الحديث للكلمة. نقد الدين؛ نقد الطريقة الدينية في التمثيل ونقد شكل التفسير الديني هو القصد وهو الهدف من نقد الدين.
أما الفكر الديني اليومي والنفاق الديني اليومي والأكاديمي ، وما يتصف به من التبرير والابتذال فهذا بحاجة إلى النقض والتهديم والتشهير إذا اقتضى الأمر وهذا ما قام به الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "نقد الفكر الديني"
أ. نجيب: نقطة البدء ، أيهما أسبق في الوجود المادة أم الوعي، الفكرة أم الكائن؟ علمياً ؛ مادياً المادة أسبق ، والوعي إنتاج المادة ، وليس العكس. علمياً ، المادة تسبق الوعي . هذا "المطلق " منتج بشري. الدين نص وتعاليم . النصوص المحفوظة جاءت في فترة تاريخية محددة ، وفي بنية اجتماعية محددة ، بشرط الزمان والمكان ؛ بشرط البنية .اليهودية والمسيحية والإسلام مرتبطة كل منها ببنية اجتماعية محددة وبشرط تاريخي محدد . وهذه الأديان هي الترجمة الحرفية لحقبة تاريخية ما . الدين تاريخي بالمعنى العلمي للكلمة .البشرية تغير أديانها كما تغير أزياءها ، وكما تغير أنماط تفكيرها.
الفكر العلمي أجرى هذه النقلة النوعية ، بدل أن يدور الإنسان حول أوهامه بدأ يدور حول شمسه الواقعية كما قال ماركس.
إذا أردت أن تحتفظ بالدين كثقافة ووجدان فأنت حر ، لكن أن تجعل منه دستور حياة ، هذا ما يعترض عليه الفكر العلمي. أن تجعل من الدين نظاماً سياسياً ، هذا انتكاس إلى الوراء . حين تقول هذا الواقع المادي موجود خارج ذاتي ولا يحتاج لذاتي كي ينوجد فأنت مادي . أما أن تقول : لو لم أر هذه الطاولة وأحس بها لما وجدت فهذا فكر مثالي يمكن أن نمر على ذلك لاحقاً .
الإسلام شيء والمسلم شيء أكيد. الماركسية شيء والماركسي شيء هذا أكيد. الجهاز النظري يعين نماذج ، وصانع الفكر النظري بقدر ما يقترب في الممارسة و السلوك من النموذج تتحقق صدقيته. لا ندعو أحداً لكي يكون قديساً أو شيطاناً . حين ننتقد فكراً يجب أن ننقده من موقع اختلاف لا من موقع تماثل. الفكر الغيبي فكر تماثل ولا يحيل إلى الاختلاف. الفكر العلمي المادي نقيض لكل علاقات الإنتاج السائدة . وهو ينفي علاقات الإنتاج الرأسمالية نفياً قاطعاً. أذكر كلمة لجان جاك روسو : لعن الله أول من أمسك بغصن شجرة وقال هذا لي" . معنى ذلك أنه مع نشوء الملكية الخاصة نشأت شرور الإنسان وعجلة الصراع ، وهذه الشرور لا تنتهي إلا بانتهاء الملكية الخاصة.
صديق1 : الطاولة موجودة بمعزل عني ، لكن هي الواقع المادي المتجسد للفكر الذي فكرت به ؛ الفكرة هنا متجسدة بشكل مادي . هنا الفكرة تسبق الواقع ، تتجسد واقعاً.
أ. نجيب: علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة جدل لا تنتهي . لكن أقول هذا موجود خارج ذاتي ، بمعزل عن ذاتي . الإنسان يدخل في علاقة جدل مع الطبيعة. الدماغ له تاريخ . الدماغ عضو التفكير .الفكر واقع مادي يتفكر في الدماغ ، ينتج فكراً في الدماغ ثم تعود الفكرة لتتفاعل مع الواقع. لكن الدماغ لا ينتج الفكر كما الكبد تفرز عصارتها ، هناك جدل . تسلسل وتركيب علمي منطقي. الفكرة تسبق المادة . لما كانت هناك فكرة الطاولة ، كانت هناك طاولة ، علاقة الكائن مع الوسط ، الفكرة لا تأتي من العدم.
د. نايف: هذا سؤال هام وهو من القضايا الإشكالية حتى عند بعض "الماديين" ؛ مسألة الفكر استباق للواقع؟ أنا أنتج طاولة لم تكن موجودة كشكل من قبل!؟ أنا خلقت طاولة !؟ فكري خالق لشكل الطاولة !؟ هذه ميزة للدماغ الإنساني . الفكر ليس منفعل سلبياً بالواقع. الفكر فاعلية ، فاعلية المفهوم المتخذة هدف. الدماغ البشري لديه قابلية التذكر والربط بين عدة عناصر وعدة دالّات. الإنسان هو الكائن الوحيد بين الحيوانات الذي يستطيع الربط بين الدالات بقوة التذكر. الحيوانات الأخرى تتعامل مع دالات منفصلة . فإذا شكل الفرد فكرة عن الأشكال المنحنية ، وبعد زمن شكل فكرة عن الزاوية الحادة ، ثم عن الدائرة وهلمجرا يمكنه بعد وقت وفي شروط معينة ومدروسة أن يبدع أشكالاً جديدة غير موجودة في الطبيعة كالطاولة وغيرها أو يتخيل كائنات خرافية كالحصان المجنح الخ..لكن هذه المخلوقات وعند صنعها ما هي إلا تحويل لشكل في الطبيعة إلى شكل مبتدع جديد بقوة الربط الدماغية (العقل) وقدرة التذكر. وعقل الدابة ربطها وفي المثل : أعقلها وتوكل. إن فاعلية المفهوم تجعل الدماغ البشري يبتدع أشكالاً جديدة ، وهذا مختلف كمفهوم عن مسألة الاستباق في الفكر الفلسفي التي ترجمتها الأصح هو الحدس الفكري أو الظن والتخمين الخ..anticipation الفعل الإنكليزي anticipate يعني التوقع أو الحدس ، وهذا يدخل في دائرة الظن لا العلم اليقيني .
أ. نجيب: ما دام الإنسان في هذا الكون هناك جدل لا ينتهي بين الإنسان والطبيعة .
أ. منصور : بخصوص مسألة التأويل في الفكر الإسلامي، هناك ابن تيمية وهناك حسين مروة وآخرون
نبيل: أريد أن أسأل بخصوص النص الديني كقضية مطروحة للقراءة في الفكر العربي؛ أي إعادة إنتاج الفكر الديني نقدياً على مستوى الفكر العربي. وإنجاز بنية نظرية جديدة أو الغوص أكثر في التراث وإعادة إنتاجه.
د. نايف: الإسهام في نقد التراث ، هذه قضية كبيرة ومهمة من مهمات البحث والنقد الماركسي والديمقراطي . المهمة تتلخص بنبش كل ما هو فعال ونابض في التراث ورمي ما تبقى. هذا الفعل النقدي في التراث العربي ما يزال في بواكيره . نقطة أخرى مسألة الاستعارة من عالم الدين وصياغاته ، أي استعارة عبارات جيدة الصنع من الفكر الديني لتوضيح مسائل وقضايا معاصرة ومحدثة. نأخذ مثالاً: فالح عبد الجبار مفكر عراقي معروف ومهم وصاحب تآليف وترجمات هامة منها ترجمته لجزء من رأس المال لماركس. له دراسة في مفهوم الاغتراب. يتحدث خلالها عن مراحل النفي عند هيغل: .. عندما يصل النفي إلى المرحلة الأخيرة يقابل بالكلمة العربية ؛ (التجاوز) يستخدم فالح عبد الجبار بدلاً منها كلمة (الرفع) القرآنية : "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا." في سياق قصة يوسف يظهر أن رجوع فالح عبد الجبار إلى كلمة الرفع حدسية بما يتعلق بالقصة القرآنية وهذا واضح من السياق . رفع أبويه : أي رفع كل ما هو طيب ونابض في التراث إلى مستوى العصر ؛ رفع الفكرة الطيبة في التراث إلى مستوى العصر الراهن ، وخروا له سجدا أي أخوة يوسف وهذا رمز إلى كل ما هو فائت في التراث وخبيث. هذه المهمة ما تزال في البواكير وهي راهنة ومطلوبة من الماركسيين ومن الباحثين ذوي النزاهة ومن الديمقراطيين العرب.
أ. نجيب: الفكر العربي اليوم فكر مأزوم ، وأزمته من أزمة البورجوازيات العربية . التي تعيش تناقضاً مأزقياً متجدداً. الفكر العربي مأزوم وهو فكر البورجوازيات العربية ، وأقصد بالفكر العربي الفكر السائد في المدارس والجامعات التي تقدم نفسها كمدارس للفكر العربي . هذه المدارس وتلك الجامعات التي هي منابر لترويج فكر البورجوازيات الحاكمة . وهي مراكز لإنتاج أيديولوجيات الطبقات المسيطرة في الوطن العربي. الفكر العلمي كي يتأسس في الفكر العربي لا يمكن أن يكون من داخل الجامعات ولا من داخل المدارس ، لا بد أن يكون في معمعان النضال والممارسة . هذا قدر الفكر العلمي هنا ، كفكر نقيض . أزمة الفكر العربي هو أزمة هذه البورجوازيات . وبذلك كي يتحرر الفكر العربي ويخرج من أزمته لا بد من أن يخرج من كنف هذه البورجوازيات الرثة.
الماركسية حين قدمت نفسها ، قدمتها لا على أنها استمرار وتواصل للتقاليد والطرائق القديمة السابقة ، بل قدمت نفسها على أنها حققت هذا القطع المعرفي ؛ هذه القفزة النوعية في مجال الفكر والنظرية . مطلوب من كل الشرفاء في الفكر العربي رواد الفكر العلمي الحقيقي النهوض بهذا الدور .
ما قيمة هذه المعرفة التي نتمتع بها ؟ حققناها لنتسلى بها ، لنقول نحن أنتجناها ؟ لا ، يتوجب أن تكون هذه المعرفة رافعة كما قال الدكتور نايف للفكر وللحياة المادية. نحن نتوخى من كل هذا الجهد تغيير واقع الإنسان العربي لا تفسيره فحسب، وهذا التغيير يمر حكماً عبر تغيير نمط التفكير العربي السائد . لأن الفكر السائد فكر مأزوم وهو فكر البورجوازيات السائدة ، حيث يطغى عليه الطابع السلفي. نريد أن نؤسس من خلال النضال لفكر علمي تاريخي مادي يقرأ التاريخ بعين تاريخية ، ولا تقديس لنص.
مناف: فهمت من الكلام أن الفكر الديني هو فكر البورجوازية ، وكان قد قيل أن الأقوام السامية أنتجت كل هذه الديانات التوحيدية؟! لماذا لا نقول أن أفراداً بورجوازيين منعزلين ومأزومين يقومون بالمطالعة والتفكير وينتجون هذه الأفكار الدينية ، وهذه الأفكار المأزومة. دائماً الإنسان بحاجة للدين ، لا أتكلم عن الدين كحاجة اجتماعية ولا كحاجة تغييريه ، أتكلم عن الدين كفكرة فردية بحد ذاتها ، كإنتاج لأفراد وحالات معزولة .
د. نايف: السؤال، كيف نفسر استمرارية الدين والعبارة الدينية عبر تشكيلات تاريخية مختلفة؟ تفسير استمرارية العبارة الدينية والدين كطريقة تفكير ؟ القرآن حمال أوجه كما قال الإمام علي. العبارة الدينية تتميز بعمومية شديدة وبمجازات مرسلة تصلح لأوقات مختلفة. كل مرحلة تاريخية تعيد إنتاج الدين والفكر الديني حسب مصالحها ؛ مصالح الطبقات السائدة فيها. الدين ملحق دائماً بشرط اجتماعي وتاريخي محدد . كيف يعد الشرط إنتاج الدين والفكر الديني ، هذه مسؤولية الفكر العلمي ؛ الديالكتيكي المادي. الفكر العربي في الخمسينات والستينات كان مشغول بالفكرة القومية كما طرحتها الأحزاب البورجوازية القومية (البورجوازية الصغيرة؛ بعثيين وناصريين وغيرهم) . لم يكن التدين في سوريا في الستينات وحتى منتصف السبعينات بهذا الانتشار الكبير . في الخمسينات حتى الأخوان المسلمين كان فكرهم يحمل "لوثة" اشتراكية على يد مصطفى السباعي مراقب أخوان سوريا في تلك الفترة. اليوم الفكر القومي نكس وتدين ، أضحى مملوء بأفكار دينية. وهذا بسبب انحطاط دور البورجوازية الصغير وتحولها إلى بورجوازية كولونيالية تابعة ورثة في الكثير من الأقطار العربية.
الفكرة الدينية فكرة يعاد إنتاجها باستمرار وفق الشروط المستجدة والفترات التاريخية المحدثة، ووفق احتياجات هذه الفترات التاريخية. وهذا لا يعني أن الفكرة الدينية لا تنتج إلا في كنف البورجوازيات السائدة ، لا بل يمكن أن تعيد إنتاجها حركات سلفية ظلامية وعنيفة محاربة لهذه السلطات أو تعيد إنتاجها حركات بورجوازية صغيرة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي أو الأميركي.
بالنسبة للصديق مناف أقول: الدين ليس شأناً فردياً في النتيجة، الدين شأن اجتماعي بامتياز ، وانتشاره وانحساره؛ أي حركه مده وجزره محكومة بالشرط الاجتماعي والسياسي والدولي ، تماماً كما يحكم القمر بحركته المد والجزر . حتى عزلة الأفراد يفسرها الشرط الاجتماعي والسياسي والدولي (تقدم سيطرة الإمبريالية وميلها للغزو والاحتلال المباشر لبلدان بكاملها). الدين ظاهرة اجتماعية لكن كيف يتمظهر فهذا أمر آخر : قد يتمظهر حزباً سياسياً دينياً أو مؤسسات خيرية أو متعبد فرد بوجدانه المنعزل هذه قضايا واردة وصحيحة.
مناف: تكلم عن الإطلاق، الدين فكر مطلق . الذي أوصل الإنسان إلى هذا الحد هو الفكر البورجوازي (ناتج احتياجات البورجوازية ) هذه النظريات الدينية لها توظيفاتها وتطبيقاتها ، لكن الحضارات السامية هي التي أنتجت الديانات التوحيدية الكبرى.
أ. نجيب: البورجوازية لم تنتج ديناً ؛ بقول آخر : ليس الدين منتجاً بورجوازياً . المدخل إلى حوارنا كما أسلفنا أن الشعوب تباينت في إنتاج الأديان حسب شروط حياتها الواقعية. لماذا اهتدى الساميون إلى التوحيد وهم بدو رحل، بينما بقيت شعوب متحضرة كالرومان واليونان والفرس في كنف أديان تعددية وثنية أو شبه وثنية. لم يكن أيام اخناتون ومحمد بورجوازية .
الإنسان في مرحلة من مراحل تطوره رأى أن هذا الوجود بحاجة على تفسير ، أراد فض الغاز الكون ، أراد أن يجيب عن أسئلة طرحتها الطبيعة كالرعد والبرق والبراكين. قدم أجوبة عبر الفكر الديني ، عبد الشمس والرياح والقمر . اليونانيون والرومان عرفوا فن البناء .
أرجع إلى الشرط المادي الذي تكلم عنه الدكتور نايف . البدو الرحل ، أعرج على الكعبة ، وأن البدو من العرب عرفوا الأصنام والمنحوتات والمعابد، ومع ذلك اهتدوا إلى التوحيد؟! أقول: الساميون من العرب والهكسوس والإسرائيليون قوم رحل ليس من مصلحتها أن تحمل آلهتها وأصنامها طوال الوقت ، أصنامها الرديئة .
الاقتصاد السياسي للرومان واليونان ؛ هناك معابد وكهنة وسدنة يشرفون ويديرون هذه المعابد ويتقاضون أجورهم من الطبقات الحاكمة ، لكي يبقون الشعب والعوام تحت السيطرة ومن هنا ارتبطت مصالح الكهنة بمصالح الحكام والسلطات الحاكمة.
طبيعة الحياة تبقي ما هو صالح وتنفي ما ليس بصالح ؛ بدل نقل الإله من مكان إلى آخر ، هذا حصل عبر سيرورة تطور حياة البشر وضمن منطق الفكر.
البورجوازية المعاصرة وقبلها الإقطاعيون استثمروا ما هو جاهز ، أذلوا الناس بالدين ، لا لأن الدين أراد إذلالهم، استخدموا الدين كأيديولوجيا ضد مصالح الفقراء.
مناف: أخيراً، فهمت أن التجريد حالة متطورة في الأديان . المفكرون نتاج مجتمعاتهم ؛ أفلاطون يعبر بطريقته عن مجتمعه ، ومنظر إسلامي يعبر عن مجتمعه وبطريقته أيضاً .
أ. نجيب: هذا الفرد العبقري هو نتاج تاريخ طويل ومجتمع وعلاقات اجتماعية مركبة جداً. النص يجب أن نغير النصوص طالما الحياة متغيرة.
د. نايف: مناف يلمح إلى ديالكتيك الجمعي والفردي؛ يمر الجمعي/ الطبقي عبر الفرد فيخرج على لسانه قولاً هو كلام فرد. أنت حين تتكلم تعبر عن مصالح الطبقة في الحقل الأيديولوجي ككلام لفرد . الفرق بين الحديث النبوي وبين النص القرآني أن الأخير يعبر عن نفس الأمر ، أي عن حقيقة مصلحة الجماعة البشرية المتقدمة نحو انجاز مصالحها ودورها التاريخي في التغيير والانتقال من القبيلة إلى الدولة.
أ. منصور: البورجوازية عملت ثورة ، هذه الثورة فصلت السياسة عن الدين ، لذلك كان دور البورجوازية هناك غير دورها هنا عند العرب .
تقدم نقد الفكر الديني والتنوير مع تقدم الوضع الاجتماعي والاقتصادي والعملي وتراجع مع تراجعه. هناك قراءات جديدة بدأها طه حسين ، قراءات تحررية للدين ، ثم جاءت كتابات مهمة جداً كقراءة نصر حامد أبو زيد .
جاءت الهجمة الإمبريالية على المنطقة العربية وتطور الآن فكر سلفي وتراجعنا ، يمثل فكر القاعدة هذا النموذج الرجعي . مع التراجع الاجتماعي في المنطقة تراجعت القراءات التحررية للدين.وتراجع البحث العلمي وتراجعنا. لكن ، هل الدين واحد في كل مكان؟ الإسلام في تركيا يعمل ضمن نظام علماني يمثل بورجوازية قادرة ، وفي إيران أعمل النظام السياسي الديني نهضة اقتصادية إلا أن الأحادية ستدمره. الظاهرة الدينية الحالية تراجع عما سبق ، يوجد الآن أزمة اجتماعية .
مناف: الدين ما يزال في جدل مع نفسه ، لذلك لا يتطور ، هو فكر أشخاص.
أ. نجيب: عامر تحدث عن المسيحية المهودة والأدق المتصهينة. ظاهرة المسيحية المتصهينة . أما المسيحية المهودة فهذا تحصيل حاصل؛ فمن رحم اليهودية جاءت المسيحية و من رحمهما جاء الإسلام. بعض الكتاب يتحدث عن اليهودية المتصهينة . إن الغرب ونحن لا نقصد الغرب بالمعنى الجغرافي بل الغرب الرأسمالي هو الحاضن الطبقي للفكر الصهيوني. هناك خطأ شائع مفاده أن الصهيونية هي التي تدير البيت الأبيض ، الصحيح هو العكس . الإمبريالية تقود الصهيونية ؛ النظام الإمبريالي العالمي ينتج الصهيونية والفاشية والإسلام السلفي العنيف . الفكر العلمي يعاني كثيراً في منطقتنا حين يواجه هذه التيارات الأيديولوجية .
الحكاية تكمن في كيف يوظف الدين من قبل الرأسمال.
صديق2 : أنا أقوم بنقد المقدس (القرآن الأناجيل ) ربما نقد عميق وقد أسقطه على أرض الواقع وهو قائم من 1400 سنة. مثال كلام أبو زيد أن النص المقدس كان محفوظاً عند رب العالمين في اللوح وعندما نزل إلى الأرض أصبح منتج تاريخي .
النقطة التالية أن المجتمعات لدينا يؤمن الأفراد فيها بالغيبيات. العملية- بغض النظر عن الاقتصادي والاجتماعي – لدينا معركة على المستوى التنويري.
د. نايف : خصوصية الشرق والصدام بين الماركسية والدين . أقول في هذا السياق : النقد ليس إسقاطاً وقراءة النص الديني المقدس وغير المقدس ليس إسقاطا وليست نقضاً . في الثلاثينات من القرن العشرين هناك كتاب "الفن القصصي في القرآن" ، وكتابات علي عبد الرازق وطه حسين وكتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل وغيرها ومن ثم كتابات حسن حنفي وأبو زيد و محمود سيد القمني ، هذه القراءة للنص ليست إذاً نقضاً بل إحياء ما هو نابض في هذه النصوص ودمجه بالعلم الماركسي الجديد و المعاصر.
مفهوم الرفع الذي سبق ذكره هو قراءة . النص القرآني خبرة تاريخية ، وخبير بالانقلاب التاريخي والقطع السياسي ؛ بل هو برنامج هذا الانقلاب التاريخي، خبير بالإنسان وبشروطه . مثله كمثل قراءة رأس المال لماركس ، بالضرورة سوف يتم إسقاط قضايا تاريخية ولى زمنها وكتبت بناء على معطيات القرن التاسع عشر، لكن رأس المال يبقى كتاباً خبيراً ويحوي الكثير من الأمور النابضة والطيبة كالقرآن.
رابطة العمل الشيوعي في سوريا في أواخر السبيعنات وأوائل الثمانينات كانت إذا ما لاحظت شاباً لديه ميول يسارية كانت تضع عند باب بيته أو غرفته جريدتها "الراية الحمراء " دون علمه ، كانت تغبنه وتورطه بقضية لا علم له بها ! هذا الدرس التنظيمي الخاطئ قد يولد وسيولد بالضرورة ردود فعل مضادة ومعاكسة للغاية المرجوة . لو تم الانتباه إلى الدرس التنظيمي في القرآن الوارد في قصة يوسف وهو: حيلة يوسف في إبقاء أخيه بنيامين عنده بوضع السقاية (طاسة كان يشرب بها يوسف) في عدل أخيه : "فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون(71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا له زعيم(72) ... فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا[3] ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)"حين وضع يوسف الصاع في رحل أخيه واتهمه بالسرقة من أجل أن يبقيه ويأخذه في دين الملك جاءه العتب واللوم الإلهي : ما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله" . لا يجوز أخذ أحد من الناس في مبدأ فكري أو حزب سياسي بالحيلة والغفلة ، بل لا بد من الحجة والإقناع والوعي بعواقب هذا الأخذ.
إذاً نقد النص القرآني لا يعني إسقاطاً له ، بل إحياء لدروسه الطيبة و الأصيلة، وهو تكريم له. وقد قال مهدي عامل مرة : نقد أعمالي إحياء لها. جبل من القراءات القرآنية في التراث العربي أبقت هذا النص حياً وأعطته هذا الجبروت المعاصر. أما ما عفى عليه الزمن فهو ساقط مثله كمثل أخوة يوسف حين خروا له سجدا. أنا أتكلم هنا كماركسي ولا أفكر هنا بالمعتقدات والعقائد. ليس فعلي النقدي كماركسي فعل تقويض للنص المقدس أو إسقاط دوغمائي إجمالي، بل إحياء وتكريم ونبش كل ما هو طيب ونابض ودمجه بالعلم الماركسي الجديد والمعاصر.
أ. نجيب: مثلما الفكر العربي مأزوم هناك أزمة بديل عند المثقف المعاصر. خصوصية المجتمع العربي مرتبطة بكونية النظرية . الخصوصية تعني الكوننة و الكوننة تعني الخصوصية ؛ علاقة جدل . بالتالي أقول : حركة التحرر الوطني العربي هي حركة تحرر طبقي ، وهذا تميز . النظرية الميكانيكية تقول: الصراع الوطني أولاً ثم يليه النضال الطبقي ثانياً .الصراع الطبقي والصراع الوطني لا ينفصلان وهذا تميز الماركسية في الوطن العربي. النضال الوطني والنضال الطبقي لا ينفصلان في الوطن العربي وهذا تميز في الكونية. لا نخرج بحجة الخصوصية خارج التاريخ ، و لسنا أمة شاذة وغير مقروءة وغير قابلة لأن تقرأ.
بهذا الشكل يكون إخراج الظاهرة من منطقها خطأ. هناك منطق للفكر . أن أآخي بين الماركسية والدين خطأ مميت . ركزنا عبر الحوار أن نقد الآخر يكون من منطق الاختلاف لا التشابه. هنا تربة مادية علمية ، وهناك تربة دينية مقدسة . حضارتنا حضارة النص ؛ النص في ثقافتنا التراثية مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا منطق إيماني دوغمائي ، ومنطقنا الماركسي منطق شك من أجل الوصول إلى اليقين. عليك هنا أن تتحرك على تربة مادية علمية تاريخية . النص تاريخي ومرتبط ببنية اجتماعية تاريخية محددة في الزمان والمكان . لكن أن انتقد الدين بالدين؛ أن أنتقد مقولة دينية بمقولة دينية هذه مغالطة.
الشخص الذي هو في موقع ماركسي علمي حين يتحاور مع ليبرالي رأسمالي ، يحاوره في حقله يكون قد سقط وتم الاستيلاء عليه . لا حسن نية في الحوار . نتعامل مع الدين بجدية كبيرة. أما أن نشهر السلاح بوجه الإله فهذا ليس في مصلحة الكادحين . أريد أن أحرر هذا الإنسان من العبودية والقمع والعسف والاستغلال ، وأحافظ على حقوقه وشرفه. على الاشتراكية أن تفعل ذلك للإنسان.
لو كانت اليهودية والمسيحية والإسلام قادرة على ذلك لفعلت من قبل. النص الديني مولود بيئة وبنية اجتماعية معينة ، نحن بحاجة إلى فكر جديد وعلى البشرية أن تغير دينها ، عليها أن تخضع كل المعتقدات لنقد تاريخي .المقدس جامد غير تاريخي علينا التخلص من الجوامد ، أي أن نتجاوزها معرفياً ، أي نظرياً. نحن نعيش في بنية اجتماعية جديدة ومعاصرة وعلينا أن ننتج أفكار جديدة مناسبة للبنية ومفسرة لها. لا أستطيع لفهم هذه البنية أن أعود إلى القرن الأول للهجرة أو القرن الأول للميلاد! يجب أن استخدم أدوات جديدة تنتجها هذه البنية المعاصرة.هذا العقل العربي فيه طيارة وفيه جمل وتمر ولبن!
أنا احترم مكتشف النار بقدر احترامي لمكتشف الذرة ، لكن الاكتشاف الثاني تجاوز الاكتشاف الأول بطريقة ما. أفكر بإنشتاين ونيوتن لكن إنشتاين تجاوز نيوتن .ماركس نسخ هيغل وأبطله ، أنا ماركسي ولست هيغلي في المذهب. يجب أن نصنع مفكر عربي من طراز جديد ، وأن نستفيد من التراث الإنساني ونستنبط منه ما هو رائع وجميل .أشير هنا إلى مقدمة ابن خلدون الرائعة . أن تمتلك التراث معرفياً ، وتجعله أحد مواضيعك المعرفية هذا مهم . أنا لا احيي التراث ولا أميته ، إنما أنقده ، أخرج ما هو صالح وأزيل ما لا يصح له البقاء.
د. نايف: أنا أميته موتاً جميلاً؛ موتاً فعالاً. حسب عبارة جاك دير يدا.
عندما تستورد بورجوازياتنا أحدث مقتنيات الصناعة الرأسمالية الألمانية لا احد يعترض ، وحين "نستورد" ديالكتيك ماركس أو حتى هيغل تعترض ، لأن هذا يهدد مصالحها أما ذاك فيكرس عجزها وتأخرها التاريخي.
إبراهيم: فهمت أنه يتوجب التخلص من الطريقة الدينية، واعتماد منهج العلم. لكن نحن هنا في هذه الندوة أقلية وحولنا الكثير من المتدينين.
أ. نجيب: نحن لا نشاكس الدين كفكر يومي ، نريد أن نؤسس فكر نظري وعلمي ، أما الدعاية له فتأتي بالتدريج ولكل شخص مفتاحه. صناعة الوعي مسؤولية ويجب أن يكون مرتبطاً بممارسة. أما كيف تقلب فكر مجتمع من فكر غيبي إلى علمي ، هذا ليس قراراً، الدين حلقة أولى.
د.نايف: هناك أمثلة ؛ الثورة الروسية انتصرت في البداية في مدينتين هما بطرس بورغ وموسكو ! الضباط الأحرار في مصر كانوا ثلة الخ.. كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة .. في القران. المسألة مسألة إعادة توجيه العملية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية . لا يمكن أن يعم الوعي جميع الناس ، لكن مع السيطرة على سلطة الدولة تختلف الأمور. المسألة إعادة توجيه مجمل العملية الاجتماعية. لم تكن الطبقة العاملة الروسية تشكل بمجملها قبيل الثورة سوى 10% من السكان كان الفلاحون يشكلون 80% من السكان وكانت الأمية منتشرة بقوة ووسائل الإعلام بدائية. أنت لا تحمل على كتفك كتلة بشرية ضخمة بل تستفيد من طاقتها بإعادة التوجيه وفق برنامج شعبي واشتراكي. إطعام الناس واحترامهم هو الأساس . يتوجب توفر برنامج واضح وتفصيلي لإعادة التوجيه الاقتصادية الاجتماعية السالفة الذكر.
أ.نجيب : أخرج ما هو صالح تبقي على ما يصح له البقاء.
د. نايف: علينا إماتة التراث إماتة جميلة أو موتاً فعالاً . عندما تستورد البورجوازيات العربية أحدث التقنيات الغربية الرأسمالية لا يعترض أحد ، وعندما "نستورد" نحن الماركسيون الديالكتيك الألماني يعترضون.
أ. نجيب: يقول ماركس : "إن مطالبة الإنسان بالتخلي عن أوهام وضعه إنما هي المطالبة بالتخلي عن وضع يحتاج إلى أوهام "[4] إبطال هذا الواقع هو إبطال لهذا الوهم. نحن لا ننتظر حتى نحصل على 19 مليون علماني سوري . لقد قاربنا مسائل نظرية متنوعة . حين ننتقل إلى الحقل السياسي يصبح الأمر كيف أوظف هذه المعرفة وهذا الوعي النظري في الصراع السياسي والاجتماعي .
أ. منصور : شكراً جزيلاً . هذا القسم الأول من ندوتنا ، وهناك أقسام أخرى تتوجب متابعتها حتى نصل معاً إلى نتائج مهمة . أشكركم جميعاً.
أ. نجيب: إذا كنت مقتنعاً بما تقول وما تفعل فامض في طريقك ودع الناس يقولون ما يشاءون. أحياناً يكون الرأي العام مغبون مُضلَل وغبي. [5]
د.نايف: ليست الأغلبية العددية دائماً على حق ، ومع ذلك هي التي تقرر في الكثير من الأحيان ، هكذا أعدم عيسى المسيح.
أشكركم جميعاً.
المصدر: العدد الأول من مجلة «جدل» الصادرة عن تجمع اليسار الماركسي في سورية
إضافة تعليق جديد