الرحّالة المغاربة صعقتهم المرأة الأوروبية
تنهض دراسة «المرأة في الرحلة السفارية المغربية خلال القرنين 18 و 19» (دار السويدي للنشر والتوزيع، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ــ 2014) على مقاربة حضور المرأة الأوروبية في كتابات الرحالة المغاربة.
تسعى مليكة نجيب التي حاز كتابها «جائزة ابن بطوطة للدراسات» (2013 ـــ 2014) في مضمار الأدب الجغرافي، إلى قراءة تمثلات الأوروبيات، حضوراً وفاعلية، في الوعي المغربي، كما أبرزته النصوص السفارية إبان الفترة المدروسة.
لا تستند الكاتبة المغربية إلى مقاربة المتن الرحلي من زاوية تحليل مضمون، بل اختارت منهجاً علمياً مغايراً. عمدت إلى توظيف الأطر المفاهيمية الحديثة، مثل مفاهيم الصورة والتمثيل والإسقاط والإدراك والعين المحدقة، والهيمنة الذكورية، والمتخيل، لمناقشة التصورات التي طغت على رؤى الرحالة إزاء المرأة الأوروبية وحضورها في المجال العام.
اختارت الباحثة ست رحلات: «نتيجة الاجتهاد، في مهادنة الجهاد، رحلة الغزال وسفراته إلى الأندلس» تأليف أحمد بن المهدي الغزال؛ و«الإكسير في فكاك الأسير» و«البدر السافر لهداية المسافر إلى فكاك الأسارى من يد العدو الكافر» لمحمد بن المكناسي؛ و«صدفة اللقاء مع الجديد» لصاحبها أبو عبد الله محمد ابن عبد الله الصفار، الفقيه العالم بأمور الشرع؛ و«تحفة الملك العزيز بمملكة باريز» لإدريس بن الوزير سيدي ابن ادريس العمراوي؛ و«الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية سنة 1806» لأبي الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي. استعانت أيضاً برحلات أخرى سابقة مثل رحلة أفوقاي «ناصر الدين على القوم الكافرين» و«الرحلة الأوروبية» لمحمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي الجعفري الفلالي الذي زار فرنسا مطلع القرن العشرين.
كشفَ تحليلها لمختلف المتون الرحلية عن بنية ذهنية/ ذكورية صلبة تعكس دونية المرأة في عقول الرحالة وإدراكهم. لقد اندهشوا من الأوروبيات المندمجات في التحديث والتغيير الذي شهدته أوروبا في الحقبة التي ارتحلوا بها إلى الغرب، أي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فوجئوا بحجم الشراكة التي حظيت بها النساء، وعبروا عن انبهارهم بجمالهن وسفورهن ونبوغهن في مجالات التجارة والفنون والتفاوض. ورغم الدهشة، إلا أنّهم ارتأوا أنّ نساءهم ــ رهينات البيوت ــ والمنعزلات والمقموعات، أفضل حالاً من السافرات في الديار غير الإسلامية.
تحدد الكاتبة دواعي اختيار موضوع دراستها. أدرجتها في سياقين ذاتي وموضوعي. قرأت صور المرأة في إطار فهم تاريخي، يراعي شروط إنتاج النص، بهدف التعرف إلى الوحدات المعرفية التي فكر فيها منتجو الخطاب الرحلي، والأسئلة الى حكمت تفكيرهم.
تحاول صاحبة «لنبدأ الحكاية» الإجابة عن إشكاليتين: هل ما بثّه الرحالة هو حقائق كما يدعون، انطلاقاً من أنهم شاهدوها وعاينوها، أم أن ما نُقل عن النساء اللواتي شاهدوهن تحكمه بنية فكرية شكلت صور الرحالة؟ إنهم قدموا تمثلات عن مشاهداتهم، فكيف نوظف نحن هذا المفهوم لتفكيك الخطاب الرحلي حول المرأة؟
تعمد الباحثة إلى تطبيق منهج علمي على النصوص الرحلية المختارة. تقارعها بأدوات وعدّة منهجية، بغية فهم آليات تأسيسها وعوامله. من بين الأطر المفاهيمية المستخدمة «الصورلوجيا» أي علم الصورة، أو ما عرفته بعض الترجمات بـ«الصورية»، وهو منهج في علم الأدب المقارن، يهتم بالصور التي ينتجها أديب أو رحالة عن بلد زاره وكتب عنه، والمقصود الصور التي يصفها الكاتب من دون أن تكون مطابقة للواقع، بل تكون أحياناً نابعة من التمثلات السائدة.
تخلص صاحبة «وانفجرت ضاحكة» إلى أنّ الخطاب الرحلي لم يعكس صور المرأة الأوروبية كما هي عند الأغيار، بل تجاوز ذلك إلى إصدار أحكام قيمية مستمدة أساساً من الثقافة الدينية للرحالة وتكوينهم الفقهي.
ترفد الباحثة دراستها بمجموعة من المراجع الأجنبية المهمة، ما ساعدها في التقاط مفاصل الإشكاليات والفرضيات والمفاهيم الموظفة. وتستعين بالمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه صاحب «حياة الصورة وموتها»، والفيلسوف الفرنسي هنري برغسون صاحب «المادة والذاكرة»، ومبتكر مصطلح «أركيولوجيا المعرفة» الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، والسوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو صاحب «الهيمنة الذكورية»، وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم صاحب «التمثلات الفردية والتمثلات الجمعية» وغيرهم.
تضعنا مليكة نجيب في السياق التاريخي للرحلات السفارية وشروط إنتاج المتن الرحلي السفاري. العوامل التاريخية التي رافقت هذه الرحلات التي قام بها الرحالة تقاطعت مع ظروف صعبة شهدها المغرب، ولا سيما على مستوى أزمة السلطة، والعلاقة الصدامية مع الغرب، وأسئلة التحديث التي طرحتها النخبة المثقفة.
رغم أن غاية الرحلات هي السعي إلى إطلاق سراح الأسرى في اسبانيا وفرنسا، إلا أنّ الرحالة المغاربة/ السفراء، سجلوا مشاهداتهم عن مختلف أوجه الحضارة، الإيجابية والسلبية التي أسّس لها الآخر الأوروبي، ونسبوا أسباب التفوق عنده غالباً إلى العجائبي والغرائبي. شكلت المرأة الأوروبية أبزر علامات الاستهجان لديهم، فحضرت في انطباعاتهم النمطية والإسقاطية، وأعربوا عن دهشتهم بظاهرة وجود النساء في الفضاء الخارجي، والاختلاط مع الرجال والعمل خارج المنزل، وممارسة الكوميديا والغناء والرقص. أجادوا في وصف النسوة الأوروبيات ووقفوا على تضاريس مفاتنهن وأجسادهن «وانتبهوا إلى ضمور خصورهن وامتلاء أرادفهن، وقيمة حليهن النفيسة وبذخهن ودلالهن، وذكروا إعجاب الرجل الأوروبي عند الإشادة بجمال زوجته أو أخته أو ابنته، كما وصفوا لباس النساء وتسريحات شعرهن وتناسق صدورهن».
هذا الوصف لأجساد الأوروبيات يحمل الكثير من التناقض لمعطيين: الأول سلبي تلقته الأنا الأبوية المستندة إلى المرجعية الإسلامية التي تحرّم السفور والاختلاط والتبرج؛ والثاني إيجابي في مضمونه، ينم عن انبهار الرحالة بحضور النسوة في المجال العام، واهتمامهن بأجسادهن، ما دفعهم إلى وضع وصف دقيق وتفصيلي، علماً أنّهم عابوا على الأوروبيين ذلك.
تصل الكاتبة في نهاية تحليل التمثلات التي تمظهرت في المتن الرحلي إلى ثلاث خلاصات: الأولى تشكّل بنية متحجرة تنتج خطابات تأتي في تجليات متنوعة تلتقي على تكريس دونية المرأة ومحاصرتها بين دهاليز التبعية والتهميش؛ والثانية أنّه لم يتصوّر الرحالة القيمة المضافة لدمج النساء وإشراكهن في مسلسل التحديث والتغيير؛ وأخيراً، غاب عنهم استحضار دعوة المغربيات إلى التعلم والعمل والمشاركة في صنع القرار والتحكم في الثروات.
جهدت مليكة نجيب في تقديم مادة علمية جديدة، تختلف عن دراسات الأدب الجغرافي التي اكتفت عموماً بالتفكيك. في المقابل، وقعت في الإفراط المفاهيمي على حساب مقاربة ونقد ومقارنة انطباعات الرحالة عن النساء الأوروبيات، كما تجلت في الخطاب الرحلي. كان بمقدورها أن توازن بين مكاشفة المفاهيم وتوظيفها المنهجي والقراءة التفكيكية للنصوص المنتخبة.
ريتا فرج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد