القرى الحدودية : ضحايا سايكس بيكو

10-05-2006

القرى الحدودية : ضحايا سايكس بيكو

 رغم اتفاق الحكومتين حول ترسيم الحدود اللبنانية ¬ السورية, والغايات السياسية المختلفة التي فرضت بدء الترسيم من الشمال وتأجيل البت في إشكالية مزارع شبعا, يعبّر لبنانيو الحدود عن رأي مخالف للنظرة الرسمية السائدة في لبنان حول وجوب إنهاء الخلافات الحدودية بين لبنان وسوريا.
ولتسليط الضوء على هذه المسألة, زرنا بعض القرى الحدودية السورية, التي يعيش فيها لبنانيون, لنسبر آراءهم في هذا الموضوع.

بدا وجه أبو علي المغضن بالتجاعيد جزءاً من جغرافية السنديان والبلوط والبطم المحيطة به, ولاسيما وهو يصر على عدم الاعتراف بالحدود, بل ولا يريد أن يعترف بكيان اسمه لبنان منفصل عن سوريا؛ ما يعرفه أنه هنا على هذه الأرض السورية, قبل أن يوجد شيء اسمه سوريا على خريطة سايكس بيكو. ويقسم بأن من تطأ قدمه هذه الأرض رغماً عنه, سيقطعه إرباً إرباً كائناً من كان.
ولمزيد من الاستفزاز قلنا له, لكن أميركا تتوعد أنها لن تدعنا وشأننا, نظر شذراً وقال: بتحداها, لتأت وستنال ما سبق ونالته فرنسا قبلها.
حاوي أو «حاويك» واحدة من عشرات القرى المنثورة غرب منطقة القصير في محافظة حمص على الحدود اللبنانية ¬ السورية, محاذاة شمال لبنان. إلا أن حاويك التي التقينا فيها أبا علي الجمل وعائلته, واحدة من حوالى عشرين قرية سورية يسكنها مواطنون لبنانيون تمتد على الشريط الحدودي في تلك المنطقة مثل جوسية الخراب, ربلة, النزراية, الجنطلية, حوش السيد علي, الحمّام, هيت, بويت, جوبانية, وادي حنا, معيصرة, بلوزة, زيتا, السوادية, وادي العرايس, مَطْرَبة, المصرية...
أم علي أظهرت حدة منقطعة النظير في تأييدها لسوريا, بل رفضت القول أنها لبنانية. فلا شيء فيها ينتمي الى لبنان سوى بطاقة الهوية التي لا تفيدها في شيء ولا في إعالة أسرتها, بينما تؤكد لنا أنها تعيش في كنف سوريا وتأكل من خيرها, تعليم مجاني, طبابة, سلع رخيصة, والاهم أنها سيدة نفسها على ارض بلا حدود. كما لم تكتم أم علي غيظها من القنوات التلفزيونية اللبنانية, وتوعدت قناة بعينها قائلة: ليت من يعمل فيها يقع بين يدي لأكسره تكسيراً, سمعت أنهم جاؤوا من يومين الى «القصر» -القرية المجاورة من الجانب اللبناني -و أنهم وصلوا الى حاويك كنت سأريهم من يكون اللبنانيون الحقيقيون, وسأقول لهم لا يرضينا ما تقولونه عن سوريا باسم اللبنانيين.وتتابع أم علي تصعيد لهجتها بمؤازرة ابنتها سامية ذات العشرين ربيعاً, فيما يهمدر أبو علي بشتائم وسباب دون أن يوفر أياً من المحرضين على سوريا.

من يسمع؟
في هذا الجو المشحون بالعواطف, يصعب النقاش ويصبح طرح الأسئلة وتوجيه مسار التحقيق الصحفي ضرباً من العبث. لا يريدون السماع, وإنما البحث عمن يسمعهم وينقل رسائلهم الى وسائل الإعلام اللبنانية وكل من يسيء الى العلاقة بين البلدين, ورسائل أخرى لتأييد الرئيس السوري والالتفاف حول سوريا.
سامية لم تكتف بالكلام, فقد خطت رسالة موجهة الى الرئيس الأسد ليقرأها الجميع ويعرف حقيقة مشاعر اللبنانيين الذين يعيشون ضمن الأراضي السورية, تعبّر فيها عن تضامن اللبنانيين المقيمين في المناطق الحدودية, مع الرئيس الأسد وسوريا ضد المحتل الأجنبي. في تلك الأثناء أحضرت أم علي صورة للرئيس السوري, وأصرت على حملها وزينتها بباقة من زهر المخملجي. هذه الصورة عزيزة عليها, فقد جلبتها من بيروت حين ذهبت لتشارك في تظاهرة ساحة رياض الصلح, علقتها في صدر البيت مثل سائر أهالي المنطقة, تأكيداً لولائهم لسوريا, وزيادة في التأكيد ناشدت جميع الذين زرناهم أن يعلنوا أمام الكاميرا «بالروح بالدم نفديك يا بشار» رغم علمها أننا لسنا تلفزيوناً, والكاميرا التي نحملها فوتوغراف لا تنقل الصوت, ومع ذلك طلبت من ديب الفحام العجوز أن يحيي الأسد أمام الكاميرا, فكان يرفع يده تحية ويقول: «دمي إلك يا بشار» فلا يعجبها فتعيد عليه, بل قل بالروح بالدم, لكنه يكرر جملته ذاتها إلى أن يئست منه, والتفتت نحو الأطفال وبينهم أحفادها طالبة منهم تسميع محفوظاتهم القديمة والحديثة من الأناشيد السورية.
ومع أني وضحت لها أكثر من مرة أننا صحفيون ولا نمثل السلطة ولا داعي للمبالغة بإظهار محبتهم لسوريا, لم تشأ السماع وتعاملت معنا كساعي بريد واجب عليه حمل رسائل منطقتها الى العالم, وهي رسائل حادة اللهجة تنم عن احتقان وغضب شديدين من الدعاية المضادة لسوريا, وكل ما يهدف الى زعزعة العلاقة بين البلدين. وعن سؤالنا عن سبب هذا الاحتقان, قالت بوضوح واختزال: إذا كنا جارين وجاءت طائرة لتقصف حينا هل ستضرب بيتك وتترك بيتي, أم أننا كلانا سنكون تحت الضرب, فإذا لحق الأذى بسوريا لا سمح الله, هل من المتوقع أن ينجو لبنان؟!

ترسيم الحدود
لكننا لم نكن نتحدث عن حرب, وإنما عن ترسيم حدود, وعن وضع دولي قانوني لضبط حركة العبور بين الجانبين, وإيجاد حد لعمليات التهريب التي تستنزف الاقتصاد؛ هل كان كلامنا خارجاً عن قاموس المنطقة؟ يبدو الأمر كذلك, مضيفتنا وسائر من التقيناهم, فهموا كلامنا من باب المزاح السمج, وقرروا مصادرة تحقيقنا الصحفي والإملاء علينا بما يجب أن نكتبه عنهم, فمن يحدد بدقة أين تنتهي الأراضي السورية وتبدأ اللبنانية والعكس؟ تؤكد أم علي أنه لو تم ذلك «سنتبهدل» تقصد اللبنانيين الذين يعيشون في المنطقة الحدودية, ولا يفوتها التنديد بمن يطالب الحكومة اللبنانية بترسيم الحدود, «هؤلاء الذين وصلوا الى الحكومة لا يشعرون بوجودي واثني عشر ولداً مطلوب إعالتهم». وتختم كلامها بالدعاء الى الرئيس الذي لا تعرف غيره من المسئولين السوريين سوى بعض عناصر الجمارك والشرطة والأمن العسكري المتمركزين على الجانب المقابل من الطريق المار من أمام بيت أبي علي. سألتها, إذا كان وجود كل هؤلاء العساكر يضايقهم أو يحد من حريتهم؟ استنكرت سؤالي, كذلك أبو علي, هؤلاء مثل أبنائهم, وبينهم علاقات ود, وإذا أردتم التأكد لنذهب معاً إليهم, لتروا بأعينكم كم هم شباب طيبون.

تشابك ديموغرافي
يوسف يسكن في حاويك السورية, وموقع عمله «مكبس البلوك», ويقع على بعد أمتار في الأراضي اللبنانية؛ تحدث عن استحالة ترسيم الحدود, بسبب التداخل الجغرافي والبشري الكبيرين, وذكر أنه من فترة ليست بعيدة جاءوا بالخريطة الفرنسية وحاولوا رسم خط الحدود, ولم يخرجوا بنتيجة, وعندما جاءت السلطات السورية لرفع ساتر ترابي للحد من عمليات التهريب, مر الساتر من أمام بيتي, فطلبت منهم أن يبتعدوا 200 متر كي لا يحجب الساتر منزلي عن موقع عملي, وهي في أراض تعرف بالعصفورية وتابعة لقرية أكروم اللبنانية.
تقدمنا نحو الساتر الترابي وتجاوزناه متوغلين في الأراضي اللبنانية بضعة خطوات قليلة, فصرخ يوسف: الى أين ذاهبون؟ أنتم لا تحملون أوراق عبور, إذا قبضوا عليكم!! قالها ليقدم لنا دليلاً دامغاً على سخف فكرة ترسيم الحدود في منطقة لا تعترف إلا بنفسها وبقانونها الخاص, وهو المتعارف عليه من نفوذ العائلات والعشائر. العبور ذهاباً وإياباً لا يحتاج الى إذن من أحد, ولا يستغرق أكثر من دقائق في السيارة, أو ربع ساعة سيراً على الأقدام, أو غوصاً في سواقي الأنهار. وجاءت المصادفة لتبرهن على المسافة الفاصلة بين الطرفين, فقد فرغت بطارية كاميرتي فجأة, ولم أكن أحمل معي بطارية احتياطية, فتطوع «معالي» وهو شاب في العقد الثاني من عمره, اعتلى دراجته النارية قائلاً : سآتيك ببطاريات من «النبي بري» -قرية داخل الأراضي اللبنانية-. ولم تمر عشر دقائق حتى عاد ومعه البطاريات, لمناه على سرعته, وتابعنا ممازحين, طالما الأمور سهلة الى هذا الحد ليتنا وصيناك أن تأتينا بأشياء أخرى, علبة راحة حلقوم وبسكويت غندور. ضحك معالي, ليس هناك ما يؤكل, الأفضل أن تجلبوا الراحة والبسكويت من حمص, أطيب وأرخص.
يطل موقعنا على طبيعة جغرافية رائعة لم تلوثها السياسة بعد, لا تزال أقدارها بيد مالكيها بغض النظر عن جنسياتهم. الطبيعة تغني بينما الضوء يغسل ورق شجر عجوز, ويخضب التراب بحمرة الخصوبة, مكللاً الصخور ببريق الفضة؛ لوحات خلابة تزينها وجوه البشر المقمرة بدفء الشمس, وعيون سرقت لونها من العشب الأخضر. جمال الطبيعة الأصيلة ينضح من شفاه مكتنزة كثمر البلوط, وأجسام ضد الشيخوخة, معجونة بالصخر والقهر والتحدي, أطفال بشعورهم البراقة ينبتون كالزهور البرية أحراراً وخارج الحسابات الدولية, شباب وصبايا يتفجرون طاقة وحيوية, يذرعون الطرقات بدراجاتهم النارية بحثاً عن فرص أفضل للحياة. هذه الهضاب التي مثلت دائماً مساحة واصلة, اليوم هناك من يريدها أن تكون فاصلة حدودية بين بلدين يتعرضان لأسوأ مرحلة في تاريخ العلاقات السياسية بينهما.
في عمق الوادي المستلقي بارتياح بين الهضاب, ربض صهريج على مرمى البصر, بدا واضحاً أنه يستخدم لتخزين المازوت المهرب من سوريا ليتم نقله الى لبنان. سألنا عن الصهريج, فقالوا لا داعي لتصويره, ومنهم من حاول صرف انتباهنا عن كل ما يمكن ملاحظته ويثير الريبة, لا داعي للنبش في المسكوت عنه, ثمة أعراف تحكم المنطقة, لا سر في أن التهريب وسيلة الفقراء للعيش, ليس عيباً ولا حراماً ولا خروجاً عن القانون, إنه مجرد مغامرة لا بد منها للبقاء على قيد الحياة, عندما يتكاثر عدد الأطفال في العائلة, ويتراجع مستوى التعليم رغم انتشار المدارس ووصولها الى ابعد واصغر القرى, ولا تعطي الزراعة والرعي بعضاً مما يغدق عليها, والأهم عندما يضطر الشباب للسفر الى بيروت بحثاً عن عمل.

التهريب متنفساً
إذاً التهريب هو الحل الأمثل لسد الحاجة والكسب الضروري والسريع, ولا بد من غض النظر عن الصهريج المتربع بارتياح في حضن الوادي, والتعامل بلا مبالاة مع تسابق قوافل الدراجات النارية المحملة بالمازوت, وقوافل سيارات البيك آب والفانات على خمسة طرق, صارت معروفة بطرق التهريب الرئيسية: طريق حوش السيد علي والنزارية ¬ جوسية وجنطلية ¬ الحمّام وطريق زيتا ـ مطربة المتفرع من طريق الحاوي. وهي بمجملها طرق زراعية ضيقة حافلة بالمطبات والحفر لإجبار المهربين على تخفيف سرعتهم, والدوريات والمفارز المتعددة, الثابتة منها والمتنقلة, مزروعة على طولها, دون أن تفلح بمنع التهريب. الأمر الغريب والذي يبدو اعتيادياً للسكان, العلاقة الملتبسة بين رجال السلطة والمهربين, المتراوحة بين تقاسم لقمة العيش والمطاردات العنيفة. بعض الشبان المهربين أكدوا لنا أنهم يدفعون جزءاً من أرباحهم لرجال الدوريات ليمروا بأمان باتجاه المناطق الحدودية, وهناك شبكات تواصل نشأت بينهم لتبادل المعلومات عبر الهواتف المحمولة للإبلاغ عن أي دورية جديدة تظهر على الخط. أما على الأرض, فلا يمكن تجاهل الحوادث المؤلمة الكثيرة الناجمة عن المطاردات, ولا كميات البضائع والدراجات المصادرة يومياً, والتي تصل الى أربعين دراجة وسيارة أسبوعياً, وفيما يقول المهربون أن السلطات تطارد المستجدين على المصلحة, و«الغشم» من صغار المهربين الذين لا يدفعون« المعلوم», وهو 300 ليرة على الحمولة الواحدة, وكانت 150 ليرة قبل رفع قيمة الغرامة الى 15 دولاراً لليتر الواحد, علماً أن حمولة الدراجة النارية تقارب البرميل €حوالى 250 ليتراً€ موزعة على أربعة بيدونات بسعة 70 ليتراً, سعر الليتر في سوريا 12 ليرة سورية للمهربين, ويباع عند الحدود بحوالى 25 ليرة, ترتفع وتنخفض حسب الأسعار في لبنان, وقد شهدت انخفاضاً في الفترة الأخيرة بعد دعم الحكومة اللبنانية لسعر المازوت. بالمحصلة, أرباح المهرب تقارب عشرة آلاف ليرة €200 دولار€ عن يوم عمل, على أن يقوم خلاله بعشر رحلات كل رحلة تستغرق ساعة من الزمن ذهاباً وإياباً تطول وتقصر, حسب سرعة المهرب وهمته. ويقول أحد عتاة المهربين أن ثلث أرباحه يذهب الى جيوب رجال الدوريات, إذا لم يفاجئه القدر بما لا يحمد عقباه, وخصوصاً أن حركة التهريب تنشط بكثافة مع بدء هبوط الليل وحتى ساعات الفجر, لتخف إلى حد كبير خلال النهار, مما يرفع معدل حوادث السير على طرق تتسابق عليها المركبات, في استنزاف دؤوب للاقتصاد والأرواح. ظاهرة التهريب ليست جديدة على المجتمع الحدودي, لكنها لم تكن مستفحلة على هذا النحو منذ عقد أو أكثر من الزمن, إذ كانت حكراً على جماعات معينة, تتولى تهريب ما يمنع استيراده في سوريا من السلع الأجنبية وبأسعار رخيصة, بدءاًُ بالملابس والمواد الغذائية والمحارم ومواد التنظيف إلى الأدوات المنزلية والأدوات الكهربائية. وعندما نشط القطاع الخاص في إنتاج المستلزمات الاستهلاكية بجودة معقولة وأسعار ملائمة لمستوى دخل المواطن السوري, كاد ينحصر بتهريب المازوت وجرار الغاز الى لبنان وعلب الدخان الى سوريا, حتى الأخير تراجع مع تقارب سعر المستورد مع سعر المهرب.

مشكلة مستعصية
مسؤول خبير بالمنطقة رفض التصريح باسمه, لم يتمكن من إخفاء ابتسامته لدى سؤالنا عما إذا كان الصهريج الذي شاهدناه على الحدود هو لتخزين المازوت المهرب, وأجاب اعتقد انه صهريج ماء!! ومن جانب آخر أكد استحالة منع التهريب, فهناك صعوبة بالغة في مطاردة المهربين الشباب حتى النهاية, أغلبهم يضع روحه على كفه, قبل أن ينطلق بسرعة الصاروخ, لا يهابون الخطر ولا الموت, بل إن المطاردات تبدو وكأنها تقدم إليهم دافعاً مثيراً للانتحار. وذكر لنا مثالاً عن حادثة وقعت منذ فترة قريبة, راح ضحيتها شاب في مقتبل العمر, هرب من دورية هو ورفيقه كل على دراجته, وعندما وصلا الى ضفة نهر العاصي ولم يعد أمامهما أي منفذ رميا بنفسيهما مع دراجتيهما في النهر, وتمكن رجال الدورية من إنقاذ واحد, فيما توفي الثاني. في مثل هذه الحالة يتعرض رجال الدورية الى مساءلة قانونية, لكن من المستحيل التضييق على شاب لديه الكثير من العنف والعنفوان والرعونة. فذلك الشاب الذي رمى نفسه في النهر لم يخطر له, أنه لو وقع بيد الدورية, فإن عقوبته مهما بلغت لن تعادل حياته ثمناً, ويمكنه التصالح على الغرامة لتخفيضها أو طريقة سدادها, أو حتى السجن لبضعة أشهر. لكنه دونما تفكير سارع إلى الموت طلباً للنجاة. في حين لو كان ذلك المسؤول مكان الشاب, هل يكون لديه مجال للتفكير المنطقي, حين تكون غرامة ليتر المازوت 15 دولاراً, وإذا كان يحمل 200 ليتر فعليه دفع 3000 دولار أي ما يعادل 160 ألف ليرة سورية, مبلغ باهظ جداً, عدا الخوف من السجن, أو الوقوع بيد رجال الأمن. لربما كانت مواجهة القدر في النهر ارحم!! المشكلة كبيرة, يقول المسؤول, لذا نرى تساهلاً أو تجاهلاً بعض الأحيان, وتشدداً في أحيان أخرى, الأمر ليس سهلاً في مجتمع عشائري, يعاني شبابه البطالة والفقر.
على الرغم من الوقائع التي تؤكد ارتفاع معدل الجريمة في منطقة القصير لدواعي السرقة والسلب, كذلك التصاعد المرعب في حوادث السير داخل المدينة, والكلام المستجد عن حالات تعاطي المخدرات وإدمانها, بالإضافة إلى ما رصدناه خلال ساعات قليلة لأكثر من ثلاثمائة سيارة فان وبيك آب وفدت الى محطات الوقود على طريق القصير ¬ حمص ملأت خزاناتها وقفلت عائدة دون أي حمولات أخرى تشير إلى أنها تعمل في مجال الشحن أو نقل الركاب. أصر المسؤول على أن منطقة القصير التي يسكنها حوالى مئة وعشرة آلاف نسمة, من أكثر المناطق استقراراً وأمناً, وهي نموذج مثالي في التعايش بين الطوائف والأديان. كما نفى وجود عمليات تهريب مخدرات, وكذلك وجود مدمنين أو متعاطين لها, وما يحكى عن حالات التعاطي مبالغ به, إذ تقتصر على شريحة الشباب التي تتعاطى الأدوية كالفوستان 10 والبالتان, ولا تصلهم عن طريق التهريب, بل تباع في الصيدليات العامة, واضعاً اللوم على الصيادلة الذين يبيعونها دون وصفة طبية.
ومع أن كلام المسؤول ينطوي على كثير من الصحة, لكنه يخص القسم الممتلئ من الكأس وفق نظرية الكؤوس السورية المشهورة في عالم السياسة والاقتصاد, فيما القسم الفارغ يسجل على الأرض ما لا تخطئه العين. فقبل أسبوعين, شهدت ساحة الوسط التجاري في مدينة القصير مطاردة تعد سابقة خطيرة, إذ حاصر فريق من المهربين بدراجاتهم النارية سيارة لإحدى الدوريات وهجموا على عناصرها بالهراوات مما اضطر عناصر الدورية لإطلاق الرصاص أرضاً ونحو السماء لتفرقة جمع المهاجمين, ليلوذوا بعدها بالفرار هرباً من المهربين!!
كما تكشف الكأس الفارغة عن إهمال كبير وتهميش أكبر لمنطقة تعتبر من أجمل البقاع السورية وأغناها, وتخلو من المشاريع الإنمائية والاستثمارية والمنشآت الزراعية القادرة على استيعاب شباب عاطل من العمل والتعليم, وبدل أن يتم استثمار تلك الطاقات لتحسين مستوى عيش السكان وتزويد خزينة الدولة من عائد خيراتها المشروعة, تترك تلك المجتمعات نهباً لثقافة التهريب والكسب السريع, وتتقاسم مع الدولة مكاسبها, فتمتلئ خزينة الدولة من الغرامات والمصادرات, وجيوب الفاسدين من الرشى, ضمن عقد اجتماعي خفي ينطوي على أمراض خبيثة, أي مقاربة لها بحل جزئي يهدد باستفحالها في مناخ فاسد, وفي وقت صعب تبدو فيه الإشارة إلى التجاوزات تشهيراً وخروجاً عن اللحمة الوطنية. فأم علي كنموذج رفضت التعاطي مع التهريب كمشكلة, متجاوزة المسؤول الذي اعترف بصعوبة التعامل مع هذه المشكلة, وأصرت على أن التهريب وسيلة عيش مع أن أيا من أولادها لا يتعاطاه, فهي تتعاون مع زوجها لإعالة أسرتها من كرم الزيتون والتين. وأبناؤها الشباب, منهم من يعمل في بيروت, ومنهم من لديه محل فروج في الضيعة, وآخر مغسل للسيارات. لكنها تتذمر من تركيزنا على موضوع التهريب, لتسألنا بدورها, لماذا أتيتم الى هنا؟ ما استدعى منا إجابة ساخرة: هل أنت من المخابرات؟ قبل توضيح أن هدفنا هو التعرف إلى أسلوب الحياة في المجتمعات الحدودية. فجاءنا الرد المفحم وباسترخاء بالغ قالت: «الحمد لله عايشين ومبسوطين وما في أحسن من هيك». وبمعنى آخر فهمنا أنه إذا كان المتضررون لا يشعرون بوجود مشكلة, فلماذا نصر نحن على اختلاقها وإشعارهم بوجودها!!


 

الجمل - سعاد جروس

 

إلى الندوة

التعليقات

تحليل جميل لواقع المنطقة، اعترف انكم اصبتم في كثير من الأمور ولكن اين الحل؟ كل يوم في مشفى القصير حالات وفاة جرّاء الحوادث وشجع المهرّبين، وكل يوم طابور من الناس ينتظر دوره لينال حصّته من المازوت للتدفئة من البرد القارص، الحل ايقاف التهريب لكن بعد ايجاد فرص عمل تؤمن الدخل الجيّد، لا الوظائف التي لا تغني من جوع، ليس الحل لايقاف الحوادث اقامة مجوعة كبيرة من المطبات في شوارع المدينة وطرقها، وانّما في منع المهرّبين من التهريب، والضّرب على ايدي رجال الامن الفاسدين، وليكن من المعلوم لديكم انه لا يعيّن رجل امن في المنطقة حتى يدفع مقابل تعينه، ليقوم بدوره بجمع مادفع بالاضافة الى الارباح، سلسلة من الفساد لاتنتهي والاهالي يعانون كثيرا؟!

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...