02-01-2018
فجر الإبل، نجم العرب
حسمت الألفية الأولى قبل الميلاد مستقبل أربعة منجزات ثورية ستغيّر وجه العالم، وتلك هي انتشار استخدام الحديد، شيوع الكتابة الأبجدية، بدء تغلب فكرة الإله التجريدي على فكرة «الأصنام»، وأخيراً تحويل الإبل إلى دواب نقل وحرب. ما يجمع بين كل هذه المنجزات، أنها حررت المهمشين من أمم وطبقات وأهل الأطراف من هيمنة أسياد العالم القديم، وعززت مبدأ اللامركزية، وسمحت بنمو مراكز قوى جديدة متعددة ومتشابكة ومتداخلة حتى صار كل قوم أو منطقة متخصصة بشيء لا يقدر عليه الآخرون. كذلك سمحت هذه اللامركزية بولادة ونمو أمم ستهيمن وما زالت على المشهد الحضاري في منطقتنا. من هنا يحفل العهد القديم بذم بابل ومصر، كمراكز للظلم والسلطة والتراكم المالي المركزي، التي لا ترحم الأقاليم والأمم الصغيرة حولها.
حديد، أبجدية، الله والإبل
جاء تطويع الحديد وانتشاره، الذي حل محل البرونز، ليمنح العصر اسمه «عصر الحديد» (1200 ق. م – 500 ق. م) ويغير شكل العلاقة بين مراكز القوة. وسمح انتشار الحديد، وهو المعدن المتوافر بغزارة، ولا يتطلب الكثير من الجهد والتنظيم المجتمعي والدولتي لاستخراجه ومعالجته، لكل قرية جبلية أو صحراوية، بعيدة أو مهمشة من أن تصنع أدوات زراعتها وأسلحتها. وهذا بحد ذاته قضى على هيمنة الشرائح المدينية التجارية في كبرى مدن الشرق القديم التي احتكرت تجارة البرونز وإنتاجه.
وفي ما يخص منطقتنا، لعب الحثيون في الأناضول، باعتبارها إحدى أهم مناطق تصدير المعادن، دوراً متقدماً في ذلك، ما ساعد على بروزهم كقوة مخيفة. وسيشكل هؤلاء الحثيون أحد الروافد الأساسية في تكوين أمة عسكرية أكثر عنفاً بعد ذلك، هي الإغريق.
في ذات المرحلة حصلت ثورة أخرى، فإلى الجنوب قليلاً، وعلى الساحل الشامي، تحديداً لبنان اليوم، ولدت الأبجدية الفينيقية، وقد يعرفها بعض العلماء بالكنعانية بحدود 1050 ق. م. هذه الأبجدية المكونة من 22 حرفاً، كانت في الأصل قد استوحت نظام الكتابة المصري (الهيروغليفية). وأتى هذا الابتكار المذهل في الأساس لخدمة المجتمع التجاري الشرق المتوسطي الناشط وقتها، ومنه ستولد كل أبجديات العالم الغربي، ومنه أيضاً ستولد الأبجدية الآرامية. ففي حدود القرن الثامن قبل الميلاد ابتكر الآراميون، وهم شعب تجاري آخر كالفينيقيين، نظام كتابتهم التي ستصير الأساس الذي ستعتمده أغلب نظم الكتابة في الشرق الأوسط، ومنها العربية.
تميل القوانين التدمرية بنحو واضح إلى أهل البادية والإبل مقابل العربة
نظام الكتابة الأبجدي سهّل عملية إنتاج المعرفة، ونقلها وتعلمها. بعكس الكتابة المقطعية والتصويرية كالمسمارية والهيروغليفية، لم تعد المعرفة والكتابة محصورة بمن يتطلب منه أن يقضي سنين طويلة جداً فقط ليتعلم قراءتها وإتقان نقشها على الحجر في مؤسسات تمولها السلطة. بل صار بإمكان ناسك أو متعبد بقرية بعيدة أن يترك لنا أناشيد وصلوات وتواريخ وأساطير تعكس وجهة نظر الهامش. بالضبط (كمخطوطات قمران) عند البحر الميت التي أنتجتها جماعة هامشية محاربة.
انتشار الأبجدية، سهّل الإنجاز الثالث، وهو انتشار أفكار المهمشين الدينية وآدابهم، وأعني هنا ما سيعرف لاحقاً بأتباع التوحيد أو العقائد السماوية. ففكرة الآلهة السماوية وعقائد التوحيد هي انتصار لفكرة الإله التجريدي منه لفكرة الإله ذو التمثال أو «الصنم».
يبدو أن فلسطين القديمة، وفي الجزء الذي كانت تقوم عليه مملكة يهوذا البائدة، وتحديداً في العصر الإخميني (550 ق .م – 330 ق. م) بدأت تنتصر خلاله فكرة الإله يهوه المجرد لأسباب غير واضحة لي. ومن يهوه هذا سينحدر بقية أرباب العقائد السماوية بشكل أو بآخر.
بقي الإنجاز الرابع، الذي التصق بالعرب أكثر من غيرهم، وذلك بتحويل الإبل إلى دواب للركوب والنقل والحرب. وهذا الإنجاز التاريخي الكبير، لا يعرف اليوم العرب عنه الكثير، برغم أن تدجين الجمل وتحويله إلى وسيلة نقل وحرب، مكنت العرب من احتكار طرق التجارة، وفتح مسالك تعبر الصحراء، لا يقدر عليها غيرهم.
الإبل كانت وسيلة النقل الأكثر عملية وكلفة وتقصيراً للمسافات بين المدن، فأنت لم تعد مضطراً إلى السير بعرباتك على طول نهر الفرات من بابل لإيبلا قرب حلب، خاضعاً لضرائب الدولة، وعاجزاً عن مقاومتها. فالإبل مكنتك من قطع المسافة في أي فصل من العام مباشرة عبر الصحراء لوجهتك. وهو ما سنتوسع في مقاربة آثاره في هذا المقال.
موطن الإبل وسرديات العرب
يتفق أغلب المتخصصين اليوم، على أن الجزيرة العربية هي موطن تدجين الجمل في الألف الثالث قبل الميلاد. يرجح ريتشارد بولييت اليمن كأول موطن لتدجين الجمل، ويقترح مدينة أوبار الأسطورية التي يعتقد أنها تقع على مثلث الحدود اليمنية العمانية السعودية، كأقدم مركز لهذه العملية. ومن أوبار وصلت الجمال بنحو غير واضح لنا إلى حضرموت القريبة منها، حيث حُوِّلَت بعد قرون إلى دواب نقل بعد اختراع الحمل نحو 1500 ق. م وربما أقدم بكثير. أما الحمل، بكسر الحاء وتسكين الميم، فهو السرج الذي جعل من الجمال حيوانات نقل ودواب قابلة للركوب.
مقابل اليمن كموطن محتمل وفق نظرية بولييت، ترى دراسة روبرت هويلند الأحدث عهداً عُمان كموطن أقدم للإبل. ويرى أنها دجنت أول أمرها لألبانها وروثها الذي كان يستخدم كمادة مشتعلة (Hoyland: 2001, p90).
على كل حال، ما يجدر ملاحظته هنا، أن كلتا المنطقتين المشكلتين لما يسمى الجنوب العربي، أرض محاطة بالصحراء شمالاً والبحر جنوباً. ولم تكن هذه الأرض غنية بالأشجار وتنقصها الكثير من المواد الغذائية، وتفتقر إلى السهول الخصبة التي تجنب الناس المجاعات، خاصة في حقب الزيادة السكانية.
فلم يكن أمام العُمانيين واليمنيين قبل عصر الجمال سوى ركوب البحر لسدّ ما ينقصهم، الأمر الذي ولّد التجارة لديهم، وجعلهم أحد أقدم الشعوب البحرية. يقترح بولييت أن ثقافتهم البحرية تلك هي ما ألهمتهم أن يطلقوا على الجمل «سفينة الصحراء». كذلك ورد بكتاب حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين الدميري (ت 1405م)، حيث يقول:
«روي عن سعيد بن جبير أنه قال لقيت شريحاً القاضي ذاهباً فقلت له إلى أين تريد؟ فقال الكناسة. فقلت وما تصنع بالكناسة قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت. وقال تعالى: «وعليها وعلى الفلك تحملون «قرﻧﻬا بالفلك التي هي السفائن لأﻧﻬا سفن البر قال ذو الرمة: سفينة بر تحت خدي زمامها.» ص 16.
غربة العرب عن الجمال
في حين أن المؤرخين رجحوا كون جنوب الجزيرة العربية، مهداً لتدجين الجمال فإن المتخصصين بالتاريخ القديم، حددوا مناطق شمال الجزيرة العربية البعيدة موطناً للعرب الأوائل. أي إنه كان هناك صحارٍ واسعة تفصل العرب الأوائل في الشمال عن الجمال في الجنوب.
إذا عدنا إلى السرديات العربية القديمة كما نقلها الجاحظ (ت 868 م) والدميري، وجدنا أن العرب كانت تنسب تدجين الجمال إلى قوم آخرين ليسوا بعرب. فيذكر الجاحظ هنا أن العرب الأوائل كانوا يخافون هذه الدواب ويربطون ولادتها بالجن، ما يعكس غربتهم عنها أول أمرهم.
وهنا يشير بولييت إلى أن العرب الأوائل لم يكونوا سوى رعاة غنم وماعز نشأوا على الأرجح في الأطراف الجنوبية للهلال الخصيب. وهو ما قد يتفق مع تقدير جان ريتسو المشدد في تحديد موطن العربية ببادية الشام وشمال الجزيرة العربية حيث تتوافر المياه والمراعي.
يعتمد بولييت اعتقاد المتخصين حول حلول «شعب سامٍ» لأول مرة في اليمن نحو 1500 ق م. ويضيف أنه بعد أن تعرف هؤلاء القوم إلى جمال اليمنيين، قرر بعضهم العودة بها إلى موطنهم الأصلي، أي الهلال الخصيب. وهو ما قد أطلق مسيرة الرحلات البرية من اليمن إلى الشام.
مهما كانت الحقيقة، فإن أقدم دليل آركيولجي عن استعمال الجمال كدواب نقل يعود إلى جنوب بلاد الشام، وذلك عند اكتشاف جرار غير عادية الحجم لضخامتها، وبسعة 80-120 كيلوغراماً، غالباً لنقل الزيوت والخمور بشدها على ظهور الجمال. تعود هذه الجرار إلى مرحلة القرنين 13 أو 12 ق.م، حيث كان النقل التجاري بين مصر وجنوب فلسطين وشمال الجزيرة العربية نشطاً في تلك الحقبة، وهو النشاط الذي حفظه تراثنا عبر نصوص التوراة، بقصة النبي يوسف وبيعه من قبل البدو المديانيين لمصر، فهم كانوا سكان تلك المنطقة. الملاحظ هنا أن المديانيين لم يشتهروا فقط بالتجارة التي تنقلها الإبل، لكن كحال الفينيقيين عرفوا أيضاً بتجارة الألبسة والأقمشة الأرجوانية المرغوبة في عصرهم (Hoyland: 2001, p90).
طريق البخور... طرق العرب
بفضل الخرق الجغرافي الجديد، بفتح طريق تجاري بري ينقل بخور اليمن وأفريقيا وغيرها إلى بلاد الشام شمالاً، نمت العديد من المدن الشامية كمرافئ للتجارة البرية الواعدة، كدمشق وحماه والسامرة وسخيم في الألفية الأولى ق. م.
جلبت هذه التجارة ثروة طائلة لهذه الدويلات الآرامية والعبرية والفينيقية، ولم يكن بطل هذه العمليات البرية الجسورة لعبور الصحراء معروفاً لدينا حتى القرن العاشر ق. م. وهي فترة كانت فيها عملية ركوب الجمال قد تطورت كثيراً، ولم يكن هؤلاء القوم الجدد على المسرح الدولي، سوى العرب.
لا نعرف كثيراً عن هؤلاء العرب الأوائل، ولكن أقدم النصوص التي تأتي على ذكرهم هي النصوص الآشورية، إذ يبدو أن المتضرر الأكبر من ولادة هذا الطريق هو بلاد الرافدين، التي كانت مدنها الغنية تحتكر تقريباً تجارة البرونز والبخور واللؤلؤ والعاج القادمة من أفريقيا والجزيرة العربية عبر الخليج العربي صعوداً إلى مرافئ النهرين، ومنه إلى بقية المشرق. ما سيكون سبباً إضافياً لشنّ الحملات الآشورية لإخضاع بلاد شام.
ولادة القوم اللقاح
الواضح من خلال النصوص الآشورية أن العرب لم يكونوا جميعاً بدواً، وأن الآشوريين ميّزوا بين أهل الغنم شبه الرحل، وأولئك المستقرين من العرب، وبين البدو ذوي النجعة البعيدة، أي أهل الإبل ممن يعيشون بأعماق البادية.
فمثلاً يذكر الملك سركون الثاني الآشوري (722 ق. م. – 705 ق. م.) أن هناك نوعين من بدو العرب. نوع أقرب لبلاد الرافدين وجرى تطويعه، ونوع سماه «العرب البعيدين الذين يسكنون في الصحراء، ولم يعرفوا مراقباً عليهم ولا موظفاً، ولم يجلبوا للملك ضريبتهم» (Hoyland: 2001, p61).
حال بعض الأعراب كما ورد على لسان الملك الآشوري، عرفته الثقافة العربية باللقاحية أو بالقوم اللقاح. فقالوا عن بني تميم مثلاً وهي من أشد العرب بداوة ومنعة في القرن السابع والثامن، «إن تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا أتاوة» (جواد علي، ص 1249، نسخة رقمية).
ويبدو أن العرب كانوا يفخرون بالثقافة اللقاحية حتى في المدن إن أمكن، فهذا الأسود بن أسد بن عبد العزى قد صاح، حين عرض عليهم أن تخضع قريش لملك: «ألا إن مكة حي لقاح، لا تدين لملك» (المصدر ذاته).
مكنت الجمال العرب (والبربر لاحقاً) في منطقتنا من الاستيطان في الواحات البعيدة والممتنعة عن الملوك وعسكرهم، وسمحت الإبل بخلق مجتمعات حرة قوية، لربما أشبه بـ«الصعاليك» الذين قرأنا عنهم في الجاهلية. بعيداً عن فرض مسحة من الرومانسية على البدو، يمكن القول إن هذا النمط من المعاش سمح لهؤلاء القوم بعكس المزارعين المساكين، من تحدي سلطة الأباطرة في بعض الأحيان، وخالف مسلكهم في المعاش نمط أهل المدن، وطرحوا قيماً أخلاقية ونظماً جديدة للإنتاج.
ففكرة أنهم قوم لقاح يملكون أقدارهم ولا يملكهم شيء، ستلهم الكثير من الحركات الثورية في منطقتنا، وسيشارك هؤلاء البدو في ثورات وحركات العصيان الجذرية التي حدثت في الإسلام، من القرامطة إلى المشعشعين. ومن هنا كانت شهادة الملك الآشوري المبكرة حول هؤلاء القوم الذين لا يخضعون لحاكم ولا ضريبة، اعترافاً مؤلماً بتحدٍّ أمني واقتصادي سيؤرق كل الملوك والسلاطين بعده. سنعود إلى هذه النقطة في مقال آخر.
الجمال وقدرتها الكبيرة على عبور كل الصحاري مكنت أهل الجزيرة العربية من تواصل بعضهم مع بعض، ما سيساهم لاحقاً «بتعريبها»، حيث لم يكن كل أهلها عرباً كما يعتقد.
وفي نفس الوقت مثل ظهور العرب وجمالهم للحضارات «الشرقية» فرصة لإعادة إنتاج نفسها سياسياً. فالعرب في النهاية هم أبناء المشرق القديم بشهادة الرقم الطينية الآشورية. وورث هؤلاء مثل غيرهم الكثير من تراث المنطقة القديم. وبفضل جمالهم وتنظيمهم العشائري الصحراوي نجحوا كما لاحظ ابن خلدون، باقتحام مدننا وإنشاء أخرى جديدة وبإسقاط السلالات الفاسدة والضعيفة والحلول محلها، مؤسسين إمارات ودول قوية وغنية. وهذا بالضبط ما حصل في الحضر، وتدمر، والرها وحمص والبتراء والحيرة وبصرى والجابية والموصل وحلب الحمدانيتين وغيرها الكثير.
اقتصادية الجمال
يفتتح بولييت كتابه الممتع الجمل والعجلة بتذكيرنا بتصور شائع، لكنه مغلوط، هو أن العجلة هي واحدة من أذكى الاختراعات البشرية، أما الجمل فهو واحد من أكثر مخلوقات الرب خرقاً. وصار الحكم على تقدم المجتمع والحضارة بعدد العربات أو استعمالها بدل الدواب وحدها. وصار بعضنا يمارس مازوشية لا طائل منها للنيل من حضارتنا على أنها حضارة أعراب وإبل وخيم، غير مدرك معنى ما يقول.
يناقش بولييت بتأنٍّ كيف اختفت العربات مقابل الجمال في العالم القديم، ويعزو ذلك ببساطة إلى قوة الجمل وعمليته كوسيلة نقل وحرب وتفوقه على العربات وعلى كل دواب النقل الأخرى. ولدينا على الأقل أربع تقارير عسكرية لوجستية، عن أفضلية الجمال على الثيران والبغال والخيل والعربات في النقل من ثلاثة جيوش حديثة هي البريطانية والفرنسية في أفريقيا القرن 19 والجيش الأميركي في الولايات الجنوبية. وكلها تؤكد النقاط التي أوجزها الميجور البريطاني ليونارد باختصار:
1) السرعة في الحركة بغض النظر عن الظروف البيئية القاسية.
2) قوته في الحمل والجر ضعف قوة الثيران والبغال.
3) قدرته على قطع ما بين 20-25 ميلاً، وهي أكبر من قدرة الدواب الأخرى (الثور مثلاً 9 أميال).
4) قوته التي تمكنه من القيام بأربعة أضعاف الرحلات والأعمال التي تقوم بها غيره من الدواب ضمن حياته الطويلة نسبياً.
5) صبره على العطش والجوع.
6) لا تعصى عليه الأنهار ولا الجداول ولا الهضاب ولا الطرق الضيقة بعكس العربات.
7) لا يتطلب أي صيانة ولا عناية خاصة، بعكس العربة المعرضة للكسر والصيانة والأخشاب والنقل.
8) وأخيراً يستطيع رجل واحد قيادة 6 جمال محملة بالبضائع ودون مشاكل، ولكنك بحاجة في حالة الثيران والعربات إلى رجل لكل ثورين Bulliet: 1975, p23-24)).
المنافسة التدمرية الساحلية
سنأخذ حالة للقوانين التدمرية، التي تعطينا صورة عن طبيعة الصراع التجاري والاجتماعي بين أهل الإبل والعربات. تميل القوانين التدمرية بوضوح إلى مصلحة أهل البادية والإبل مقابل العربة، فأهل تدمر ونخبتها على ما يبدو، كانوا على منافسة شديدة مع أهل الحواضر الشامية القريبة والساحلية.
يرى بولييت وآخرون أن التدمريين سنّوا قوانين تحدّ من مشاركة أهل الساحل (وهؤلاء كانوا تجاراً بعربات تجرها الثيران) في التجارة المتجهة شرقاً وجنوباً عبر البادية. لا أستبعد شخصياً وجود مثل هذه المنافسة والنفور بين أهل الساحل وتدمر، ولكن في تصوري إن عملية الجمل ورخصه هو ما شجع وحسم المنافسة بين أهل الساحل والريف والبادية لمصلحة الأخيرين وإبلهم.
لنعد إلى قانون مرور القوافل بتدمر عام 137 م، الذي فيه أن على كل حمولة عربة ضريبة مساوية لحمولة 4 جمال. ولنفهم ذلك بنحو أفضل، علينا العودة إلى قانون روماني سنّ عام 301 ميلادي لمعالجة اضطراب الأسعار والمعاشات في الأقاليم الشرقية للإمبراطورية. وجاء فيه أن هناك رسماً ضريبياً بقيمة 20 ديناراً رومانياً، لكل عربة يجرها ثوران بحمولة 1200 رطل روماني تمرّ بتدمر، ذلك مقابل 8 دنانير رومانية لكل جمل بحمولة 600 رطل يمرّ بالمدينة ذاتها Bulliet: 1975, p20)).
أي إنه في كلتا الحالتين، كانت الضريبة أقل وفق القانون الروماني بـ20%، وقرابة الضعف في حالة القانون التدمري لمصلحة أصحاب الإبل منها لأصحاب العربات. وبذلك يكون أهل البادية ذوي أفضلية واضحة على أهل الساحل وسائر المدن الشامية الأخرى.
هنا يقدّر بولييت أن العربات اختفت في الفترة الممتدة من القرن الرابع ميلادي والسابع ميلادي في مناطق مختلفة في المشرق وشمال أفريقيا، أي قبل الفتح الإسلامي بقرون (نفس المصدر، ص27)، ما قضى على العربات وهمّش دورها في النقل والتجارة والحرب. مع ذلك يؤكد بولييت أن القوانين «الجائرة» والمتحيزة للإبل مقابل العربات قد ساهمت في الحد من العربات، إلا أن ما حسم المنافسة هو فعالية الجمال وقلة تكاليفها التي مرّ ذكرها.
خلاصة
يمكن القول، إن كان الإسلام ثورة العرب الكبرى، فالإبل كانت ثورتهم الأولى التي بفضلها علا نجم العرب لأول مرة بين الأمم. ونادراً ما احتكر قوم تربية حيوان وبفضله بزّوا غيرهم من شعوب كما حصل مع العرب. ومن حسن حظنا أن بعضنا لم يتنكر تماماً للموروث، فبقي ذكر قوافل الإبل في الشعر المغنى حياً إلى اليوم. وجلكم يعرف قصيدة الشاعر العباسي ماني الموسوس (ت 859م) التي أداها الفنانان ناظم الغزالي وصباح فخري:
لمّا أناخوا، قُبيل الصبحِ، عيسهمُ
وحمَّلوها وسارت بالهوى الإبلُ
يا حادي العيسِ عرِّج كي أودِّعها
يا حادي العيسِ في ترحالكَ الأجلُ
ومع تقدم الزمن ولد تراث غنائي جديد في العراق، حيث حل وحش جديد في مخيلة الشعراء محل الإبل، سيحمل المعشوق إلى المجهول، ألا وهو القطار. الذي ذكره الشاعر مظفر النواب في قصيدته الخالدة (الريل وحمد) التي غناها الفنان ياس خضر والتي تسجل انتقال الوعي الشعبي من عصر الإبل إلى عصر القطارات:
مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل
وسمعنا دق قهوة، وشمينا ريحة هيل
حسن الخلف: الأخبار
إضافة تعليق جديد