بين التاجر الأخطبوط والحكومة.. ضحية واحدة
قررت الحكومة في اجتماعها الأخير زيادة أسعار شراء المحاصيل الزراعية الأساسية والمتنوعة، خبر ساقه الشريط الإخباري في القناتين المحليتين. التفاصيل في الصحافة الرسمية تحدثت عن رغبة الحكومة أيضاً في ردع الاتجار بالحبوب، وحماية الموارد المائية.
وجاء في التفاصيل (بغية تحقيق الاكتفاء الذاتي، والأمن الغذائي، وبهدف تشجيع الإخوة الفلاحين على زيادة إنتاجهم وتحسين أوضاعهم المعيشية، قرر مجلس الوزراء رفع أسعار المحاصيل الزراعية الإستراتيجية للموسم الزراعي 2008 وفق الآتي:
القمح القاسي 16.5 ل.س
القمح الطري 16 ل.س
الشعير 15ل.س
الذرة الصفراء 15 ل.س
القطن 36 ل.س
الشوندر السكري 3.5 ل.س
الأمر الأكثر أهمية في الجزء الثاني من الخبر: (وكلف وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي والجهات المعنية اتخاذ أشد الإجراءات لمنع وقمع أية ظاهرة للاتجار بالحبوب أو تهريبها، ووضع الآلية المناسبة لاستلام وتسليم الإخوة الفلاحين كامل إنتاجهم من محصول القمح إلى المؤسسة العامة للحبوب).
المسألة تشبه صراعاً بين الحكومة والتجار، مطاردة بين طرفين يصطرعان للوصول إلى الهدف، والفلاح هو الذي ظل خاسراً ويشكو من القروش القليلة التي تشتري بها الدولة محصوله.
بالكاد فلاحنا كان يعيش من الموسم إلى الموسم دون دين، وإلا لماذا ترك الفلاحون أراضيهم واستثمروها في العقارات، لماذا يبيع الفلاح أشجار الحور التي تصون حقله في الغوطة؟ لماذا أبناء الفلاحين لم يرثوا مهنة آبائهم إن كانت مجزية؟ ليس ترف المدينة وترهلها هو السبب، وليس الكسل وأفلام الديجتال، وليس الاسترخاء الوظيفي، الزراعة لم تعد مهنة ينتج في محصلة شقائها عيش كريم.
الموسم الماضي أثارت الصحف الخاصة والعامة فضيحة موسم القمح 2007 والاتجار به، وبعض الصحف عنونت (أنقذوا موسم 2008)، والقصة التي نشرت ركزت على محاولة التجار شراء الموسم قبل أن يبدأ، بل اشترى البعض، وباع البعض.
الـ 16.5 التي تعتقد الحكومة أنها رقم مغر، قدم التجار لبعض الفلاحين أسعاراً منذ فترة وجيزة وصلت إلى 17 ل.س للكغ.
التجار سبقوا الحكومة في عقد الاتفاق، وسبقوها في السعر، والفلاح سوف يبيع للذي يدفع له أكثر، خصوصاً إذا كان الطرف الثاني عليه ما عليه من مسؤوليات وواجبات قد ألقاها جانباً، ويصور نفسه اليوم كمنقذ وحبيب.
المطاردة بين الدولة والتاجر سوف يكون ضحيتها المواطن، الفلاح أولاً، المستهلك ثانياً، والطفل ثالثاً، بالمحصلة مواطنون لا حول لهم ولا قوة سوى اختلاق المبررات كشرط للعزاء.
في رحلة المطاردة، في الصراع الذي يخوضه الطرفان، خسر المواطن. في اختبارات عدة خسر المواطن.
الدولة أمرت بعد جائحة أنفلونزا الطيور بعدم تصدير البيض، لأن أسعاره وصلت إلى أرقام قياسية. انتهت الأزمة (الإشاعة) وصمد الفروج متحدياً، في كل العالم، الأزمات تخلق التضخم، تبييض العملة، الاختناقات الحياتية، الفقر.
أما هنا، الأزمة ما زالت قائمة، البيض حافظ بكل ثقة على سعره المرتفع، الفروج زادت أسعاره، واستمر التجار في التهريب، واللعب بالمواصفات، والتأويل المصلحي للقوانين، منذ الأزمة لم يهبط البيض عن 130 للصحن 30 بيضة، والفروج المشوي، البروستد تألقا في الحضور، وزيادة في السعر بين فترة وأخرى.
حتى التفاصيل المرعبة لجسد الفروج أخذت حقها من الدلال، أجزاء كانت للمزاج الخاص صارت للعموم، القوانص وهي أتفه أجزاء جسده أصبح لها عز بعد أن كانت تلقى للقطط.
أقدام الفروج، الجوانح، مع قليل من البطاطا المقلية والمحمرة بفرن كهربائي، ووجبة من الغداء مع رائحة اللحم المجنح.
مر الشتاء، السوريون ودعوا البرد والتدافع على الكازيات، واستعدوا لموسم القسائم، الموسم البارد استغله المهربون والتجار في لعبة خلق الأزمات المتتالية، ليفرضوا سعرهم، الدولة قننت التوزيع وبدأت كما تدعي رفع الأسعار لمساواتها مع الأسعار في الدول المجاورة لوقف عمليات التهريب الناتجة عن الفرق في الأسعار.
التجار المهربون بدورهم أوصلوا الأمر لدرجة الأزمة في صراعهم مع الدولة، بالاشتراك مع بعض أصحاب المحطات.
ماذا يعني أن يفرغ الصهريج شحنته، وبعد نصف ساعة يقول صاحب المحطة لجموع المتدافعين (خلص المازوت).؟
بعد ساعة صهاريج صغيرة لبيع المازوت، اللتر بعشر ليرات، مع عداد غير صحيح، ولك الخيار، الموت برداً أو الارتهان لإرادة اللص!
أليست الأنابيب التي تهرب المازوت كالماء إلى لبنان إتجاراً بالوقود، أليست سرقة الأنابيب في المنطقة الجنوبية صراعاً بين فاسد يعرف وبمقامط ذكية، ودولة تدعي أنها تجاهد لخلق أسلوب ردع.
صدر القانون رقم 1 للعام 2003 ليحد من ظاهرة التمدد المخالف للأبنية في محيط المدن، ليخلق حالة من الانتظام في الشكل مما يحقق أداء أفضل لتقديم الخدمات للمواطن.
قبل القانون المذكور كان نظام تسوية المخالفة، يدفع المخالف لقاء تسوية مخالفته 5000 ليرة، جاء القانون مع عقوبات أشد وأكثر ردعاً.
بكل بساطة صار لدينا مافيا جديدة استطاعت في فترة وجيزة أن تتحالف مع الإدارات الدنيا في الدولة (الوحدات الإدارية) ومع مكاتبها الفنية، للاستمرار في فرض الأمر الواقع، وتحدي القانون الصارم.
في البداية تم التبرير بسيل من الاتهامات للقانون، وجاء هذا من رؤساء المجالس المحلية الذين كانوا يعتاشون على الرشا والمخالفات، ثم جاءت المؤازرة من المتضررين متعهدي المخالفات.
بعد صدور القانون زادت المخالفات نتيجة التعاضد العلني بين جزء فاسد من الدولة ومافيا تجار المخالفات من جهة أخرى، تهاوت أبنية في كل المحافظات، دخل السجن كثير منهم، أقيل في العام 2007 ثلث رؤساء مجالس المدن، أحيل إلى القضاء الكثير من مهندسي المكاتب الفنية.
من الضحية في كل هذا الإثراء والتعاضد؟ المواطن الذي يدفع مرتين، لتاجر البناء والبلدية، ثم عند تنفيذ القانون تهدم مخالفته!!
في الطرف الآخر يستمر التعاضد، وتخلق أساليب جديدة للتحايل على القانون والضحية.
في العام 2006 تم تنفيذ مشروع جر المياه من منطقة (الريمة) في جبل الشيخ وبمنحة يابانية إلى المناطق العطشى في ريف دمشق (صحنايا، المعضمية، داريا)، نفذ المشروع، تناولته الأقاويل، سرقة الأنابيب الأصلية، استبدالها بأنابيب وطنية غير صالحة، تنفيذ غير دقيق للشبكة..الخ.
في التصريح الأخير لوزير الإسكان والتعمير قال: المشروع فشل.
السبب كان إلهياً، مياه (الريمة) نضبت؟، من الذي درس إمكانية ري المنطقة من هذا المنهل الطبيعي، أليست هناك دراسات تسمى (المستقبلية) أو (الاستشرافية)؟
في الأزمة المائية، يملأ باعة الماء صهاريجهم، يدورون بالريف، يصيحون على الماء النظيف.
في الريف تم تجديد شبكات المياه كافة، بمنح وقروض، الشبكة الجديدة في قطنا لم توضع في الاستثمار بعد، الحديث يدور عن أخطاء فادحة في التنفيذ. إحدى التجارب، فتحت المياه من الخزانات إلى الشبكة الجديدة، لم تصل، لم يستطع أحد تفسير ما حصل؟
المتعهد الذي نفذ الشبكة لا يعدو أن يكون سوى تاجر مياه يجب أن يقتص منه. معلومة تقول: المستثمر لأغلب الشبكات الجديدة في الريف هو شخص واحد مع أخيه، يعرفان بعض المتنفذين، المشاريع ترسو عليهما، المواطن يرسو على شط الخراب.
الدولة (المتنفذون) شريك في الشبكات البائسة، المواطن الضحية، الوطن الضحية في دفع فاتورة كروشهم.
كيلو الحليب بـ 30 ليرة، قفز من 20 ليرة، أي بزيادة أكثر من 30 %، السبب كما قال السيد شفيق العزب يعود إلى قيام تجار الحليب الناشف بالاتجاه إلى السوق المحلية العائد إلى ارتفاع سعر صرف اليورو، مما دفع بالتجار إلى استجرار الحليب الطبيعي من الفلاحين قبل أن يصل إلى منافذ البيع للمستهلك.
البدائل عند التاجر هو الحليب الذي ينتظره المستهلك وصغاره، النتيجة قلة العرض. استمرار زيادة الطلب أدت إلى الغلاء.
أيهما أغنى التاجر أم المستهلك المتداعي تحت ضربات الغلاء المتتالية.
أين دور الدولة في خلق التوازن، التدخل عند الأزمات، الصمت ليس إلا تواطؤاً.
إذاً، التاجر مرة أخرى منتصراً في المعركة، مرة أخرى المواطن ضحية، الدولة على الحياد.
الهواء الفاسد الذي نتنفسه قادم من لعبة التاجر باحتياجات السوق، من السرافيس التي لوثت المدينة بدخانها، من طرحها كبديل لحل مشكلة المواصلات، إلى باصات النقل الداخلي، وصولاً إلى ما نجهل الباصات الصينية.
الناظر إلى دمشق من فوق قاسيون لن يرى سوى أبنية وسط غمامة سوداء، في السنوات العشر الماضية، دفع المواطنون كل ما ادخروه لشراء الجرادين البيضاء كمشاريع استثمارية، وكوسيلة جديدة للعيش.
الدولة التي استشعرت أنها في مدينة للدخان، قررت أن تبعدها عن المدينة، كراج السومرية أحد الحلول لتقنينها، الريف يحذو حذو المدينة في السواد.
الحلول الكثيرة تسارعت.. المترو.. القطار على قواعد إسفلتية.. شبكة قطارات.. الصفقة الصينية، ثم أنفاق، جسور، هدم المخالفات وشق طرق واسعة.. باختصار وسائل لإنعاش الجسد المتداعي.
المواطن يواصل الركض، حقل تجارب، الدولة حائرة في الحل، تتحدث عن حلول مستقبلية، الأزمة تتعقد.
بكل شفافية، نحن نختنق: أمراض صدرية، وافدة، جلطات، سرطانات، سيارات جديدة كل يوم، التجار يأتون بأحدث الموديلات، معارض السيارات أكثر من محلات الخضار، في بلد معدل دخل الفرد فيه ما يزال نحو 200 دولار؟
في ساحة إحدى قرى الريف، على مساحة لا تتجاوز 200 متر هناك 15 حلاقاً، و11 محلاً لبيع أجهزة الخليوي، المنطقة من المناطق الزراعية.. يبدو أنهم سيحرثون الأرض بالموبايل.
الخطوة الجديدة للحكومة ليست بالأمر البائس، ولكي لا يقال إننا نصادر الايجابي في خانة السلبي، يبدو القرار إيجابياً إذا تم تنفيذه في الجانب الثاني منه وهو ردع الاتجار بالحبوب، لماذا لأن الأمر يصب في باب المادة التي تشكل المفصل في حياة المواطن.
الخبز الذي لا يمكن لأسرة غنية كانت أم فقيرة أن تستبدله بالكاتو.. ما زال الخبز شعرة معاوية التي يجب أن ندافع على بقائها جنباً إلى جنب مع الحكومة، الاتجار يجب أن يكون خارج دائرة الرغيف.
المواطن والدولة شريكان في معركة الدفاع عن اللقمة الأخيرة التي لم يعبث بها التاجر، الأفران الحكومية ما زالت تقدم الرغيف المدعوم مالياً وليس على صعيد محتوياته، رغم سوء تصنيعه في بعض الأفران.. لكنه ما زال الخط الأحمر الذي لم يتجاوزه أحد بعد.
بين الدولة والتاجر صراع يجب أن لا يجعل الأغلبية دون رغيف خبز بعد أن سقطت الضمانات كعقد شرف.
عبد الرزاق دياب
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد