كيف باع الأتراك للأوروبيين صفقة مناطق «الأمن الواقع» في سوريا؟
الأتراك تجار مشهود لهم حين تحين لحظة «البازار». لا يحتاجون من يعلمهم أن أحد مبادئه الشهيرة: حينما يكون لديك شيء لا يباع فعليك أن تضيفه إلى بضاعة تعرف أن الآخرين مجبرين على شرائها.
على هذا المنوال، قضية «المناطق الآمنة» في سوريا شهدت تحولاً مهماً. كانت مجرد عنوان نشف حلق القيادة التركية من تكراره العبثي. الآن استطاعت فرضه كأحد تسعة بنود صفقة متكاملة مع الاتحاد الأوروبي، ليكون من مفاصل الآلة الجديدة لوقف تدفقات اللجوء إلى أوروبا. كيف ستحلّ معضلة التطبيق؟ لا بأس، يجري البحث عن حلول، فالاتفاق مراحل متلازمة، والأوروبيون يحتاجون للعمل به بعدما سعوا إليه بأيديهم وأرجلهم.
يوم الجمعة الماضي شهد آخر مراحل التفاوض حول «المناطق الآمنة». وصل رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلى مبنى المجلس الأوروبي في بروكسل لآخر جولة مساومة مع رؤساء المؤسسات الأوروبية، تمهيداً لوضع الصيغة الأخيرة للصفقة ليقرها زعماء الاتحاد الأوروبي. الأنظار كانت متركزة على تطورات الموقف القبرصي المعترض على الصفقة، وتفاصيل التمويل المضاعف إلى ستة مليارات يورو المطلوب تركيا. بعيداً عن هذا الضجيج، كان داود أوغلو يناور في مكان آخر.
حينما سألنا ديبلوماسياً أوروبياً خارجاً من أروقة الاجتماع، عن الجديد في المداولات، قال إن «الجانب التركي عاد لفتح قضية المناطق الآمنة مجدداً. إنهم مصرون عليها». أما عن خلاصة الموقف الأوروبي منها، فأقرّ بأن لا حيلة لرفض المطلب التركي الآن، قبل أن يشدد على أنه «نحن سندعم المناطق الآمنة، لقد قلنا لهم ذلك، لكننا ندعمها طالما لسنا مضطرين للقتال من أجلها».
هذا الاتجاه أكده مسؤول أوروبي رفيع المستوى، رافق جولات التفاوض في بروكسل وأنقرة. معلقاً على «واقعية» تنفيذ المطلب التركي، قال إن «دور الاتحاد الأوروبي يأتي بعد إيجاد المناطق الآمنة، حينها نحن مستعدون للاستثمار فيها».
حينما جلس داود أوغلو على طاولة التفاوض الصباحي، أشار مع فريقه إلى البند التاسع من الصفقة. قال إنهم يريدون كلاماً صريحاً عن «المناطق الآمنة» يشير إلى ذلك بوضوح، وألا يترك الأمر مضمراً في الصياغة. حصل داود أوغلو بالفعل على ما يريد، رغم كل ما قيل عن التحفظات الأوروبية التي منعت ذلك سابقاً.
حينما بدأ كل هذا التفاوض، ليلة السادس من آذار، وضع داود أوغلو مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء الهولندي مارك روتا، صيغة أولية شهدت إصدار طبعة جديدة من المطلب التركي. ذكرت تلك المسودة قضية «المناطق الآمنة» تحت عنوان «المناطق الإنسانية»، يتعهد الجانبان العمل على إيجادها في سوريا. الأتراك كانوا سعيدين بذلك. لكن بعد جولات التفاوض الأولى، مع تحفظ دول أوروبية، تمت تورية هذا العنوان تحت مسمى «مناطق أكثر أمنا». كان يجب البحث عنها بالمجهر، ضائعة تماماً في السياق لدرجة أن من لم يكن يلاحق تلك القضية بعينها، ما كان لينتبه لوجودها أصلا؛ فمن يجادل في الحاجة العامة إلى مناطق أكثر أمنا!
حماوة تفاوض يوم الجمعة جعلت الأوروبيين يذعنون للإصرار التركي، بدعم من دول أوروبية لم تخف مساندتها سابقا لإنشاء «مناطق آمنة». لم تعد هناك تورية. الصفقة المشتركة أقرت أن «الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء سيعملون مع تركيا في أي مسعى مشترك لتحسين الظروف الإنسانية داخل سوريا، وعلى وجه الخصوص في مناطق محددة قرب الحدود التركية (العبارة الأخيرة هي التي أضيفت) بما يسمح للسكان المحليين واللاجئين بالعيش في مناطق سوف تكون أكثر أمنا».
زيادة في التشديد، لقّن داود أوغلو الخلاصة لمن ضاعت عليه. شرح أنه تباحث بشكل مكثف مع القادة الأوروبيين، خصوصا مع نظيره الفرنسي، رابطاً عمل آلة وقف تدفقات اللجوء بدعم أجندتهم للتسوية السورية: «من دون حل الأزمة السورية لا يمكننا ضمان أن هذه الاتفاقات ستصل للنتائج التي نستهدفها».
لم يأت مسمّى «مناطق أكثر أمنا» اعتباطاً. النقاش يذهب ويلتف ليعود إلى المحكّ الأساسي: إذا كانت مناطق آمنة، فمن سيتكفل بضمان أمنها؟ من سيتحمّل مسؤوليتها؟ أي قوات عسكرية ستفرض تأمين هذه المناطق؟
خلال إحياء المسألة أخيراً، أقرّ بهذا الاستعصاء مسؤول أوروبي، من دول النواة الصلبة لمجموعة «أصدقاء سوريا». حينما سألناه عن نتائج مداولاتهم، أكدّ أنه «لا يوجد إجماع أوروبي حول المناطق الآمنة»، لكنه استدرك بالقول: «لا نزال نبحث في خيارات أخرى» غير الصيغة التقليدية لمناطق محمية عسكرياً.
أحد الديبلوماسيين الأوروبيين، ممن رافقوا مداولات القضية، اعتبر، أنها يمكن أن تكون في النهاية «مناطق آمنة بحكم الأمر الواقع». موضحاً أبعاد ذلك، قال إنه «عملياً، المناطق الآمنة بدأت تتشكل، الأتراك أغلقوا حدودهم وهناك مخيمات لاجئين متجمعة هناك، هذه المناطق تتوسع طالماً تزداد تدفقات اللاجئين»، لافتاً إلى حقيقة أنه حتى لو صار اتفاق وقف الأعمال العدائية دائماً، فالحرب لن تتوقف على مناطق «داعش» و «جبهة النصرة» على أقل تقدير.
مصدر آخر كشف أن هناك أفكارا عدة تناقش لإيجاد تخريجة لـ «مناطق أكثر أمنا». شرح أن «الممكنات» تشمل ضم القضية إلى مفاوضات جنيف، ولعمل لجنة تنفيذ ومراقبة «الهدنة»، قبل أن يخلص إلى أنه «يمكن إيجاد مناطق أكثر أمناً عبر إعلان أطراف الصراع بأنها تلتزم بعدم استهداف مناطق محددة تكون مخصصة لمخيمات اللاجئين قرب الحدود التركية». لفت المصدر إلى أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يلعب هنا دوراً سياسياً داعماً لأنقرة، عبر «الضغط السياسي لوضع هذه القضية على أجندة عمل جنيف».
أحد المسؤولين الأتراك، المرافقين لوفد بلاده إلى بروكسل، دعم التقدير الأخير. قال حينما سألناه إنهم لا يطلبون انخراطاً أوروبياً لإنشاء المناطق «الآمنة»، قبل أن يوضح «هذا الأمر يناقش مع من هم هناك في سوريا، مع الروس والأميركيين، ما نحتاجه هو دعم سياسي أوروبي، لم يعد الأمر يخصنا فقط بل إن جزءا من الاتفاق التزموا بالعمل على تطبيقه».
حينما انتهى المؤتمر الصحافي المشترك، توجه رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك إلى داود أوغلو بصوت ضاحك نقلته المكيروفونات: «أي ولد مشاكس أنت»، فرد عليه تواً: «مشاكس لكني صريح». كان داود أوغلو ممتلئا بالشعور أنه يتحدث من موقع قوة، حتى أنه أحرج مضيفيه بانتقادات خشنة، غير مُنتَظَرَةٍ في لحظة إعلان التوافق على صفقة.
قبل أن يتلقى التعليق الممازح، كان داود أوغلو يلمّع ما يريد إبرازه بعدما تجنب الأوروبيون ذكره. قال إن «تركيا تساعد فقط الأوروبيين على الوصول إلى اللاجئين السوريين، وآمل أنه خلال الأسابيع المقبلة سنساعد اللاجئين السوريين في كل مكان، في تركيا، وإن أمكن في مناطق آمنة داخل سوريا».
حين كان يعلن ذلك، كانت بعض مخيمات اللاجئين، قرب الحدود التركية، تطوف بمياه عاصفة مطرية، فيما الرياح الشديدة تقتلع بعض خيمهم. تلك المخيمات نشأت لسبب واحد، هو إغلاق تركيا لحدودها، بعدما تركتها مشرعة لسنوات. قرار الإغلاق تزامن مع اشتداد معارك الشمال السوري، خصوصاً التقدم الذي حققته «قوات سوريا الديموقراطية» بقيادة الأكراد السوريين.
الآن أعلن الأكراد فدرالية الأمر الواقع في مناطق سيطرتهم. لم يخف مسؤول أوروبي إدراكهم لوجود مصالح سياسية لأنقرة خلف العناوين الإنسانية للمناطق «الأكثر أمنا». قال معلقا على ذلك «بالنسبة لنا هي مناطق يمكننا أن ندعمها حينما تنشأ لأغراض إنسانية. طبعاً نعرف أن الأتراك يسعون دائما لمنع الأكراد من وصل مناطقهم».
بقيت أنقرة تشير على الخريطة إلى الشريط الحدودي بين جرابلس وإعزاز. إنه الامتداد الذي يفصل الآن بين وصل الأكراد لمناطق «الفدرالية»، وكذلك الامتداد الذي يشكل باب «داعش» المفتوح شمالاً. خلال سنوات لم تتوقف القيادة التركية عن إطلاق تسميات مختلفة لتغليف الهدف ذاته. سمتها مناطق «آمنة»، ثم «عازلة»، قبل أن تقول واشنطن إنها جاهزة لدعم مناطق «خالية من داعش». لم تظهر مفاعيل تلك الإعلانات، بما فيها إعلان وزير خارجيتها جون كيري، قبل أشهر، ان لديهم «اتفاقا كاملا» مع تركيا حول مناطق «مغلقة».
ليس هناك من يمكنه استبعاد لجوء أنقرة لفرض سيناريو «المناطق الآمنة» كأمر واقع، خصوصاً أنها لم تمانع في المتاجرة المفضوحة بقضية اللاجئين للحصول على مكاسب سياسية. بعد تشجيعها تدفقات اللاجئين، فاتحة لهم البوابة البحرية إلى اليونان على مصراعيها، ليس واضحاً إن كانت ستتردد قبل استخدامهم لرصف «مناطق آمنة». داود أغلو أعلن بلسانه، مع كل تأسفاته، أن بلاده «لا تريد استقبال المزيد من الضحايا» السوريين الهاربين من الحرب.
لم يعد الأوروبيون الآن بريئون مما يرسم خلف «المناطق الآمنة»، خصوصاً إن تحقق وجودها بفرض حكم الأمر الواقع لاحتشاد اللاجئين. من ضمن إشاداتهم بما تفعله الحكومة التركية، رحبوا بفرض التأشير مجدداً على السوريين، رغم كونها الأداة التي أعلنت عبرها تركيا إغلاق الحدود.
طوال سنوات طالب الأوروبيون بإبقاء الحدود مفتوحة، كما تقر المعاهدات الدولية، لكنهم الآن أغلقوا أفواههم. أحد الديبلوماسيين برر ذلك بالإحالة على منطق «الآلة المتكاملة» لوقف تدفقات اللجوء: «لا يمكننا الآن أن نطالب تركيا بفتح حدودها بينما لا يمكننا جعل دول أوروبية تتراجع عن إغلاق حدودها»، قبل أن يعترف بأن «الاتفاق هو حزمة متكاملة، سواء بالنسبة لما نريده منه أو لما يريده الأتراك».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد