الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي‏..‏ إشكالية السياسة ومرجعية الثقافة

07-01-2012

الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي‏..‏ إشكالية السياسة ومرجعية الثقافة

إن إحدي المفارقات الكبري للتاريخ والثقافة هي أن يجري الحديث عن‏’‏ ظاهرة إسلامية‏’‏ في عالم إسلامي‏!‏ لكنها حالما تظهر إلي الوجود‏,‏ فإن ذلك مؤشر علي فاعلية قضية تحتوي بقدر واحد علي إشكالية المعني المضطرب وتنوع الاحتمال المستقبلي‏.‏ لهذا سوف أركز في هذا البحث علي هذين الجانبين دون الخوض بإسهاب في القضايا المتعلقة بتاريخ وحيثيات‏’‏ العامل الإسلامي‏’,‏ و‏’‏التسييس الإسلامي‏’,‏ و‏’‏الإسلام السياسي‏’‏ ومختلف أشكال ومظاهر الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطي الإسلامية‏,‏ وذلك لما في إشكالية الإسلام وأبعاده الثقافية والمرجعية من قيمة كبري بالنسبة لفهم مقدمات ومستقبل‏’‏ الإسلام‏’‏ في روسيا وآسيا الوسطي‏.‏ وليس مصادفة أن تندفع إلي مقدمة المواجهات والصراعات الفكرية والسياسية قضايا‏’‏ الخطر الإسلامي‏’,‏ و‏’‏صراع الحضارات‏’,‏ وما شابه ذلك بعد انتهاء مرحلة‏’‏ الحرب الباردة‏’(1),.‏ وهي ظاهرة ليست مفتعلة‏,‏ بقدر ما أنها تكمن في كيفية ونوعية التحسس المشوه لما يمكن دعوته بآفاق البدائل الكامنة في‏’‏ العالم الإسلامي‏’(2).‏ ومن ثم غياب الحدس القادر علي فهم وإدراك العلاقة الجديدة بين الإسلام والسياسة بمعايير البدائل المحتملة‏,‏ أي فهم علاقة المصالح السياسية والبدائل الممكنة بمعايير انتمائها الطبيعي للإرث التاريخي الثقافي الذاتي‏.‏

إن المقدمة المنهجية التي عادة ما تضعف أو تسحق الحدس الضروري بالنسبة لفهم خصوصية الثقافات الكبري تقوم في البقاء ضمن حيز الرؤية التاريخية الثقافية الذاتية‏,‏ بمعني البقاء ضمن إسار الرؤية المستبطنة للمواقف القيمية تجاه النفس والآخرين‏.‏ من هنا سيادة الرؤية التاريخية الأوروبية المحكومة بتقاليد العلاقة المتوترة والخشنة بين الكنيسة والدولة عبر نقلها إلي مستوي علاقة الدين بالسياسة في حال النظر إلي الظاهرة الإسلامية الحديثة‏.‏ بعبارة أخري‏,‏ إن إشكالية الإسلام والسياسة السائدة في البحوث والدراسات الحديثة هي أولا وقبل كل شيء إشكالية الرؤية الأوربية‏,‏ التي انعكست فيها حصيلة التصورات التاريخية المتراكمة في مجري تجارب شعوب القارة عن علاقة الدين بالدنيا‏.‏ فقد تحول فصل الدين عن الدنيا‏,‏ والكنيسة عن الدولة إلي إحدي المرجعيات السياسية والثقافية في الوعي الأوروبي‏,,‏ وعليها جري بناء صرح القومية والمجتمع المدني والديمقراطيات الرأسمالية‏.‏ ومن هذه المرجعية وعليها أيضا جري تأسيس وتفعيل كليشهات الرؤية الأيديولوجية عما لا يتشابه أو يتطابق معها في تجارب الآخرين‏.‏

 وقد جري غرس إشكالية الدين والسياسة الأوروبية بطرق شتي ومستويات عديدة في الوعي السياسي للعالم الإسلامي المعاصر‏,‏ بما في ذلك تجاه‏’‏ الظاهرة الإسلامية‏’‏ المعاصرة‏.‏ وتجدر الإشارة هنا إلي أن لهذا الغرس مقدماته الواقعية في تاريخ العالم الإسلامي نفسه‏,‏ التي تراكمت مع مجري انحلال الدول الإسلامية‏,,‏ وعدم قدرة الثقافة الإسلامية حينذاك علي تقديم إجابات تتمثل تجارب الأسلاف العلمية والعملية وتستجيب لتحديات المعاصرة‏.‏

وحالما أخذت ظاهرة التحدي تبرز إلي الوجود‏,‏ بعد أن تحسس العالم الإسلامي للمرة الأولي انهياره شبه التام أمام الغزو الأوروبي‏,‏ بدأت تطفو إلي سطح وجوده الاجتماعي والسياسي ردود الفعل المتنوعة‏,‏ التي جري تصويرها بعبارات التحدي واليقظة والنهضة والانبعاث والثورة وغيرها‏,‏ وهي أوصاف تعكس لحد ما جوانب الظاهرة الإسلامية لا حقيقتها‏.‏ غير أنه جري تفسير وتأويل هذه الظاهرة بمعايير الرؤية السياسية بشكل عام وتقاليدها الأوروبية بشكل خاص‏.‏ وليس مصادفة أن نري‏,‏ وحتي الآن‏,‏ غلبة المواقف المنهجية المحكومة بثنائية الدين والسياسة‏,‏ وبالأخص في جانبها السلبي‏,‏ القائل باستمرار‏’‏ خلل علاقة الإسلام بالسياسة‏’.‏ ومن جمعهما جري توليف مختلف أنواع ونماذج الرؤية المنهجية والتاريخية والثقافية عن آفاق العلاقة الممكنة بين الإسلام والسياسة في مواجهة وتحدي الغرب‏,‏ بمعني أنها لم تنظر إلي هذه الظاهرة بمعايير تلقائية تطورها الذاتي ومحدداتها الداخلية بوصفها عملية تاريخية طبيعية‏,‏ بل جعلت منها جزء سائبا علي أطراف الفلك الأوربي‏(‏ سابقا‏)‏ والأمريكي‏(‏ حاليا‏).‏ مما حدد بدوره تعايش وتصارع اتجاهين كبيرين فيما يتعلق بمستقبل الإسلام وتأثيره السياسي‏:‏ الأول هو اتجاه‏’‏ متفاءل‏’‏ والثاني اتجاه متشائم‏’,‏ ولكل منهما تقاليده وشخصياته الفكرية والسياسية المحترفة‏.‏ ومن الممكن هنا الاكتفاء باستعراض مكثف لنماذج كبري أولية لم تتغير مضامين أطروحتها مع مرور الزمن بغير إضافات كمية‏.‏

وقد مثل الاتجاه الأول‏(‏ المتفاءل‏)‏ شخصيات علمية كبيرة مثل المستشرق الانجليزي جيب ومونتجومري واط وأمثالهم‏.‏ فقد انطلق جيب في تقييمه هذا من أن العالم الإسلامي قد تعرض إلي تحولات في مجري توكيد الذات ضد الضغوط الداخلية والخارجية التي واجهها‏,‏ واعتقد بأن العالم الإسلامي سوف يسير ضمن نفس تقاليده الكبري التضامنية والسياسية‏.‏ ومع أن الضغط الخارجي يشكل تحديا جديا له‏,‏ إلا انه لم يكن التحدي الأول والأكبر‏,‏ بل اعتبر التحدي الأول والأكبر يأتي من أعماق المجتمع الإسلامي مقارنة بما يسببه تأثير الغرب‏(‏ الخارجي‏)(3).‏ بينما تكلم واط مونتجومري عن التحدي وقدرة الإسلام علي مواجهة مختلف أشكاله في مجري بناء قوته الذاتية‏(4),‏ وهي الفكرة التي وجدت تعبيرها في عدد كبير من الأبحاث الاستشراقية ذات البعد السياسي‏.‏ فقد انتشرت منذ ثمانينيات القرن العشرين مصطلحات‏’‏ الإسلام المجاهد‏’,‏ و‏’‏الإسلام المقاتل‏’,‏ وما شابه ذلك بوصفه التعبير غير المباشر عن الرؤية المتأثرة بقوة الاستعداد والتحدي الكامنة في الإسلام وتراثه الذاتي‏.‏ فقد وضع جانسن كتابا عن‏(‏ الإسلام المجاهد‏),‏ وانطلق من أن الإسلام لا يزال حتي يومنا هذا يعمل بجهود كبيرة من أجل إضفاء الشرعية علي جميع جوانب الحياة والأنشطة البشرية‏,‏ وأرجع سبب قوته المعاصرة إلي جملة أسباب وبساطته وطابعه العملي ومرونته‏,‏ واحتفاظه بقوة وتقاليد الأخوة الإسلامية‏,‏ إضافة إلي كونه دين‏’‏ العالم الثالث‏’‏ أي دين الدول غير الصناعية‏(5).‏

 وبالضد من هذا الاتجاه تراكم التيار الأكثر سعة وانتشارا وتأثيرا والقائل بعقم القدرة الإسلامية في مواجهة تحديات العالم الحديث‏,‏ وهو تيار يحتوي في أعماقه علي توجهات مختلفة من نقدية علمية إلي أيديولوجية صرف‏.‏ فقد انطلق الباحث المتخصص بالشئون الإسلامية جويتن من أن الاتجاهات الوطنية والأيديولوجية مثل الاشتراكية القومية والحياد العربي‏,‏ والنهضة الأفريقية وغيرها يتنافس كل بطريقته الخاصة مع الإسلام للاستعاضة عن فكرة ومفهوم الأمة الإسلامية‏.‏ ومع أنه لا يستبعد احتمال تأثير الإسلام في المستقبل‏,‏ ألا انه لم يعد‏,‏ حسب نظره‏,‏ قوة سياسية قابلة للحياة‏(6).‏

 وضمن هذا السياق كانت تسير كتابات مستشرقين كبار مثل كلود كوهين وفكرته عن سقوط الحضارة الحتمي‏(7).‏ ووجد سبب ذلك في عالم الإسلام مرتبطا بعدم حله لإشكالية الديني والدنيوي‏.‏ أما جرونه باوم‏,‏ فقد انطلق من المقدمات المنهجية القائلة باحتواء الثقافة منذ البدء علي بذور رقيها أو انحطاطها‏,‏ وأن الإسلام كان يحتوي منذ البدء علي تلك البذور التي أدت في نهاية المطاف إلي انغلاقه وضموره‏,‏ وذلك بسبب انغلاق منظومته الذاتية‏.‏ وضمن هذا السياق أيضا كانت تجري رؤية كوك وكرون‏,‏ عما يسمي بانعدام الإمكانية الذاتية الداخلية للإسلام من اجل التأقلم مع المعاصرة‏,‏ الأمر الذي أدي به إلي الوقوع في مأزق‏,‏ الذي هو بدوره نتاج للإسلام نفسه والحضارة التي أنتجها‏(10).‏

ولا تختلف أغلب الدراسات التي تتناول هذه الظاهرة عن الخروج من هذه الثنائية المتصارعة والمكملة إحداها للأخري‏.‏ والشيء الوحيد الذي يندرج ضمن سياق توسع المدي المتعلق بأبعاد هذه الظاهرة يقوم في إدراج أسباب ومسببات أخري اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها‏,‏ وهي جوانب تعمق منحي البحث‏,‏ وتكشف عما في الظاهرة من تعقيد أكثر مما تفسرها بصورة نوعية‏.‏

وبهذا المنحي أيضا سارت أغلب الاجتهادات في العالم العربي والإسلامي المعاصر في محاولاتها تفسير الظاهرة الإسلامية الجديدة‏.‏ فالتفسيرات الاقتصادية حاولت البرهنة علي أن الأسباب الأساسية القائمة وراء صعود‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ ترتبط إما بأزمة التطور الرأسمالي في العالم الإسلامي أو بسبب فشل التنمية علي النمط الغربي‏,‏ أو بسبب ضعف الطبقات والفئات الاجتماعية الحاكمة وطبيعة صيرورتها التاريخية المرتبطة بالغرب الكولونيالي‏,‏ ومن ثم عجزها البنيوي في تطوير الاقتصاد والعلم بالطريقة التي تحفظ للدولة والأمة استقلالهما الناجز‏.‏ أما التفسيرات الفكرية السياسية‏,‏ فأنها عادة ما تربط ظهور‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ بأسباب منها هزيمة الفكرة القومية علي الصعيد الوحدوي‏,‏ والنظام الاجتماعي العادل‏,‏ والديمقراطية السياسية والأمن القومي‏,‏ أو لعجز الأيديولوجيات الأخري من ليبرالية واشتراكية وشيوعية وغيرها عن تحقيق بدائلها الاجتماعية السياسية والثقافية‏.‏ أما التفسيرات الثقافية الروحية فتتمحور حول البرهنة علي فشل أسلوب التحديث والعصرنة الغربي بسبب افتقاده إلي مقومات الأصالة الذاتية‏.‏

تعاني أغلب هذه التفسيرات والاجتهادات من نقص جوهري يقوم فيما يمكن دعوته بمشاطرة نفسية البحث عن الخلل والآفاق من خلال بناء عناصر التحدي‏.‏ إلا أن الخلاف بينهم يقوم علي أن التفسيرات الأوروبية تبني عناصر البحث عن الخلل والتكهن حول الآفاق من خلال فكرة تحدي الغرب‏,‏ بينما تبني الاجتهادات العربية والإسلامية تصوراتها وبحوثها عن البدائل من خلال تحدي النفس أيضا‏.‏

 أما الرؤية التقليدية‏(‏ العربية والإسلامية‏),‏ فإنها‏’‏ تتعالي‏’‏ علي جدل البحث عن العلل‏,‏ وتقرر وجود الأشياء كدليل بحد ذاته‏.‏ من هنا سيادة الدعوي القائلة بأن الإسلام بحد ذاته سياسة‏,‏ أو أن الدين والدنيا لا انفكاك لهما في الإسلام‏,‏ أو أن الدين والسلطان في الإسلام توأمان‏,‏ وهي دعاوي لها معناها في الماضي وإشكالاتها في الحاضر‏.‏

إن الاجتهادات النظرية المتنوعة في مساعيها كشفت علاقة الإسلام بالسياسة انطلاقا من واقع هذه العلاقة أو من ضرورتها تهدف في نهاية المطاف إلي بناء صرح تأويلي يؤيد أو يعارض هذه العلاقة‏,‏ لا إلي تأسيسها العلمي والعملي بمعايير الحاجة التاريخية والانتماء الثقافي‏.‏

حقيقة أن هذا التأسيس هو الإشكالية الأعقد من الناحية النظرية والعملية‏,‏ لأنه يفترض في آن واحد البقاء في حيز الانتماء الثقافي لعالم الإسلام وتقاليده المتنوعة‏,‏ ومجاراة العالم المعاصر في إبداعات العقل والوجدان‏.‏ ومن الصعب بلوغ ذلك دون إدراك الحاجة التاريخية لهذا التمثل بمعايير الانتماء الثقافي للتاريخ الذاتي‏(‏ الإسلامي‏).‏ حينئذ تتحول علاقة الإسلام بالسياسة إلي إشكالية يصبح تأسيسها النظري وتحقيقها العملي جزءا من المرجعيات الثقافية للوجود والوعي الاجتماعي والقومي والإسلامي‏.‏ ذلك يعني أن الظاهرة الإسلامية ليست فرضية أيديولوجية مجردة‏,‏ كما أنها ليست مجرد‏’‏ تسييس‏’‏ للإسلام‏.‏ فالجدل الدائر حول ما يسمي‏’‏ بتسييس‏’‏ الإسلام هو من بقايا التحزب الأيديولوجي النابع من انعدام أو ضعف إدراكه للحقيقة القائلة بأن الظاهرة الإسلامية‏’‏ هي أولا وقبل كل شيء الإشكالية الثقافية السياسية الأعقد والأكبر للعالم الإسلامي‏.‏ من هنا تنوعها وخصوصيتها‏,‏ والتي ينبغي البحث عنها في كيفية الانقطاع الذي حدث تاريخيا بين المرجعيات الثقافية والواقع المعاصر للإسلام في هذه المنطقة أو تلك‏,‏ وهو السبب الذي جعل ويجعل منها مع مرور الزمن بحثا عن المرجعيات الثقافية الذاتية‏,‏ أي محاولة لإعادة إرساء أسس جديدة لما ادعوه بالمركزية الإسلامية الجديدة‏(11).‏

إشكالية ومفارقة الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي الإسلامية‏.‏
 إن للظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي خصوصيتها‏.‏ ولعل ظهورها المفاجئ أو بصورة أدق خروجها المباشر إلي الوجود والعلن ضمن مسار‏’‏ الخروج‏’‏ من الدولة السوفيتية‏,‏ وصيرورة الدولة القومية هو بحد ذاته أحد الأسباب الذي أثار وما زال يثير البحث عن طبيعة هذه الظاهرة وخصوصيتها وآفاقها‏.‏ وليس مصادفة أن تسود بصورة شبه مطلقة الرؤية السياسية والمتحزبة تجاهها‏,‏ وذلك لأنها تبدو في الظاهر كما لو أنها النتاج المباشر للفعل السياسي الذي رافق ظهور الدولة المستقلة في آسيا الوسطي‏.‏ أما في الواقع‏,‏ فإن الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي أشد تعقيدا وأوسع وأعمق وأكبر من أن يجري حصرها بمقدمات وآفاق سياسية صرف‏.‏

وفيما لو جري جمع الحصيلة النموذجية للدراسات والأبحاث المتعلقة بالظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي‏,‏ فإنه عادة ما تجري الإشارة إلي حالة تعاظم الدور والأثر الأيديولوجي المتزايد للإسلام وتوسع طابعه الراديكالي‏(13).‏ وهنا تختلف الآراء فيما يتعلق بإبراز أولوية الأسباب‏.‏ فمنهم من يعتقد‏,‏ بأن سر الظاهرة يكمن في اصطدام الحداثة‏(‏ في إحدي مراحل تطوها‏)‏ بفكرة الإسلام الأول مع ما ترتب عليه من ظهور يوتوبيا البديل الإسلامي‏’.‏ بينما اعتبرها البعض الآخر جزءا من العملية السياسية للاسلمة‏,‏ في حين ربطها قسم آخر بالبيريسترويكا مدللا علي توسع انتشارها بعد تسعينيات القرن العشرين‏.‏ بينما ربطها البعض الآخر بالحالة الاجتماعية الاقتصادية المتردية بأثر انحلال الدولة السوفيتية‏.‏ واستكمل آخرون هذه الرؤية بما يسمي بعدم وضوح الأهداف في الإصلاحات التي قامت بها الدول الجديدة‏,‏ الأمر الذي جعل من‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ رد فعل سيئ علي إصلاح سيئ‏,‏ في حين وجد قسم آخر سبب ظهور‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ باغتراب رجال الدين الرسميين عن المجتمع وارتباطهم بالسلطة‏.‏

إن الصيغ المشار إليها أعلاه لا تستنفذدالأبحاث والدراسات بهذا الصدد‏,‏ إلا أنها تشترك جميعا بإبراز العلاقة الواقعية والوهمية بين الإسلام ومختلف مظاهر الغلو والتطرف والإرهاب والراديكالية‏.‏ من هنا ربط أغلبها للظاهرة الإسلامية بالتيار‏’‏ الوهابي‏’‏ أو السلفية الجديدة‏(14),‏ وبظاهرة الغلو والتطرف‏(15),‏ مع ما ترتب عليه من أبحاث عن أسبابها‏.‏ فمنهم من حاول النظر إلي هذا الارتباط بين الإسلام والتطرف باعتباره ظاهرة ذاتية‏(16),‏ أو بوصفها ظاهرة تركستانية‏(17)‏ أو أنها رد فعل علي تأثير خارجي مثل القضية الفلسطينية‏(18)‏ أو الكشميرية‏(19)‏ أو الأفغانية‏(20).‏ في حين حاول البعض البحث عنها في بعض المدارس الإسلامية‏(‏ الحنبلية بشكل خاص‏)‏ عبر إعادة تأويل تراثها‏,‏ في حين وجدها قسم آخر في تقاليد السيطرة الروسية واستكمالها اللاحق في سيادة تقاليد التوتاليتارية الشيوعية‏,‏ والسيطرة السوفيتية‏,‏ وتقاليد الحزب الواحد‏.‏

وفي الوقت نفسه تتفق هذه المواقف علي ما يسمي بضعف العامل الإسلامي‏.‏ وعادة ما يجري إرجاع ذلك إلي أسباب عديدة من بينها تأثير الجهوية والفئوية والقومية والمذهبية وأولويتها في نشاط الحرمات والتيارات والشخصيات الإسلامية‏,‏ وان الإسلام لم يرتق إلي مصاف تذليل هذه المكونات علي مستوي النظرية والتطبيق‏,‏ وضعف فعاليته بالنسبة لإرساء أسس الاستقرار في الدولة‏,‏ وضعف عمله باتجاه توحيد القوي الاجتماعية من أجل القضايا المدنية‏(‏ بدائل عقلانية وإنسانية‏),‏ وشبه غياب جهوده النظرية والعملية بالنسبة لجعل الإسلام عاملا موحدا بين دول آسيا الوسطي‏,‏ وضعف النخبة بشكل عام والسياسة بشكل خاص‏,‏ وتأثير التقاليد الروسية والسوفيتية التي عملت وتعمل من الناحية الموضوعية علي إبقاء عناصر الاغتراب الثقافي والقومي والسياسي فاعلة في المجتمع والدولة‏,‏ وعدم مرور الإسلام الحديث والمعاصر بمرحلة الإصلاحية الإسلامية‏,‏ والانتشار السريع والمفاجئ للوهابية‏,‏ وارتباط أغلب هذه الحركات بتوجه واختيار شخصياتها القائدة‏(21).‏

إننا نقف هنا أمام التأثير المباشر وغير المباشر للرؤية السياسية والأيديولوجية في تفسير أو تأويل الظاهرة الإسلامية عبر إرجاعها إلي مختلف مظاهر فكرة‏’‏ الإسلام السياسي‏’,‏ وهو الأمر الجلي في الصيغ العديدة التي حاولت أن تؤرخ لصعود وهبوط الإسلام السياسي في جمهوريات آسيا الوسطي الإسلامية الجديدة بوصفه مؤشرا علي الظاهرة الإسلامية ككل‏.‏ فهناك شبه إجماع علي أن‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ قد مر بثلاث مراحل كبري وهي المرحلة الأولي منذ عام‏1990‏ حتي عام‏1992,‏ التي اخذ فيها الرؤساء يحلفون بالقرآن قبل استلامهم السلطة‏,‏ وكذلك بناء المساجد وزيارة الأماكن المقدسة‏(‏ مكة‏),‏ وسن قوانين تخفف من وطأة المرحلة السوفيتية تجاه الدين‏.‏ أما المرحلة الثانية فتمتد من عام‏1993‏ حتي عام‏1997.‏ وهي المرحلة التي تأثرت بمسار ونتائج الحرب الأهلية في طاجيكستان‏.‏ مع ما ترتب عليها من إثارة مختلف أشكال ومستويات الخوف من ظاهرة الأصولية الإسلامية بشكل عام‏,‏ وظاهرة انتصار طالبان في أفغانستان‏,‏ أي كل ما حصل علي أطره الأيديولوجية فيما يسمي‏’‏ بالخطر الإسلامي‏’,‏ أما المرحلة الثالثة فتمتد ما بعد‏1997‏ حتي الآن‏,‏ وتتميز بالخفوت النسبي‏’‏ للإسلام السياسي‏’,‏ وهي نتيجة لم تكن بمعزل عن محددات أساسية عادة ما يجري إجمالها فيما يلي‏:‏ استعمال مختلف أشكال القمع السياسي من جانب السلطة ضد الحركات الإسلامية‏,‏ وتقوية مواقع رجال الدين الرسميين والمؤسسات المرتبطة بهم من أجل إرساء أسس‏’‏ إسلام معتدل‏’,‏ وتطور وتعمق محتوي الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما في ذلك صعود واستتباب الفكرة القومية‏,‏ وآثار ونتائج‏’‏ التجربة الطاجيكية‏’,‏ وضعف فاعلية وتأثير المواجهة المباشرة والعنيفة مع السلطة زمن الاستقرار‏,‏ وتجذر السلطة وتكامل الدولة‏.‏ بعبارة أخري‏,‏ إن صعود وهبوط‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ يعكس مرحلة المراهقة السياسية التي بإمكانها الفعل والتأثير زمن الانتقال لكنها تفقد قيمتها وفاعاليتها زمن الاستقرار وتكامل الدولة والأمة‏.‏

’‏فالإسلام السياسي‏’‏ بوصفه أحد أشكال ومستويات الظاهرة الإسلامية يعكس احد مساراتها ومستوياتها من حيث محدداته الداخلية والخارجية وحوافزه ومؤثراته ونياته وغاياته‏,‏ الأمر الذي يجعل من الضروري الحديث أيضا عن مرحلتين في تاريخ صيرورته الحالية‏:‏ الأولي ما قبل ظهور الدولة المستقلة‏,‏ والثانية ما بعدها‏.‏ فهي الصيغة التي تتمثل مضمون الظاهرة الإسلامية بوصفها إشكالية المرجعية الثقافية وليس إشكالية الحالة السياسية‏.‏ بعبارة أخري‏,‏ إن فهم حقيقة الظاهرة الإسلامية يفترض إرجاع التسييس والأصولية والإسلام السياسي وما شابه ذلك إلي ما ادعوه بالظاهرة الإسلامية بوصفها ظاهرة المرجعية الثقافية‏(‏ كأحد مظاهر المركزية الإسلامية الجديدة‏)‏ وليس بالعكس‏,‏ أي إرجاع الجزء إلي الكل وليس بالعكس‏.‏ فوراء هذه الصيغة عوالم متعددة ومتصارعة ومتناقضة‏,‏ شأن أية ظاهرة تاريخية ثقافية كبري‏,‏ أي أنها تعكس ما يمكن دعوته بمنطق تاريخها الواقعي والمستقبلي‏.‏

فالظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي هي أولا وقبل كل شيء إشكالية مرتبطة بانحلال الوحدة الجوهرية بين التاريخ السياسي والثقافي للأمم الإسلامية في المنطقة‏.(23)‏

فقد أدي افتقاد المنطقة لتاريخها السياسي المستقل إلي أن تتحول تجاربها السياسية والاجتماعية والقومية إما إلي جزء من النضال ضد السيطرة الروسية‏,‏ وإما إلي تقليد أو محاكاة باهتة للتجارب الروسية أو إلي مساع لتوليفها بطرق ومستويات متنوعة‏(24).‏ وفي الحصيلة ليست هذه التجارب غير اجترار للزمن الميت‏,‏ لأنها تكشف في نهاية المطاف عن خوائها الروحي وعدم صلاحيتها بالنسبة لبناء وحدة الدولة والمجتمع وتطورهما الفعال‏.‏ فالتطور الفعال يفترض وجود نظام ثقافي متكامل يتخلل جميع مسامات الأنظمة الضرورية لتفعيل الدولة والمجتمع‏.‏ بهذا المعني كان استقلال دول آسيا الوسطي الإسلامية هو المقدمة الضرورية الأولي لاستعادة كيان الإسلام الثقافي فيها‏.‏ وهي عملية سوف تستثير بالضرورة اشتراكه الفعال في الحياة السياسية‏(25).‏

 ذلك يعني أن للظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي خصوصيتها المرتبطة بتاريخها الذاتي بشكل عام والمتعرج في مسار السيطرة الروسية والدولة السوفيتية وظهورها الأخير‏(26).‏ ولا يمكن فهم حقيقة وأعماق صعود الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي المعاصرة‏,‏ وآفاق الإسلام السياسي فيها بمعزل عما يمكن دعوته بتاريخ‏’‏ العقدة التركستانية‏’‏ وتحللها في المرحلة السوفيتية وصعود النخب السياسية الجديدة فيها‏,‏ إذ يمكننا العثور فيها علي المقدمات التاريخية والشروط السياسية والاجتماعية الجديدة لنشاط الحركات الإسلامية المعاصرة في آسيا الوسطي‏.‏

 إن إشكاليات ضعف البنية الداخلية للدولة الآسيوية الوسطي هي إشكاليات صيرورتها التاريخية الجديدة‏.‏ وإذا كان اتجاهها العام يسير صوب تحقيق الحد الأدني الضروري لبناء وحدة الدولة والأمة‏,‏ والاقتصاد والسياسة‏,‏ الذي أخذت ترتسم بعض ملامحه الحالية‏,‏ فإن دمج التقاليد والثقافة في بناء الكل الدولتي القومي السياسي ما زال يحتوي في أعماقه علي تنوع البدائل لا علي سياسة الاعتدال العقلانية‏,‏ وهي ظاهرة لها مقدماتها الموضوعية في تاريخ الدول الآسيوية الوسطي وانقطاعها الطويل عن مقدمات وعيها الذاتي واستقلالها الفعلي‏(27).‏

إن إشكالية تنوع البدائل هي إشكالية الوسط العقلاني‏,‏ وأن إشكالية الوسط العقلاني هي إشكالية الاختيار المناسب للأيديولوجية الاجتماعية السياسية القومية‏.‏ أي كيفية دمج الثقافة والتقاليد في صرح الدولة الجديدة والتوفيق بين الحداثة والاستقرار‏(28)‏ وإذا كان بالإمكان القول‏,‏ بأن الدولة الآسيوية الوسطي المعاصرة استطاعت في المستوي السياسي وضع المقدمات الأساسية للاستقلال‏,‏ فإن مستواها الاجتماعي لا زال يعاني من تعقيدات طبيعية ملازمة لمراحل‏’‏ الانتقال‏’‏ التاريخي الكبري‏,‏ كما هو واضح في صيرورة النظام المركزي الرئاسي القوي‏,‏ وضعف الديمقراطية البرلمانية‏,‏ ونمو العناصر الاجتماعية في السياسة الاقتصادية‏,‏ والتي نعثر عليها في تركمانستان وأوزابكستان وكازاخستان وبدرجة اقل في قرغيزيا‏.‏

وإذا كانت تركمانستان وأوزبكستان أبعد شوطا في هذا المجال فلأن وحدتها الاجتماعية‏(‏ ضعف الصراع القومي والاثني‏)(29)‏ توافق نسبيا مع سلوك نخبها السياسية في اعتدال برامجها ووضوح مبادئها وواقعية سياستها‏(30).‏ أما بالنسبة لقرغيزيا فإن السلوك‏’‏ الديمقراطي المتهور‏’‏ لنخبتها السياسية حال دون ترسيخ المقدمات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية بالشكل الذي يمكنها من حل إشكالية الحداثة والاستقرار بصورة متجانسة‏,‏ لاسيما أنها لا تعاني من مشاكل إثنية حادة بفعل غلبة العنصر القرغيزي فيها‏(31).‏ بينما تعاني كازاخستان تعقيدات جدية بهذا الصدد‏.‏ إذ يشكل الكازاخيون فيها أقلية‏’(43%‏ من عدد السكان‏)(32).‏ إضافة إلي تمركزهم في المناطق الجنوبية والريفية‏.‏ أما أغلبيتهم الوحيدة ففي مقاطعتين من المقاطعات الثماني عشرة‏,‏ وهي مقاطعة غورييف‏(‏ في الغرب‏)‏ وقزل اورطه‏(‏ في الجنوب‏).‏ بينما يشكل الروس الأغلبية الساحقة في المناطق الشمالية المصنعة‏.‏ لكن كازاخستان استطاعت تجاوز في مجري العقدين الأخيرين ما يمكن دعوته بمرحلة الانتقال صوب مركزية الدولة والتنسيق القومي‏,‏ ومن ثم إرساء أسس الوحدة المتينة للدولة والقومية‏,‏ وبالتالي إرساء أسس التطور الذاتي المستقل‏.‏

كل ذلك أدي إلي إرساء أسس ما يمكن دعوته بتقاليد استمرار السلطة و‏’‏شرعيتها‏’(33).‏ أي الإدراك السياسي لقيمة الاستمرار في مواقفها من الحداثة‏(‏ التحديث‏)‏ باعتبارها المقدمة الضرورية لبناء الدولة العصرية‏.‏ أما الاستثناء الوحيد هنا فقد كانت طاجيكستان‏.‏ إذ سارت في‏’‏ تجريبيتها‏’‏ الخاصة من خلال وضعها إشكالية الثقافة والتقاليد في أولوية فعلها السياسي بعد الاستقلال‏.‏ ولم تدرك بهذا المعني‏,‏ قيمة الأولويات رغم أن مقدمات وحدتها الاجتماعية السياسية الوطنية ليست أقل تماسكا عما هو عليه الأمر في الجمهوريات الأخري‏,‏ فهي لم تعان‏,‏ شأن تركمانستان وأوزبكستان وقرغيزيا‏,‏ من مشكلة قومية‏.‏ إذ يمثل الطاجيك ما يقارب نحو‏80%‏ من عدد السكان‏(34)‏

 فقد وضعت القوي السياسية في طاجيكستان مشكلة التقاليد والموقف من التراث في أولويات فعلها السياسي‏.‏ وبحثت في إسلامها المجزأ والجهوي والمذهبي عن بديل فكري عقائدي شامل‏,‏ مما أدي إلي إثارة حوافز التجزئة والمواجهة عوضا عن أن يجري تحويلها إلي فاعل يلم الكينونة الجديدة للأمة الطاجيكية ودولتها الموحدة‏.‏ وقد شارك الجميع في صنع هذه النتيجة‏.‏ مما أدي إلي إثارة الانقسامات واستهلاكها السريع من جانب الجميع‏.‏ ووجد ذلك انعكاسه العنيف في عنف الحرب الأهلية‏.‏

فالسلطة السياسية في طاجيكستان لم تكن قادرة علي توظيف العامل الإسلامي في سياستها الداخلية من أجل صنع الوحدة الاجتماعية الضرورية للاستقرار‏,‏ وذلك لأنها كانت تمتلك منذ زمن طويل قبل الاستقلال‏,‏ حركة إسلامية سياسية مجزأة بين تيار رسمي مؤيد للسلطة‏,‏ وآخر عوامي في الأوساط الريفية‏,‏ وثالث راديكالي مختمر بتقاليد الثورة الإيرانية وجهادها العسكري في أفغانستان‏,‏ أي كل أولئك الذين ظهروا في نهاية السبعينيات من بين رجال الدين الشباب‏.‏ فهي القوة التي استطاعت أن تملأ الفراغ الناجم عن‏’‏ انهيار الشيوعية‏’‏ والنظام السوفيتي‏,‏ وأن تحصل في شخصية حزب النهضة الإسلامي علي ممثلها الأكثر قوة وتأثيرا‏,‏ وبهذا تكون قد اختطت لنفسها طريقا مخالفا لما هو عليه الأمر في تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وقرغيزيا‏.‏

ففي تركمانستان جري تحويل‏’‏ المؤسسة الدينية‏’‏ إلي تابع لصنع الوحدة الاجتماعية السياسية‏.‏ وبغض النظر عن صعوبة القول بوجود أحزاب دينية فيها‏,‏ بما في ذلك بعد انهيار النظام السوفيتي والأيديولوجية الشيوعية‏,‏ فإن النخبة السياسية شددت مع ذلك علي أن تركمانستان لا شيوعية ولا إسلامية‏.‏

واتبعت النخبة السياسية القائدة في أوزبكستان ذات المواقف‏,‏ حيث قام إسلام كريموف بالحج إلي مكة والقسم بالقرآن في صعوده للرئاسة‏,‏ ومنع الأحزاب الدينية من العمل رغم تسجيل بعضها كما هو الحال بالنسبة لحزب النهضة الإسلامي الداعي إلي إقامة دولة إسلامية والمتميز بعدائه للأمريكان والغرب‏.‏

أما قرغيزيا فإنها لم تعان أساسا من إشكاليات جدية في هذا المجال بسبب ضعف العامل الإسلامي‏.‏ فقد كانت قرغيزيا ولا تزال أكثر الشعوب التركية ضعفا في إسلامها‏.‏ ولم يكن ذلك نتاجا لدخولها المتأخر في الإسلام فقط‏,‏ بل ولأن إسلامها في اغلبه هو إسلام العادات والتقاليد لا إسلام التوحيد العقائدي والثقافي‏.‏ أما صعوده النسبي في جلال آباد‏(‏ الجنوب‏)‏ فهي الصيغة الجنينية لإدراك قيمة الانتماء الثقافي في معارضته للشمال المتأورب‏(‏ العاصمة بشكيك‏).‏

أما كازاخستان فإنها تشبه لحد ما قرغيزيا‏.‏ بمعني تمايز جنوبها المسلم التقليدي وشمالها الأوروبي العصري‏(38),‏ إلا أن هذا التعارض لم يحصل علي أطره السياسية والقومية بفعل خضوعه المبكر لإرادة النخبة السياسية في توظيفه بما يخدم وحدة الدولة‏.‏

الإسلام السياسي‏’‏ المعاصر في آسيا الوسطي‏.‏
غير أن هذه الصورة المليئة بأشجار متنوعة لا تمنع رؤية الغابة المتراكمة وراءها‏,‏ بمعني أن هذه الحالة المتنوعة والمتناقضة من نمو مختلف مظاهر الظاهرة الإسلامية لا تمنع من رؤية المسار الديناميكي فيها‏,‏ بما في ذلك خفوتها المعاصر‏,‏ فهو خفوت يعكس أولا وقبل كل شيء تحول الظاهرة الإسلامية من الظاهر إلي الباطن‏,‏ وهو تحول طبيعي‏,‏ وتاريخي لحد ما‏,‏ الأمر الذي يمكن رؤية نموذجه ومثاله علي حالة وآفاق‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ بوصفه احد الأشكال المتميزة والفعالة للظاهرة الإسلامية نفسها‏,‏ أي لظاهرة المركزية الإسلامية وأشكالها وتجسيدها في آسيا الوسطي‏.‏

 فالمظهر الأولي لها كان يتجسد في محاولات الخروج من السيطرة الروسية وتوسيع هوة الابتعاد عنها‏.‏ بمعني التحرر من سيكولوجية‏’‏ الأخ الأكبر‏’,‏ ودعائية‏’‏ الدخول الطوعي‏’‏ في الإمبراطورية الروسية‏,‏ وأيديولوجية الوحدة الأممية السوفيتية‏.‏ وعوضا عنها أخذت تبرز ملامح‏’‏ الخطر الروسي‏’(39)‏ أي ملامح الوعي الباطني بوصفه الصيغة الأولية غير الناضجة والضرورية في الوقت نفسه للاستقلال والتكامل الذاتي‏,‏ أي الفاعل بمعايير التجربة الذاتية والتطور التلقائي‏,‏ وهي العملية التي تستثير بالضرورة المخزون القومي الكامن في الإرث التاريخي والثقافي‏.‏ وهذا بدوره ليس إلا الوجه‏’‏ القومي‏’‏ للإرث الإسلامي‏,‏ أو تزاوجهما‏.‏ من هنا ضعف وعدم دقة التصورات والأحكام التي حاولت وما تزال تحاول البحث في‏’‏ إسلام آسيا الوسطي‏’‏ نسخة مشوهة أو بدائية أو عادية أو محاكاة لإسلام تركي‏’‏ أو‏’‏ فارسي‏’‏ أو‏’‏ عربي‏’‏ أو غيره‏.‏

فعند ظهور الدولة الآسيوية الوسطي وبروز‏’‏ النزعة التركية‏’‏ الجديدة‏,‏ أخذت بالانتشار آنذاك جملة من التصورات الدعائية القائلة‏,‏ بان الظاهرة الاسلامية هي نتاج أو محاكاة لما يسمي بالنموذج التركي الذي يستجيب ويتطابق مع مهمات التحديث والعصرنة‏,‏ وأنه دين القواعد الثقافية‏,(40)‏ بينما وجد البعض في هذا التأثير دعاية لا تصمد أمام النقد العلمي‏,‏ انطلاقا من أن تأثيره‏,‏ في حال افتراضه فهو جزئي وفي المناطق ذات الأصول التركية الثقافية المشتركة‏,‏ بمعني أنه لا علاقة له بطاجيكستان‏,‏ الأمر الذي دفع البعض للحديث عن تأثير النموذج الإيراني‏,‏ كما هو جلي في الحالة الطاجيكية‏.‏ وبالقدر ذاته جري ويجري الحديث عن تأثير‏’‏ الإسلام العربي‏’‏ من خلال استفحال دور‏’‏ الوهابية‏’‏ في كل مناطق آسيا الوسطي والقوقاز‏.‏

أما في الواقع‏,‏ فإن هذا التأثير‏,‏ رغم طابعه الطبيعي‏,‏ أي بوصفه جزءا مما ادعوه بالمركزية الإسلامية المعاصرة‏,‏ لكنه يسيء فهم هذه الظاهرة من خلال إرجاع نشوئها وفاعليتها إلي عوامل قومية خارجية‏.‏ أما في الواقع فإنها جزء من عملية قومية ودولتية وثقافية داخلية صرف‏.‏ وليس مصادفة أن يضمحل ويتلاشي التأثير التركي بحيث يحصل علي صيغة المعارضة الشديدة لفكرة استبدال‏’‏ الأخ الروسي الأكبر‏’‏ بآخر تركي‏.‏ بل ويصل الأمر في حالة أوزبكستان أن تعارض التدخل التركي بصورة علنية‏,‏ بحيث وصل الأمر برئيس الدولة إسلام كريموف أن اعتبر محاولة اغتياله الأولي مؤامرة تركية‏.‏ والشيء نفسه يمكن قوله عن التأثير الإيراني أو العربي‏.‏

مما سبق يمكن القول‏,‏ بأن المسار الطبيعي والتاريخي للظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي هو جزء من سياق التطور التلقائي للدولة والأمة والثقافة والدين ونماذجه المحتملة بوصفها جزءا من حل الإشكاليات التي تواجههم بهذا الصدد‏.‏ فقد كان تأثير العالم الإسلامي الخارجي جزئيا رغم قوته النسبية الأولية‏.‏ وهي ظاهرة يمكن رؤية مثيلها أو نموذجها حال المقارنة السريعة بين الماضي والحاضر‏.‏ فإذا كانت تقاليد الحنفية والأشعرية قد تراكمت في آسيا الوسطي بأثر تقاليد حركة الإرجاء والثورة التي قادها آنذاك الحارث بن سريج‏,‏ فان وحدة نسبها وإبداعها الفكري اللاحق‏,‏ أي توليف تقاليد المرجئة والحنفية والمعتزلة والأشعرية قد جري ضمن سياق الصراع الداخلي للمنطقة‏,‏ رغم كونها كانت جزءا من كل إسلامي ثقافي موحد بمعايير العقيدة الكونية للإسلام ومراكز الدولة المتنقلة للخلافة‏.‏ بعبارة أخري‏,‏ إذا كان انتشار الحنفية في شرق خراسان وما وراء النهر مرتبطا بنشاط المرجئة‏,‏ فإن هزيمة الحارث بن سريج قد دفعت بهما إلي الانتشار في مدن بلخ ونسف ونيسابور وبخاري وسمرقند وغيرها‏,‏ واستطاعت هذه العملية المعقدة أن تنتج شخصيات فكرية عظمي مثل البخاري والبزدوي والسرخسي والصدر الشهيد والماتريدي والزمخشري‏(42).‏ إضافة إلي كوكبة الفلاسفة العظام أمثال الفارابي وابن سينا وعشرات غيرهم‏.‏ وحالما ننقل هذه الظاهرة إلي العالم المعاصر‏,‏ فإننا نقف من الناحية المجردة أمام نفس المقدمات فيما يتعلق بالتطور التلقائي‏.‏ رغم اختلافها عما كان عليه الأمر في الماضي‏.‏ غير أن لكل مرحلة تاريخية خصوصيتها‏.‏ وخصوصية الظاهرة الإسلامية الحالية في آسيا الوسطي تقوم في أن الحركات الإسلامية السياسية فيها هي مكون جوهري في تكون الدولة وبناء المجتمع‏,‏ إذ تعكس في نشاطها وخمولها‏,‏ عقلانيتها ولاعقلانيتها‏,‏ عمقها وسطحيتها‏,‏ تاريخ وواقع الحركة الاجتماعية والسياسية في آسيا الوسطي نفسها‏.‏

فمن المعلوم أن آسيا الوسطي الإسلامية ودولها المعاصرة المتكونة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي‏,‏ افتقدت لأكثر من مائتي عام تاريخها السياسي والدولتي المستقل‏.‏ أما المرحلة السوفيتية فلم تصنع غير نظم إدارية بيروقراطية لا تعرف معني وقيمة الحركات السياسية المستقلة والمعارضة السياسية القوية‏,‏ إذ لا تشبه دول آسيا الوسطي المعاصرة بعد خروجها من تحت ركام الاتحاد السوفيتي‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ باكستان بعد خروجها من الهند‏.‏ إذ لا توجد فيها حركات سياسية واجتماعية كبري ومؤثرة‏(‏ مثل الجمعية الوطنية الإسلامية‏,‏ التجمع الثقافي الإسلامي‏,‏ الجمعية الإسلامية المركزية الإسلامية في البنغال‏,‏ التجمع الثقافي الإسلامي في كلكوتا‏)‏ ولا شخصيات سياسية وفكرية متميزة‏(‏ مثل سعيد أحمد خان‏,‏ وحمد علي جنة‏,‏ وأبو الكلام آزاد وآغاخان ومحمد إقبال وأبو الأعلي المودودي وعشرات غيرهم‏).‏ إضافة لذلك أدي انهيار الاتحاد السوفيتي إلي قطع الروابط الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية‏’‏ المتكاملة‏’‏ في كيان الدولة المركزية السابقة‏.‏ وفي نفس الوقت أبقي هذا الانهيار علي النخب السياسية السابقة للمرحلة السوفيتية بعد أن جري إحداث تغيير في أولوياتها الأيديولوجية‏,‏ وهو تحول لم يجد أمامه خيارا غير‏’‏ اقتصاد السوق القومي‏,‏ فالنخب السياسية القديمة هي نخب بيروقراطية لم تتقن أسلوب النشاط السياسي الديمقراطي وتقاليد الحقوق السياسية‏.‏ لهذا تراكم في رؤيتها عن الدولة القومية واقتصاد السوق الليبرالي خليط غير متجانس من القيم والمفاهيم والممارسات أدت إلي بناء نظم فردية في الحكم‏.‏

فإذا كان الانبعاث القومي هو الصيغة المباشرة لتوحيد القوي الاجتماعية والسياسية في بداية ترسيخ أسس الدولة المستقلة‏,‏ فإن استمراره يفترض تأسيسه الأصيل‏,‏ وبالأخص بالنسبة لدول آسيا الوسطي‏,‏ وهو تأسيس يفترض استناده إلي المكونات الواقعية والضرورية في نفس الوقت مثل‏(‏ المكونات القومية التركية والفارسية‏)‏ والثقافية‏(‏ الإسلامية‏),‏ إلا أن النخب السياسية السائدة لم تستند في الواقع إلا علي التقاليد الروسية السياسية‏(‏ القيصرية والسوفيتية‏).‏ وبرز ذلك بقوة مبالغ فيها في إتباع سياسة ترسيخ أسس وتقاليد الحكم الفردي ومحاربة المعارضة ومحاولة تصفية مختلف أشكالها ومستوياتها‏.‏ وليس مصادفة أن تقف هذه النخب السياسية إلي جانب‏’‏ الأعداء التاريخيين‏’‏ للإسلام في المنطقة ضد‏’‏ الأصولية الإسلامية‏’(‏باستثناء جزئي من جانب تركمانستان‏).‏ لذا نجدها تتفق مع السلطة الروسية في محاربة ما يسمي بالإرهاب الإسلامي‏’,‏ وتؤيد الهند في‏’‏ تخوفها من الحلف الأصولي الإسلامي في آسيا الوسطي‏’,‏ وتتعاضد مع السلطة الصينية في‏’‏ تخوفها من الأصولية الإسلامية في المنطقة‏’(43).‏ بينما لا يتخوف أي منهم من التطرف والإرهاب الفعلي للأرثوذكسية الروسية والهندوسية والبوذية في مواقفهم من الإسلام والمسلمين‏!‏

تعكس مواقف النخب السياسية السائدة حاليا في دول آسيا الوسطي انسلاخها الواعي وغير الواعي عن المكونات الجوهرية للذات الثقافية الخاصة‏.,‏وتشير في نفس الوقت إلي استمرار تقاليد قوة السلطة وسلطة القوة‏(‏ المميزة للتقاليد السياسية التركية والقيصرية والسوفيتية‏),‏ لا معايير الرؤية الاستراتيجية لقوة التقاليد الثقافية وقيمتها بالنسبة لبناء الدولة العصرية‏,‏ أي أن النخب السياسية الحالية لا تدرك قيمة القفزة النوعية‏’‏ في مشاريع البدائل الإسلامية‏,‏ باعتباره حدسا ثقافيا عميقا للانتقال من سيكولوجية العوام إلي فرضيات البدائل العقلانية واجتهادها الدائم‏,‏ لكنها تبقي في الوقت نفسه جزءا من تجربة التطور الطبيعي والتلقائي المعقد لمنطقة آسيا الوسطي ودولها الحديثة‏.‏ إضافة لذلك‏,‏ أن‏’‏ البدائل الإسلامية‏’‏ لم تتجسد بعد في أيديولوجيات سياسية متكاملة‏,‏ لأنها لم تتحول بعد إلي جزء عضوي في الوعي الاجتماعي والسياسي لدول آسيا الوسطي‏,‏ أما وجودها السياسي بهيئة أحزاب وحركات وتجمعات وأفراد‏,‏ فانه يشير إلي الملامح الأولية لهذا التحول‏.‏

 فقد ظهرت الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في آسيا الوسطي كجزء من صيرورة التعددية الاجتماعية والفكرية بعد انحلال السلطة السوفيتية وأيديولوجيتها الرسمية الوحيدة‏(44).‏ وأدت الخصخصة وانحلال احتكار العمل السياسي إلي تمايز اجتماعي وعقائدي وفكري أفرز تنوعا سياسيا شكلت الحركات الإسلامية‏(45)‏ طيفا من أطيافه موازيا للوعي السياسي القومي في دول آسيا الوسطي الإسلامية‏.‏ فقد أنتجت دول آسيا الوسطي في مجري هذه العملية تنظيمات سياسية عديدة وأنتجت أيضا نموذج من علاقة الدين بالسياسة‏(46).‏ فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي علي ما يقارب عشرين تنظيما سياسيا إسلاميا‏,‏ سبعة منها في أوزبكستان‏,‏ وستة في كازاخستان‏,‏ وأربعة في قرغيزيا‏,‏ واثنان في طاجكستان‏,‏ وواحد في تركمانستان‏.‏ لكن ما يميز أغلبها هو كونها كلها أحزاب محلية وصغيرة‏,‏ وتسعي لتأسيس أحزاب وطنية‏,‏ ومنهمكة أساسا في ميدان النشاط السياسي‏.‏ والاستثناء الوحيد بينها لثلاثة أحزاب هي حزب النهضة الإسلامي لطاجيكستان‏),‏ والحزب الإسلامي لتركستان‏(‏ أوزبكستان‏),‏ وحزب ألاش‏(‏ كازاخستان‏).‏ إذ تتصف هذه الأحزاب بوجود برنامج سياسي واضح‏,‏ وتمتلك وسائل أعلام خاصة بها‏,‏ إضافة إلي تنظيم سياسي حزبي‏,‏ رغم عدم الاعتراف الرسمي بها‏.‏ إضافة لذلك‏,‏ أن هذه التجمعات والأحزاب أخذت في التوسع من حيث ديناميكيتها الداخلية والخارجية‏,‏ بمعني الاعتراف بها داخليا وتوسيع صلاتها الخارجية بالعالم الخارجي والإسلامي بشكل خاص‏,‏ وكذلك انهماكها في توسيع المدي النظري عبر ترجمة المصادر الفكرية القديمة والحديثة‏.‏

 بالطبع أن هذه الأحزاب والحركات لها تاريخها الذاتي في نوعية ما يمكن تسميته بالإسلام الروسي‏’‏ و‏’‏الإسلام السوفيتي‏’‏ الذي أنتج‏’‏ إسلاما شعبيا‏’‏ إلي جانب أو بالضد من‏’‏ الإسلام الرسمي‏’.‏ ومن الممكن تتبع ذلك علي ظهور تيارات وشخصيات مؤثرة في الظاهرة الإسلامية لآسيا الوسطي بعد استقلالها وظهورها الجديد بهيئة دول وقوميات‏.‏ ومن بينها تجدر الإشارة إلي تيار‏’‏ أهل الحديث‏’‏ الذي أكثر من مثله رحمة الله العلامة‏(1981)‏ الذي كان تلميذا للحجي دومله‏,‏ الاسم المستعار لمحمد هندساتني رستم‏.(1892-1989)‏ احد أهم وأشهر ممثلي التيار الحنفي‏(47).‏ وعليه تخرجت أغلب الشخصيات الدينية المؤثرة في آسيا الوسطي‏,‏ إذ تخرج عليه عبد الولي مرضاييف الذي انتقل لاحقا إلي معسكر‏’‏ الوهابية‏’‏ والأخذ بمهاجمة أبو حنيفة والشافعي علي لسان ابن حنبل‏.‏ وتجدر الإشارة أيضا إلي تيار‏’‏ أهل القرآن‏’‏ الداعي بالرجوع إلي الأصول‏.‏ وكذلك تيار الأكرمية‏,‏ الذي كان يناقش أساسا ويؤسس لأهمية قضايا العبادة الصرف عبر تشديده علي أهمية معرفة الصلاة وكيفية القيام بها والتمسك بشروطها وما شابه ذلك‏.‏ ومهاجمة ما يسمونه بالخرافات والبدع‏.‏ كما تجدر الإشارة إلي الفرقة الصوفية‏(‏ نورجيلار‏)‏ مريدو بديع الزمان سعيد نورسي‏(1870-1960),‏ التي كانت تنشط في طشقند وسمرقند‏,‏ إلي جانب النقشبندية التي تمركز نشاطها في وادي فرغانه‏.‏

أما الأحزاب السياسية فمن الممكن الإشارة إلي كل من حزب إسلام لاشكالاري‏(‏ جند الإسلام‏)‏ الذي انقسم لاحقا إلي تيارين‏:‏ الأول‏,‏ هو حزب‏’‏ العدالة‏’,‏ الذي حاول ضبط حدود الحياة بطريقته الخاصة وفرض شروط رؤيته علي الناس‏,‏ حيث جري القضاء عليه عام‏1992.‏ والتيار الوهابي‏,‏ الذي كان يوجه اهتمامه الرئيسي صوب قضايا الدين والعبادة‏.‏ وقد كان قائدهم آنذاك طاهر يلداشيف‏,‏ الذي قام بتشكيل خلايا من خمسة إلي عشرين شخصا‏,‏ حيث استطاع تنظيم ما يقارب ستين خلية‏.‏ وبعدها نشأت الكثير من الأحزاب الصغيرة التي سرعان ما اندثرت مثل‏(‏ حزب الله‏),‏ الذي كان استمرارا ونسخة من تيار التوبة‏,‏ الذي نشط بين أعوام‏1992-1995,‏ أما حزب التحرير الإسلامي‏(‏ ذو الأصول العربية‏)‏ فقد ظهر عام‏1990,‏ غير أن اللوحة السياسية لا تنحصر بالأحزاب والتيارات والحركات الإسلامية‏,‏ بل وتشتمل أيضا علي حركات ثقافية وسياسية‏)‏ ليست حزبية‏,‏ وتشترك في الحياة الاجتماعية‏,‏ وتتميز بقدر معقول من الاعتدال في الفكر والسلوك العملي‏.‏

 وبغض النظر عن هذا التنوع الأولي والمتناقض والمتصارع أيضا‏,‏ فإننا نقف في الواقع أمام حالة توسع وتعمق الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي‏.‏ وليس هذه الحالة معزولة عن مكوناتها الوجودية‏(‏ الإسلامية‏)‏ بوصفها المقدمة الضرورية الأولية‏,‏ سواء جري النظر إليها بمعايير التاريخ والثقافة والهوية أو بمعايير المصالح القومية وفكرة الدولة‏.‏ فقد كان التماهي بين الإسلام والقومية في آسيا الوسطي وما يزال مكونا جوهريا وجوديا للأمة والثقافة والوعي التاريخي الذاتي‏.‏ فبعد انحلال الاتحاد السوفيتي‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ كان يعتقد‏95%‏ من القرغير و‏90%‏ من الأوزبيك و‏79%‏ من الكازاخيين بأنهم مسلمين‏.‏ كما أن المرحلة الروسية والسوفيتية لم تقطع الصلة بالتراث بما في ذلك من جانب النخبة السياسية المغتربة والمتأوربة‏.‏ بل حتي البنية التقليدية في آسيا الوسطي‏(‏ من جهوية وفئوية وقبلية وعائلية‏)‏ لم تتعارض مع هذه الظاهرة‏,‏ بمعني أن لكل جهة وفئة وانتماء قبلي أو عائلي صلته الخاصة بالإسلام من حيث كونه دينا وثقافة وتاريخ‏(48).‏ والشيء نفسه يمكن قوله عن السلوك السياسي للسلطة والنخب في الاستعمال النفعي للإسلام‏,‏ بمعني إمكانية تأثيره المباشر وغير المباشر علي تفعيل الظاهرة الإسلامية علي المدي القريب والبعيد‏(49).‏

إن هذه المظاهر المتناقضة من الناحية الظاهرية هي جزء من معترك الحياة السياسية وصيرورة الدولة القومية‏,‏ أما من الناحية الباطنية فإنها تتمثل وتجسد الأبعاد الدفينة للظاهرة الإسلامية نفسها بوصفها جزءا من تكامل وعي الذات القومي الثقافي‏,‏ ومن ثم فإنها تعمل‏,‏ رغم تناقضها الشديد أحيانا‏,‏ علي إرجاع آسيا الوسطي إلي تطورها الطبيعي‏,‏ أي كل ما يجعل من الطبيعي أيضا رجوع الإسلام وتقاليده إلي ميدان الوعي الاجتماعي‏,‏ وهي ظاهرة سوف تتعمق مع كل إدراك لقيمة الموروث الثقافي الإسلامي‏,‏ بمعني الاقتراب الجزئي المستمر والمتعمق بين التيار التحرري الديمقراطي والتيار الإسلامي‏.‏ فإذا كانت الحركات الإسلامية هي الصيغة الثقافية لتمثل وعي الذات القومي‏,‏ فان الحركات القومية هي الصيغة السياسية لهذا التمثل‏,‏ أي أنهما يلتقيان في الباطن ويتباينان في الظاهر‏,‏ وهو خلاف حدده ويحدده الشرخ التاريخي بين الوعي السياسي الدولتي والموروث الثقافي الخاص‏.‏ ومن ثم فإن كل خطوة إيجابية إلي الأمام يخطوها الوعي الاجتماعي السياسي والقومي والثقافي سوف تؤدي حتما إلي تلاقيهما أو اتحادهما في رؤية الأولويات الكبري بالنسبة لمصالح الدولة والمجتمع‏,‏ وهو واقع نعثر عليه في ازدياد أثر وقيمة الموروث الثقافي الإسلامي عند الحركات السياسية والاجتماعية القومية‏(‏ الراديكالية والمعتدلة‏),‏ كما هو الحال علي سبيل المثال عند حزب ألاش‏(‏ الاستقلال‏)‏ الكازاخي‏,‏ وحزب العصبة القرغيزي‏,‏ وحزب راستوخيز‏(‏ النهضة‏)‏ الطاجيكي‏.‏ فقد وضع حزب ألاش مبدأ التضامن الإسلامي في صلب مبادئه الأربعة الأساسية إلي جانب مبدأ الوحدة الاجتماعية والحرية والديمقراطية‏,‏ وجعل من بناء الدولة الإسلامية الموحدة لتركستان هدفه النهائي‏.‏ وقد كان حزب ألاش استعادة لحركة ألاش التي نشأت في بداية القرن العشرين في تركستان‏.‏ من هنا تعكس تسميته تمثل تجاربه القديمة وأفكاره الأساسية‏.‏ ويعتمد الحزب أساسا علي الشباب والمثقفين‏,‏ ويتميز بنزعة راديكالية قومية‏(‏ وتركستانية‏),‏ فهو الحزب الوحيد في كازاخستان الذي ينتقد السلطة بكل قواه ويعمل بجدية من أجل نشر أفكاره وتحقيق أهدافه‏,‏ ويضع الآن في صدارة مساعيه العملية السياسية تحرير أوزبكستان بصورة جذرية من التأثير والوجود الروسيين في البلد‏.‏

ونفس الشيء يمكن قوله عن حزب العصبة القرغيزي‏,‏ الذي يضع بين أهدافه الكبري الانبعاث القومي للقرغيز‏,‏ ومعه انبعاث الإسلام‏,‏ ولكن تحت راية الدولة الدنيوية‏.‏ أما حزب راستوخيز الطاجيكي فهو من أوائل الأحزاب السياسية في آسيا الوسطي‏,‏ التي أدرجت مهمة التحرر الوطني‏,‏ وبناء الدولة الديمقراطية‏(‏ ضمن الاتحاد السوفيتي‏)‏ في أولويات برنامجه السياسي‏,‏ وأخذ يقترب في مجري اشتداد الصراع السياسي والاجتماعي في طاجيكستان من مواقع الإسلاميين ليدخل معهم في نهاية المطاف في‏’‏ المعارضة الطاجيكية الموحدة‏’,‏ ويخوض الصراع المسلح أيضا إلي جانبهم ضد السلطة الحالية‏.‏

كل ذلك يكشف عن أن تعمق الصراع السياسي وإدراك الأولويات الكبري لمصالح الدولة والمجتمع يدفع بالتيار القومي والتحرري والديمقراطي إلي الاقتراب من الحركات الإسلامية‏,‏ كما يدفع بالحركات الإسلامية إلي الاقتراب منها‏,‏ أي أن‏’‏ التكامل‏’‏ بينهم يعكس تكامل البنية الاجتماعية والقومية في دول آسيا الوسطي‏,‏ كما أن تباعدهم يشير إلي واقع‏’‏ التفاضل‏’‏ بين الدول نفسها‏,‏ وبين السلطات والمعارضة أيضا‏,‏ وهي ظاهرة يصعب تذليلها دفعة واحدة لأسباب تتعلق بتاريخ نشوء الدولة الآسيوية المعاصرة ونخبها السياسية الجديدة‏.‏ ونعثر علي هذه الظاهرة أيضا في تاريخ‏’‏ تكامل‏’‏ و‏’‏تفاضل‏’‏ الحركات الإسلامية السياسية نفسها في آسيا الوسطي‏(‏السوفيتية‏)‏ ودولها المستقلة المعاصرة‏.‏ ومن الممكن اتخاذ حزب النهضة الإسلامي نموذجا حيا لهذه الظاهرة‏,‏ لاسيما أنه الحزب الأكبر والأعرق والأقوي من الناحية العقائدية والأيديولوجية والسياسية والتنظيمية‏,‏ إذ جعل من مهمته الأساسية إرجاع المسلمين إلي حضرة الإسلام‏,‏ وتطهير الدين الإسلامي من مخلفات وبقايا مراحل الانحطاط والمرحلة السوفيتية‏,‏ وذلك من خلال الرجوع إلي مبادئ الإسلام الأولي الحقيقية‏(50),‏ وفي تاريخ هذا الحزب وتحولاته يمكن رؤية مسار التعددية السياسية في أواخر المرحلة السوفيتية وبداية نشوء الدول المستقلة‏,‏ وهي عملية تستثير بالضرورة تباين واختلاف المصالح والآراء والاجتهادات‏.‏

 ففي كازاخستان‏,‏ التي تتميز عن بقية دول آسيا الوسطي بمستوي عال من الدنيوية والروسنة‏,‏ لم تتحول الظاهرة الإسلامية فيها إلي حركة سياسية فعالة بعد‏,‏ فهي مازالت في حالة أقرب إلي العادات وتقاليد وأعراف حياتية وبعض معالم العبادة البسيطة‏,‏ خاصة في المناطق الجنوبية‏(‏ المتاخمة للعالم الإسلامي‏).‏ ذلك يعني أن الإسلام السياسي فيها مازال في حالة كمون‏.‏

أما في قرغيزيا‏,‏ التي تشبه لحد ما كازاخستان‏(51),‏ فإن الظاهرة الإسلامية فيها أكثر وضوحا وحضورا‏,‏ رغم أن القرغيز أقل شعوب آسيا الوسطي تعلقا واندماجا بالتقاليد الثقافية الإسلامية بسبب تقاليدهم الرعوية الجبلية وضعف تقاليد المدينة‏,(52)‏ إلا أن الفراغ الأيديولوجي والعقائدي بعد انهيار الشيوعية السوفيتية جعل من الإسلام‏,‏ إلي جانب الفكرة القومية‏,‏ عاملا أيديولوجيا مهما‏(53).‏ ومع ذلك فإن الظاهرة الإسلامية فيها مازالت جزءا من الصراع السياسي المتراكم في مجري عملية تكامل البنية الاجتماعية والسياسية والحكومة للدولة‏.‏ إذ لم تتحول الظاهرة الإسلامية بعد إلي كيان سياسي مستقل‏,‏ بل مازالت في طور الاندماج العضوي الملازم لاستعادة تقاليد العبادات الإسلامية مثل بناء الجوامع والمساجد والمدارس الدينية والاهتمام بتراث الإسلام‏(54).‏

 ونعثر علي نفس المنحي في تركمانستان‏,‏ إلا أن ما يميزها بهذا الصدد عن بقية دول آسيا الوسطي الإسلامية‏,‏ هو استغلال السلطة للظاهرة الإسلامية بما يخدم توجهها السياسي‏,‏ إذ تسعي السلطة من وراء الاهتمام ببناء الجوامع والمساجد وإرسال الطلبة لتحصيل العلوم الإسلامية في البلدان الإسلامية‏,‏ بل وإدخال مادة تاريخ الإسلام في المدارس‏,‏ إلي جعل نفسها‏’‏ الممثل الشرعي الوحيد‏’‏ للإسلام في خدمة المصالح الوطنية كما تفهمها النخبة السياسية السائدة في تركمانستان حاليا‏,‏ إذ تعتبر السلطة الإسلام جزءا من المكونات الثقافية للقومية التركمانية‏.‏ وبنفس الاتجاه العام تسير تصورات واقتراحات المؤسسة الدينية في تركمانستان‏,‏ عندما تشدد علي أن الإسلام هو ليس كيانا مهمته ملء الفراغ الناتج عن انهيار الأيديولوجية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي‏,‏ بل مكون روحي جوهري سوف يكشف عن حيويته في كل ميادين الحياة بعد جيل أو جيلين من التربية الإسلامية‏.‏ ذلك يعني أن مهمة الإسلام بالنسبة لها هو مهمة المستقبل‏.‏ أي أن الظاهرة الإسلامية هي ظاهرة المستقبل الكامنة حاليا في بناء وحدة الدولة المستندة إلي التقاليد والثقافة القومية‏(‏ التركمانية‏)‏ والإسلامية‏.‏

بينما تختلف الحالة في أوزبكستان‏.‏ فمن المشهور أن الاوزبكيين من بين أكثر شعوب المنطقة‏(‏باستثناء الطاجيكيين‏)‏ تأثرا بالتقاليد الإسلامية والحفاظ عليها‏,(55)‏ إضافة إلي أنها المنطقة التي تحتوي علي أكبر وأوسع وأعرق المراكز الثقافية الإسلامية ألا وهي بخاري وسمرقند‏.‏ فقد كانت أوزبكستان من الناحية التاريخية والدينية مصدر التوسع الجغرافي لعالم الإسلام بين أتراك آسيا الوسطي‏.‏ لهذا برزت الظاهرة الإسلامية فيها مع أول انفتاح نسبي في أواخر المرحلة السوفيتية‏.‏ حينها أخذت تنتشر الحركات السياسية والأحزاب الإسلامية السياسية مثل حزب النهضة الإسلامي وحزب العدالة‏(‏ الإسلامي‏),‏ وحزب الله‏.‏ فقد كان حزب النهضة منذ البدء في موقف المعارضة للسلطة الرسمية السياسية منها والدينية‏,‏ إلا أنه تعرض إلي مهاجمة السلطة وتفريق صفوفه وإلقاء القبض علي أعضائه ومؤازريه‏,‏ مما اضطره لاحقا للإعلان في‏10‏ آغسطس‏1992‏ عن دخوله للعمل السري المناهض للسلطة الحالية‏.‏ أما حزب العدالة الذي تأسس في‏16‏ ديسمبر‏1991‏ بأثر تشكيل مجموعات من مختلف الفئات الاجتماعية في مناطق نامنغان وانديجان وفرغانه‏’‏ لإحقاق العدالة‏’‏ من خلال محاربة ظواهر الفساد والخروج عن العادات والتقاليد الإسلامية‏.‏ وأثار نشاطه الاجتماعي مخاوف السلطة مما اضطرها لقمعه وسجن بعض رؤسائه‏(56).‏ أما حزب الله فقد اتبع منذ البداية أسلوب النشاط السري لأنه رفض منذ البدء التعامل مع السلطة‏,‏ ووقف موقف المعارض الشامل لها‏,‏ حيث جعل هدفه الرئيسي إرجاع أوزبكستان إلي الحضرة الإسلامية وتقاليد الشريعة‏,‏ من خلال تثبيت وترسيخ القيم الإسلامية وإعادة بناء الدولة والمجتمع علي أسس الإسلام وعقائده الكبري‏.‏

أما في طاجيكستان فقد تبلورت الحركات السياسية الإسلامية منذ وقت مبكرا‏(57)‏ فمنذ السبعينيات أخذت تظهر بوادر الحركة الإسلامية السياسية السرية‏,‏ التي تجلت للمرة الأولي في أحداث عام‏1976‏ في كورغان ــ توبه‏,‏ عندما اشتبك الإسلاميون مع السلطة في مواجهات مباشرة‏.‏ بعد ذلك انتقل نشاطهم السري إلي المدن والقري‏.‏ واتخذ الصراع في البداية مظهر محاربة رجال الدين الرسميين‏,‏ باعتبارهم ممثلي السلطة المناهضة للإسلام نفسه‏,‏ وأخذ بالازدياد عدد المساجد‏’‏ السرية‏’.‏ ومع بداية البيريسترويكا انتشرت المساجد العلنية بسرعة بالغة‏.‏ فإذا كان عدد الجوامع عام‏1989‏ يبلغ‏17‏ جامعا‏,‏ ففي عام‏1997‏ بلغ‏204‏ جوامع‏.‏ في حين ازداد عدد المساجد لنفس الفترة إلي نحو‏5000‏ مسجد‏,‏ وهو توسع يعكس تحول‏’‏ إسلام الظل‏’‏ إلي كيان فاعل في الحياة الروحية والسياسة لطاجيكستان‏.‏ وتجلي ذلك بوضوح شديد في بداية التسعينيات من القرن العشرين‏(1992)‏ عندما استطاع حزب النهضة الإسلامي والحركة الإسلامية الاستيلاء علي السلطة السياسية في العاصمة‏,‏ إلا أنه لم يستطع الاستمرار في قيادتها بفعل أسباب داخلية‏(‏ مثل ضعف تكامل البنية الاجتماعية الوطنية‏,‏ وتأثير النزعة المناطقية والقبلية‏,‏ والتباين الاقتصادي والسياسي والعقائدي الحاد بين مختلف المدن والمناطق‏,‏ واستعمال العنف المتبادل عوضا عن الحوار السياسي‏)‏ وخارجية‏(‏ مثل التدخل الأوزبيكي والروسي وسلبيات التجربة الأفغانية‏).‏ وأدي ذلك بحصيلته إلي اشتداد وتعمق عناصر وآلية الحرب الأهلية‏,‏ التي خسرت بها الحركة الإسلامية زمام السيطرة السياسية داخل البلاد‏,‏ وأبقت عليها بوصفها التيار الأكبر والأوسع والأقوي للمعارضة السياسية والمسلحة في طاجكستان‏,‏ حيث تحولت الحركة الإسلامية السياسية إلي قطب المعارضة الوطنية والتحررية والديمقراطية الطاجيكية داخل البلد وخارجه‏.‏ وجعل ذلك منها القوة المعارضة الوحيدة القادرة علي إدارة الحوار السياسي مع السلطة وفرض شروطها المعقولة بالنسبة لاستتباب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الوطنية‏.‏ وتتوج ذلك عبر مساومات مع السلطة الحالية إلي استعادة وجودها السياسي الشرعي ومؤسساتها الفاعلة‏,‏ بما في ذلك السلطة التنفيذية‏.‏

 مما سبق يتضح‏,‏ بأن الظاهرة الإسلامية هي جزء من عملية تاريخية ثقافية سياسية كبري ترافق الصيرورة الجديدة للدولة القومية في آسيا الوسطي‏,‏ أي المحكومة بفقدان التاريخ السياسي واختباء التراث الثقافي فيما وراء وجودها الحديث والمعاصر‏,‏ الأمر الذي أنتج حالة معقدة من تداخل المكون السياسي والثقافي في الظاهرة الإسلامية‏.‏ وجعل في الوقت نفسه من‏’‏ الإسلام السياسي‏’‏ انعكاسا طبيعيا لهذا الخلل بين التاريخ والوعي‏,‏ والدولة والثقافة‏.‏ إلا أن المسار المعقد لهذا التداخل سوف يكشف مع مرور الزمن الحقيقة القائلة بأن الظاهرة الإسلامية من حيث جوهرها هي إشكالية تاريخية وسياسية وقومية من إشكاليات إرساء المرجعية الثقافية الخاصة‏,‏ بمعني أولويتها مقارنة بالأبعاد السياسية الملتهبة في الظروف الحالية‏.‏ وكلما يجري إدراك هذه الحقيقة كلما يصبح أكثر واقعية إمكانية تحولها إلي بديهية سياسية نظرية وعملية قادرة علي إزالة التعارض والتناقض المفتعل بين التراث والمستقبل‏,‏ وهي عملية معقدة ومتناقضة‏,‏ لكنها تجري ضمن سياق المنطق الكامن فيما ادعوه بصيرورة المركزية الإسلامية الجديدة‏,‏ أي مركزية إرساء أسس‏’‏ الإسلام الثقافي‏’,‏ وسوف تقطع دول آسيا الوسطي هذا المسار الشاق من خلال توصلها إلي إدراك الحقيقة القائلة‏,‏ بأن الإسلام وتراثه الكبير هو ليس إشكالية سياسية‏,‏ بل مرجعية ثقافية‏.‏



ميثم الجنابي

مجلة الديمقراطية المصرية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...