عمليات استخبارية طويلة ومعقّدة سهّلت عودة حلب
ما زال الانهيار المُفاجئ للفصائل المسلحة في الأحياء الشرقية من حلب، يُشكلّ لغزاً يستعصي على الفهم لدى العديد من الجهات الإقليمية والدولية التي كانت تتوقع معركةً قاسية تليق بمكانة حلب وأهميتها الاستراتيجية. ولطالما شُبّهت المعركة المتوقعة في حلب بمعركة غروزني، من حيث الدمار الذي سينتج عنها. لكن ما حصل هو العكس تماماً، فالأحياء تساقطت في يد الجيش السوري مثل أحجار الدومينو، دون أن تواجهه أيُّ مقاومة عنيفة، وهو ما أثار حيرة المراقبين من كلا الطرفين (الموالي والمعارض)، ودفعهم للبحث عن حقيقة الأسباب التي أدت إلى ذلك.
وقد ذُكرت أسبابٌ عديدة قيل إنها تقف وراء الانهيار الذي حصل في صفوف الفصائل المسلحة، منها الخلافات بين الفصائل التي وصلت في مراحل معينة إلى درجة الاشتباك المُسلح كما حصل بين «الزنكي» و «فاستقم»، أو بين «فتح الشام» و «فيلق الشام» و «جيش الاسلام»، ومنها أيضاً الدعم الروسي اللامحدود للجيش السوري مقابل غياب الدعم الغربي للفصائل المسلحة، وكذلك تغير الأولويات التركية، وتركيز أنقرة جهودها على عملية «درع الفرات» في الشمال، لا على مدينة حلب.
ولا شكّ في أن جميع هذه الأسباب ساهمت بنحو أو بآخر في تسهيل مهمة الجيش السوري في اقتحام الأحياء الشرقية من حلب وساعدته على فرض سيطرته على الجزء الأكبر منها (ما يعادل 80 في المئة) حتى الآن. غير أن هذه الأسباب لا تكفي لتفسير الانهيار الذي حصل في صفوف الفصائل المسلحة ودخول الجيش إلى غالبية الأحياء من دون قتال.
ويكفي في هذا السياق إجراءُ مقارنةٍ بسيطة مع مدينة داريا في ريف دمشق التي استغرقت المعارك فيها أعواماً طويلة قبل أن يتمكن الجيش من كسر دفاعات الفصائل فيها وإجبارها على توقيع تسوية أخرجت عناصرها إلى مدينة إدلب قبل اسابيع قليلة، ولم تكن الفصائل في داريا تحظى بأي دعم غربي لكونها محاصرة ولا خطوط إمداد لها، كما لم يكن وراءها أنقرة ولا غيرها. لكن مع ذلك فإن معركة واحدة من المعارك التي جرت في داريا، وهي في النهاية مدينة صغيرة في ريف دمشق، تكاد تعادل ما جرى في الأحياء الشرقية من حلب على ضخامتها وكثافتها السكانية وأهميتها الاستراتيجية.
ما الذي جرى إذاً حتى تضعضعت صفوف الفصائل المسلحة وانهارت بهذا الشكل غير المسبوق؟
«عملية استخبارية طويلة المدى ومعقدة بدأت في الواقع بعد اسابيع قليلة فقط من سقوط حلب الشرقية بيد المسلحين عام 2012 واستمرت بالتدحرج البطيء طوال الأعوام السابقة، ثم جرى تصعيدها خلال العام الحالي، وبلغت ذروتها بعد إكمال الطوق قبل أربعة أشهر، هي وحدها قادرة على تفسير اللغز المحير الذي شكله انهيار المسلحين المفاجئ»، كما قال مصدر مطلع. ويضيف المصدر أن «جهود العشرات من عقول الاستخبارات السورية، وعمل المئات من العملاء على الأرض، طوال أشهر طويلة تخللها الكثير من المصاعب والتحديات، هي التي مهدت الطريق أمام الجيش السوري لتحقيق النصر الكبير الذي حققه في الأحياء الشرقية»، مشدداً على أن «ما تمّت زراعته في حقل الاستخبارات، حصدناه في بيدر الجيش».
وفي التفاصيل أن الاستخبارات السورية سعت منذ الأيام الأولى لسقوط حلب الشرقية إلى زرع العيون والعملاء والجواسيس في كافة البنى العسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية التابعة للجماعات المسلحة في حلب. وقد نجحت في حالات كثيرة باختراق هذه الجماعات في مستويات قيادية مؤثرة سواء على الصعيد العسكري أو الأمني أو الإعلامي. وقد أتاحت لها هذه الاختراقات من خلال عملية تراكمية استمرت طوال السنوات الماضية، لكن بدرجات متفاوتة، الحصول على كنز من المعلومات والصور والاحداثيات، بل إنها في بعض الحالات كانت على اطلاع تفصيلي بما يجري من نقاشات داخل بعض غرف عمليات المسلحين، ومن بينها الحصول على تفاصيل الخطة العسكرية الخاصة بـ «ملحمة حلب الكبرى»، وهو ما ساعد الجيش في إفشال هذه الخطة وإجهاضها من خلال وضع خطة مقابلة عملت على احتواء خطة المسلحين وتحويلها إلى كمين ضدهم. وقد كان من بنود هذه الخطة توقع المسلحين أن يقوم الجيش بسحب قسم من جنوده من بعض جبهات حلب لتعزيز الجبهة الغربية التي كانت تتعرض لضغطٍ عسكري كبير على محور ضاحية الأسد، وكانت الفصائل داخل حلب الشرقية بانتظار قيام الجيش بهذه الخطوة كي تبدأ هجومها المتفق عليه من داخل هذه الأحياء ووضع الجيش بين فكّي كماشة، وهو ما تمكن الجيش من تفويته على المسلحين بعد حصوله على تفاصيل الخطة.
ورغم أن المصدر الذي تحدث اعتبر أنه من السابق لأوانه الكشف عن تفاصيل العمليات الاستخبارية التي استبقت عملية الجيش السوري في الأحياء الشرقية، نظراً لأن العملية لا تزال مستمرة، وقد يؤدي كشف المعلومات إلى التأثير عليها سلباً، أكد أن «الجهد الاستخباري أدى دوراً كبيراً في إنجاح عملية الجيش وتسهيلها على هذا النحو غير المتوقع». وأشار بنحو خاص إلى أن «تفعيل دور العيون والعملاء في الأيام التي سبقت إطلاق عملية الجيش هو الذي أدى إلى الانهيارات التي حصلت في صفوف الجماعات المسلحة، وذلك نتيجة التخبط الذي اصابها بعدما اكتشفت هذه الجماعات منذ الضربات الأولى للطيران والمدفعية أنها مكشوفة وعارية»، وأن من يضربها بهذه الدقة «لا يفعل ذلك إلا لأنه يملك معلومات كافية عن جميع تحصيناتها وخططها الدفاعية وإحداثيات أهم مراكزها ومعاقلها ومستودعاتها».
وإلى جانب الفوضى والتخبط اللذين حدثا نتيجة هذا الاحساس بالانكشاف لدى الفصائل، فقد انطلقت موجةٌ عارمة من التخوين وتبادل الاتهامات في تسريب المعلومات للجيش السوري، وهو ما خلق نواة انعدام الثقة بين هذه الفصائل بعضها ببعض، وأدى في نهاية المطاف إلى تحرك كلًّ منها بنحو مستقل عن الفصائل الأخرى، كما رفض بعض القادة مساندة جبهات بعض الفصائل خشية أن يكون في الأمر كمين، بمعنى أن الفصائل تفككت، ولم تعد تعمل على أنها جبهة واحدة، فكان الانهيار الذي حصل وأثار حيرة الكثيرين.
لذلك لم يكن من قبيل المصادفة، أن يتحدث قيادي كبير في «حركة نور الدين الزنكي» هو أبو بشير معارة الذي يشغل منصب القائد العسكري العام لـ «جيش حلب»، علناً عن الخيانة كما كتب على حسابه على «تويتر»، وأنه «لولا خونة الداخل ما تجرأ علينا عدّو الخارج» في إشارة إلى الجيش السوري. ولم يقتصر الأمر على مجرد الاتهامات الشفهية، بل إن «الزنكي» بعد تحريات قامت بها خلال الأيام الماضية، اكتشفت أمر بعض الشبكات المرتبطة مع الجيش السوري وعملت على ملاحقتها والقبض على أفرادها.
وقد علمنا أن غالبية أفراد هذه الشبكات ومن بينهم أشخاص عملوا كإعلاميين لدى بعض الفصائل، تمكنوا من الهرب والوصول بأمان إلى مناطق سيطرة الجيش، فيما لا يزال قسمٌ منهم يحاول الهروب، فيما وقع بعضهم بيد الجهاز الأمني لحركة «نور الدين الزنكي» حيث يجري التحقيق معهم حالياً في محاولة لكشف باقي الشبكات، وهو ما يبدو متعذراً لأن الشبكات مشكلة وفق البنية العنقودية بحيث لا تعلم كل شبكة شيئاً عن الشبكات الأخرى.
الفصائل منقسمة.. و«الزنكي» توزع السلاح
كانت إصابة أبو عبد الرحمن نور بعد ساعات من تعيينه قائداً عاماً لـ «جيش حلب» واحدة من الدلائل الكثيرة التي أثبتت مدى درجة الاختراق التي أحدثتها الاستخبارات السورية في بنية الفصائل المسلحة. لكن هذه الحادثة بالذات كان لها دلالة أخرى صبّت في خانة انعدام الثقة بين الفصائل انعداماً مطلقاً الأمر الذي مهد لانقسامها إلى كيانين مختلفين.
وبحسب معلومات من مصدر مقرب من أحد فصائل «الجيش الحر» في الأحياء الشرقية من حلب، فإن إصابة أبو عبد الرحمن كانت المسمار الأخير في نعش «جيش حلب» الذي لم يكتمل تكوينُه أصلاً. لأن هناك شبه يقين من أن محاولة اغتيال قائد الجيش بعد ساعات من إعلانه، إما أن تكون نتيجة تسريب معلومات عن مكان وجوده للجيش السوري، أو أنه استُهدف من نيرانٍ يفترض أنها صديقة، وهو ما تجري التحقيقات بشأنه حتى الآن من قبل بعض الفصائل المعنية. والنتيجة واحدة في كلتا الحالتين، هي انعدام الثقة بين الفصائل، الأمر الذي أدى إلى انقسامها إلى قسمين: القسم الأول يضمُّ «الجبهة الشامية» التي ينتمي إليها أبو عبد الرحمن و «تجمع فاستقم» و «فيلق الشام». والقسم الثاني يضم «فتح الشام» و «الزنكي» و «أحرار الشام» و «مجاهدو اشداء» الذي انفصل عن «أحرار الشام» مؤخراً، وغيرها.
وأكد المصدر الذي تحدث من داخل الأحياء الشرقية، طالباً عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية المعلومات، أن القسم الثاني من الفصائل هو الذي عيّن أبو العبد قائد «مجاهدو أشداء» خلفاً لأبي عبد الرحمن كقائد عام لفصائل حلب، وهو ما رفضته فصائل القسم الأول.
و أكد معيوف أبو بحر، القائد العسكري لقطاع حلب في «حركة نور الدين الزنكي»، العديد من المعلومات السابقة. فقد تحدث صراحةً عن «وجود بعض الخونة ممن كانوا يحملون السلاح والكاميرات بجانبنا لوقت طويل»، مشيراً إلى أن «التطهير في آخر مراحله من هؤلاء»، كما شدد على أن «الفصائل بدأت بامتصاص الصدمة وإعادة ترتيب أوراقها بعد هروب الخونة وإلقاء القبض على من تبقى داخل مناطقنا».
كما أن قيادياً في أحد فصائل «الجيش الحر» الموجود في الأحياء الشرقية، أكد وجود الانقسام بين الفصائل وعدم قبول القسم الذي ينتمي إليه بتعيين أبو العبد أشداء قائداً عاماً للفصائل في حلب، كما أعرب القيادي الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، عن اعتقاده بأن «سقوط الأحياء بيد الجيش السوري كان بعملية استخبارية أكثر منه بعملية عسكرية».
وعن مبادرة الهدنة لمدة خمسة أيام، قال معيوف أبو بحر إنه «لا يتوقع موافقة موسكو عليها»، مشدداً على أن «طرح الهدنة لا يعني الموافقة على خروج الفصائل المسلحة من حلب»، مشيراً إلى أن «الفصائل ستقاتل حتى آخر رجل»، بحسب قوله.
وفيما يبدو أنه تأكيد لتوجه «الزنكي» وحلفائها للقتال حتى النهاية، أصدر المكتب الشرعي في الحركة بياناً قال فيه إنه «مستعد لتسليح وتذخير كل الفصائل والكتائب المقاتلة في حلب».
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد