الشاعر السوري محمد عضيمة يهوكك الشعر العربي ويشتم أسلافه
يقيم الشاعر السوري محمد عضيمة في اليابان منذ ثلاثة عشر عاماً، حيث يدرّس اللغة العربية في جامعة طوكيو. هناك، اكتشف أسرار قصيدة الهايكو وجمالياتها: قصيدة الضربة الواحدة. وتحوّل إلى “ساموراي”، يريد أن يطيح الموروث الشعري العربي بأكمله، ويتلمّس مناطق جديدة مهملة تنسف كل ما هو إيقاعي، مؤسساً لمشتل شعري في عراء اللغة، مديراً ظهره إلى بحور الفراهيدي بابتسامة منتصرة.
لا تقف رؤية محمد عضيمة للشعر المضاد عند خندق القصيدة الإيقاعية، بل تتعداها إلى قصيدة النثر، إذ يتّهم معظم نماذجها بأنها قصائد نثر عمودية، إذ تتكئ على مطولات شعرية ليست سوى ترجيع للغة الأسلاف “بدهونها الميتافيزيقية وحذلقتها اللغوية”. ويحتجّ صاحب “شارع الألبسة الجاهزة” (2000): “لا نحتاج اليوم إلى معلّقات شعرية، فالبلاغة تكمن في الكثافة”، ثم يضيف: “إنني أكتب المقطع القصير أكثر من عشرين مرة، وأعيد ترتيب الجمل بأشكال مختلفة، كما لو أنني أقوم بتنسيق الزهور. أريد لقصيدتي أن تكون واضحة وعارية ترتجف من البرد البلاغي والاستعارة. لا أرغب امتطاء حماري الوزن والمجاز الصبورين. ألا يكفي خمسة عشر قرناً لكي نغادر هذه المجزرة اللغوية؟”.
إلا أنّ معظم ما يُكتب اليوم يدخل في باب الهباء الشعري، وبالكاد نقتنص قصيدةً جديدةً بالمعايير التي يشير إليها عضيمة. يجيب بحماسة: “أعشق هذا الهباء، لأنه يعبّر عن الزوال والآفل واليومي والرخيص والسوقي. أليست حياتنا تشبه هذا الهباء؟”. ويسارع إلى القول: “كل ما ينسف الخلود والأبدية هو لبنة أولى في بناء الشعرية الجديدة، هذه الشعرية التي تلتصق بالتجربة الشخصية وتبتعد عن الماورائيات”.
يعتبر محمد عضيمة أنّ القصيدة الإيقاعية هي قصيدة العبودية بامتياز، تتبع ثقافة السلطان، فيما تتجاوز قصيدة النثر حقول ألغام السلطة... بدليل أنّ الأنظمة العربية لم تعتمد شعراء قصيدة النثر في قوائم منابرها. ويفسر هذه الفكرة بقوله: “قصيدة النثر هي قصيدة وعي. أما قصيدة الإيقاع، فهي قصيدة سُكر ودوخة”. ويتساءل مستهجناً: “ألم تضجر الذائقة العربية من الإيقاع وسلاسته؟ ألم تضجر من الأوزان وبحورها؟ لقد دخنا من رقص المولوية الشعري وإيقاع العبودية والتبعية. هؤلاء الشعراء يمارسون طغيان السلطة نفسه، فهم يستخدمون عباراتها حين يقولون: الإرهاب الحداثي أو ميليشيات قصيدة النثر”.
إذاً، أين يضع محمد عضيمة تجارب محمود درويش وأدونيس ونزار قباني في سياق الشعرية العربية؟ باستثناء نزار قباني الذي يجده “صاحب ضربة شعرية خفيفة”، يرى عضيمة أن أدونيس ومحمود درويش اكتملت دورتهما الشعرية. ويضيف: “آن الأوان كي نرتاح من قصيدة الرواد ونكتب قصيدة متخفّفة من خلاخيل البلاغة ورنين الحداء الصحراوي”.
في مشروعه لكتابة “ديوان الشعر العربي الجديد”، أقصى عضيمة تجارب أخرى تقع في خانة ما بعد قصيدة الرواد، فغابت أسماء مؤثرة في الشعرية العربية الجديدة. يعترف قائلاً: “القصيدة الطويلة تصيبني بالضجر. أقترح الكثافة مقياساً للشعرية. كما اكتشفت خلال تنقيبي في أرشيف الشعر العربي أنّ شعراء الهامش أهم بكثير من شعراء الواجهة”. ويضيف متحدّياً: “لم أجد في قصيدة طويلة لعباس بيضون مثلاً أكثر من مقطع صغير يقع في خانة “بيت القصيد”، والأمر ذاته بالنسبة إلى نزيه أبو عفش أو محمد بنيس. لقد أرهقني هؤلاء بمطولاتهم. ينبغي للقصيدة أن تكون واضحة وترتكز على مدلول واحد وأن تتخفّف بنيتها من الجعجعة اللغوية”. ويوضح نظريته الشعرية بأنّها محاولة لإقصاء الميتافيزيقية عن النص وملامسة الأرض بأقدام صلبة، لإزاحة القشور عما هو حسي، فكان لا بد من قطيعة صريحة مع الحساسية القديمة.
هذه الصرامة والديكتاتورية التي يطرحها صاحب “تثاؤب حديث جداً” (1997) في تأصيل مشروعه الشعري وضعه في خندق معادٍ، وخصوصاً لجهة الروح الإلغائية لكل ما لا يصب في هذه النظرة. فيما يعلن أنّ قصيدة النثر هي علامة أولى على تفتح أزهار الديموقراطية في العالم العربي، وينبغي محاربة الوزن بوصفه عثرة في طريق الحرية المطلقة في الكتابة. يقول بثقة: “الوزن زقاق ضيق وحجاب سميك تقبع خلفه ادعاءات الأصولية. الطغاة في العالم يحتاجون دوماً إلى أوزان وإيقاعات للغاتهم. ولن تتجاوز الحداثة العربية مأزقها إلا بالتخلص من فقهاء اللغة ودعاة أوهام الخصوصية والهوية والأصالة. ما أدعو إليه هو التخلّص من أوهام الثقافة التوحيدية وهدم الجدار السميك للذائقة التقليدية إلى أن يتصدع”.
لا تخلو قصائد محمد عضيمة من حس طرافة وتهكّم، إضافة إلى عبث مقصود وتخريب عقلاني للجملة الشعرية ورفدها بمفردات يومية مهملة. كأنّ القصيدة لديه حالة ارتباك متواصل. وبدلاً من أن يدافع عن قصيدته، يعاجل بالإجابة “أرغب بأن تبقى قصيدتي مرتبكة عــــــــــلى الدوام، فالارتباك الذي تشير إليه هو جزء من ارتباكي الشخصي. ولا أعتقد أنني سأصل يوماً إلى “برواز”، لأنني أقـــوم نقدياً بتحطيمه كلّما أحسست بأنه سيؤطرني في صورة تذكارية مقدّسة. وصراحة أنا سعيد بأن دورتي الشعرية غير قابلة للاكتمال. وسأبقى مخلصاً للتجريب ومراودة المفردة اليومية في حريتها الجوانية الخالصة. المفردة الهاربة من الأوامر البلاغية. كأن أكتب عن حذائي الضّيق وشرود جارتي بردفيها البيضاوين، ومعـــــــــطــــــــف جندي هارب من ثكنة المناوبة الليــــــــلية. وكل ما هو مرئي ومحسوس”.
في ديوانه “لا..لا لن أعود إلى البيت” (2003)، أعلن عضيمة تمرّده المعلن على البيت الشعري، وعلى كل ما يخص البيت كمجاز وكمكان. وذهبت قصيدته نحو الأشياء الصغيرة التي لا تسندها جدران في تجربة تسعى إلى الكتابة والمحو عبر تسكّع طويل في “زواريب الحياة”، ومسعى صريح للعبث والعدمية والتهكم. يفسّر هذا التحول: “ليس لدي أوهام كبرى أو قضايا كبرى. ولا يهمني أن تعرفني الخيل ويعرفني الليل. أريد أن أدرّب حواسي على التقاط ما ليس شعراً في عرف الآخرين وإعادة كتابته من موقع مغاير باحتفالية وبهجة. كفى كآبة. ينبغي أن نقاطع شعر السياب وما تلاه من أحزان، لأنه سبب بلاء الحداثة العربية”.
محمد عضيمة في سلوكه الشعري والحياتي شاعر سوري من اليابان، وربما شاعر ياباني من سوريا. فالقلق الذي يعيشه في مشروعه الإشكالي يستدعي قارة أخرى من الأوهام والأسئلة.
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد