مسيحيو سوريا: الهجرة.. أو حد السّيف!
على وقع الهتافات الأولى التي صدحت بها حناجر المتظاهرين في درعا وبانياس في الأيام الأولى للأزمة السورية في شهر آذار العام 2011، انغرست بذرة القلق في القلوب، وانهال عليها تراب الترقب والانتظار. وكانت قلوب المواطنين المسيحيين، بحكم انتمائهم إلى الأقليات المهدّدة، وبحكم اكتوائهم بنار التجربة العراقية التي لم تنطفئ بعد، الأرض الأكثر خصوبة لبذرة القلق هذه، لا سيما أن الأحداث المتتالية يوماً بعد يوم منذ ذلك التاريخ كانت كفيلة بسقايتها، وتأمين مناخ الاضطراب والفوضى المناسب لنموها بوتيرة متسارعة.
وعرفت معاناة المسيحيين في سوريا خلال ثلاث سنوات ونصف من عمر الأزمة، ارتفاعاً ملحوظاً في خطها البياني، الذي بدأ مع بذرة القلق الفطرية، ووصل إلى الذروة مع ممارسة التمييز العنصري ضدهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية.
وتراوحت بين هاتين النقطتين حالات الاستهداف الممنهج، بدءاً بحالات فردية كانت تستهدف أشخاصاً معيّنين، ومروراً بحصار بعض القرى المسيحية، وليس انتهاءً بالاستيلاء على أكثر مناطقهم قدسية وتاريخية، الأمر الذي أدّى إلى نزوح أعداد كبيرة من مسيحيي سوريا وتدمير الكثير من كنائسهم وممتلكاتهم.
وبالرغم من أن شعار «المسيحي ع بيروت... والعلوي ع التابوت» قد صاحب التظاهرات الأولى التي خرجت في كل من درعا وبانياس في بداية الأزمة السورية، إلا أن قيادات المعارضة التي تصدرت شاشات الفضائيات في تلك الفترة، كانت تعزو هذه الشعارات إلى أخطاء فردية يمكن أن تقع بها أي «ثورة»، ليصبح «الخطأ الفردي» ذريعة لتبرير أي انتهاك يُسجّل على «الثورة» التي خلعت سلميتها وارتدت لبوس «الجيش الحر».
وهكذا مضى العام 2011 محمّلاً بكثير من حالات الاعتداء على المسيحيين، سواء جسدياً أو مادياً أو معنوياً، غير أن حالة الانفلات ومناخ الفوضى كانا كفيلين بعدم إحصاء هذه الحالات أو الاهتمام بها. أمّا الحالات القليلة التي سُجّلت، فكان يجري التعامل معها وفق منطق «الخطأ الفردي» المغفور.
ومع بداية العام 2012، كان القلق المسيحي قد تحول إلى خوف حقيقي، لا سيما بعد انتشار حالات الاعتداء والانتهاك ضد المسيحيين ومصالحهم، خصوصاً في محافظة الحسكة، التي شهدت أول اعتداء ممنهج على المسيحيين عندما رفع بعض «الثوار» شعار «الأرض مقابل السلام»، ومعناه ان يتخلّى المسيحيون عن أراضيهم الزراعية في مقابل ضمان سلامتهم، وهو ما دفع إلى تأسيس «مجلس الكنائس والعلاقات المسيحية»، الذي طالب الحكومة السورية بوقف هذه الاعتداءات.
وكان تأسيس هذا المجلس تعبيراً واضحاً عن مدى الهواجس المصيرية التي بدأت تنتاب المكوّن المسيحي في وسط مفعم بالفوضى والاحتمالات غير المتوقعة.
بعد ذلك كشفت تطورات الأزمة السورية أن الأسوأ لم يحدث بعد، وأن المسيحيين ينتظرهم بالفعل الكثير من المفاجآت المؤلمة، التي تراوحت بين حصار مناطقهم وبين إجبارهم على الهجرة أو النزوح وبين الإطباق عليهم عبر السيطرة العسكرية المباشرة.
وكان شهر حزيران من العام 2012 علامة فارقة في مسار استهداف المسيحيين، حيث وجّه فيه قائد «الجيش الحر في مدينة القصير» أول إنذار من نوعه إلى الأهالي من المسيحيين بوجوب مغادرة المدينة بذريعة تأييدهم للنظام، لتشهد القصير بذلك أول موجة نزوح جماعية للمسيحيين منذ بدء الأزمة السورية. وقد بلغ عدد النازحين أكثر من عشرة آلاف، ما استدعى إصدار أول بيان من الفاتيكان يستنكر فيه هذا الاستهداف.
ولم تكد تداعيات هذا النزوح تغيب وراء تفاعلات الأزمة السورية المتسارعة، حتى أقدم المسلّحون على محاصرة بلدة ربلة في ريف حمص، التي يقطنها حوالي 12 ألف مسيحي، وقطعوا عنهم الماء والكهرباء والغذاء لمدة تزيد عن أسبوعين قبل أن يتمكن الجيش السوري من فك الحصار.
في هذه الأثناء، كانت مدينة يبرود تقع تحت سيطرة المسلحين، لتصبح أول مدينة سورية يفرض فيها المسلحون على المسيحيين دفع الجزية تحت اسم «الأتاوة». بعد ذلك، وتحديداً في تشرين الأول من العام 2013، شهدت مدينة يبرود نزوحاً كثيفاً للمسيحيين بعد استهداف «جبهة النصرة» لكنيستي «السيدة» و«قسطنطين وهيلانة» بعبوات ناسفة أدت إلى تدمير أجزاء منهما.
وجاء إقحام مدينة حلب في معمعة «الثورة» ليسجل تصعيداً نوعياً جديداً في ملف تهجير المسيحيين. وتشير المعلومات الى أن أكثر من نصف مسيحيي المدينة البالغ عددهم حوالي 150 ألفاً قرروا بعد سيطرة مسلحي «لواء التوحيد» على أحيائهم، الهجرة والانتقال إما إلى المحافظات الآمنة أو الدول المجاورة مثل تركيا أو اليونان أو أرمينيا.
وكان لحادثة اختطاف المطرانين بولس يازجي ويوحنا إبراهيم المغيّبين حتى اليوم في نيسان 2013، تأثيراً كبيراً على معنويات مسيحيي حلب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اختطاف الراهب فرانسوا مراد وعرض مشاهد دموية لجماعة «أبو البنات» الشيشانية وهي تقطع رأسه بحد السيف.
وكانت «غزوة صدد ومهين» في تشرين الأول العام 2013 سبباً لهجرة مئات المسيحيين من البلدتين والقرى المحيطة بهما، لكن الأهم أنها كانت بداية معاناة جديدة في منطقة القلمون، حيث كان المسيحيون ينزحون مع دخول المسلحين إلى إحدى مدن هذه المنطقة بدءاً بقارّة ومروراً بالنبك ودير عطية وانتهاءً بمدينة يبرود.
وكانت أشد اللحظات إيلاماً في سلسلة هذه المعاناة، عندما قرر مسلحو «جبهة النصرة» اقتحام مدينة معلولا ذات الطابع الأثري والتاريخي، والتي تعتبر من آخر المدن الناطقة بلغة السيد المسيح. وتعرضت المدينة لغزوين متتالين، الأول في أيلول العام 2013، وقد تسبب بنزوح معظم أهالي المدينة لتخلو المنازل والبيوت من ساكنيها. والثاني في كانون الأول من العام ذاته، وقد نتج عنه تدمير وتخريب العديد من الكنائس ومحتوياتها، وكذلك خطف الراهبات ونقلهن إلى مدينة يبرود حيث تم الإفراج عنهن بعد عدة أشهر بموجب صفقة معروفة.
وفي فصل آخر من فصول التهجير الجماعي لمسيحيي سوريا، شنّ مسلحو «جبهة النصرة» وبعض الكتائب الشيشانية والإسلامية الأخرى في نهاية آذار الماضي هجوماً واسعاً سيطروا من خلاله على مدينة كسب ذات الغالبية الأرمنية. لتشهد المدينة موجة واسعة من نزوح الأهالي الذين كانوا خائفين أن ينالهم ما نالهم في الإبادة العثمانية لهم قبل ما يقارب المئة عام.
وكانت النكبة الكبرى التي تعرض لها المسيحيون في سوريا، عندما قرر تنظيم «الدولة الإسلامية» ـ «داعش» فرض الجزية على مسيحيي الرقة التي يسيطر عليها بالكامل.
وتشير الإحصاءات إلى أن عدد النازحين المسيحيين داخل سوريا وخارجها بلغ حوالي 450 ألفاً، فيما قتل 1200 مسيحي، وتعرضت حوالي 60 كنيسة للتخريب والتدمير، في حين اضطر سكان 24 بلدة مسيحية للهرب منها بسبب المعارك.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد