مفهوم "الاختلاف" في القرآن
"إنّ الفعل الأكثر تواترا في القرآن هو فعل اختلف وقد ورد في صيغ متعدّدة: في الماضي مفردا وجمعا يقول تعالى: "وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم" سورة البقرة الآية 213."
1- من الدّلالة المعجميّة إلى الاستعمال القرآني
جذر كلمة "اختلاف" التي هي مصدر من فعل اختلف (خ، ل، ف) وقد ورد لهذا الجذر من الكلمات صيغ متعدّدة وذات معان مختلفة فيقال اختلفت الرّجل أخذته من خلفه واختلفه جعله خلفه ويقال أيضا أخلف الرّجل جعله خلفه أي ردّه إلى خلفه أي وراءه أو وراء ظهره. وقال ابن سكيت(1): ألححت على فلان في الاتّباع حتّى اختلفته أي جعلته خلفي أي تجاوزته. وممّا تشي به هذه المعاني أنّ الاختلاف حركة فيها تجاوز لوضعيّة سابقة نحو وضعيّة جديدة فهي حراك مفض إلى وضع آخر مختلف.
والخلف للأشرار من النّاس يقول تعالى "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصّلاة…" سورة مريم، الآية 59، والخلف للأخيار من النّاس قرنا كان أو ولدا ومنهم من اعتبر الخلف يكون في الخير والشرّ(2).
ويقال قعد خلاف أصحابه أي لم يخرج معهم وخلف عن أصحابه كذلك والخلاف: المخالفة والخلاف المضادّة وقد خالفه مخالفة وخلافا. وخالفه إلى الشّيء عصاه إليه أو قصده بعد ما نهاه عنه وهو من ذلك وفي التّنزيل العزيز "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه" سورة هود / الآية 88. في صيغة فاعل خالف يتّخذ المعنى شكل التّفاعل بين رأيين وبين سلوكين متضادّين وهذا التّفاعل قد يفضي إلى وضع جديد. توافقي كما يمكن أن لا يفضي إلى أي شيء. وتخالف الأمران واختلفا: لم يتفقا وكلّ ما لم يتساو، فقد تخالف واختلف. قال تعالى: "والنخل والزّرع مختلفا أكله…" سورة الأنعام /الآية 141.
كما أنّ للجذر مشتقّات ذات معنى تهجيني سلبي مثل الخلف والخالف والخالفة وتعني الفاسد من النّاس والهاء للمبالغة، قال عزّ وجلّ "رضوا بأن يكونوا مع الخوالف" سورة التّوبة /الآية 78.
على وزن افتعل وفعل تخالف على وزن تفاعل كلاهما مزيد بحرفين ويشتركان في نفس المعنى وهو تشارك شخصين أو أكثر في الخلاف –أي المشاركة ويشترط في فاعل الفعل الذي على وزن تفاعل وافتعل والذي يدلّ على المشاركة أن يكون متعدّدا أي متكوّنا من اثنين فأكثر.
إنّ الفعل الأكثر تواترا في القرآن هو فعل اختلف وقد ورد في صيغ متعدّدة: في الماضي مفردا وجمعا يقول تعالى: "وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم" سورة البقرة /الآية 213. وقوله تعالى "وما كان النّاس إلاّ أمّة واحدة فاختلفوا" سورة يونس /الآية 19. في المضارع مع المخاطب الجمع قال تعالى: "ثمّ إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون" سورة أل عمران / الآية 55. ومع الغائب الجمع، قال تعالى: "فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" سورة البقرة /الآية 113. كذلك استعمل الفعل في صيغة المبنى للمجهول مرّة واحدة قال تعالى: "ولقد أتينا موسى الكتاب فاختلف فيه" سورة هود /الآية 110.
كذلك ورد في القرآن مشتقان اثنان: هما المصدر: إمّا معرّفا بالإضافة كقوله تعالى "إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف الليل والنّهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها". سورة البقرة /الآية 164.
وإما مصدرا نكرة موصوفة كقوله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" سورة النساء / الآية82.
أمّا المشتق الثاني فهو اسم الفاعل وقد ورد مفردا كقوله تعالى "يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس". سورة النحل /الآية 69. وجمعا مثل قوله تعالى "عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون." سورة النبأ /الآية
3.لقد بلغ مجموع الآيات التي ورد فيها فعل اختلف في صيغة متعدّدة ومشتقاته المتنوّعة اثنين وخمسون آية. منها ست وثلاثون آية مكيّة وست عشرة آية مدنيّة وقد توزّعت على النّحو التّالي الأفعال التي وردت في صيغة الماضي: 17 آية، الأفعال التي وردت في صيغة المضارع: 16 آية، فعل في صيغة المبني للمجهول: آية واحدة، المصدر ورد في 7 آيات واسم الفاعل في عشر آيات(3).
وممّا يلاحظ في هذه الآيات جميعها أنّ "الاختلاف" سواء ورد فعلا أو مصدرا أو اسم فاعل، قد اتصل بمجالين اثنين هما: مجال الطبيعة ومجال الإنسان. أمّا الأفعال فكلّها اتصلت بالإنسان، فمنها ما يتوجه إلى الناس عامة مثل قوله تعالى: "وما كان النّاس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا" سورة يونس/الآية 19 ومنها ما يتوجّه إلى المؤمنين مثل قوله تعالى: "قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه" سورة الزخرف/الآية 63. وقد نزلت في عيسى الذي بعث ليبيّن لليهود ما اختلفوا فيه ممّا يعنيهم من أمر دينهم.
أمّا المصدر واسم الفاعل فقد تناولا المجالين الطبيعي والإنساني. قال تعالى: "ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماءا فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها" سورة فاطر/الآية 27. ثمّ قوله تعالى:"ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة ولايزالون مختلفين" سورة هود/الآية 118.
2- "الاختلاف" مظهر من مظاهر الطّبيعة
إنّ الآيات التي تناولت "الاختلاف" كظاهرة من ظواهر الطبيعة شملت الليل والنهار والجبال والدواب والأنعام والزرع والثمار والناس بألسنتهم وألوانهم بلغ عددها خمس عشرة آية منها آيتان مدنيتان والبقية آيات مكيّة(4) ولهذا دلالته العميقة في مستوى التبشير بالدين الجديد وترسيخ فكرة التعالي المطلق ووحدانية الله وذلك من خلال بناء عقيدة جديدة قوامها التدليل على قدرة الله على الخلق والإيجاد من عدم فتكون عمليّة استبطان فكرة "الاختلاف" في عقيدة المؤمن كمظهر جلّي من مظاهر الطبيعة منبثق عن أصل واحد مدعاة للمؤمن خاصة وللإنسان عامّة للتفكرّ والاعتبار بقدرة الله على الخلق. وسنحاول في هذا العنصر تدبّر بعض الآيات الدّالة على ذلك.
يقول تعالى: "وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمّان متشابها وغير متشابه" سورة الأنعام (مكيّة)/الآية 141.
لقد أورد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره أن المقصود من الآية هو الاستدلال على أنه الصانع وأنه المنفرد بالخلق فكيف يشركون به غيره(5). فمختلفا أكله هي حال من الزرع عامة وأن النخل والجنات كذلك يصيبها هذا الاختلاف والمقصود التذكير بعجيب خلق الله وهي سنة الاختلاف في الطبيعة.
يقول تعالى: "ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها". سورة فاطر (مكيّة)/الآية 27. هذه الآية استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيّأت خلقة النفوس إليه ليظهر به أنّ الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جبليّ فطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي والمقصود من الاعتبار حسب صاحب التحرير والتنوير هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التمور والزيتون والأعناب والتفاح والرمّان(6). وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار بقدرة الله مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع. وقدّم الاعتبار باختلاف أحوال الثمرات لأن في اختلافها سعة تشبه اختلاف الناس في المنافع والمدارك والعقائد(7). وهذا مهم لأنه تلميح لطيف لما سنأتي عليه لاحقا وهو الاختلاف في المجال الإنساني.
يقول تعالى تتمة لنفس الآية والآية التي تليها من نفس السورة: "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدّواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنّما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله عزيز غفور".
واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأصفر والأحمر والأسود حسب الاصطلاح الجغرافي وجيّ في جملة "ومن الجبال جدد… ومن الناس والدّواب والأنعام مختلف ألوانه." بالاسميّة دون الفعليّة كما في الجملة السابقة لأنّ اختلاف ألوان الجبال والحيوان والإنسان الدّال على اختلاف أحوال الإيجاد اختلاف دائم لا يتغيّر وإنما يحصل مرّة واحدة عند الخلق وتولّد النسل(8).
"كذلك إنّما يخشى الله من عباده العلماء"
كذلك: اعتبرها الزمخشري في الكشاف أي كاختلاف الثمرات والجبال والناس والدوّاب والأنعام. والمراد العلماء به الذين علموه سبحانه بصفاته وعدله وتوحيده وما يجوز عليه وما لا يجوز فعظموه وقدروه حقّ قدره وخشوه حقّ خشيته ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا(9). إلاّ أن الشيخ ابن عاشور يرى في لفظة "كذلك" ابتداء كلام يتنزّل منزلة الإخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل فالدعوة إلى الاعتبار والتمعن في إدراك المختلف الذي يملأ الكون طبيعة وحيوانا وإنسانا يؤدّي إلى خشية الله. كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء توطئة لما يرد من تفصيل الاستنتاج بقول: "إنما يخشى الله من عباده العلماء". وهي جملة مستأنفة عن جملة "كذلك" أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم وإذا علم ذلك دلّ الالتزام على أنّ غير العلماء لا تتأتّى منهم خشيّة الله فدلّ على أنّ البشر في أحوال قلوبهم ومداركم مختلفون(10).
ونحن نرى في تلازم الآيتين آية الاختلاف وآية الخشيّة، دلالة ومغزى فوعي العلماء بالاختلاف واكتناههم له هو الذي ممّا يحدد مدى خشيّتهم لله تعالى أي حجم إدراكهم للعلّة من وجود الاختلاف وكيفية توظيف ذلك في الحياة الدنيا والاستفادة منه. ألم يقل أبو حنيفة النعمان (80ه-699م/150ه-767م): أعلم الناس أعلمهم باختلاف النّاس.
إنّ العلماء في مراتب الخشية متفاوتون وذلك يعود إلى مدى قدرتهم في إدراك سرّ الخلق والقوانين والسنن التي تتحكّم بالكون وتكون الإحاطة بالمختلف إحدى المداخل إلى ذلك .
قال تعالى: "ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم". سورة الروم (مكيّة)/الآية 22.
هذه السّورة من أواخر السّور التي نزلت في الفترة المكيّة، وإنّ في إعادة طرحها لمسألة الاختلاف في هذا الموقع من المصحف ونحن على أبواب الفترة المدنيّة لمؤشر مهمّ على التوجّه الذي ستتخذه مسألة الاختلاف في المجال الإنساني، فهذه الآية تؤسس لمسألة الاختلاف المتصل بالوجود الإنساني في الطبيعة (الألسنة والألوان) في انتظار ما سيكون عليه الاختلاف في الفترة المدنيّة وهو اختلاف ذو طبيعة ثقافيّة بالأساس.
يقول الشيّخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير هذه الآية: وإذ قد كان أشرف ما على الأرض نوع الإنسان قرن ما في بعض أحواله من الآيات بما في خلق الأرض من الآيات وخصّ من أحواله المتخالفة لأنّها أشدّ عبرة لأن فيها اختلافا بين الأشياء متحدّة في الماهية ولأن هاته الأحوال المختلفة لهذا النوع الواحد تجد أسباب اختلافها من آثار خلق السماوات والأرض فاختلاف الألسنة سببه اختلاف الجهات المسكونة في الأرض، لذلك فالظاهر أنّ المقصود هو أية اختلاف اللغات والألوان وأنّ ما تقدمه من خلق السماوات والأرض تمهيد له وإيماء على انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض(11).
واختلاف لغات البشر آية عظيمة فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كوّنه الله في غريزة البشر من اختلاف في التفكير وتنويع التصرّف في وضع اللغات وتبدّي كيفياتها باللهجات والتخفيف والحذف والزيادة بحيث تتغيّر الأحوال المتحدة إلى لغات كثيرة. وأمّا اختلاف ألوان البشر فهو أية أيضا لأن البشر منحدر من أصل واحد وهو آدم وله لون واحد فلّما تهدّد نسله جاءت الألوان المختلفة في بشراتهم وذلك الاختلاف معلول لعدّة علل أهمها المواطن المختلفة بالحرارة والبرودة ومنها التوالد من أبوين مختلفين… ومنها اختلاف الأغذية ولذلك لم يكن اختلاف ألوان البشر دليلا على اختلاف النوع بل هو نوع واحد(12).
أمّا الزمخشري فقد أورد في الكشاف، عند تفسيره لنفس الآية من سورة الروم أنّ الألسنة اللغات أو أجناس النطق وأشكاله، خالف عزّ وجلّ وعلا بين هذه الأشياء حتّى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ولا جهارة ولا حدّة ولا رخاوة ولا فصاحة ولا لكنة ولا نظم ولا أسلوب ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله وكذلك الصور وتخطيطها والألوان وتنويعها ولاختلاف ذلك وقع التعارف وإلاّ فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة…
وتعرف حكمة الله في المخالفة وفي ذلك آية بيّنة حيث ولد الناس من أب واحد وفرّعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلاّ الله مختلفون متفاوتون(13).
3-الاختلاف في المجال الإنساني
لقد بلغ عدد الآيات التي تحدّثت عن الاختلاف في المجال الإنساني خمسا وثلاثين آية. منها اثنان وعشرون آية مكيّة وثلاث عشرة آية مدنيّة(14). فثلثا الآيات نزلت في العهد المكيّ. إبّان ترسيخ عقيدة التوحيد وهي جاءت متساوقة مع لفت القرآن نظر الناس عامة والمؤمنين خاصة للاختلاف الذي يملأ الوجود كدليل على قدرة الخالق. وكثيرا ما يولي القرآن الجانب العقدي عناية خاصّة لأنه الأساس الذي سيبنى عليه نظرة المؤمن للكون والحياة وما بعد الحياة وكذلك سلوكه ومعاملاته. لذلك عملت هذه الآيات المكيّة على ترسيخ فكرة الاختلاف في المجال الإنساني لدى المؤمنين ولدى بقية الناس ودعت الجميع إلى استبطان تلك الفكرة والإقرار بها كشرط من شروط الاجتماع البشري.
أمّا الثلث المتبقي فقد نزل بالمدينة وهو إمّا تذكير بفكرة الاختلاف التي عمل القرآن على امتداد ثلاث عشرة سنة على تأصيلها وإمّا للفت انتباه المؤمنين إلى أنّه آن الأوان ليكرس مفهوم الاختلاف في الواقع المعيش –المجتمع المدني- باعتبار أن الإسلام بعد الهجرة اتخذ أبعادا جديدة، ومن المؤشرات على ذلك تغيير اسم دار الهجرة من يثرب إلى المدينة، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المجتمع الجديد المراد تأسيسه سيكون مجتمعا منفتحا فيه اختلاف في الألسنة والألوان والعقائد والأفكار.
لقد ورد الحديث عن الاختلاف في هذه الآيات جميعها باستعمال أفعال في صيغة الماضي أو المضارع(15)، ولهذا دلالته وذلك باعتبار أن الفعل في عرف اللغويين حدث مقترن بزمن فإدخال عامل الزمان عند الحديث عن الاختلاف يجعل الفعل محكوم بمشروطيته الزمانية والمكانية ويجرّده من إطلاقيته ويقحمه في النسبيّة إقحاما.
سنحاول تدبّر بعض الآيات المتصلة بمبحث الاختلاف في المجال الإنساني:
قال تعالى:" ذلك بأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ وأن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد." سورة البقرة(مدنيّة)/الآية 176.
يقول الشيخ ابن عاشور أن المحتمل أنّ المراد من الكتاب المجرور "في الكتاب" هو المراد من المنصوب في قوله (ما أنزل الله الكتاب) يعني التوراة والإنجيل أي اختلفوا في الذي يقرونه والذي يغيّرونه… ومن المحتمل أن يكون المراد بالذين اختلفوا في الكتاب ما يشمل المشركين وأن يكون الاختلاف هو اختلاف معاذيرهم عن القرآن إذ قالوا: سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأوّلين(16).
أمّا الزمخشري فيرى أن ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزّل من الكتب بالحقّ. وإن الذين اختلفوا في كتب الله فقالوا في بعضها حقّ وفي بعضها باطل وهم أهل الكتاب "لفي شقاق" لفي خلاف "بعيد" عن الحقّ. والكتاب للجنس. أو كفرهم ذلك بسبب أنّ الله نزل القرآن بالحقّ كما يعلمون وأنّ الذين اختلفوا فيه من المشركين… يعني أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا(17).
قال تعالى: "كان الناس أمّة واحدة فبعث الله النّبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتّاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه." سورة البقرة (مدنية)/الآية 213.
يقول صاحب التحرير والتنوير أن الآية هي استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان في البشر لحكمة اقتضته وأنّه قد ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وحدة الدين بالإسلام. لقد أفادت الآية بيان حالة الأمم الماضية وكيف نشأ الخلاف بينهم في الحقّ ممّا لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه ممّا يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين(18).
أمّا صاحب الكشاف فيرى أن الناس كانوا أمّة واحدة متفقيّن على دين الإسلام فبعث الله النبيين يريد فاختلفوا فبعث الله و إنما حذف اختلفوا لدلالة قوله "ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" و في قراءة عبد الله ابن مسعود "كان الناس امة واحدة فاختلفوا فبعث الله" و الدليل عليه قوله عز و علا "و ما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا" سورة يونس/الآية 19 وقيل كان الناس أمة واحدة كفارا فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم" و أنزل معهم الكتاب " يريد الجنس، أي مع كلّ واحد منهم كتابه "ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه، فيما اختلفوا فيه "في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق" وما اختلف فيه "في الحق" إلاّ الذين أوتوة إلاّ الذين أوتوا الكتاب المنزّل لإزالة الاختلاف: أي ازدادوا في الاختلاف لمّا أنزل عليهم الكتاب وجعلوا نزول الكتاب سببا في شدّة الاختلاف واستحكامه. وهنا يبرز الوجه الايجابي للاختلاف لأنه يكون مدعاة للتفكير وإعمال النظر ولكنه قد ينقلب أمرا سلبيا حين يكون الغرض منه الظلم. "بغيا بينهم" حسدا بينهم لحرصهم على الدّنيا وقلة إنصاف منهم(19).
قال تعالى:" وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" البقرة (مدنيّة)/الآية 213.
يقول الطاهر ابن عاشور أنّ الناس كانوا أمّة واحدة في الضلال والكفر فأحدث الله الاختلاف بينهم عبر إرسال الرسل مبشرين ومنذرين والاختلاف هنا عامل إيجابي لأنّه يرمي إلى توحيد الصفّ من جديد ولكن على أساس قواعد صلبة، جاءت الرسل بالهدى فاتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض من أعرض فبقي في ضلاله ثمّ أحدث أتباع الرسل بعدهم اختلافا آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم. والمعنى فيه تشنيع لحال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالا من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع لأنّ أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم. والمراد بالبيّنات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها- أعني قواطع الشريعة والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض(20).
إنّ الاختلاف ينبغي أنّ يؤسس على أرضية صلبة حتى لا يؤدي إلى فتنة تأكل الأخضر واليابس وهذه الأرضية الصلبة بالنسبة إلى مجتمعات مجمعة حول مرجعيتها الإسلامية – هي قواطع الشريعة في معناها الديني وهي المبادئ الأساسية التي لا يمكن بحال من الأحوال الاختلاف حولها لأنّ ذلك قد يدمر السلم الاجتماعي فنقع في فوضى عارمة.
وقوله "بغيا بينهم" مفعول لأجله لاختلفوا والبغي الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب ثمّ شاع في طلب ما للغير بدون حقّ فصار بمعنى الظلم وأطلق هنا على الحسد لأنّ الحسد ظلم والمعنى أنّ داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر. وقوله "بينهم" متعلّق بقوله "بغيا" للتنصيص على أنّ البغي بمعنى الحسد وأنه ظلم في نفس الأمّة وليس ظلما على عدوّها(21).
الآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدّين أي في أصول الإسلام. فالخلاف الحاصل بين علماء الدّين ليس اختلافا في الأصول لأنّ هناك إجماعا حولها وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله وعن سنّة رسوله للاستدلال على مقصد الشارع وتصرفاته واتفقوا في أكثر الفروع وإنّما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع… فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسّع للأنظار(22).
ثمّ يحذر ابن عاشور من مغبّة التعقب لمذهب ما أو لرأي ما. يقول: أمّا لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنّعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر. إنّ الاختلاف المذموم الذي يشير إليه ابن عاشور هو الاختلاف في تعيين الحق إمّا عن جهل أو عن حسد أو عن بغي(23).
قال تعالى: "وما كان الناس إلاّ أمّة واحدة فاختلفوا ولو لا كلمة سبقت من ربّك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون." سورة يونس (مكيّة)/الآية 19.
يقول ابن عاشور أنّ المراد هنا في هذه الآية أمّة واحدة في الدّين والسياق يدل على أنّ المراد أنها واحدة في الدّين الحقّ وهو التوحيد، لأنّ الحقّ هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه، لأنّه ناشئ عن سلامة الاعتقاد بين الضلال والتحريف وجملة "ولولا كلمة سبقت من ربّك" إخبار بأنّ الحقّ واحد وأنّ ذلك الاختلاف مذموم وأنّه لو لا أنّ الله أراد إمهال البشر إلى يوم الجزاء لأراهم وجه الفصل في اختلافهم باستئصال المبطل وإبقاء المحقّ.
والأجل هو أجل بقاء الأمم في قوله في سورة الشورى: "ولولا كلمة سبقت من ربّك إلى أجل مسمّى لقضي بينهم."(24) فالقضاء بينهم مؤجل إلى يوم الحساب ممّا يؤكّد استمرار وجود الاختلاف كشرط من شروط الوجود الإنساني.
إنّ خمس عشرة آية من مجموع الآيات التي تناولت الاختلاف في المجال الإنساني، أكّدت على أن الله يوم القيامة هو الذي سيفصل بين العباد فيماهم فيه مختلفون(25)، فعبثا يحاول البشر القضاء على المختلف أو العمل على تهميشه لأنّه إحدى تجليات الإبداع الإلهي. أمّا الزمخشري في الكشاف فيؤرخ لظهور الاختلاف على الأرض بقتل قابيل لهابيل وقيل بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا، عاد الناس أمة واحدة حنفاء متفقيّن على ملّة واحدة "ولولا كلمة سبقت من ربّك" وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة. "لقضى بينهم" عاجلا فيما اختلفوا فيه ولميّز المحقّ من المبطل وسيق كلمته بالتأخير لحكمه أوجبت أن تكون هذه الدّار دار تكليف وتلك دار ثواب وعقاب(26).
قال تعالى: "ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم…" سورة هود (مكيّة)/الآية 118.
إمّا كان توهّم كثرة الاختلاف حسب ابن عاشور، فقد توحي بخروج أصحابه عن قبضة القدرة الإلهية أعقب ذلك بما يرفع هذا التوهّم بأنّ الله قادر على أن يجعلهم أمّة واحدة متّفقة على الحقّ مستمرّة عليه كما أمرهم أن يكونوا ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظام الكون، اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوّح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى –أي للاختلاف والتغاير (…) فلا جرم أن الله خلق البشر على نظام من شأنه سريان الاختلاف بينهم في الأمور ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض وهو أهمّها وأعظمها وقد يتفاوت الناس في أمر الصلاح ويختلفون في تعيينه وفي طرق بلوغه فيتفاوتوا في مدارج الارتقاء ويسموا إلى مراتب الزلفى(27). وقوله تعالى: "ولا يزالون مختلفين" تأكيد على أن الاختلاف أصبح سنة كونيّة وأنّ السعي إلى الائتلاف يظل فعلا ثقافيا ينبني على مجهود بشري يهدف إلى الإقرار بالآخر المختلف والعمل على محاورته وفهمه قبل إصدار أي حكم معياري عليه.
والأمة هي الطائفة من الناس اتحدوا في أمر من أمور الحياة كالموطن واللغة والنسب والدّين ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلهم متفقين على إتباع دين واحد كما يدّل عليه السياق فآل المعنى إلى : لو شاء ربّك لجعل الناس أهل ملّة واحدة فكانوا أمّة واحدة من حيث الدّين الخالص ولمّا أشعر بالاختلاف بأنّه اختلاف في الدّين وأنّ معناه العدول عن الحقّ إلى الباطل لأنّ الحقّ لا يقبل التعدّد والاختلاف عقب عموم "ولا يزالون مختلفين" باستثناء من ثبتوا على الدين الحقّ ولم يخالفوه بقوله:" إلاّ من رحم ربّك" أي فعصمهم من الاختلاف(28).
وفهم من هذا الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدّين فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمة قصمه وبذل الوسع في إزالته (…) وأمّا تعقيبه يقوله "ولذلك خلقهم" فهو تأكيد بمضمون "ولا يزالون مختلفين" والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله "مختلفين" واللام للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جبلّة قاضية باختلاف الآراء والنزاعات وكان مريدا المقتضى تلك الجبلّة وعالما به كما بيّناه آنفا كان الاختلاف علّة لغائية لخلتهم وتقديم المعمول على عامله في قوله "ولذلك خلقهم" ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة(29).
أمّا الزمخشري وفي تمشّيه الاعتزالي يرى في قوله "ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة" يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة أي ملّة واحدة وهي ملّة الإسلام كقوله: "إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة" سورة الأنبياء/الآية 92. وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار وأنّه لم يضطرّهم إلى الاتفاق على دين الحق ولكنه مكنّهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف فاختار بعضهم الحقّ وبعضهم الباطل، فاختلفوا فلذلك قال: "ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك" إلاّ ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحقّ غير مختلفين فيه(30).
4- نحو الاختلاف المؤسّس:
لم يترك القرآن الكريم أمر الاختلاف منفلتا دون ضوابط، بل لقد تعامل معه على أساس أنّه أمر جبليّ وأنّه كان في البشر لحكمة اقتضته فوجب تدجينه وتنظيمه وممّا يلاحظ أنّ القرآن لم يعمد إلى تحديد المواضيع المسموح الاختلاف حولها، وإنما عمل على وضع أطر تحيط بالاختلاف وتوجّهه الوجهة الإيجابية حتّى تمنعه من أن يتحوّل إلى ظاهرة مدمّرة تنتج الفوضى وتفتح على المجهول.
إنّ الاختلاف لا بدّ أن يتأسّس على أرضيّة صلبة مشتركة موجودة أو هي قيد التشكّل، قد تكون أصول الدّين أو أصول الإسلام لدى التيّارات الفكرية ذات المرجعيّة الإسلامية أو هي قيم الحداثة لدى التيارات الفكرية الحديثة ذات المرجعية الغربيّة. فدون هذه الأرضية المشتركة سواء كانت موجودة أو منشودة فإن الاختلاف سيفضي بنا إلى نوع من العدميّة التي تعني غياب الغائيات التي من شأنها أن تعطي معنى للحياة الإنسانية(31).
من الضوابط التي وضعها القرآن الكريم للإحاطة بالاختلاف وتنظيمه ضابطان اثنان: أوّلا الرفض المطلق لكلّ أشكال الإكراه وثانيا المجادلة بالتي هي أحسن:
- الضابط الأول: الرفض المطلق لكل أشكال الإكراه
قال تعالى: "لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ" سورة البقرة (مدنية)/الآية256، بين الله في هذه الآية أنّه لا إكراه على الدخول في الإسلام. يقول ابن عاشور في تفسيره فهذا الدين الواضح العقيدة والمستقيم الشريعة من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبوله باختيارهم دون جبر ولا إكراه(32). ويرى صاحب التحرير أنّ آيات الجهاد النازلة قبل هذه الآية وبعدها أنواع ثلاثة جميعها إمّا لا تتعارض مع هذه الآية أو أنّ هذه الآية قد نسختها. فأحدها آيات أمرت بقتال الدّفاع كقوله: "وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلوكم كافّة" "ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله" وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين، النوع الثاني من آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تقيّد بغاية فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّدا بغاية آية "حتى يعطوا الجزية" وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه "لا إكراه في الدّين" النوع الثالث ما غيّي بغاية كقوله تعالى: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله" فيتعيّن أن يكون منسوخا بهاته الآية وآية "حتى يعطوا الجزية" كما نسخ حديث: أمرت أن أقاتل النّاس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها. "هذا ما يظهر لنا في معنى الآية والله أعلم(33).
قال تعالى: "ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" سورة يونس(مكية)/الآية 99.
المعنى حسب ما جاء في التّحرير والتّنوير هو لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح و(لو) تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها. لكنه لم يشأ ذلك فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق. والاستفهام "أفأنت تكره الناس" إنكاري. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيّه لذلك بكلّ وسيلة صالحة، منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان فشبه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه والإكراه هو الإلجاء والقسر(34).
- الضابط الثاني: المجادلة بالتي هي أحسن
قال تعالى: "آدع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" سورة النحل (مكيّة)/ الآية 125.
يقول ابن عاشور إنّ سبيل الرب هي طريقه وهي مجاز لكلّ عمل من شأنه أن يبلّغ عامله إلى رضى الله تعالى لقد صار هذا المركّب "سبيل الربّ" علما بالغلبة على دين الإسلام والباء في قوله "بالحكمة" للملابسة ومعنى الملابسة يقتضي أن لا تخلو دعوته إلى سبيل الله عن هاتين الخصلتين: الحكمة والموعظة الحسنة. فالحكمة هي المعرفة المحكمة أي الصّائبة المجرّدة عن الخطأ ولذلك عرّفوا الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها ببعض. وأمّا الموعظة فهي القول الذي يلين نفس المقول له لعمل الخير وهي أخصّ من الحكمة لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها.
ووصفها بالحسنى تحريض على أنّ تكون ليّنة مقبولة عند الناس أي حسنة في جنسها وعطف "الموعظة" على "الحكمة" لأنّه قد يسلك بالموعظة مسلك الاتباع فمن الموعظة حكمة ومنها خطابة ومنها جدل(35).
المجادلة هي الاحتجاج لتصويب رأي وإبطال ما يخالفه ولمّا كان ما لقيه النبي صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن وإنّ المجادلة تقتضي صدور الفعل من الجانبين، فعلم أن المأمور به أن تكون المحاجّة الصادرة منه أشدّ حسنا من المحاجّة الصادرة منهم. كقوله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن". وقد أورد ابن عاشور ما قاله الفخر الرّازي في شأن الطرق الثلاث من أساليب الدعوة فظهر انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة:
أولها الحجّة المفيدة للعقائد اليقينيّة وذلك هو المسمّى الحكمة
ثانيها الأمارات الظنية وهي الموعظة الحسنة
ثالثها الدلائل التي القصد منها إفحام الخصم وذلك هو الجدل(36).
قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن" سورة العنكبوت(مكيّة)/الآية 46.
يقول ابن عاشور هذه السّورة نزلت على وشك الهجرة إلى المدينة وهي تهيئة من الله لرسوله عليه الصّلاة والسّلام طريقة مجادلة أهل الكتاب وجيء في النّهي بصيغة الجمع ليعمّ النبي والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلّى الله عليه وسلم أو قبل قدومه المدينة(37). وأهل الكتاب اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولها ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران. ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهلون لقبول الحجّة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجّة دون إغلاظ حذرا من تنفيرهم وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللّين(38).
لم يستثن القرآن من المجادلة بالحسنى أحدا سواء المشركين أو أهل الكتاب وفي ذلك اعتراف بالآخر ودعوة إلى محاورته بعيدا عن كلّ الأفكار المسبقة والجدل في حدّه اللغوي له معنى إيجابي بامتياز جاء في لسان العرب جدل الحبّ في سنبله يجدل وقع فيه واكتمل(39).
فالجدل مخاض فيه إعطاء الآخر المختلف الحقّ في أن يكون كما هو. وبعيدا عن كلّ الممارسات التاريخية التي حادت عن مقاصد النصّ القرآني، نجد أنفسنا اليوم مدعوين إلى إعادة قراءة النصّ والوفاء إلى روحه لأنّ تلك الروح تلتقي مع أحداث الثورات الحديثة في الفكر. من حيث أنه –أي القرآن- يدعونا إلى فتح الطريق أمام إنطاق كلّ ما صمت عنه وكلّ ما تمّ تغييبه وإهماله وإبعاده بذرائع شتّى. إنّها لفرصة تاريخية اليوم أمام الإسلام السياسي أن يتيح للآخر المختلف الإمكانات الحقيقية ليعبّر عن نفسه ويشارك في صناعة التاريخ بعيدا عن كلّ أشكال الإقصاء. فليصبح الاختلاف مفهوما مفكرا فيه دوما يملأ وعينا ومخيالنا ولنكفّ عن الادّعاء بامتلاك الحقيقة لأن أحادية المعنى هي خداع على المستوى المعرفي وإن مآلها الاستبداد السياسي والاضطهاد الديني والإرهاب الفكري والعقائدي.
الهوامش:
(1)- ابن منظور، لسان العرب، المجلّد الخامس، بيروت د.ت (دار صادر) ص131.
(2)- ابن منظور، لسان العرب، المجلّد الخامس، بيروت د.ت (دار صادر) ص132.
(3)- محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار القلم، بيروت (د.ت) ص239، 240، 241.
(4)- ن.م ص 240-241.
(5)- الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر- 1984، ج8 ص117.
(6)- ن.م، ج22 ص300-301.
(7)- ن.م، ج22، ص301.
(8)- ن.م، ج22، ص303.
(9)- أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت538 هـ)، الكشاف، دار إحياء التراث العربي (بيروت، 1424هـ - 2003م) ج2، ص986.
(10)- الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج22 ص304.
(11)- ن.م، ج21 ص 72-73.
(12)- ن.م، ج22 ص 73-74.
(13)- الزمخشري، الكشاف، ج2 ص914.
(14)- محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ص239-240.
(15)- سورة الزخرف/الآية 65، سورة آل عمران/الآية 55.
(16)- محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج2 ص127.
(17)- الزمخشري، الكشاف، ج1 ص99.
(18)- محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج2 ص299.
(19)- الزمخشري، الكشاف، ج1 ص116-117.
(20)- محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج2 ص309-310.
(21)- ن.م، ج2 ص310.
(22)- ن.م، ج2 ص311
(23)- ن.م، ج2 ص311-312.
(24)- ن.م، ج11 ص128-129.
(25)- سورة البقرة/الآية 113، سورة يونس/الآية 19 939، سورة النحل/الآية39 929 و 124، سورة السجدة/الآية 25، سورة الزمر/الآية 3 و46، سورة الجانية/الآية 17، سورة آل عمران/الآية 55، سورة المائدة/الآية 48، سورة الأنعام/الآية 164، سورة الحجّ/الآية69، سورة الزخرف/الآية 63.
(26)- الزمخشري، الكشاف، ج1 ص475.
(27)- ن.م، ج12 ص187-188.
(28)- ن.م، ج12 ص189.
(29)- ن.م، ج12 ص189-190.
(30)- الزمخشري، الكشّاف، ج1 ص524.
(31)- - Gérard Durozoi, André Roussel, Dictionnaire de philosophie, les références de Nathan,PP237-238.
(32)- محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج3 ص25
(33)- ن.م، ج3 ص26-27.
(34)- ن.م، ج11 ص292-293.
رمضان رمضان
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد