سورية على مسرح الحرب اللامتماثلة
الجمل: عندما احتلت القوات الأمريكية بغداد توقع الكثيرون أن تكون دمشق هي المحطة الثانية في مسيرة القوات الأمريكية وكانت هذه التوقعات والتحليلات تعد السند الكبير في توجهات جماعة المحافظين الجدد المسيطرة على دوائر صنع القرار داخل الإدارة الأمريكية. فهل ما تزال دمشق تمثل المحطة الثانية، أم أن الإدارة الأمريكية وجماعة المحافظين الجدد قد قرروا التقدم نحو هذه المحطة بوسائل حربية أخرى غير الوسائل العسكرية خاصة وأن علم الحرب قد أكدت منجزاته الحديثة أن الوسائل العسكرية ليست هي الوحيدة المستعملة في شن الحروب؟
* دمشق ومرحلة ما بعد احتلال بغداد:
توصيف الأحداث والوقائع الجارية على الجانب الآخر وتحديداً جانب واشنطن وتل أبيب يشير بقوة إلى أن ثمة سيناريو محدد ضد دمشق يتم العمل على تنفيذه منذ لحظة احتلال بغداد. وبقليل من التدقيق يتبين لنا بكل وضوح أن الأداء السلوكي الحربي هو السمة البارزة التي يتميز بها هذا السيناريو، وتأسيساً على الأحداث والوقائع التي حدثت وتحدث حالياً يتضح لنا أن العمل في تنفيذ هذا السيناريو ما زال جارياً على قدم وساق وبوتائر تتزايد سرعتها يوماً بعد يوم بما يؤكد بقوة ووضوح الآتي:
• إن الحرب ضد دمشق قد بدأت منذ لحظة احتلال بغداد ولكن بالوسائل غير العسكرية.
• إن مسرح المواجهة مع دمشق يتضمن الكثير من الخطوط والجبهات التي يجري تفعيلها يوماً بعد يوم.
• الجهود الحربية ضد دمشق تنقسم إلى جهد رئيسي تقوم به الولايات المتحدة وإسرائيل وجهود ثانوية تقدم الدعم والمساندة للجهد الرئيسي وتقوم بهذه الجهود العديد من الأطراف الأخرى.
• يمثل محور واشنطن – تل أبيب بطارية إطلاق النار الرئيسية في الهجوم على دمشق، وتمثل باريس وبرلين ولندن والقاهرة وعمان والرياض ورام الله وبيروت السنيورة، بطاريات النيران الصديقة المتحالفة مع محور واشنطن – تل أبيب.
* استهداف دمشق:
تعتبر نظرية تحليل النظم من أكثر الأدوات فعالية في تحليل المعطيات ورصد فعاليتها وتفاعلاتها وتوجهاتها وتداعياتها المستقبلية وتأسيساً على ذلك يمكن أن نشير إلى الآتي:
• على جانب الوضع الجزئي: طوال الفترة الممتدة منذ لحظة احتلال بغداد في مطلع العام 2003م وحتى الآن تتعرض دمشق لعملية استهداف واسعة النطاق تضمنت استخدام الآتي:
* الوسائل الاقتصادية: العقوبات الاقتصادية والمتصاعدة وعرقلة الاتفاقيات الاقتصادية القائمة وقطع الطريق على إنجاز المزيد من الاتفاقيات والحرب التجارية غير المعلنة ضد قطاع الصادرات والواردات، إضافة إلى عرقلة حركة الأفراد السوريين إلى الخارج ومحاولة الحد من قدوم الأجانب إلى سوريا.
* الوسائل السياسية: تزويد المعارضة السورية بالدعم والمساعدات والضغط على العواصم العالمية من أجل إشراكها في استهداف سوريا أو تحييدها على الأقل، وأيضاً بناء تحالف إقليمي عربي – شرق أوسطي والدفع به باتجاه المشاركة في استهداف سوريا ويضاف إلى ذلك ليس عرقلة الجهود السورية الهادفة إلى السلام والاستقرار في المنطقة وحسب، وإنما تحميلها مسؤولية الاضطراب والصراعات الدائرة في المنطقة على النحو الذي يجعل دمشق مسؤولة عن:
* مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم.
* مقاومة اللبنانيين للعدوان الإسرائيلي على لبنان ومعارضة اللبنانيين لحكومتهم.
* مقاومة العراقيين للاحتلال العسكري الأمريكي.
* الوسائل الاستخبارية: حيث تم تخصيص الكثير من الأقمار التجسسية لمراقبة ورصد سوريا وقد أكدت الأدلة الدامغة التي تمثلت في الصور الفضائية التي التقطتها أقمار التجسس لما زعم بأنه منِشأة نووية سورية وهي الصور التي نشرتها صحف نيويورك تايمز والواشنطن بوست والتايمز البريطانية وغيرها من كبريات الصحف العالمية، وبغض النظر عن المفاعل النووي المزعوم فإن وجود مثل هذه الصور في حد ذاته يعكس الحقيقية المتمثلة في أن كل أراضي سوريا قد أصبحت هدفاً لكاميرات أقمار التجسس الفضائي. كذلك تشير المعلومات إلى أن محور واشنطن – تل أبيب قد قطع شوطاً كبيراً في بناء الشبكات الاستخبارية للقيام أولاً بجمع المعلومات الاستخبارية وثانياً بتنفيذ العلميات السرية، وحالياً أصبحت سوريا هدفاً لعدد من الشبكات الاستخبارية الإقليمية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
* الشبكات اللبنانية: وهي متعددة ومن أبرزها شبكة القوات اللبنانية إضافة إلى الشبكات الأخرى التي نجحت أجهزة الموساد الإسرائيلي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية وقلم المخابرات في الخارجية الفرنسية في تجنيد وتدريب وتنظيم ونشر عناصرها.
* شبكة البرزاني: وهي شبكة ظلت تقدم خدماتها للموساد الإسرائيلي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية منذ فترة نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وتشير المعطيات والتكهنات إلى أن هذه الشبكة قد توسعت كثيراً بعد احتلال العراق وظهور "أربيل" كعاصمة ظل للحركات الانفصالية الكردية ومركز إقليمي لمحطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وواحد من أكبر محطات الموساد الإسرائيلي في منطقة شرق المتوسط.
* شبكة المتعاملين العراقيين: نجحت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في تجنيد شبكة واسعة من العراقيين منذ أيام النظام العراقي السابق ومن أبرزهم العراقيين من حملة الجنسية الأمريكية، ولاحقاً بعد احتلال العراق تزايد عددهم وبالتأكيد ستقوم أمريكا باستخدام وتفعيل شبكاتهم في بلدان الجوار الإقليمي للعراق وعلى وجه الخصوص سوريا وإيران.
إضافة إلى هذه الشبكات فهناك الوسائل الاستخبارية الرسمية التي يتم استخدامها في استهداف سوريا ومنها:
* جهاز المخابرات الأردنية: يرتبط بالتنسيق وعلاقات التعاون مع جهاز الموساد الإسرائيلي ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية وبدرجة أقل مع غيرها من الأجهزة الغربية وكما تقول التسريبات فإن جهاز المخابرات الأردنية يلعب دوراً كبيراً في:
* تقديم المعلومات والبيانات والتقارير لجهاز الموساد الإسرائيلي.
* دعم الجهود الاستخبارية الأمريكية في العراق ودول الجوار الإقليمي الأردني مثل سوريا والعراق والسعودية والأراضي الفلسطينية.
* تقديم المعلومات والبيانات والتقارير للإسرائيليين والأمريكيين حول الفلسطينيين والشؤون اللبنانية.
* القيام بالعمليات السرية بـ"الوكالة" عن المخابرات الأمريكية والموساد الإسرائيلي وقد تبين أن العديد من الاغتيالات التي تمت في الأردن على وجه الخصوص للعلماء العراقيين لم تكن بعيدة عن هذا الجهاز.
* جهاز المخابرات السعودية: برغم أن صعود اسم المخابرات السعودية حديث العهد في منطقة شرق المتوسط فمن الممكن القول بأن التطورات في الساحة العراقية واللبنانية والفلسطينية وما ترتب عنها من دفع الإدارة الأمريكية للسلطات المالكة السعودية باتجاه دعم جهودها في "محاربة الإرهاب" و"استقرار العراق" و"الحد من النفوذ النووي الإيراني في الشرق الأوسط" و"استقرار لبنان" و"إنجاح عملية سلام الشرق الأوسط"، فإن التوافقات كبيرة بأن يكون جهاز المخابرات السعودي قد بدأ تغلغله في منطقة شرق المتوسط، وتقول بعض التسريبات بأن المخابرات السعودية أصبحت أكثر نشاطاً في الساحة اللبنانية حالياً بشهادة ضباط قوى الأمن الداخلي والمخابرات اللبنانية أنفسهم، ومن المتوقع وطالما أن الشأن اللبناني يرتبط بالشأن السوري، أن تحاول المخابرات السعودية تحقيق الحضور في الساحة السورية.
* جهاز المخابرات التركية: برغم توجهات حزب العدالة والتنمية الإسلامي وبرغم علاقات محور دمشق – أنقرة التي أصبحت أكثر دفئاً، فإن "لغة المخابرات" تظل محتفظة بخصوصيتها، وحتى الآن ما تزال المخابرات التركية ترتبط بعلاقاتها الإستراتيجية وصلاتها الوثيقة مع المخابرات الأمريكية والإسرائيلية ومخابرات حلف الناتو وخلافات أنقرة – تل أبيب، فإن توافقات أنقرة – تل أبيب – واشنطن – بروكسل الاستخباري سيظل حقيقة قائمة على خلفية ارتباطات تركيا الدولية والإقليمية بهذه الأطراف وأيضاً على خلفية الأجندة والاهتمامات المشتركة في المجالات "الخاصة" الأخرى، وبالتأكيد، سوف تحاول مخابرات أنقرة تحقيق الحضور الخاص في منطقة شرق المتوسط المجاور لجنوب تركيا.
* جهاز مخابرات السلطة الفلسطينية: صحيح أن حركة فتح قد قطعت إلى حد ما صلاتها مع دمشق ولكن من المعروف أن "نسيج" شبكات فتح سوف يظل موجوداً في سوريا ولبنان والأردن وفي سائر مناطق وجود اللاجئين الفلسطينيين وبالتأكيد بسبب روابط "رام الله" مع القاهرة وعمان وواشنطن وتل أبيب فإنه لا يمكن الاستهانة بها وبدورها الخفي الذي يمكن أن تقوم به في المنطقة لدعم وتعزيز أصدقائها وحلفائها.
* الوسائل العسكرية: حتى الآن لم يبرز استخدام هذه الوسائل بالشكل الواسع النطاق أو بشكله بالمباشر باستثناء الغارة الإسرائيلية الأخيرة وما سبقها من عمليات تحليق للطيران الإسرائيلي وأيضاً قيام وحدة استطلاعية أمريكية في إحدى المرات بتجاوز الحدود السورية العراقية. ولكن قبل بضعة أشهر برزت بعض المعلومات حول نقاش يدور داخل البنتاغون حول مدى جدوى وحق قوات الاحتلال الأمريكي في القيام بما أطلقت عليه تسمية "عمليات التعقب الساخن" للمتمردين العراقيين داخل الأراضي السورية.
* دمشق في مسرح الحرب "اللامتماثلة":
يشير العلم العسكري وعلم الحرب إلى وجود العديد من الحروب والوسائط العسكرية وبتعدد ذلك تتعدد المسارح والنماذج وأنماط أجيال الحرب، فهناك الجيل الأول والثاني والثالث من الحروب أما الجيل الرابع فهو جيل الحرب "اللامتماثلة" وهي الحرب التي تخوضها دمشق الآن ضد محور واشنطن – تل أبيب وحلفائه. وتشير دلالة مفهوم الحرب اللامتماثلة إلى الحرب التي تنشأ وتندلع بين طرفين أو أكثر أو الجماعات تتميز هذه الأطراف بالاختلاف الكبير في الاعتبارات المتعلقة بالقوة ويسعى التفكير الاستراتيجي العسكري المعاصر إلى توسيع هذا المفهوم بحيث يشمل:
• القدرات الإستراتيجية اللامتماثلة.
• القدرات التكتيكية اللامتماثلة.
ويندرج ضمن ذلك أن مسارح المواجهة نفسها أصبحت متسعة لتشمل مسارح الحروب اللامتماثلة والتحركات التي تجري على هذه المسارح يتسع مفهومها بحيث بدلاً من الهجوم أصبح هناك الهجوم اللامتماثل وبدلاً من الدفاع هناك الدفاع اللامتماثل وبنفس الطريقة بدلاً من العمليات هناك العمليات اللامتماثلة.
المواجهة الدائرة حالياً بين دمشق ومحور واشنطن – تل أبيب هي مواجهة لامتماثلة بسبب:
• مسرح المواجهة اللامتماثل: تركز دمشق على استخدام قوتها القومية وفعالية دورها ومكانتها الإقليمية في مواجهة محور تل أبيب – واشنطن الذي يركز على فعالية الدور والمكانة الدولية لقوة أمريكا وحلفائها، وهي قوة تقوم إسرائيل بتوجيه إرادتها عن طريق سيطرتها على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومي الأمريكي.
• وسائط المواجهة اللامتماثلة: تركز دمشق على استخدام قدراتها الذاتية والحصول على مساندة حلفائها وأصدقائها ونفوذها الكبير في الشارع العربي والرأي العام العربي وخطابها الملتزم بمبدأ الحقوق العادلة المشروعة في مواجهة محور واشنطن – تل أبيب الذي يركز على ازدواجية المعايير واستخدام الإملاءات الوحيدة الاتجاه من أجل توظيف كامل البنيان الدولي في مواجهة دمشق ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
* توظيف ملف دعم الإرهاب.
* توظيف ملف المحكمة الدولية.
* توظيف ملف حقوق الإنسان.
* توظيف الأدوات المؤسسية المتوافرة لدى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
توظيف التحالفات الإقليمية والتي بدأت بتجميع المعتدلين العرب.
الحرب اللامتماثلة الدائرة حالياً في منطقة شرق المتوسط ضد سوريا تدور أيضاً ضد حزب الله وحركة حماس وقد اتسع نطاقها ليشمل إيران وسوف ترتفع وتائرها خلال العام الحالي باعتبار أن محو واشنطن – تل أبيب قد دخل حالياً في مرحلة الأزمة لأنه لم يستطع إحراز النصر في الحرب اللامتماثلة ولا في الحروب الأخرى الدائرة في العراق والأراضي الفلسطينية وأفغانستان ولأن الفترة الزمنية المتبقية لإدارة بوش أصبحت محدودة بحيث لم يعد أمام هذا المحور سوى تسريع خطوات التصعيد والقيام بالمزيد من العمليات واستخدام المزيد من الوسائط، ومن الأمثلة على حالة العجلة والارتباك التي سادت في أوساط هذا المحور نجد تزامن قيام الرئيس بوش بفرض العقوبات على سوريا مع حادثة اغتيال عماد مغنية في دمشق، ومع اقتراب فرض جولة جديدة من العقوبات الجديدة على طهران، فهل ستنجح عملية تسريع إيقاعات الحرب اللامتماثلة في تحقيق النتائج التي يسعى محور واشنطن – تل أبيب الحصول عليه والمتمثلة في تنازل سوريا عن الجولان لصالح إسرائيل وقيام حزب الله بتسليم أسلحته واعتراف حركة حماس بإسرائيل وتخلي إيران عن برنامجها النووي أم سيقبل محور واشنطن – تل أبيب تجرع كأس الهزيمة؟
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد