مؤتمر لندن حول القرآن الكريم
«مؤتمر الدراسات القرآنية» يعقد مرة كل عامين في رعاية كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن SOAS بإشراف الدكتور محمد عبدالحليم، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة.
وأنجز عبدالحليم، قبل ثلاث سنوات، ترجمة جديدة لمعاني القرآن الكريم الى الانكليزية تضاف الى ترجمات سابقة وجيدة. وهو يرأس هيئة تحرير المجلة العلمية (محكمة نصف سنوية) «مجلة الدراسات القرآنية» الصادرة عن دار أدنبرا، وتهتم المجلة بالدراسات الأكاديمية حول القرآن، وبنشر أعمال مؤتمر القرآن، ومراجعات لكتب ولأخبار وتقارير باللغتين الانكليزية والعربية.
يحضر المؤتمر الكثير من الباحثين والباحثات من أساتذة وطلاب دراسات عليا من المهتمين بالدراسات القرآنية. التي لم تأخذ حقها في الدراسات الأكاديمية كما أخذ حقه في هذه الدراسات الكتاب المقدس (بعهديه). ولا ننسى أن الأكاديمية الغربية، خصوصاً المدرسة الألمانية الشهيرة بالفيلولوجيا التاريخانية، اهتمت بدراسة القرآن، منذ اصدار تيودور نولدكه تاريخ القرآن 1860، ليعينهم على الدراسات البيبلية والتراث السامي ولغاته.
محاور المؤتمر كانت على مدار ثلاثة أيام كالآتي:
المحور الأول: «المسارات اللاهوتية» أدار جلستها الأولى جوزيف فان آس من جامعة توبنغن، والأستاذ آس معروف باهتمامه بدراسة الحياة الدينية الإسلامية من خلال تكويناتها الأولى، وقد أصدر كتاباً شاملاً عن علم الكلام الإسلامي في القرنين الثاني والثالث للهجرة، في ستة مجلدات (برلين 1991). عولجت في جلسة الأستاذ آس مسائل كلامية مثال «أزلية النار كإشكالية عند ابن تيمية» لمحمد حسن خليل من جامعة إلينوي الأميركية، «ومفهوم الفطرة كقاعدة للإيمان بالله» قدّمه أستاذ الدراسات الإسلامية سانت اوزفارلي من جامعة اسطنبول. في الجلسة الثانية حول «الإملاء والقواعد» أدارها السيد بدوي من القاهرة، ولفتت النظر ورقة بحث للباحث توماس هوفمان من جامعة كوبنهاغن عالجت موضوع «حقل السيمانتيكس (علم دلالات الألفاظ وتطورها) لمصطلح كفر في ضوء معرفية السيمانتيكس ونظرية مفاهيمية الاستعارة». وترأس، الجلسة الأخيرة حول الشخصيات وخلق الشخصيات الروائية، شوكت توراوا، أستاذ الأدب العربي والدراسات الإسلامية في جامعة كورنيل الأميركية. وعالج مستنصير مير الذي نعرفه من كتابه ومقالته حول «السورة كوحدة»، مسألة «الشخصيات الروائية في القرآن»، وهذا موضوع شاسع لا يمكن أن يختصر في ورقة، لذلك جاءت الإفادة أكثر من معالجة الأوراق الأخرى حول شخصيات معينة كشخصية «فرعون» و «ذو القرنين» و «لحظة لقاء سليمان بملكة سبأ»... وهذه الأوراق مقاربات أدبية وأبحاث في الروائية.
المحور الثاني: «عناصر التناص». أدارت جلسته الأولى انجيليكا نويفرث، أستاذة الآداب العربية والقرآنية في جامعة برلين الحرّة. وساهمت الأستاذة نويفرث بدراسات أدبية مهمة جداً للسور القرآنية، وأشرفت على كثير من الإصدارات والمشاريع، وهي صاحبة نظرية في الدراسات القرآنية، ترعى طلابها وطالباتها بحماسة نادرة في كثير من الجامعات شرقاً وغرباً. وتشرف نويفرث اليوم على مشروع «كوربس كورانيكوم» وهو مشروع توثيق للقرآن الكريم وتعليق، وهو جزء من أبحاث الأكاديمية العلمية في برلين – براندبورغ.
المحور الثالث: «المسارات اللاهوتية: 11» أدار جلساتها ويلفرد ماديلونغ من جامعة أوكسفورد وهو اليوم أستاذ باحث في مركز الدراسات الإسماعيلية في لندن. ساهم ماديلونغ في جوانب عدة من التاريخ والفكر الإسلاميين بالرجوع الى المدارس الدينية والحركات في الإسلام المبكر. وقدم في هذا المحور الأستاذ ألفرد ولش ورقة عن «الشفاعة في القرآن: تحليل في سياق مصطلح شفاعة – استغفار وغيرها من المصطلحات والمفاهيم». وقدّم المهتم بالتربية والتعليم في العصور الوسطى، الأستاذ سيباستيان غونتر من جامعة تورونتو، ورقة عنوانها «ان الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما: الصور والرموز من الإيمان بالأخرويات كبداهة كلامية».
أعود الى المحور الثاني الذي أدارت جلسته الأستاذة انجيليكا نويفرث من جامعة برلين الحرة، فاللافت من محور «التناص» جرأته وحداثته، والتي يسترد بها القرآن الكريم تناصه مع التوراة والانجيل الذي يؤكد التنزيل على الأصل الواحد لها معاً في «أم الكتاب».
وقدم اسلام دية، وهو طالب دكتوراة من جامعة برلين الحرة بحثاً في «الحواميم: التناص في السور المكية المتأخرة» وهو يعمل على دراسة وحدة السور كما يدرس السور التي تقرأ كمجموعة واحدة. وقدم نيقولاي سينا أيضاً من جامعة برلين الحرة بحثاً في «اعترافات جيرميا ومؤسات محمد: التواصلية والانقطاع بين القرآن وآداب الأنبياء». وعرض سينا للمتواصل والمنقطع في السور المكية مع كتب الأنبياء في الكتاب المقدس العبري الذي يحمل أشكالاً ومواضيع مشابهة للقرآن أكثر من أسفار موسى الخمسة المعروفة في «العهد القديم». ويضع سينا سيناريو هذا الرصد في سياق التنقيح والتمييع لا الاعتماد النصي المباشر أو «الاستعارة». وناقش سينا المحورين المفتاحين للسور الأول – نقد القمع الاجتماعي القاسي والاتكال الإنساني الذاتي، من جانب، والتمثيل النابض لحياة الواقع لا مفرّ منه للحكم الإلهي – ممكن رويته كملاءمة ابداعية لكتب إرميا وأشعيا وحزقايل ودانيال والتي في شكل صوغها النهائي تحتوي على موتيفات واحدة، كيوم الكون وحساب الفرد والبعث. وتقترح ورقة البحث هذه سوراً ثلاثاً لمؤاسات محمد هي 93 و49 و108 والتي يمكن أن ترتبط بعلاقة متبادلة مع المفهوم البيبلي لعذاب النبي في دعوته، كما عبرت عنها مثلاً «اعترافات إرميا».
وفي سياق «التناص» بين القرآن وكتب «الذين أؤتوا الكتاب» قدمت انجيليكا ورقة بحث حول قراءة القرآن للمزامير، فأظهرت شكل الإشارة الى المزامير، التي تختلف عن العلاقة مع التوراة أو الأناجيل.
فالمزامير (الزبور)، كسلطة كتابية، تلعب دوراً هامشياً في القرآن الكريم، لكن، نجد نصوصاً حاضرة لها في شكل مدهش، ويظهر حضورها في الاستعارات الأدبية وفي شكل أعم – في مرآة السور المكية المبكرة – في رؤيتها لعلاقة الله بالإنسان.
وتحاول ورقة بحث الأستاذة نويفرث أن تراجع الإشارات القرآنية لآيات من المزامير معينة. وتحلل القراءات المنفردة للمزامير في السور المكية. وتناقش، بسبب نظرة التشابه الشكلي والسيمانتيكي بين المزامير والسور المكية، مشكلة إشارية النص في مقابل إشارية الحياة: وما تقصد نيوفرث هنا هو الإشارة الى ما يمر به النبي من تجربة شخصية يجعل منها نموذجاً للتقي في وضعه الروحي. ان قراءة نويفرث لـ «سورة الرحمان» في الإشارات الاستدلالية «للمزمور 136» من العهد القديم كانت من الأهمية بحيث ان الجلسة التي قرأت خلالها البحث تستحق كونها جلسة للمتخصصين لتعطي هذه القراءة الإبداعية حقها، وتمنيت لو أننا نقرأ هذه المقاربات الأدبية قبل حضورنا المؤتمر ليكون لتبادل المعرفة زرعه وثماره.
على أي حال، كان حضور الأستاذة نويفرث فعالاً في أكثر من جانب، فمشروع توثيق وتعليق للقرآن الكريم المشرفة عليه في جامعة برلين الحرة عرض في المؤتمر، بعد التأكيد على أهمية البحث التاريخي والأدبي الذي لا يمكن أن يتجاهل التعقيدات الدينية واللغوية للمحيط الذي ظهر فيه القرآن الكريم، وذلك للتأكيد على أصالة القرآن ولأجل التعرّف على الأسباب التي أكسبته خصوصيته اللغوية والدينية من خلال التفاعل مع الثقافات المرافقة له.
ومن أطرف ما حدث في المؤتمر القاء الضيف الأوزبكي عبيدالله أوفاتوف من جامعة طشقند خطبة غرضها أساساً التعريف بمصحف عثمان الذي تفتخر بحيازته بلاد ما وراء النهر، بلاد أوزبكستان. وعوضاً عن وصف المصحف وتاريخه والنقاشات التي تدور حول أقدم المصاحف، خصوصاً بعد اكتشاف مصاحف صنعاء التي تعود الى القرن الأول هجري، أخذ يخبرنا بالعربية عن علماء ما وراء النهر من أهل النحو (كالزمخشري) والأحاديث (كالدارمي والبخاري) والسنن (كالترمذي) وعلم الكلام (كالماتريدي والنسفي) وعلم التصوف (كالنقشبندي) والعلوم التجريبية (كإبن سينا والبيروني والفرغاني). لأنه فخور بمساهمات بلاده في الحضارة الإسلامية. حكى كيف أحضر المصحف أمير تيمور الى سمرقند وكيف انتقل المصحف الى روسيا (الاتحاد السوفياتي السابق) ثم عاد من جديد ليستقر في جامعة طشقند الإسلامية. لماذا لم يصف عبيدالله أوفاتوف المصحف علمياً؟ ولم يشر الى أية دراسات حوله؟ وهل بالفعل يعود الى السنة الهجرية الأولى؟ لأنه بالطبع غير ملمّ بالنقاشات الدائرة حول تاريخ المصحف وأهمية مصاحف صنعاء. الطريف أن الأستاذ أوفاتوف تقدم ليهدي الدكتور عبدالحليم معطفاً، يمثل اللباس التقليدي الرسمي الأوزبكي، وألبسه المعطف، مما ذكّرنا ان هذا الاجتماع بغرض المزيد من المعرفة بكتاب المسلمين الأول وكتاب العربية الأكبر، كما يقول المرحوم الشيخ أمين الخولي، تنجذب اليه قلوب المسلمين وآذانهم وبصائرهم كما تنجذب اليه الأكاديمية العالمية الغربية.
كلمة أخيرة نتمنى فيها على أهل العربية تقديم أوراق بحث يخص كتابهم العزيز، فأكثر الأوراق البحثية جاءت من أساتذة، مسلمين وغير مسلمين، يحاضرون في الجامعات الأميركية والكندية الأوروبية، مما يدل الى ان واقع الدراسات القرآنية في الأكاديمية الغربية ناشط.
«مؤتمر الدراسات القرآنية» يعقد مرة كل عامين في رعاية كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن SOAS بإشراف الدكتور محمد عبدالحليم، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة.
وأنجز عبدالحليم، قبل ثلاث سنوات، ترجمة جديدة لمعاني القرآن الكريم الى الانكليزية تضاف الى ترجمات سابقة وجيدة. وهو يرأس هيئة تحرير المجلة العلمية (محكمة نصف سنوية) «مجلة الدراسات القرآنية» الصادرة عن دار أدنبرا، وتهتم المجلة بالدراسات الأكاديمية حول القرآن، وبنشر أعمال مؤتمر القرآن، ومراجعات لكتب ولأخبار وتقارير باللغتين الانكليزية والعربية.
يحضر المؤتمر الكثير من الباحثين والباحثات من أساتذة وطلاب دراسات عليا من المهتمين بالدراسات القرآنية. التي لم تأخذ حقها في الدراسات الأكاديمية كما أخذ حقه في هذه الدراسات الكتاب المقدس (بعهديه). ولا ننسى أن الأكاديمية الغربية، خصوصاً المدرسة الألمانية الشهيرة بالفيلولوجيا التاريخانية، اهتمت بدراسة القرآن، منذ اصدار تيودور نولدكه تاريخ القرآن 1860، ليعينهم على الدراسات البيبلية والتراث السامي ولغاته.
محاور المؤتمر كانت على مدار ثلاثة أيام كالآتي:
المحور الأول: «المسارات اللاهوتية» أدار جلستها الأولى جوزيف فان آس من جامعة توبنغن، والأستاذ آس معروف باهتمامه بدراسة الحياة الدينية الإسلامية من خلال تكويناتها الأولى، وقد أصدر كتاباً شاملاً عن علم الكلام الإسلامي في القرنين الثاني والثالث للهجرة، في ستة مجلدات (برلين 1991). عولجت في جلسة الأستاذ آس مسائل كلامية مثال «أزلية النار كإشكالية عند ابن تيمية» لمحمد حسن خليل من جامعة إلينوي الأميركية، «ومفهوم الفطرة كقاعدة للإيمان بالله» قدّمه أستاذ الدراسات الإسلامية سانت اوزفارلي من جامعة اسطنبول. في الجلسة الثانية حول «الإملاء والقواعد» أدارها السيد بدوي من القاهرة، ولفتت النظر ورقة بحث للباحث توماس هوفمان من جامعة كوبنهاغن عالجت موضوع «حقل السيمانتيكس (علم دلالات الألفاظ وتطورها) لمصطلح كفر في ضوء معرفية السيمانتيكس ونظرية مفاهيمية الاستعارة». وترأس، الجلسة الأخيرة حول الشخصيات وخلق الشخصيات الروائية، شوكت توراوا، أستاذ الأدب العربي والدراسات الإسلامية في جامعة كورنيل الأميركية. وعالج مستنصير مير الذي نعرفه من كتابه ومقالته حول «السورة كوحدة»، مسألة «الشخصيات الروائية في القرآن»، وهذا موضوع شاسع لا يمكن أن يختصر في ورقة، لذلك جاءت الإفادة أكثر من معالجة الأوراق الأخرى حول شخصيات معينة كشخصية «فرعون» و «ذو القرنين» و «لحظة لقاء سليمان بملكة سبأ»... وهذه الأوراق مقاربات أدبية وأبحاث في الروائية.
المحور الثاني: «عناصر التناص». أدارت جلسته الأولى انجيليكا نويفرث، أستاذة الآداب العربية والقرآنية في جامعة برلين الحرّة. وساهمت الأستاذة نويفرث بدراسات أدبية مهمة جداً للسور القرآنية، وأشرفت على كثير من الإصدارات والمشاريع، وهي صاحبة نظرية في الدراسات القرآنية، ترعى طلابها وطالباتها بحماسة نادرة في كثير من الجامعات شرقاً وغرباً. وتشرف نويفرث اليوم على مشروع «كوربس كورانيكوم» وهو مشروع توثيق للقرآن الكريم وتعليق، وهو جزء من أبحاث الأكاديمية العلمية في برلين – براندبورغ.
المحور الثالث: «المسارات اللاهوتية: 11» أدار جلساتها ويلفرد ماديلونغ من جامعة أوكسفورد وهو اليوم أستاذ باحث في مركز الدراسات الإسماعيلية في لندن. ساهم ماديلونغ في جوانب عدة من التاريخ والفكر الإسلاميين بالرجوع الى المدارس الدينية والحركات في الإسلام المبكر. وقدم في هذا المحور الأستاذ ألفرد ولش ورقة عن «الشفاعة في القرآن: تحليل في سياق مصطلح شفاعة – استغفار وغيرها من المصطلحات والمفاهيم». وقدّم المهتم بالتربية والتعليم في العصور الوسطى، الأستاذ سيباستيان غونتر من جامعة تورونتو، ورقة عنوانها «ان الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما: الصور والرموز من الإيمان بالأخرويات كبداهة كلامية».
أعود الى المحور الثاني الذي أدارت جلسته الأستاذة انجيليكا نويفرث من جامعة برلين الحرة، فاللافت من محور «التناص» جرأته وحداثته، والتي يسترد بها القرآن الكريم تناصه مع التوراة والانجيل الذي يؤكد التنزيل على الأصل الواحد لها معاً في «أم الكتاب».
وقدم اسلام دية، وهو طالب دكتوراة من جامعة برلين الحرة بحثاً في «الحواميم: التناص في السور المكية المتأخرة» وهو يعمل على دراسة وحدة السور كما يدرس السور التي تقرأ كمجموعة واحدة. وقدم نيقولاي سينا أيضاً من جامعة برلين الحرة بحثاً في «اعترافات جيرميا ومؤسات محمد: التواصلية والانقطاع بين القرآن وآداب الأنبياء». وعرض سينا للمتواصل والمنقطع في السور المكية مع كتب الأنبياء في الكتاب المقدس العبري الذي يحمل أشكالاً ومواضيع مشابهة للقرآن أكثر من أسفار موسى الخمسة المعروفة في «العهد القديم». ويضع سينا سيناريو هذا الرصد في سياق التنقيح والتمييع لا الاعتماد النصي المباشر أو «الاستعارة». وناقش سينا المحورين المفتاحين للسور الأول – نقد القمع الاجتماعي القاسي والاتكال الإنساني الذاتي، من جانب، والتمثيل النابض لحياة الواقع لا مفرّ منه للحكم الإلهي – ممكن رويته كملاءمة ابداعية لكتب إرميا وأشعيا وحزقايل ودانيال والتي في شكل صوغها النهائي تحتوي على موتيفات واحدة، كيوم الكون وحساب الفرد والبعث. وتقترح ورقة البحث هذه سوراً ثلاثاً لمؤاسات محمد هي 93 و49 و108 والتي يمكن أن ترتبط بعلاقة متبادلة مع المفهوم البيبلي لعذاب النبي في دعوته، كما عبرت عنها مثلاً «اعترافات إرميا».
وفي سياق «التناص» بين القرآن وكتب «الذين أؤتوا الكتاب» قدمت انجيليكا ورقة بحث حول قراءة القرآن للمزامير، فأظهرت شكل الإشارة الى المزامير، التي تختلف عن العلاقة مع التوراة أو الأناجيل.
فالمزامير (الزبور)، كسلطة كتابية، تلعب دوراً هامشياً في القرآن الكريم، لكن، نجد نصوصاً حاضرة لها في شكل مدهش، ويظهر حضورها في الاستعارات الأدبية وفي شكل أعم – في مرآة السور المكية المبكرة – في رؤيتها لعلاقة الله بالإنسان.
وتحاول ورقة بحث الأستاذة نويفرث أن تراجع الإشارات القرآنية لآيات من المزامير معينة. وتحلل القراءات المنفردة للمزامير في السور المكية. وتناقش، بسبب نظرة التشابه الشكلي والسيمانتيكي بين المزامير والسور المكية، مشكلة إشارية النص في مقابل إشارية الحياة: وما تقصد نيوفرث هنا هو الإشارة الى ما يمر به النبي من تجربة شخصية يجعل منها نموذجاً للتقي في وضعه الروحي. ان قراءة نويفرث لـ «سورة الرحمان» في الإشارات الاستدلالية «للمزمور 136» من العهد القديم كانت من الأهمية بحيث ان الجلسة التي قرأت خلالها البحث تستحق كونها جلسة للمتخصصين لتعطي هذه القراءة الإبداعية حقها، وتمنيت لو أننا نقرأ هذه المقاربات الأدبية قبل حضورنا المؤتمر ليكون لتبادل المعرفة زرعه وثماره.
على أي حال، كان حضور الأستاذة نويفرث فعالاً في أكثر من جانب، فمشروع توثيق وتعليق للقرآن الكريم المشرفة عليه في جامعة برلين الحرة عرض في المؤتمر، بعد التأكيد على أهمية البحث التاريخي والأدبي الذي لا يمكن أن يتجاهل التعقيدات الدينية واللغوية للمحيط الذي ظهر فيه القرآن الكريم، وذلك للتأكيد على أصالة القرآن ولأجل التعرّف على الأسباب التي أكسبته خصوصيته اللغوية والدينية من خلال التفاعل مع الثقافات المرافقة له.
ومن أطرف ما حدث في المؤتمر القاء الضيف الأوزبكي عبيدالله أوفاتوف من جامعة طشقند خطبة غرضها أساساً التعريف بمصحف عثمان الذي تفتخر بحيازته بلاد ما وراء النهر، بلاد أوزبكستان. وعوضاً عن وصف المصحف وتاريخه والنقاشات التي تدور حول أقدم المصاحف، خصوصاً بعد اكتشاف مصاحف صنعاء التي تعود الى القرن الأول هجري، أخذ يخبرنا بالعربية عن علماء ما وراء النهر من أهل النحو (كالزمخشري) والأحاديث (كالدارمي والبخاري) والسنن (كالترمذي) وعلم الكلام (كالماتريدي والنسفي) وعلم التصوف (كالنقشبندي) والعلوم التجريبية (كإبن سينا والبيروني والفرغاني). لأنه فخور بمساهمات بلاده في الحضارة الإسلامية. حكى كيف أحضر المصحف أمير تيمور الى سمرقند وكيف انتقل المصحف الى روسيا (الاتحاد السوفياتي السابق) ثم عاد من جديد ليستقر في جامعة طشقند الإسلامية. لماذا لم يصف عبيدالله أوفاتوف المصحف علمياً؟ ولم يشر الى أية دراسات حوله؟ وهل بالفعل يعود الى السنة الهجرية الأولى؟ لأنه بالطبع غير ملمّ بالنقاشات الدائرة حول تاريخ المصحف وأهمية مصاحف صنعاء. الطريف أن الأستاذ أوفاتوف تقدم ليهدي الدكتور عبدالحليم معطفاً، يمثل اللباس التقليدي الرسمي الأوزبكي، وألبسه المعطف، مما ذكّرنا ان هذا الاجتماع بغرض المزيد من المعرفة بكتاب المسلمين الأول وكتاب العربية الأكبر، كما يقول المرحوم الشيخ أمين الخولي، تنجذب اليه قلوب المسلمين وآذانهم وبصائرهم كما تنجذب اليه الأكاديمية العالمية الغربية.
كلمة أخيرة نتمنى فيها على أهل العربية تقديم أوراق بحث يخص كتابهم العزيز، فأكثر الأوراق البحثية جاءت من أساتذة، مسلمين وغير مسلمين، يحاضرون في الجامعات الأميركية والكندية الأوروبية، مما يدل الى ان واقع الدراسات القرآنية في الأكاديمية الغربية ناشط.
حُسن عبود
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد