هل تتمكن الدبلوماسية السورية من ملء فراغ "الشرق الأوسط" في أوراسيا
الجمل: تنطوي لعبة الحرب الدبلوماسية على قدر كبير من تبادل الدوار بين اللاعبين، وعلى هذه الخلفية، يمكن أن نفهم مغزى توزيع الأدوار على محور تل أبيب – واشنطن وتشير المعلومات الدبلوماسية إلى أن هذا المحور يسعى حالياً لتطبيق استراتيجية الهروب إلى الأمام، وذلك عن طريق توسيع دائرة المواجهة بما يؤدي إلى نقل عدوى ارتفاع درجة حرارة المواجهة مع روسيا من منطقة القوقاز إلى آسيا الصغرى.
* مثلث سوريا – القوقاز – آسيا الصغرى: ماذا تحمل الدلالة؟
سوريا بالطبع يهمها أمر المواجهات الإقليمية والدولية التي يكون فيها محور تل أبيب – واشنطن طرفاً، وذلك لأن سوريا كما يفهم الجميع تمثل أحد المربعات الأكثر أهمية وحساسية في رقعة شطرنج مشروع محور تل أبيب – واشنطن، التحركات الدبلوماسية والعسكرية التي ظل محور تل أبيب – واشنطن يقوم بها أو يخطط للقيام بها حيث لا يمكن الافتراض بأي حال من الأحوال أنها لا تستهدف سوريا لأنه:
• لم يحدث أن تفاوضت أو تعاملت إسرائيل أو أمريكا مع أي كيان في العالم إلا وكان من بين بنود التفاوض ضرورة تأييد المساعي الأمريكية لعزل سوريا.
• لم يحدث أي تهديد للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط إلا واتهم المتحدثون الرسميون في واشنطن وتل أبيب سوريا.
وهنالك الكثير من الأمثلة التي يضيق المجال عن ذكرها هنا، وحالياً لا يمكن النظر للتحركات الدبلوماسية الأمريكية – الإسرائيلية المزدوجة باعتبارها تخلو من الاستهداف لسوريا وإذا لم يكن هذا الاستهداف لجهة حرمان سوريا من تدفقات الموارد المباشرة وغير المباشرة الخارجية فعلى الأقل الإضرار بعلاقاتها الدبلوماسية ومحاولة ترسيخ النموذج التنميطي لسوريا باعتبارها تندرج ضمن محور الشر ورعاية الإرهاب.
* دبلوماسية سوريا: وإشكالية فراغ "الشرق الأوسط" في آسيا الوسطى:
تشير معطيات الخبرة التاريخية إلى أن منطقة الشرق الأوسط ظلت حاضرة بقوة في مناطق القوقاز وآسيا الوسطى ولم يكن هذا الحضور يقتصر على المعاملات التجارية عبر طرق القوافل مثل طريق الحرير وغيره وإنما كان حضوراً حقيقياً أثر على تشكيل هوية آسيا الوسطى والقوقاز، ويبدو ذلك واضحاً من خلال الهوية التي تشكلت في هذه المناطق لجهة الانتماء للإسلام السني واعتماد الكثير من مكونات الثقافة العربية التي حملتها الدولة الأموية في مركزها في دمشق.
انهيار الدولة الأموية أدى إلى تراجع نفوذ دمشق السياسي على هذه المناطق ولكن برغم ذلك لم يتراجع نفوذ دمشق الديني والثقافي وهنا يجدر بنا أن نطرح التساؤلات الآتية: هل بالإمكان استعادة ولو الجزء اليسير من نفوذ دمشق السياسي طالما أن نفوذها الثقافي والحضاري وإرثها الديني ما زال موجوداً في آسيا الوسطى والقوقاز؟ وإذا كان ذلك كذلك فما هي الوسيلة؟
صحيح أن الفتوحات والغزوات والحملات العسكرية التي كانت من بين أبرز عوامل تمدد الدولة الأموية لم تعد وسائل مقبولة فإن الدبلوماسية ظلت من الوسائل المقبولة والمشروعة دولياً للقيام بتحقيق النتائج الأفضل لجهة بناء النفوذ وتعزيز القوة.
وعلى هذه الخلفية:
• حاولت القاهرة تمديد دور مصر الإقليمي في القوقاز وآسيا الوسطى ومحاولة تأسيس هذا الدور على الإرث التاريخي الشرق أوسطي –الذي هو إرث دمشقي بالأساس- ولكن تداعيات اتفاقيات كامب ديفيد أدت إلى إضعاف دور مصر الذي ترتب عليه تراجع القاهرة عن مشروعها الذي لم تقطع فيه سوى بعض الخطوات من خلال التفاهمات واتفاقيات التعاون مع بعض دول القوقاز والبحر الأسود.
• حاولت الرياض تمديد دور السعودية في القوقاز وآسيا الوسطى ومحاولة تأسيس هذا الدور على الإرث التاريخي الشرق أوسطي –الذي هو إرث دمشقي بالأساس- ولكن تداعيات وقوع السعودية في براثن الهيمنة الأمريكية جعلت من الدبلوماسية السعودية إزاء مناطق القوقاز وآسيا الوسطى مجرد أداة تكميلية للسياسة الخارجية الأمريكية وقد ترتب عليه أن أصبحت شعوب آسيا الوسطى تنظر بالكثير من الريبة والشكوك لدور العامل السعودي ومن أبرز الدلائل على ذلك مشروع مكافحة الوهابية الذي تعمل السلطات في بعض مناطق القوقاز لتطبيقه من خلال فرض القوانين التي تحظر الأنشطة الوهابية التي يتوقع صدورها قريباً في مناطق داغستان وأنفوشيا والشيشان.
حتى الآن، ما زال فراغ الشرق الأوسط يمثل حقيقة قائمة في مناطق القوقاز وآسيا الوسطى وهو فراغ يتوجب محاولة البحث عن الحلول لملئه، وإن الطرف الوحيد المؤهل في الوقت الحالي هو سوريا وبرغم انهماكها في العديد من الملفات الشائكة المعقدة فإن ملء الفراغ هو أمر لا مفر منه لسبب بسيط وجوهري يتمثل في أنه إذا نجحت إسرائيل في التقدم وملء الفراغ فستكون النتيجة اختلال التوازن القائم لمصلحة إسرائيل.
التدقيق أكثر فأكثر على القدرات يشير إلى أن إسرائيل هي اللاعب الضعيف وواشنطن هي اللاعب القوي، وبالتالي لن تستطيع تل أبيب التحرك وحدها دبلوماسياً لا في القوقاز ولا في آسيا الوسطى. على أساس اعتبارات توازن القوى يمكن الإشارة إلى النقطتين الآتيتين:
• تمثل موسكو القوة المعادية لواشنطن في القوقاز وآسيا الوسطى.
• تمثل إسرائيل القوة المضافة لقوة واشنطن في القوقاز وآسيا الوسطى.
وبمعايرة هاتين النقطتين نلاحظ عدم وجود أي قوة دبلوماسية مضافة لجانب موسكو. وتقول بعض الافتراضات بأن الصين هي القوة الدبلوماسية المضافة، وبرغم أنها افتراضات لا تخلو من الصحة، فإن تأثير القوة الدبلوماسية الصينية المضافة لن يتجاوز مفعوله نطاق دبلوماسية المسار الأول المتعلق بالعلاقات الحكومية الفوقية، ولكنه على أساس مسارات الدبلوماسية العامة فإن تأثيره محدود وذلك بسبب التباينات الثقافية – المذهبية بين شعوب آسيا الوسطى الإسلامية والإرث الثقافي الصيني.
القوة المضافة الإسرائيلية في آسيا الوسطى والقوقاز تعتمد على عدة عوامل من بينها الأقليات اليهودية المبعثرة في هذه المناطق، ولكن مفعولها يمكن إبطاله إذا نظرنا إلى مدى استمرار حضور الإرث الثقافي العروبي – الإسلامي الذي خلفته دمشق الأموية والذي ما زال قوياً.
* دبلوماسية سوريا والانفتاح على القوقاز وآسيا الوسطى:
برغم تصريحات الإسرائيليين القائلة بأنهم يسعون إلى بناء وتعزيز الروابط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية مع موسكو، فإن الهدف الإسرائيلي الرئيسي يظل متمثلاً في دفع موسكو إلى إغلاق أبوابها أمام دمشق، بما يؤدي إلى حرمان دمشق من الحصول على المزايا في علاقاتها مع موسكو.
الضغط على موسكو بدأ بقبول إسرائيل تولي أمر ملف دعم نظام الرئيس الجورجي ساخاشفيلي بدلاً عن واشنطن –برغم أن الرئيس ساخاشفيلي يحمل الجنسية الأمريكية ويعتبر مواطناً أمريكاً حسب القانونين الأمريكي والدولي مثله مثل الكثيرين من مزدوجي الجنسية- ويعود سبب قبول تل أبيب القيام بهذه المهمة إلى رغبة الإسرائيليين في ردع موسكو بما يؤدي إلى دفعها للتراجع عن روابطها وعلاقاتها الشرق أوسطية. وحالياً فإن التواجد المتزامن لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في موسكو ووزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في العاصمة الكازاخستانية الإستانة، هو تواجد يتجاوز مجرد سيناريو توزيع الأدوار بين طرفي خط تل أبيب – واشنطن إلى سيناريو تطبيق تكتيك الهروب إلى الأمام عن طريق نقل المواجهة من المسرح القوقازي إلى مسرح آسيا الوسطى وذلك بما يترتب عليه توحيد الاثنين ضمن مسار واحد هو المسرح الأوراسي الذي سبق أن أشار إليه المفكر اليهودي ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبيغنيو بريجنسكي في كتابه عن رقعة الشطرنج الأوراسية. ويتضمن هذا المشروع تحديداً واضحاً إلى أن قيام محور واشنطن – تل أبيب بالسيطرة على منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى فسيترتب على ذلك سيطرتهما على العالم. وبرغم صعوبة تحقيق الفكرة فإن السياسة تبقى دائماً فن الممكن ولما كانت الصعوبة الحقيقية التي ستواجه محور واشنطن – تل أبيب في السيطرة على آسيا الوسطى والقوقاز هي صعوبة تتمثل في الحضور القوي للإرث الثقافي – الحضاري الذي خلفته الدولة الأموية وبالتالي دمشق في هذه المناطق، فإنه ومن الممكن لدمشق أن تمدد دبلوماسيتها بحيوية وانفتاح أكبر إزاء هذه المناطق ولن تكون هناك مشكلة أو صعوبة لأن سيناريو تمديد دبلوماسية دمشق لن يكون سوى عملية "لم شمل" لمنظومة قيمية حضارية – تاريخية ما تزال فاعلة وقابلة للتفعيل بقوة أكبر.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد