"العمل من المنزل" في سورية.. تحديات التكنولوجيا والثقافة
علا منصور: ترافقت بدايةُ الألفية الثالثة أو القرن الحادي والعشرين مع انبثاق ثورة شاملة في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، غيّرت الحياة اليوميّة وأساليب العمل وحتى مفاهيمه، إذ تحوّل العالم إلى ما بات يُعرف بـ "اقتصاد المعرفة"، وفيه يستطيع مبرمج شاب واحد ومعه حاسبه المحمول تحصيل ثروة تفوق إنتاج معامل ضخمة، أو حتى ميزانيات دول.
أصبحت شبكة الإنترنت دعامة العمل المكتبيّ، والعمل المعرفي الأوسع. وفي اقتصاد الخدمات، بات يمكن تنفيذ أعمال كثيرة من أي مكان وفي أي وقت، فبدأت أعداد "العاملين عن بُعد" بالتزايد على مدار العقدين الماضيين، في الغرب بشكل خاص وفي جنوب شرق آسيا، ما دفع بالعالم إلى البدء بالتفكير بإيجابيات "العمل من المنزل" وسلبياته، تحدياته وفرصه، وإجراء دراساتٍ وتجاربَ على شركات مختلفة في اختصاصات مختلفة وأماكن مختلفة.
لم يكن العالم قد حسم أمره حول موضوع العمل من المنزل حينما حدث ما لم يكن في الحسبان، "فيروس كورونا المستجد"، وباء أجبر البشرية كلها على البقاء في منازلها، ووضع كثيراً من الأعمال بإزاء تحدٍّ واضح، إما العمل من المنزل أو الإغلاق الذي ربما يكون نهائياً.
عالمياً، استجابت شركات التكنولوجيا وتقانة المعلومات أولاً للتحدّي الجديد، فبِناها المؤهلة لهذا النمط المستجد من التشغيل أعطتها ميزة نسبية، كما أنَّ لها تجربة في العمل عن بعد سابقة للأزمة التي أحدثها الفيروس. فبدأت شركات كبرى مثل "آبل" و"غوغل" و"فيسبوك" و"تويتر" وعملاقَي الإلكترونيات "سوني" و"باناسونيك" بإلزام موظفيها بالعمل من منازلهم أو مطالبتهم بذلك تجنباً للمخاطر المحتملة، وتبعتها "أمازون"، أحد أكبر المستفيدين من الأزمة، وبنك "جي بي مورغان"، وحتى شركات صناعة سيارات مثل "فيات كرايسلر وجنرال موتورز". وامتدت الاستجابة لتشمل قطاعات عدة: البنوك والأعمال المالية، العقارات، التعليم، مراكز التفكير، ووسائل الإعلام من صحف وفضائيات.
ماذا عن سورية؟
كما حدث في دول كثيرة أخرى، فجأة وبدون أي مقدّمات، وجد سوريون كثر من الموظفين بدوام كامل أنفسهم في قلب تجربة جديدة، إذ تحولوا دون قرارٍ منهم إلى ما يشبه "الموظف المستقل أو الحر Freelancers"، لكن من غير أن تكونَ لهم خبرة هؤلاء في العمل عن بعد بشكل كامل أو جزئي، أو في التواصل مع زملائهم أو مدرائهم، وهي أمور قد لا يجد كثيرون سهولةً في التعامل معها للمرة الأولى.
هذا، وللعمل من المنزل متطلبات كثيرة، أولها وأكثرها بداهة أن تكون طبيعة العمل ذاته قابلة للتكيف لتجري تأديته من المنزل. في الولايات المتحدة ذاتها، وبحسب "مكتب إحصاءات العمل Bureau of Labor Statistics" يستطيع 29% من الأمريكيين فقط العمل من منازلهم (واحد من كل 20 عامل خدمات، وأكثر من نصف موظفي قطاع المعلومات)، في سورية سيكون هذا الرقم أصغر على الأغلب، ولن يستطيع الحرفي أو السائق أو صاحب المقهى أو البائع وغيرهم كثر العمل من المنزل، سيُسعد هؤلاء كثيراً عند انتهاء الحجر، أما أثناءه فهم بحاجة إلى اهتمام ومساعدة خاصين.
شركات ومؤسسات معينة استطاعت الانتقال إلى العمل عن بعد، شملت قطاعات خدمية، من بنوك وشركات تأمين، والقطاعات الإدارية في شركات الاتصالات أو الهندسة أو الأعمال، وبعض المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، إضافة إلى المؤسسات البحثية والفكرية والإعلامية بالعموم.
تحدياتٌ صعبة
يواجه "العمل من المنزل" في سورية أيضاً تحديين رئيسين، الأول هو تحدي التكنولوجيا في بلد مازالت معظم قطاعاته، العام منها خصوصاً، عالقةً –في أفضل الحالات– في تكنولوجيا بداية الألفية. ويعتمد العمل فيها على المراسلات الورقية والأضابير والمصنفات والتوقيع والختم الحي والفاكسات!
نسارع عند شراء موبايل جديد إلى حذف تطبيق Hangouts الذي لا نعرف له فائدة؛ وهناك فئة قليلة منّا سَمِعَت، ناهيك عن كونها عَمِلت باستخدام منصات مثل Zoom لتنظيم المؤتمرات بالفيديو، أو Tomates الذي يساعد على إدارة الوقت، أوTrello الذي يشبه مرور مشرفك في العمل من أجل "الاطمئنان فقط"، أو حتى برنامج ِAdobe Sign. كما أنَّ هناك فئة أقل تعرف أن للـ virtual private networks (VPNs) وظيفة أخرى تتجاوز التحايل على تطبيق واتساب!
أضف إلى ذلك أن كثيرين ما زالوا ينظرون إلى أدوات مثل الهواتف الذكية أو الحاسب الشخصي على أنها ليست إلا أدوات ترفيه، وليست أدوات عمل، هذا إذا ما استطاع الأفراد أو حتى الشركات توفيرها!
كذلك، يطرح تحدي التكنولوجيا سؤالاً رئيساً هو: إلى أي حدٍّ تستطيع شبكة الإنترنت في سورية أن تتحمل ضغوطات العمل من المنزل، وإلى أي حدٍّ سيكون تقنين الكهرباء الكثيف عاملاً معرقلاً؟
أما التحدي الثاني فهو مرتبط بالثقافة أو الذهنية السورية حيال "العمل من المنزل" إذ لم يعتد السوريون الجلوس في البيت إلا في العطلة، وكثيراً ما تترافق هذه العطل أو الإجازات مع الأعياد أو المناسبات العائلية أو نتيجة مرضٍ ما، أو بغرض الاستراحة. والبقاء في البيت "ليس للرجال"، وهذهِ صور نمطية ليس من السهل التخلص منها. وكثيرون حتى من القادرين على العمل في المنزل لا يبدون الالتزام المطلوب ويتعاملون مع الموضوع باستخفافٍ ناتج عن لامبالاة أو عن كسل أو ربما لأنهم غير قادرين على تغيير عاداتهم السلوكية.
إذاً، لم تألف غالبية السوريين فكرة العمل في المنزل، وما زالوا يشككون بفاعليتها، وهذا ليس بالأمر المستغرب في سورية فعلاقات العمل عندنا مازالت تقليدية للغاية، ومعظم العمل "مشخصنٌ غير ممأسس" يقوم على التعامل الشخصي المباشر، ويتحدد مدى إنتاجيتك فيه بمدة غيابك عن البيت!
كذلك، مازالت اختصاصات حديثة من قبيل كلّ ما يدور في فلك الموارد البشرية وإدارة الأعمال والعلاقات العامة والبحث العلمي (الإنساني، وحتى التطبيقي) وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، رغم افتتاح كليات وجامعات عديدة لتدريسها، غير واضحة في الأذهان وتَلُفُّها هالة من الغموض في مجتمع اعتاد أن تكون المهن فيه واضحة وصريحة، ويعبر عنها بلغة عربية بيّنة وأحياناً بكلمة واحدة لا أكثر: فلّاح، بنّاء، محامٍ، ضابط، طبيب، نجار، مهندس، معلمٌ، محاسب..
أضف إلى ذلك أننا نحن السوريين اجتماعيون بطبعنا ولا نفضل "الاستقلالية"، الأمر الذي يحدُّ من التزام بعض السوريين بتوفير بيئة مناسبة لأفراد أسرهم العاملين من المنزل. فضلاً عن أن مساحات البيوت الصغيرة بمعظمها تزيد من المشكلة. هذا قد يفسر تحول أصحاب المهن الفكرية والإبداعية إلى قومٍ "ليليين" و "لا نهاريين"، لأن عملهم يحتاج تركيزاً، والمنازل في سورية –عموماً– لا تكفل حقك بالتركيز. مع العلم أن طاولة صغيرة في زاوية أو ركن، وموسيقى هادئة أو ضوضاء بيضاء، قد تكون كفيلة بحل المشكلة.
لماذا "العمل عن بعد"؟
الخروج إلى العمل والتواصل مع العالم جزء أساس من التجربة الإنسانية. المساعدة المتبادلة بين الزملاء، والتشاور وأخذ الرأي في أمور معينة، وحتى المزاح في المكتب والنكات السيئة، والتجمع في الاستراحة أو الاحتفال ببعض المناسبات الشخصية، كلها أركان أساسية للسلامة النفسية. التواصل البشري مهم للغاية، والروابط الاجتماعية ضرورة للعمل الجماعي المنتج. لكن، يمكن تكييف العمل من المنزل لئلا يؤثر سلباً في كلّ مما سبق. فالعمل من المنزل ليس سجناً ولا يُفترض علمياً أن تتجاوز مدته يومين ونصف اليوم في الأسبوع.
تجربة العمل في سورية، الحكومي منه خصوصاً، شكلت لدى كثيرين من المدراء وأرباب العمل نظرة إلى العمل عن بعد على أنه أداة لخدمة الموظفين ووسيلة تساعدهم على التهرب. ما يجعلهم يغفلون حقيقة أنَّ "عملاً من المنزل" مداراً بشكل صحيح يمكن أن يكون أداة استراتيجية لإدارة فرقهم ومؤسساتهم. بالمقابل يتطلب هذا العمل من الموظفين حدّاً أدنى من الالتزام الذاتي، والإحساس بالمسؤولية، مع وجود طرق رقابة ومحاسبة فعّالة.
وليس "العمل من المنزل" محصوراً بفئة مستضعفة من النساء ويقتصر على بعض أعمال الخياطة أو صناعة المأكولات، لتستطيع هؤلاء تحصيل قوت يومهن، بل هو عامل تغيير حقيقي للنساء، يُعوِّض عن القيود المُكبِّلة لحركة المرأة إذ يسمح لها بالوصول إلى المعلومات والموارد المالية وشبكات التواصل الاجتماعي. وهو وسيلة لتشجيع الأمّهات للعودة إلى سوق العمل والآباء على المشاركة بشكل أكبر في الأعمال المنزلية وتربية الأطفال وتعليمهم.
يمنح العمل من المنزل مستوى عالياً من المرونة من الجلوس في أماكن مريحة في البيت أو ربما في الخارج والحصول على بعض أشعة الشمس، لكنَّه ليس عطلة أو فرصة للسهر والنوم المتأخر، بل يتطلب نجاحه قواعد أكثر صرامة من مقارِّ العمل ذاتها، تتعلق بتنظيم الوقت والانضباط، والفصل بين الحياة الشخصية والمهنية. فإذا لم يتم رسم الحدود بين العمل والوقت الحرّ بوضوح، يفقد الموظفون الحافز سريعاً.
الوجود الدائم في عمل معين يفرض مظاهر اجتماعية محدَّدة على موظفيه، قد تمنع كثيرين من مجرّد التقدّم للعمل أو البقاء فيه، وتجعل الموظفين كلّهم تقريباً من خلفية سوسيواقتصادية واحدة يتشاركون الأفكار نفسها ولهم النقاط العمياء ذاتها، ما يؤثر سلباً في التفكير الإبداعي الخلاق وتلاقح الأفكار.
تفاصيل صغيرة لكن الانتباه إليها قد يحدث فرقاً في بلد أنهكته الحرب، ويقبل على مرحلة إعادة إعمار، قد تغير منظومة بُناه كلها.
لماذا في دمشق، مثلاً؟
تتركز مقارّ معظم الشّركات والمؤسسات، التي يمكن لها التكيُّف مع العمل عن بعد، بشكل عام في قلب دمشق، في حين يفرض ارتفاع أسعار العقارات وإيجاراتها على الموظفين السّكن في الضواحي. يقضي "المحظوظون" ممن تؤمّن شركاتهم مواصلاتِ موظفيها، ما لا يقل عن ساعة في اليوم على الطريق، مدة قد تصل إلى ثلاث ساعات، ذهاباً وإياباً، عند غيرهم يقضونها بعيداً عن العمل أو عن العائلة والأصدقاء، في آلة تلفظ التلوث في الأجواء.
السماح للنّاس بالعمل عن بعد يمكن أن يكون حلاً –في ضوء غلاء إيجارات المكاتب والأبنية (بالنسبة للشركات اليافعة)، وصعوبة المواصلات وأزمات المحروقات والازدحام الخانق– يخفضُ وقت وتكلفة التنقّل، ويزيد من وقت العمل والحياة الاجتماعية، وتسمح مرونته لمن هم من خارج دمشق بالعمل، كلٌّ من محافظته، ما يخفف الضغط الهائل في العاصمة. أضف إلى ذلك الاستقلالية الممنوحة للموظفين والخبرة التي سيطورونها في تنظيم الوقت لتحقيق الأهداف، ما يعني أن لهذا العمل مزايا اجتماعية وبيئية إلى جانب مزاياه الاقتصادية.
الحجر الصحي وما بعده
من ضمن إجراءات مواجهة تفشي فيروس كورونا المستجد خُفِّضت ساعاتُ العمل في المؤسسات الحكومية السورية إلى 40% ولم يجرِ أي حديث عن العمل من المنزل. وحتى إذا ما أصبح هذا العمل "سمة" اقتصادية في المستقبل، سيكون القطاع العام السوريّ آخر المتكيفين، مثل عموم قطاعات العمل الحكومية المشابهة في دول أخرى، حيث البطالة المقنعة، وإساءة استخدام الحقوق وغياب الوازع الذاتي والرقابة غير صارمة.
تتطلبُ الظروفُ الحالية مراعاة خاصة من قبل أصحاب العمل لموظفيهم العاملين من منازلهم، فالحجر فرض أن تكون العائلة كلها في المنزل، والجيران أيضاً، وأن يتوقف الأبناء أو الأخوة عن الذهاب إلى مدارسهم أو جامعاتهم، وازداد الضغط بشكل كبير وفجائي على شبكة الإنترنت الضعيفة بالأساس، إضافة إلى أن حظر التجول بالعموم وما يفرضه من تغيير في الروتين اليومي يخلق ضغوطاً نفسية لا يجب إغفالها.
في الختام
لا تظهر نهاية COVID-19 قريبة في الأفق، لذا تقوم شركات عديدة "مضطرة" بتطوير أو تنفيذ سياسات "العمل من المنزل" لضمان استمرارية العمل. وما سنتعلمه في الباقي من أمد الحجر يمكن أن يساعد في تشكيل مستقبل العمل، مع أو بدون أزمة صحية قد لا تتكرر قبل قرن. إذا استطاع الموظفون وأرباب العمل الوصول إلى التوازن الصحيح الذي يمكّن لهم من تحصيل كلّ فوائد "عمل عن بعد" مخططٍ له جيداً، فقد يصير وباء كورونا المستجد نقطة تحول لترتيبات العمل، يصبح فيها "العمل من المنزل" قاعدة وليس استثناء فقط. ودافعاً للشركات لبناء نوع من التكنولوجيا والثقافة تجعل من العمل عن بعد، حينما يعود الاقتصاد إلى كامل قوته، أسهل بالنسبة للراغبين في الاستفادة منه مستقبلاً بحيث ينطوي عمل "ذوي الياقات البيضاء" على تنقل أقل وبقاء أطول في المنزل.
ما زال الحديث عن "العمل من المنزل" استقطابياً للغاية، بين معارضين له يُظهرون أصحابه وكأنهم يعيشون في صحراء مقفرة، تستنزف الوحدة إبداعهم وتعصف العزلة بصحتهم النفسية؛ وبين مؤيد، كما في هذه الورقة، يجد فيه نعمة للحياة الاجتماعية والأُسرية، يضمن المساواة، والتنوع العصبي، وحتى نظافة الكوكب! هذا الاستقطاب دليل واضح على أن الفكرة لمّا تنضج بعد. وعلى اعتبار أن التجربة لا تزال في طور التبلور فمن الطبيعيّ أن تفشل في أماكن وتنجح في أماكن أخرى، وأن يرى فيها بعضهم آلية عالية الإنتاجية، ويراها آخرون فاشلة ولا تتجاوز تسيير الأعمال المؤقت.
قد لا يكون "العمل عن بعد" مناسباً لكثير من النّاس في المستقبل. لكنَّ العمل في وضعه الراهن (قبل كورونا) وصيغه الحالية لا يحقق بدوره نجاحاتٍ باهرة. لقد غير اقتصاد القرن الحادي والعشرين بالفعل أساليب البيع والشراء، الإعلان والتسويق، وأساليب التوزيع. وسيؤدي حتماً إلى تغيرات في العمل والإدارة.
الجمل بالتعاون مع مركز مداد للدراسات
إضافة تعليق جديد