في الغناء ابتهاجاً بشفاء 'الريس': كذب المطربون ولو صدقوا!
ليس غريباً أن يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي أسست لعلم الاجتماع قبل أكثر من ستة قرون أن 'أول ما ينقطع في الدولة عند انقطاع العمران صناعة الغناء'، فقد اعتبر ابن خلدون فساد فن الغناء وانهياره مؤشراً لتراجع وانهيار الحضارة أو (العمران) في الدول والمجتمعات الحية... ولو طبقنا هذه القاعدة على مجتمعاتنا العربية الراهنة، لوجدناها مؤشراً ذهبياً حقاً... ففساد الغناء العربي في عصرنا الراهن، هو صورة عن فساد ذمم الفنانين، الذين طالما سخروا هذا الفن الراقي والنبيل، من أجل الترويج لثقافة النفاق في العلاقة مع الحاكم... وآخر صور هذا النفاق، هو سيل الأغاني الذي بدأ يظهر ابتهاجاً بعودة الرئيس المصري حسني مبارك بعد رحلة العلاج التي قضاها في مستشفى هيدلبرغ بألمانيا، وقيل أنه أجرى فيها عملية استئصال مرارة... ويمكن لأي مواطن مصري أو عربي يعرف منجزات عهد الرئيس مبارك أن يتأمل كلمات أغنية عمرو دياب التي غناها ابتهاجا بشفاء الريس، وأن يقارنها بواقع الحال... وخصوصا حين يقول: (للي ضحى لأجل وطنه لاجل ما يعود النهار... وللي اسم مصر دايما كان له طاقة الانتصار) أو كلمات أغنية شيرين التي كتب كلماتها أيمن بهجت قمر: (دي أكتر مرة بنتلم وبنقلق وبنهتم... مش أنت كبيري أنا وغيري... وبينا محبة عشرة ودم) أو حتى كلمات أغنية شعبان عبد الرحيم: (مبروك علينا سلامتك وإحنا وحشتنا... وصوتك وابتسامتك ووجودك وسطنا... حبك في قلوبنا دايم بنفديك أنت بجد... ده إحنا وأنت غايب محدش برضو سد).. فما هذا الوطن الذي يمكن أن يضيع لأن الريس غايب... ولا يستطيع احد برضو- أن يسد فراغه؟!
هذه الصور الزائفة والمبالغات السافرة في هذه الأغاني وسواها من التي تبرع الفنانون بغنائها أو إنتاجها مؤكدين أنها نابعة عن محبتهم للريس، وأنهم لا يريدون من ورائها أي منافع شخصية لا سمح الله... ليست اختراعاً جديداً يخص الرئيس مبارك... بل هي عرف سائر، خبره الناس مع الكثير من الرؤساء والملوك العرب... فقد دأب الفنانون في غير بلد عربي، وفي غير عهد، على الغناء للرئيس أو الزعيم وهو في سدة الحكم فقط... ولم يحدث أن غنى أحدهم لرئيس خرج من الحكم، أو توفاه الله، باستثناء قصيدة نزار قباني في وفاة عبد الناصر... التي لحنها رياض السنباطي، وغنتها أم كلثوم، وكانت أصدق ما غنت لعبد الناصر... رغم أن هذه القصيدة لم تنل حظها من الشهرة... لأن من كان يمكن أن تتحمس أجهزة الإعلام لإذاعتها من أجل نيل رضاه، قد أضحى تحت التراب!
إذن... كل ما يقال عن (المحبة) وعن (العشرة والدم) وعما (في القلوب) هو كذب رخيص... يجلوه رحيل الرئيس أو تغير العهد، وإذا كانت منى الشاذلي في برنامج (العاشرة مساء) على قناة (دريم) قد أشارت إلى أن أحداً لا يستطيع أن يكشف الصادق من الكاذب... وهي تتحدث عن الأغنيات التي قدمت بمناسبة شفاء الرئيس مبارك، فإنني أستطيع بالاستدلال والقياس كما يستطيع أي مواطن عادي بحدسه السليم، أن يستخدم القاعدة الفقهية في وصف عمل المنجمين: (كذب المنجمون ولو صدقوا) كي يصف مشاعر المطربين ونواياهم في هذه الأغنيات... فهم كاذبون منافقون مهما ادعوا الصدق، ومهما حاولوا أن يقنعوا أنفسهم به... كاذبون حتى لو غنوا بلا أجر... فهم يعلمون أن ما لا يدفع كأجر مباشر، يمكن أن يتحول إلى مزايا وأعطيات ودعم وأوسمة على المدى البعيد... وهم يعلمون أن هذه الأغنيات تموت بالتقادم، فهي للاستهلاك الآني لا أكثر ولا أقل... ويمكن أن ينساها الناس مع قدوم رئيس جديد، مثلما ستنسقها وسائل الإعلام حتى من أرشيفها!
لكن ما يختلف في زمن تقديم مثل هذه الأغنيات الآن، أن الناس لم تعد تنخدع... وأن ثقافة النفاق التي اعتاد نجوم هذا الغناء الفاسد أن يروجوها، يتراجع تأثيرها الجماهيري، مثلما يتراجع احترامهم لمن يبدعها حتى على صعيد المجاملة ' كرمال' عيون 'الريس'... وإذا كانت بعض هذه الأغنيات تنتج بأمر من مسؤولي الإعلام الرسمي، فإن أقل ما توصف به هي أنها هدر للمال العام... ولن تتعافى المجتمعات العربية حقاً، إلا حين يكون بمقدورها أن تحاسب مسؤوليها على هذا الهدر.
إلا أن المؤسف حقاً أن تمضي ثقافة النفاق هذه في غيها، حتى يصبح وضع حد لها مكرمة من الرئيس نفسه... فقد جاء في برنامج (العاشرة مساء) أن الرئيس مبارك أصدر توجيهاً يشكر فيه الناس على مشاعرهم، ويطلب إليهم ألا ينشروا أي تهاني في الصحف أو لافتات في الشوارع، لأن في هذا هدرا للمال العام. في هذه الحال يبدو أن بعض الزعماء قد شبعوا وسئموا هذا الركام، إلى حد الضجر.. وعلى مروجي ثقافة النفاق أن يبتدعوا أشكالا ووسائل جديدة تمحو هذا الضجر!
مهرجان سيد درويش: البقاء للأصدق!
مقابل هذه الأغنيات.. تعيش أغنيات سيد درويش، التي خصص بعض المثقفين المصريين مهرجانا استعادياً له في مسقط رأسه الإسكندرية، لمناسبة مرور 120 سنة على ميلاده... يتغنى بها الناس البسطاء بصدق، يستعيدون فيها الصورة الحقيقية لمفارقات ومتاعب حياتهم...كما رأيناهم في التقرير الذي أعده مدير مكتب (الجزيرة) في القاهرة الزميل حسين عبد الغني.
غنى سيد درويش للنهار حقاً... أكثر مما فعل عمرو دياب في أغنيته المبتهجة بتضحيات الرئيس مبارك لاجل ما يعود النهار... فعاشت أغنيته (طلعت يا محلا نورها) وستعيش في الذاكرة والوجدان، مثلما عاشت أغنية النهوض والبناء: (قوم يا مصري... مصر دايماً بتناديك) حتى يومنا هذا. لم يغن سيد درويش للرؤساء والحكام، بل غنى للصنايعية والفلاحين والكومسيرية... ولأولئك الذين يكسبون لقمتهم بشرف... وللفقير الذي له رب كريم. فعاش سيد درويش فناً وفكراً ولغة وأسلوباً ومعنى ... وغدا اليوم صوت الضمير في الوجدان المصري... وصوت الفن الانتقادي الجميل الذي يعود إليه الناس كلما علت واستشرت ثقافة النفاق والتزييف.
ومن الطريف أن يمتزج مهرجان الاحتفاء بذكرى ميلاد سيد درويش... بحملة محمد البرادعي من أجل التغيير... فترفع صوره، وتختلط صور لافتات التأييد لمشروعه، بصور سيد درويش في أغنياته عن حياة البؤس والاستغلال والتناقضات: الفقر والثراء... فكأن سيد درويش بفنه العظيم ملهم لمصر التي تولد من جديد، في كل مرحلة تغيير يمكن ان تبزغ شمسها بعد سنوات الجمود والتململ.
لكن بمعزل عن هذا التوظيف السياسي الآني، فإن فن سيد درويش يبقى، كي يفضح ما نراه اليوم من صور الغناء الفاسد الذي يخون جوهر الفن فيما يروجه من حالات الهتاف الزائف التي تكرس العبودية للفرد الحاكم، وترهن مصير الوطن بمصير مرضه أو شفائه!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد