الفتنة بين النص والتاريخ
تَرِدُ «الفتنةُ» في القرآن الكريم بمعنيين رئيسيين: الاختبارُ والامتحانُ الإلهي للأفراد والجماعات قولاً وعملاً وسلوكاً، وهي بهذا المعنى وبالصيغ الفعلية والاسمية في حوالى الأربعين آية. والمعنى الثاني لمفرد الفتنة: الانقسام الداخلي والحرب الأهلية. وبهذا المعنى تُذكر في القرآن في سبعة أو ثمانية مواطن.
اما في الأحاديث والآثار التي انتشرت في القرنين الهجريين الأول والثاني، فإن المصطلح – أو ما صار مصطلحاً – يَردُ في الأغلب الأعمّ بالمعنى الثاني، أي الانقسام الداخلي، اما المعنى الأول للفتنة والذي يؤثره القرآن، فإن الآثار من القرنين تفضل عليه مفرد: المحنة والامتحان، وهو أكثر للأفراد وليس للجماعات. ومحنةُ الإمام أحمد بن حنبل مشهورة، وقد بدأت عام 218هـ عندما أراد المأمون العباسي إرغامه ومئات غيره في سائر ديار الإسلام على القول بخلق القرآن. والجديرُ ذكره ان فعل المحنة واسمها يردُ في القرآن الكريم مرتين وبالمعنى الأولى الوارد لمفرد «الفتنة» في القرآن ايضاً، دون المعنى الثاني. وفي كتاب «المحن» لأبي العرب التميمي قصصٌ كثيرٌ عن تعرّض افراد من العلماء لامتحان في عقائدهم افضى احياناً بهم الى الموت بسبب إصرارهم على اعتقادهم أو كلامهم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو سلوكهم.
ولنعُد الى الأحاديث والآثار والأقوال في الفتنة. تردُ في «الفتنة» بمعنى الانقسام الداخلي ألوف الأحاديث والآثار والأقوال، وهي متنوعة الأغراض والمقاصد، لكنها بمجملها تشير الى الرعب الهائل الذي اصاب المسلمين نتيجة الانقسام الأول الذي افضى الى مقتل امير المؤمنين عثمان بن عفان، ثالث الخلفاء الراشدين، ثم هلاك ألوف الناس في الصراعات التي دارت على السلطة في خلافة الإمام علي، رابع الراشدين. والمرعب بالنسبة الى المسلمين في تلك «الفتنة» انها حدثت بين اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأنها ادت الى سفك دم كثير بين مسلمين «دعوتُهم واحدة»، أي انهم جميعاً موحدون، يعرفون حرمة القتل، وتوعُّد القرآن الكريم لسافك دم المؤمن عمداً بالخلود في النار: «ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له جهنم وساءت مصيراً» (سورة النساء: 93). ويذهب كثير من الباحثين المحدثين الى ان هذه التجربة المؤسية وقعت في اصل نشأة علم الكلام أو علم أصول الدين، إذ كانت مسألة الإيمان ومقتضياته اولى بحوث ذلك العلم، اضافة الى مسألة القدر. ففي مبحث الإيمان يجري التفكير في علائق القول (الشهادتان مثلاً) بالفعل (اتباع الأوامر والنواهي)، وكيف ينبغي الحكمُ على كبار المسلمين الذين شاركوا في «الفتنة»، أي شاركوا في أفعال القتل العمْد، ومن ضمنها قتل عثمان وعلي. وقد انقسمت الفرق الإسلامية الأولى بشأن هذه المسألة. اما المرجئةُ فيُرجئون الحكم على الذين شاركوا، ويكلون امرهم الى الله عز وجل العالم بالسرائر، لكنهم في ذلك التأخير إنما يقدّمون حُسن الظن بنيات أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالنظر الى سابقتهم وصحبتهم. وأما المعتزلة الأوائل (معتزلة البصرة) فيتبرأون من سائر المشاركين، في حين يذهب أهل السنّة الى تضليل الذين قتلوا عثمان، وتخطئة الذين قاتلوا علياً، ويرجّحون توبة الذين بقوا على قيد الحياة منهم، أما الذين لم يتوبوا فيعتبرونهم مرتكبي كبيرة، موكول امرهم الى الله عز وجل إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذّبهم.
بيد ان الرعب الذي اصاب المسلمين في «الفتنة الأولى» ما اقتصرت اسبابُهُ على ارتكاب محرّم سفك الدم، وانقسام الصف، وتبرئة الأعداء، بل كان من ضمنه خوفُ الفوضى أو خوفُ الوقوع في الفوضى. وهم يستخدمون للفوضى، أي انعدام السلطة الضابطة والحامية، مصطلح «الهرج». ولا تعرفُ المعاجم العربيةُ القديمة أصل هذه الكلمة، بل تذكر ان معنى هَرَجَ الناسُ والقومُ او تهارجوا، أي اختلط بعضهم ببعض واقتتلوا وقتل بعضهم بعضاً. والطريف ان البخاري في صحيحه، وبعد ان يروي حديثاً مرفوعاً الى الرسول (صلى الله عليه وسلم) من طريق ابي موسى الأشعري، عن الفتنة، يُذكرُ فيه الهرج، يفسّر المفرد بقوله: والهرجُ القتل. ونعرفُ اليوم ان المفرد سبئي الأصل، أي من اللغة العربية الجنوبية قبل الإسلام، وهو يرد مراراً في الكتابات اليمنية الباقية محفورة على الصخور، في وصف المعارك التي يكثُرُ فيها القتل. وأبو موسى عبدالله بن قيس الأشعري، راوي الحديث، يمنيٌّ، كان من حلفاء قريش قبل الإسلام لأنه كان يتردد على مكة للتجارة، وهو من قدامى الصحابة، وقد استعمل ذلك المفرد اليمني لوصف الحالة بالمدينة المنورة عشية مقتل عثمان، أي حالة الفوضى وسقوط السلطة. ففي التقرير الذي كتبه سيف بن عمر في كتابه: «الفتنةُ ووقعةُ الجمل» يذكر احد شهود العيان ان «العصائب» (أي الميليشيات بلغتنا المعاصرة) سيطرت على دار هجرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لثلاثة ايام، وكانت أبرزها عصبة أهل مصر التي كان يتزعمها الغافقي بنُ حرب. ولذلك فقد تعذّر إخراجُ جثمان عثمان من داره لدفنه ليوم وليلة، الى ان تسلل به بعض خدمه وأقاربه تحت جنح الظلام الى خارج المدينة، وما استطاعوا ان يلحدوا له. ويورد الطبري المؤرخ في كتابه: «تاريخ الأمم والملوك» عن سيف بن عمر بيتين قالهما صحابي يمني آخر غير معروف، يبدو انه كان موجوداً بالمدينة خلال حصار عثمان وقتله، يشيان بهذا الرعب من سقوط السلطة وحلول الفوضى:
«عجبتُ لما يخوضُ الناسُ فيه/ يرجون الخلافة ان تزولا
ولو زالت لزال الخيرُ عنهم/ ولاقوا بعدها شراً وبيلا»
ويُسمي الصحافي حُذيفة بن اليمان العبسي (المتوفى بعد عثمان بقليل عام 35هـ أو 36هـ) في تعليق له على مقتل عثمان، الخليفة المقتول: «حبل الله»، ويقول إنه انقطع فانكسر الباب الحاجزُ للفتنة. ويقصدُ حُذيفة بن اليمان بذلك التعبير الوارد في الآية القرآنية (سورة آل عمران: 103): «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً...». ويذكر المفسّران الأولان قتادة بن دعامة السدوسي (- 117هـ)، ومقاتل بن سليمان (- 150هـ) ان «حبل الله» معناه في الآية: الجماعة او الإمام. وبذلك يجزم عبدالله بن المبارك (- 161هـ) معاصرُهُما في بيت له:
«إن الخليفة حبل الله فاعتصموا/ به هو العروةُ الوثقى لمن دانا».
وهكذا فإن تسمية اهل الشام للعام 40 هـ عام البيعة لمعاوية بن ابي سفيان: عام الجماعة (أي الاجتماع على إمام) ما كانت مجرد دعاية أموية في ما يبدو، بل مستندُها الخوفُ الكبيرُ من الفوضى، والتي تجددت إثر مقتل الإمام علي على يد احد الباقين بعد وقعة حروراء. ولا نعرفُ موقف الإمام علي من هذا التفسير للأمرين او المصطلحين: حبل الله، والجماعة. لكننا نعرفُ انه كان شديد الحملة على اولئك الذين يريدون «إلغاء» السلطة ولو باسم الحاكمية الإلهية، وهذا هو سبب خلافه مع اولئك الذين قاتلهم في حروراء، فقد صرخ هؤلاء اثناء خطبته على المنبر انه لا حُكم إلا لله، وكانوا يريدون من وراء ذلك الاعتراض على قبوله التحكيم في الخلاف مع معاوية. قال الإمام علي مجيباً على رفع هذا الشعار: «كلمة حق اريد بها باطل، نعم، انه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة! وأنه لا بد للناس من امير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع بها الكافر... ويُجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ فيه للضعيف من القوي...».
وما دمنا قد ذكرنا حذيفة بن اليمان العبسي (- 35هـ او 36هـ) باعتباره القائل إن حبل الله هو الإمام وهو الجماعة، فلنذكر روايته لحديث آخر بالغ الدلالة على الرعب الذي سيطر على المسلمين في «الفتنة الأولى». يذكر حُذيفة انه سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن السلوك الواجب في الفتنة، فقال له: «تلزمُ جماعة المسلمين وإمامهم! فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو ان تعضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموتُ وأنت على ذلك» (صحيح مسلم). اختفاء السلطة بالنسبة الى حذيفة اذن يُضاهي او يؤدي الى اختفاء الأمة، وعندها لا مخرج من الهلاك إلا بالاعتزال المميت ايضاً! والذي يبدو ان حُذيفة بالذات كان شديد الرعب من الحرب الأهلية، بدليل ان حوالى ربع احاديث وآثار الفتنة مروية عنه. ولا تعرفُ كتب تراجم الصحابة كثيراً عن شخصيته، فهو من قبيلة عبس القيسية، وحالف أبوه في الجاهلية بني عبد الأشهل بيثرب، وليس في حياته احداث بارزة باستثناء شكواه الى عثمان من اختلاف الغزاة في قراءة القرآن بالشام وأذربيجان، فكان ذلك بين اسباب إقبال عثمان على جمع القرآن. ومع ذلك فإن المصادر تسمّيه: «صاحب سرّ رسول الله»، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يأتمنُهُ على امرين: اسماء المنافقين، وأخبار الفتن التي تحدث بعده. ويعلل حُذيفة سبب ذلك بأن الناس كانوا يسألون النبي عن الخير ليفعلوه، اما هو فكان يسألُهُ عن الشر ليتقيه! وقد قمتُ بإحصاء اولي لأسماء رواة احاديث الفتنة (بمعنى الحرب الأهلية)، وليس الفتن والملاحم (المتعلقة بأمارات الساعة)، فوجدتُ انه يأتي بعد حُذيفة في التحذير من المشاركة في الفتنة، والدعوة الى اعتزالها بأي ثمن: أبو موسى الأشعري فعبدالله بن مسعود فكعب الأحبار فعبدالله بن عمرو بن العاص فأبو هريرة. وفي حين يربط كل من حذيفة والأشعري انطلاق الفتنة من عقالها بقتل عمر تارة وعثمان تارة أخرى، يهتم ابن مسعود وابن العاص وأبو هريرة بالأحداث الهائلة التي ستكون ايام بني امية. ونعرفُ من التاريخ ان حُذيفة وابن مسعود توفيا خلال الاضطراب على عثمان أو بعده بقليل، وأنهما كانا حسني العلاقة بعلي، بل ان حذيفة كان صديقاً لعمار بن ياسر الصحابي المعروف والمقتول بصفين مع الإمام علي. ويقول ابن عساكر ان حذيفة ما تمنى الموت إلا عندما سمع بمقتل عمار. لكن الراجح انه توفي قبل صفين بحوالى السنة. اما الأشعري فمعروفة مشاركته في التحكيم، واعتباره كل ما حصل منذ مقتل عثمان فتنة رجا الله ان يقيه شرها، لكنه عانى وشُرّد بعد موقفه في التحكيم، ومات خائفاً من معاوية، سيئ الرأي فيه ايضاً. اما أولاده فقد عملوا في الإدارة الأموية. وقد كان من الممكن اتهام كعب الأحبار بأن مروياته من الإسرائيليات، وهي ربما كانت كذلك. لكن المشكلة ان اكثر احاديث وآثار الآخرين المرفوعة مشابهة في الصياغة، والمضمون، لآثار كعب الأحبار الموقوفة. ويبقى من ذلك كله، اياً يكن رأي علماء الرواية والدراية في الصحة والحجية: الرعب الذي أصاب العرب (الحديثي العهد بجاهلية، كما ورد في اثرٍ للحسن البصري) من ان يعودوا قبائل متنابذة يقاتل بعضها بعضاً، والرعبُ من زوال السلطة وحدوث الفوضى المدمرة.
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد