«هلال كردي» ملتهب يحاصر تركيا: «توازن رعب» في خضم الأزمة السورية
في خضم المواجهات العنيفة التي يخوضها الجيش السوري مع المسلحين، وتركيز العدسات والأقلام على دمشق وحلب، يغيب الإعلام غيابا شبه كلي عن بعض الأحداث البارزة التي يمكن أن تؤثر على السياسة الإقليمية في التعاطي مع الملف السوري.
ومن أهم هذه الأحداث، تصاعد حدة هجمات حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، حيث امتدت عملياته العسكرية مؤخرا لتطال العاصمة أنقرة، هذا عدا المعارك الضارية التي يخوضها يومياً ضد الجيش والقوى الأمنية التركية، والتي يسقط ضحيتها عشرات القتلى والجرحى من كلا الطرفين.
صحيح أن الصراع بين الطرفين ليس وليد اليوم، ولكن التطور النوعي الذي أحدثه «الكردستاني» في عملياته العسكرية منذ العام الماضي والتبدل في استراتيجيته المتبعة منذ عشرات السنين، كان محط تساؤلات واتهامات عديدة، خاصة أنه ترافق مع التطورات الدامية في سوريا.
واتهمت تركيا صراحة النظام السوري بدعم الأكراد لوجستياً وعسكرياً، ولمّحت إلى تورّط إيران، في العديد من التقارير الاستخباراتية التي أشارت فيها إلى تحركات مشبوهة لحزب «الحياة الحرة» (بيجاك) الكردي بعلم طهران. كما هددت باستهداف المناطق الكردية التي انسحب منها الأمن السوري إن تحولت لقواعد تشن منها عمليات عسكرية ضدها. حتى أن البعض تحدث عن «هلال كردي» ملتهب يحاصر أنقرة، يبدأ في إيران، ويمر بالعراق، وينتهي في سوريا.
اتهامات وتهديدات اعتبرها محللون سياسيون «فارغة من أي دليل» ووضعوها في خانة «التهويل الإعلامي» لحكومة تعيش مأزقاً حقيقياً مع جيرانها، مستندين في رأيهم إلى عدة عوامل، ومنها عدم استخدام الحدود السورية - التركية في أي عملية عسكرية للأكراد، وإلى الطبيعة الجغرافية لهذه الحدود التي لا تصلح لشن عمليات كهذه.
وفي ظل غياب أي تعليق رسمي من سوريا أو إيران حول هذا الموضوع، تبقى كل الاحتمالات واردة في سياسة تقاطع المصالح، حتى ولو اقتضى الأمر اللعب على «حافة الهاوية» مع طائفة تبدو كأنها تستعد بهدوء «للانفصال» عن سوريا وتحقيق حكم ذاتي في شمال البلاد في حال استمرار الأزمة أو سقوط النظام، حسبما أوردت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية.
فالخطر يكمن في إقحام الأكراد بالصراعات الإقليمية بأجندة هؤلاء الخاصة، أي حلمهم بإقامة دولة كردستان التي تتضمن أجزاء إيرانية وعراقية وسورية وتركية، لذا سعى الجميع في السنوات الأخيرة إلى الحد من الطموح الكردي حفاظاً على مصلحة هذه الدول. إلا أن التطورات الأخيرة في سوريا، أعادت خلط الأوراق، فبرزت الورقة الكردية من جديد على كل المستويات، السياسية والأمنية والاجتماعية، وكل طرف يسعى جاهداً لاستمالة الأكراد، فالمعارضة السورية استطاعت ضم «المجلس الوطني الكردي» و«حزب المستقبل الكردي» وبعض الشخصيات المستقلة، بغض النظر عن الخلافات الأساسية التي تعصف بين هذه الأحزاب من جهة و«المجلس الوطني السوري» من جهة أخرى.
سوريا تحاول استمالتهم إلى صفها
في المقابل، عملت القيادة السورية على ما يبدو، على إخراج الأكراد من تجاذبات الضغط ومحاولة استمالتهم إلى صفها، مستفيدة من عدة عوامل:
1ـ العلاقة التاريخية التي تربط ما بين القيادة السورية وحزب العمال الكردستاني، الذي تأسس في وادي البقاع في لبنان في العام 1978، وقد دعمت موسكو تطوره بهدف زعزعة استقرار تركيا التي كانت تمثل عضواً بارزاً في حلف شمال الأطلسي خلال «الحرب الباردة».
2ـ الاعتراف الرسمي بالأكراد كجزء من مكونات المجتمع السوري، والعمل على منحهم الجنسية السورية بعد أن كانوا يعتبرون من مكتومي القيد. وفي أواخر العام 2011 سمحت دمشق لـحزب الاتحاد الديموقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) بفتح ست مدارس لغات كردية في شمال سوريا.
3ـ العداوة بين الاكراد والسلطة منذ عهد أتاتورك، فهم في مواجهة دائمة ومفتوحة مع أنقرة.
لا إعلان رسمياً حتى اللحظة عن التقارب بين الطرفين، لا من جانب النظام السوري ولا من جانب قيادة «الكردستاني»، لكن الإشارات التي تدل على التحالف الصامت بينهما تتكثف، ومنها:
1ـ إنهاء «الكردستاني» هدنته مع تركيا مع بداية الأزمة السورية في شباط العام 2011. وكانت الرسالة الأولى في 14 تموز، أي بعد حوالي الشهر من الحديث عن «منطقة عازلة» على الحدود التركية - السورية، حين قتل مقاتلو الحزب 13 جندياً تركياً في واحدة من أعنف المواجهات بين الطرفين. وتتالت بعدها الهجمات والتفجيرات التي استهدفت ضباطاً وجنوداً وقوافل عسكرية، بالإضافة إلى وزارات في أنقرة.
2ـ تهديد رئيس اللجنة التنفيذية لحزب العمال الكردستاني مراد قره يلان، بأن أي تدخل تركي في شؤون أكراد سوريا، أو أي هجوم عليهم، سيحوّل «كردستان» إلى ساحة حرب ضد تركيا.
3ـ انسحاب الأمن السوري فجأة من بعض المدن والقرى التي يقطنها الأكراد في مناطق شمال شرق سوريا وشمال غربها على الحدود مع تركيا، وتسليمها لحزب الاتحاد الديموقراطي، الذي رفع الأعلام الكردية على الإدارات والمؤسسات والمباني وصور زعيم «الكردستاني» عبدالله أوجلان، وأقام حواجز تفتيش، بالتوازي مع تدريبات لكوادره لإدارة هذه المناطق أمنياً وإدارياً وسياسياً واجتماعياً، والعمل على توسيع نطاق سيطرته. كما ساهمت هذه الخطوة بإنشاء «هلال» كردي ملتهب يطوّق تركيا، عبر حدودها في الجنوب من إيران مروراً بالعراق فسوريا، ويكون شوكة في خاصرتها، وينقل المعركة إلى أراضيها في ما لو حاولت التقدم باتجاه الأراضي السورية لإقامة منطقة عازلة أو آمنة، فينفجر اللغم الكردي فيها، وتغرق في حرب مدمرة مع عدوها التاريخي.
4ـ أصبحت الهجمات أكثر دقة في الأيام الماضية، مع ازدياد ملحوظ في حجم الخسائر العسكرية، كما شمل بنك الأهداف أيضاً طائرات استطلاع تركية، ومدعياً عاماً وغيره من الشخصيات المدنية التابعة للحكومة، مع تخوّف من توسع العمليات لتشمل نخبة المجتمع المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، في صورة تشبه تلك الموجودة في سوريا، حيث تقوم المجموعات المسلحة باغتيال إعلاميين وأطباء ومهندسين وقضاة ومحامين وغيرهم من النخبة المقربة من حزب البعث الحاكم.
سوريا وإيران و«الكردستاني»
وترى أنقرة أن طبيعة هذه الهجمات التي تشن منذ حوالي العام، بالإضافة إلى حجمها ونوع الأسلحة المستخدمة فيها والمناطق التي يتحرك فيها جغرافيا حزب العمال الكردستاني، تشير إلى تلقيه دعما قوياً من النظامين الإيراني والسوري. لكن الكاتب والمحلل السياسي التركي فائق بولوت يرى أن «اتهامات الحكومة التركية للنظامين السوري والإيراني بدعم حزب العمال الكردستاني واهية وفارغة وغير موضوعية، ولا دليل عملياً يثبت صحتها».
ويضيف «يمكن أن نقول إن الحكومة السورية تجاهلت تحركات الأكراد، ولكن هناك مخاوف جدية في سوريا من انفصال المناطق الكردية، ومن دون شك فإن حزب العمال الكردستاني استغل التوتر والأزمة في سوريا ليعزز مكانته هناك، ويصعّد هجماته ضد الأتراك، لكنه يتحرك فعلياً ضمن نطاق كردستان العراق، ويستفيد من الثغرات الأمنية التركية هناك، ولا يستخدم الأراضي السورية قواعد له أو منطلقاً لعملياته، فالطبيعة الجغرافية للحدود التركية - السورية غير ملائمة أصلاً لشن الهجمات، لذا لا يمكن القول إن النظام السوري هو من يحركه».
ويتابع بولوت ، «حاولت الحكومة التركية تطبيق سياسة الانفتاح وإرساء هدنة مع حزب العمال، إلى أن بدأت أزمة سوريا وطلبت الولايات المتحدة من تركيا التدخل ودعم سياستها، وبالمقابل طلبت أنقرة الدعم الأميركي لسحق الحزب الكردي، وتخاذلت بعدم توقيعها على الاتفاق الذي توصلت إليه مع الأكراد في أوسلو، فرد الكردستاني بالتصعيد».
أما عن انسحاب الأمن السوري من المناطق الكردية، فيقول بولوت إن «النظام نقل القوات إلى المناطق الساخنة واستفاد منها، خاصة في حلب، ولم يكن الهدف أبداً تسليم هذه المناطق للأكراد، إلا أنهم استغلوا الفراغ الأمني واستولوا عليها».
في المقابل، يؤكد الصحافي التركي كمال بياتلي أنه منذ بدء الصراع التركي - الكردي «لم يحصل حزب العمال الكردستاني على دعم واسع كما اليوم، فالعمليات تشير إلى الدعم الكبير الذي يلقاه من جهات عدة». ويوضح «كانت عمليات حزب العمال الكردستاني بسيطة، وفي أحسن الأحوال كانت تتسلل مجموعة من 50 عنصرا وتنفذ عمليات محدودة النطاق، ولكن بعد الأحداث أصبحت العمليات المسلحة تأخذ طابعاً جديداً، حيث يقوم 300 عنصر بمهاجمة كتيبة ويحاولون السيطرة على بعض المناطق، وهذا تبدل في استراتيجية حزب العمال».
ويستشهد بياتلي بتصريح لـ«رئيس» إقليم كردستان مسعود البرزاني بأن «الإقليم يدرب عدداً من المقاتلين الأكراد السوريين بهدف تمكينهم من حماية مناطقهم». ويشكك الصحافي التركي بحجة البرزاني، واضعاً هذه التدريبات في خانة «استهداف تركيا». والجدير بالذكر هنا أن تصريحات البرزاني أحدثت جدلاً واسعاً في العراق، واتهم الإقليم بتدريب أكراد سوريا للقتال ضد النظام.
ويضيف بياتلي «مع تزايد الدعم التركي للمعارضة السورية، بدأت إيران تغض النظر عن حزب الحياة الحرة الكردي. وتقول بعض التقارير الاستخباراتية إن النظام الإيراني يدعمهم، بالإضافة إلى انسحاب الأمن السوري من المناطق الكردية في الشمال وتركها في عهدة الميليشيات، وكل هذا يدل على الدعم الإيراني ـ السوري للأكراد».
تركيا أمام «خيارين»
ومهما كانت أسباب سحب العناصر الأمنية من المناطق الكردية، والتي هي في المناسبة ليست بالضخامة التي صوّرها الإعلام، إذ انه بموجب «اتفاقية أضنه» لا يمكن لسوريا أصلاً إرسال جيشها إلى الحدود التركية، فإن خطوة النظام السوري أثارت الجانب التركي، وانصبّ النقاش الداخلي على الموضوع الكردي نظرا لحساسيته البالغة، كما لمفاعيله وانعكاساته الخطيرة في تركيا، وأمام هذه المعضلة سعت أنقرة إلى اجتراح الحلول للتصدي للخطر الكردي، فوجدت نفسها أمام خيارين:
1- الخيار الأمني: عندما قام الأمن السوري بالانسحاب من المناطق الكردية، أعلنت حكومة رجب طيب اردوغان إمكانية الدخول إلى سوريا لملاحقة العناصر الكردية المعادية إذا ما تحوّلت المنطقة إلى ملاذ آمن لحزب العمال الكردستاني، على غرار ما هو حاصل في شمال العراق. وقد أرسلت بالفعل وتواصل إرسال تعزيزات عسكرية على طول الحدود مع سوريا، لكن نوعية وحجم التعزيزات لا تشير إلى أنها مخصصة لمواجهة «الكردستاني» فقط، فهي تتضمن بطاريات صواريخ مضادة للطائرات ومدرعات، بالإضافة إلى وحدات متخصصة في الحرب الكيميائية.
2- خيار احتواء الأزمة: وهذا الخيار هو الأفضل لأنقرة حتى لا تصل إلى الانفجار في مرحلة سقوط سياسة «صفر مشاكل» وتعاظم الأزمات مع إيران وسوريا والعراق، إذ ان التوقيت ليس مناسباً للتهور وفتح جبهات قد تغرق تركيا في حرب مدمرة، خاصة أن آخر إحصاء في تركيا أظهر رفض المواطنين لأي تدخل عسكري في سوريا، حيث رفض 80 في المئة من الأتراك، بحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «مارشال» الأميركية، تورط بلادهم في أي عمل عسكري في سوريا. وتدل نتيجة الاستطلاع على خوف الشارع التركي من الانجرار إلى حرب مع سوريا، وعلى الاعتقاد بأن أنقرة انغمست في المشكلة السورية أكثر مما يجب، بحسب بياتلي وبولوت.
وفي هذا الإطار، يوضح بياتلي أن «تركيا لا تفكر بالتدخل العسكري في سوريا إلا في حال حدوث اعتداء كبير عليها»، مضيفا «الفوضى تعم سوريا ومن المنطقي أن تقوم تركيا بحماية أراضيها عبر إرسال تعزيزات عسكرية إلى الحدود»، كما أن «بعض العناصر الإرهابية، التابعة للنظام السوري وحزب العمال الكردستاني، بدأت تتسلل مع اللاجئين».
ويضع بولوت ردة الفعل التركية في إطار «التهويل الإعلامي والعسكري»، مستبعداً بدوره أي تقدم للجيش التركي باتجاه الأراضي السورية. ويضيف المحلل السياسي التركي قائلاً إن «الحكومة في مأزق، لذا طلب رئيس الحكومة الحوار مجدداً مع حزب العمال الكردستاني، فبعد مراجعة التطورات الأخيرة، فهم اردوغان أنه لا يمكن حل المشكلة عسكرياً، فهذه ليست حرباً تقليدية ولا يمكن للجيش التركي أن يتقدم نحو المعسكرات الكردية، وهو في أحسن الأحوال يبقى بعيداً عنها لمسافة 10 كيلومترات». لكن بياتلي يرى انه من الصعب جداً تحقيق ذلك، لأن الأكراد يعتبرون أن ما يحصل هو جزء من «الربيع الكردي».
في المحصلة، أدى التبدل في استراتيجية حزب العمال الكردستاني، والذي تبلور في تصاعد عنيف للعمليات العسكرية، إلى كبح الجماح التركي، وإلى طرح أردوغان مجدداً ورقة التفاوض مع الأكراد. أضف إلى ذلك ثني الحكومة التركية عن القيام بأي خطوة فعلية لإقامة مناطق عازلة أو آمنة أو غيرها في سوريا، فاقتصر دور أنقرة على التهديد والوعيد، وتمرير السلاح إلى مقاتلي المعارضة بالإضافة إلى إيوائهم وتدريبهم.
وإن كان لسوريا دور فعلي في دعم الأكراد، فيمكننا القول إنها حرب بالوكالة يخوضها النظام لإرساء «توازن رعب» مع أنقرة، وعلى ما يبدو، فإن حدتها ستزداد تباعاً في الأشهر المقبلة، وسيرتفع عدد القتلى الأتراك مع ارتفاع عددهم لدى الجيش السوري، بانتظار حل سياسي يحد من تدفق أنهار الدماء.
نادر عز الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد